|
ذكريات المعرجلانة
خليل الشيخة
كاتب وقاص
(Kalil Chikha)
الحوار المتمدن-العدد: 7961 - 2024 / 4 / 28 - 17:35
المحور:
الادب والفن
لقد ازاحت اوروبا الغربية عصر كامل من تراث البشرية بشكل عام وتراثنا نحن العرب بشكل خاص. لكن هل علينا أن نأسف على هذا التراث الذي كان عنوانه الشقاء والفقر والحاجة. أوروبا هذه نقلت البشرية بثورتها الصناعية من عصر بدائي إلى عصر الطائرات والسيارات والرجل الألي الذي سيأخذ أعمال وحرف البشر قريباً. فمن يحن إلى الماضي إنما يحن إلى الشقاء والتعتير والحياة الصعبة. من حياة الشقاء التي كنا نعيش هي بيوت اللبن (بكسر اللام والباء) وهي بيوت مصنوعة من الطوب أي الطين. وهذه البيوت تكثر في الأرياف والحارات الفقيرة في المدينة. كانت تبنى من طين (الكدان) أي الأبيض وهو غير صالح للزرعة وفي الغالب هو الطبقة تحت التربة الحمراء يستخرجها البناؤون ويخلطونها مع الشعر أو التبن ثم يصعنون منها الطوب المستطيل ليكون اللبنات التي تقام عليها الجدران، ثم يوضع على الأسقف سواميك (مفرد ساموك) وهو عامود من خشب الأشجار على الجدران كي يحمل فيما بعد سقف المنزل. ثم يطلى بالطين المخلوط بالتبن ويمد على الأسطح كي يقيها من المطر ويكون عازلاً. وكانت تكثر في هذه البيوت الفئران والصراصير والفسفوس أو الفسفس. لكن من باب الإنصاف، كان لهذه البيوت ميزة جيدة واحدة، إلا وهي برودتها في الصيف واعتدالها في فصل الشتاء لسبب أن الطين المخلوط مع التبن يشكل مادة عازلة لتقلبات الطقس. هنا يأتي دور المعرجلانة ( في اللهجة الحمصية) أو المعرجلينة باللهجة الشامية. والمعرجلانة هذه هي حجر أسطواني يبلع طوله متر وقطره 25 سم ولها ممسك أو قضيب حديدي يمسك به الرجل كي يسيرها على السطح كل مانزل المطر كي يرص الطين مع التبن ويمنع المطر من التسرب إلى داخل البيت. والمعرجلانة ليست لوحدها المصنوعة من الحجر، بل معظم الأدوات المنزلية كانت مصنوعة من الحجر أو الخشب أو النحاس. تشعر بأنك تعيش في العصر الحجري. فجرن الكبة لطحن البرغل مع اللحمة أيضاً مصنوع من الحجر. الجاروشة (أو حجر الرحى) التي تجرش الحنطة أو العدس أيضاً مصنوعة من الحجر. هذا العصر ارتبط ببساطة الآلة، فكانت الأرض في البساتين او الارياف تحرث بطولها وعرضها بواسطة الثيران أو البغال، ولذلك قدس الإنسان الثور قديماً وصنع الآلهة نصفها ثور ونصفها إنسان لما كان للثور فائدة في حراثة الأرض. في الإشارة إلى مدينة حمص، كانت بيوت الطين تتوزع في الأحياء الفقيرة التي في الغالب لايستطيع هؤلاء الفقراء بناء بيوتهم من الحجر. أما الطبقة الغنية أو الميسورة والتي كانت مكونة من رجال السلطة والتجار، يبنون بيوتهم من الحجر الملون كما كان يظهر في مسلسلات باب الحارة وغيرها. مازلت أذكر أن بيتنا كان في حارة شعبية في منتصف السبعينيات، وكانت أسقفه نصفها مبني من اللبن والنصف الآخر من القرميد، أذكر كيف كان أبي يرتقي إلى السطح في كل مرة يكون المطر غزيراً، لينثر التبن ثم يبدأ بشد المعرجلانة ذهاباً وإياباً. وحدث مرة إذ أنه كان مريضاً، فأمرني أن أصعد إلى السطح وكنت طفلاً حديث السن، كادت تلك المعرجلانة أن تشدني بثقلها وتدفعني نحو الأسفل لولا أن طرفها ضرب بحائط جانبي. كما قلت، كانت حياتنا قاسية قبل عصر الثورة الصناعية الغربية، وهي التي انتجت لنا كل مرافق الحياة الكريمة، لكنها أنتجت معها الإستعمار ومايسمى بالدولة الوطنية.. هذه الدولة الوطنية التي ليس لها طعم أو رائحة. ومازال جبابرة المفكرين العرب يحارون في تصنيفها. هذه الدولة الوطنية أتت بعد عصرنا الحجري كما قلت سابقاً وبعد الإستقلال. والإستقلال بالنسبة لنا كمن خرج من تحت الدلف ليقعد تحت المزراب – كما يقول المثل الحمصي. كنت استغرب بعض الصور والتعليقات في مواقع التواصل الإجتماعي عن الماضي بأنه الزمن الجميل وكثرةالحنين إليه. لأننا نحن العرب لانريد أن نخرج من الماضي أبدأً، فنحن نعيش الماضي والماضي يعيش فينا دون انفصال، مثل الجسم والقلب. ولذلك أنتجنا كل أنواع الإجتهادات التي أوصلتنا في نهاية المطاف إلى مواجهة العالم أجمع، سواءً على المستوى السياسي أو المستوى الديني. فقد أنتجت أنظمتنا العربية ايديولوجيات تكره الآخر خاصة الغربي وتشتمه بمفردات رائجة ومعروفة - ماسوني مستعمر وصهيوني - وأما المستوى الديني، فقد أنتجنا إضافة إلى العداء الشديد للغرب مفردات جاهزة (غرب كافر، مشرك، إباحي، مادي، يستعبده اليهودعن طريق الماسونية) وأيصا أنتجنا وبكل فخر وإعتزاز دولة الخلافة في العراق والشام، تكرس نشاطها في سبي اليزيديات الكافرات وتقطيع الأيدي من المرافق ومن خلاف، وحز رقاب المشركين المتشبثين بالضلالة، ورمي البشر من قمم الأبنية الشاهقة، أو تعليق الرؤوس المقطوعة على أغصان الأشجار كي تكون عبرة لمن تسول نفسه ....... فطوبى للنائمين الغافلين وطوبى للتخلف!
#خليل_الشيخة (هاشتاغ)
Kalil_Chikha#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زيارة إلى مصر
-
الجبنة المدوّدة ومحاكم التفتيش
-
الشيوعية إلحاد وزندقة
-
المعذبون في الأرض
-
فنون التسوّل
-
صندوق العجائب
-
في التشحير والتجريس
-
معرض القرد والضبع
-
علي الخليلي والفجر الأدبي
-
قمة عربية اسلامية مباركة
-
نادي الصداقة العربي الأمريكي
-
القدس عروس عروبتكم
-
توتي وفروتي
-
صطّوف ولطّوف
-
النملة والصرصور
-
الثعلب والدب
-
رواية ابن البلد
-
تاريخ خزانة الماء
-
أحذية أداديس
-
الله والفقر
المزيد.....
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|