|
جماليات الألم في لوحات سيروان باران
سعاد الزريبي
الحوار المتمدن-العدد: 7966 - 2024 / 5 / 3 - 10:57
المحور:
الادب والفن
أجساد ملقاة على فضاء اللوحة تملأ الفضاء وتشوش الرؤية حيث الألوان الرمادية القاتمة تتوسع في كل اتجاهات اللوحة. لم تتحرر اللوحة من وجع صاحبها فرسمت اهتزازاتها ونقاط ألمه. هكذا اختار سيروان باران قدر لوحاتها ،قدر لا يختلف عن قدر الشعب العراقي الذي قصفت به الأحداث والويلات فنزعت عن سماءه كل مشاعر الامل والفرح . لم يكن سيروان باران الفنان الكردي العراقي بعيدا عن منطق الاحداث السياسية التي عاشها شعبه أثناء حكم صدام حسين و أثناء القصف الأمريكي بل عبر بشكل تمثيلي درامي عن حقيقة الواقع العراقي والمسار الحزين الذي ألت أليه الأرض والبلاد والعباد. ولد باران في 1968 و تخرج في 1990من معهد الفنون الجميلة في بابل. ثم بدأت نجاحته بعد سنة من تخرجه من الجامعة حيث أقام أول معرض للوحاته في 1991 وحاز على عديد الجوائز في العديد من البلدان العربية. تعتبر لوحات باران تعبيرا عن موقفه مما يحدث على أرض العراق من جرائم واعتداءات على الشعب وعلى الأرض .لم تكن اللوحة في معزل عن مسرح الأحداث بل كأنها تبدو أول إرهاصات الاحداث ،تعري ما حدث وتفضح عبثية الحياة الإنسانية التي أصبحت تتنازعها سياسات السيطرة والاستبداد ليموت الأبرياء و يختفي جندي وتحرق أرض وتدمر دولة .لم تفرق لوحات باران بين الأشخاص وجوه مشوشة وغامضة غير محددة ،طمس البورتري أي طمس المركز وتساوي أمام الموت والكارثة ،توحد في المصير ،إضافة إلى أن لوحات باران تفتقد للفراغات أي أن اللون و الأجساد يملأ الفضاء أي أن الكارثة تمتد على كامل فضاء الأرض ولا تستثني أي جزءا منها. فمشهد لوحة الجنود بقياس 4 على 5 متر تشكو تراص جثث 50 جندي ملقى على الأرض بشكل لولبي، فتمتزج التقنيات التشكيلية للفنان بالمأساة وتنتج عملا فنيا في غاية الابداع الجمالي من جهة وفي غاية العمق المأساوي للكارثة التي يعيشها الشعب العراقي . استطاعت أعمال باران أن تخلق معادلة بين الفن والحرب، بين الجمال والقسوة ،الجمال والالم :خيبة الأمل مما يحدث و الاصرار على الابداع من أجل البلاد و الأرض .تحول المرسم عند باران إلى "ثكنة عسكرية" من أجل الدفاع عن حب الوطن بحيث تصبح اللوحات جزء من "ذاكرة لا تمحي" في تاريخ العراق . يقول الناقد فاروق يوسف "لقد كان باران لحظة فارقة في تاريخ الرسم في العراق إذ يمكن أن نقول أنه الرسام العراقي الأول الذي تجرأ على الدخول إلى منطقة شائكة ذات أبعاد مباشرة مثل الحرب لا من خلال عمل دعائي مباشر واحد بل من خلال تخصيص تجربة فنية كاملة استغرق العمل عليها سنوات طوال :ذاك حدث استثنائي و بالأخص أنه يقوم وفق شروط جمالية غاية في الدقة و الرهافة " نجح باران في فضح هذه السياسات اللاإنسانية للعالم المعاصر الذي وقع في فضاءات قبح لا حدود. إن الفن هو شكل من "الشهادة" التاريخية التي تندد بكل أشكال العنف والظلم. يقول باران إن أعماله تسعى لتقديم شهادات عن الانكسار والخذلان والخسارة والإحباط والظلم. لقد أصبحت الحياة حدثا مرئيا مبثوثا فوق فضاء اللوحة بكل انفعالاتها و تشنجاتها العصبية ،نوع من الهستيريا الغضبية التي تكشف هول الكارثة .تتفاعل الخطوط والألوان في لوحات باران مع المشاعر و الأفكار و الأحداث لتولد فوق الفضاء اللوحة مشهد من المأساة التاريخية حيث تستحيل حركة الفرشاة إلى نوع من النزيف الخارجي الذي يطلي الفضاء بلون أحمر دموي تجسيدا لمجزرة أو رمادي تجسيدا لدمار أو أخضر تجسيد لبدلة عسكرية فقدت هالتها وسلطانها. إن اللوحة هي الأرض أو هي العراق تنزف. هاهنا يثور فن الرسم على فن القصة وعن السرد ليعبر فحسب تشتت الكلمات واستحالة الجملة وكأن ما حدث فرقع كل قدرة على الكتابة لتحكي صمتا و ترسم صرخة و اضطراب و سقوط نظام وصعوبة في التشكل .تمثل رسوم باران "انهيار مركزي" ينزع عن الفكر كل فطريته .
ركزت لوحات باران على الرأس وعلى الوجه المشوه كتعبير على انهيار المركز و عدد القتلى والموتى جراء الحرب، تذكرنا أعمال سيروان باران بأعمال الرسام البريطاني فرنسيس بيكون "فنان الرعب" والوجوه المشوه واللحم النيئ و صرخات الألم . تتشابك اللوحات في عمق المأساة التي يعيشها الانسان المعاصر. لقد جسدت لوحتهما ملامح قبح الحضارة: الدمار، الدم ،الموتى ،الصرخات ،الألم ،التشوه . تكشف وجوه بيكون أو جنود باران عن عمق الفاجعة التي أطاحت بالإنسان. يكشف العنف التشكيلي الذي مارسته فرشاة باران على القوى المتنازعة و اللامعقول و سقوط العالم في بربرية حيث فقد الوجه، سقط الرأس وغاب الجسد ،و انتشر الظلم و الرماد وفقد البلاد ملامح الجمال، يموت الجمال بموت الأمن وسقوط الجنود وهروب الجنرالات العسكرية في بدلات تنكرية ،حقيقة رسمها باران بشكل موجع في لوحة "حفلة تنكرية " لجنرالات بملابس مدنية فوق ملابس عسكرية و كأن البدلة العسكرية وصمة عار نحتت على أجسادهم أو في محنطة الجنرال مستلقيا في قارب ومتى يستلقى الجنرالات في قوارب ؟ إنهم لا يستلقون إلا مهزومون أوموتى تلك هي مأساة التي لم تغب عن لوحات باران مجسدة في لون البدلة العسكرية .هاهنا تكشف أعمال باران على مسؤولية الفن إزاء الأحداث بحيث على الفن أن يمارس شكل من "السياسة الكبرى" المضادة من أجل الحقيقة .يطالب الفن الحقيقي بالحقيقة و هو سلاح ضد الهيمنة و الحرب إذ لا يصلح الفن للتبرير أو الاندماج أو الرضوخ أمام ما يحدث. فيما أبعد من عصر الفرجة وعصر المعلومة معا نعتبر أن لوحات الفنان العراقي باران تشكلا تصديا للفرجة السالبة للجمهور إزاء ما يحدث وهي أيضا تعبر أن ما يحدث هو أبعد من مجرد المعلومة . تكسر أعمال باران الفرجة السالبة فهي ليست مشاهد من أجل المتعة بل هي لوحات فنية تشكل موقفا وتنديدا و شهادة. إن لوحات باران هي شكل من المقاومة من أجل وطن تنازعته الفتن والمحن من الداخل و الخارج . إنها لوحات في ما أبعد من كل المعلومات عن حرب على العراق وما وحدث. إن ما حدث أوسع من المعلومة والكارثة أبعد من كل قدرات اللغة . تحاكي اللوحة الكارثة وتقف أمام جمهورها بكل ألامها وندوبها مطالبة أن لا يمر العالم فوق هذه المأساة .لا يختلف مشاعر باران إزاء ما يحدث في العراق عن مشاعر بيكاسو عند الهجوم على إقليم الباسك في اسبانيا التي رسم على إثرها لوحة غورنيكا التي جسد مأساة شعب أعزل فمات الجندي و الطفل وصرخت النساء وهرب الحصان المجروح ثور قوي فصل عن جسده وحمامة هاربة ومصباح معلق في السقف ومصباح زيتي بيد امرأة وأبواب مفتوح و نوافذ كمنافذ للهروب ولكن لا أحد ينجو من الحرب. "ان الصورة يقول بيكاسو تعيش حياتها مثلما يعيش اي كائن حي حياته تعاني من نفس التحولات التي تفرضها الحياة علينا من يوم الى اخر " هاهنا يعبر فن الرسم على دور الفن في مقاومة الكليشيهات وسياسات العدم من أجل الدفاع على مستقبل "الانسان" في العالم ومن أجل الدفاع عن الحياة معا في العالم فيما أبعد من كل سياسات العنف المتبادل بين كل أطراف العالم. إن الصورة هي سلاح مضاد من اجل الدفاع عن الحق والحقيقة لتبقى اللوحات الفية ايقونات سلام في العالم .
#سعاد_الزريبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة النكبة
-
كيف السبيل للتحرر من القمقم الرعوي؟ قراءة في كتاب صخب المؤنث
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|