عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1756 - 2006 / 12 / 6 - 11:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
احمد عبد الكريم ونّوس – شاعر الفراشات الحزين
هو المتدلي من بوابات الجحيم , الممعن في الخيبات على سلالم الروح , المتشظي حد الجهالة , المسكون بحس اللحظة , هو العابث بقوانين الطبيعة , الممنوح للأعشاب البرية , والفوضى التي لا تلم إلا شمائلها لناقوس الشمائل , كان ولا زال مسكون بالفضيحة , ومتجمهر مع مفرداته الطرية حدّ الذوبان , المملوءة بالصلادة , الغازية لأشياء الكائن , غير الممسوس سوى بنداوة ,لملمتها الطبيعة لتخبئها تحت نهودها العامرة بالروائح البكر , هو عملّس لم تروضه أشجار السرو , ولا أمواج البحر الهاربة إلى النسيان , جعل له صولجاناً على ذرى تلال // بسمّاقة // وكم غطت روحه رياحين- مصياف -, هو الحي الميت , كم شردته التلال , وبحثت عنه أنهار البلاد , وما غطت ذؤابات روحه لملمات الأرق , عافه الأهل ووديان البلاد , وتراكمت فوق أضلاعه أعشاب البراري , وما أعطى سرّه إلا للوديان الموحشة , وصبايا القرى , حيث كان (( أنكيدو )) يقاسمه زيت السماء والفلاوات الموحشة 0
- أحمد عبد الكريم ونّوس – شاعر الفراشات , وشاهد وشهيد الطبيعة التي لم تطأها أقدام البشر , حروفه من قدْح أرباب , نبّشوا وهاد الكون بغابات الفرح, وجنائن الألغاز , فلم يكن يوماً مسكوناً إلا بهموم الوطن , وغزلان البراري , لم تشرّه الأيام , بل آخت إليه الحروف , أناخ ثورة الحرف ليجعل منها أنشودة للمكان , وحول الأمكنة إلى عوالم من لحم ودم , أشعل في قلب الليل جراح الندم , وثار على لغة أسَّنَها أصحاب الأحاجي المهووسة بالعماء المطلق , وكان دفء حيواتهم ليل مطبق من أناشيد الغباء , لم يألفوا إلا الحروف التي تقاطر منها صديد الأيام , وبراغيث الهم الذي ناخ على كلكلهم , فراح الليل المظلم يجزّ إنسانيتهم , ويحولها إلى صفير من البلادة , وليالي الشؤم المهووس بعناب الليالي الموحشة , التي أدمنوا فحيحها , حيث الربّ الصخري يرسم لهم طريق الظلام الأبدي , ولكن الفتى الكهل , ارتاب من روائح الشؤم , وما غلفته المدينة بحيطان الأسر , فامتلأ بالماء والزعفران , وراح ينشد أغاني الحصاد , ويعزف على أوتار النعناع نشيد الإنسان الآخر المختلف , الذي كان غَسُولهُ الضوءَ , وغزله دغدغات النجوم في ليالي الرحمة المتبقية من الفَرَاش ِ المتراحب في عوالمه المضاءة من رحم الطفل الأول , الذي يتراحب بالألم النبيل , وعاد الطفل إلى لحظة نشوءه المتراكم , آن شَهَرَ على جسده الناحل الأهل والأصدقاء وخناجرهم , فما صاح ويلاً , ولكنه أدرك لغة الطيور , ومجد الغيوم التي لايُدَثِّرها السحاب , فكيف يمضي في وعورة الرجم , وماتسابقت عليه عربات الهم من شدوٍ يُجرِّح لغة الحزن لديه , فأي غربة يمتطي خيولها الشاعر المدفون تحت أظلاف الشرور , ودهاليز الخيانات المتشعبة التي تحاول قذفه إلى سحيق النشيد الملوَّث بالدماء البشرية , فما كان له إلا العودة إلى صباه ,فصَبَت إليه القصيدة , وارتميا على محراب اللغة التي تفتحّت بين يديه كأزرار الورود المبهمة , ونفض وبلا رجعة الكلمات المتآكلة على مضارب البدو في خلجان الماضي المسحور بنوبات الرنين إلى هاويةِ ما جَلَّفتِ الطبيعة من خشونة الجلد , فما كان إلا زارعاً بساتين الحروف التي تُحيي تناغم , هذا الزمن المعاش , ولم يكن يوماً يحيى بجلباب أبيه , ومن هنا كان فرداً متآخياً مع ذاته , ومعاداً إلى طينه المشوّى , آن كان الخلق يبادلون الأزاهير بأرغفة الخبز , والطير لا ترتاح إلا على أكف الرعاة , كم يؤلمني أن أرى كاتباً مملوءاً بكل هذه الأزاهير منفياً في وطنه , وغريباً , ومدشوراً على فوهات العذاب , فأنا اسميه الرجل الذي هجره النوم , فلم أر يوما بشرياً ينام في كامل الصحو , وكأن النوم هاجر جفونه , فشُدّت عينا الرجل بالنور , حيث الرجل لا يأكل إلا من الطعام أقله , ومن الحزن أكثره , فهو ضجر لا يطيق ذاته , ومتوحد مع ذاته , حتى تخاله يعشقها , فما من شؤم تمادى إلا وهو موجود , وهو القائل في مقدمة ديوانه ( طحين الدم ) – ( ونأتيك بالقصص عن أحمد ونوس كأيل وحيد , يعرف أكثر مما يجيد القول , لا يطوله الرذاذ الذي يسببه مركبه , أسماكه الملونة هي حروفه التي يشحنها بأكثر مما تتحمل , من توتر وانبهار , حتى لتحسّ أنها حروف جديدة , تلوي أعناقها صامتة تنتظر الدوي الذي يختزنه خالقها في تديّمها ودورانها , لُتدفع نحو الجرف قوية كعاشقة مثلى , تحت ظفر عاشقها المجنون , الذي يتخذ خصرها قاعدة للفتك والانقضاض والرعد قبل انصباب ذئب المسك , بشارة عن ميلاد نبوءة لا يحتملها الوقت , لصبي عسلي الحدق يخاصر الساقية , فاتكأ بالنهر صنوه وتربه , ممتشقاً قامته النارية في ثلج الليل , قافزاً كالنورس من نافذة المخيلة , غير عابئ بالزجاج المتحطم المتناثر وراءه , داعساً بقوة في بطن بحره الذي لايسمى , وليس ثمة من تجرأ على لفظ اسمه سواه )) أحمد عبد الكريم ونّوس – الذي أهدى ديوانه المعنون (( طحين الدم )) إليه :
إلى أنا 00
أحمد عبد الكريم ونّوس
لأنني الوحيد , الذي لم أكذب عليه –
هو هكذا لم يعش الغربة في وطنه , بل ماتها , وتراه يستمر هكذا بحياة الموت , لا عمل – لا بيت – وكثير من الشعر – عرف الموت أكثر من مرة , فكان دائماً منتصراً لأنه يحب الحياة , ولأن الحبر عنده يساوي قطرات الدم التي تصهل في عروقه , لذا استمر حبره نظيفاً , لأن مداده صادق حد الجنون , ولم يكن غريباً أن يكون من أصدقاء الشاعر الكبير – مظفر النواب – لأنه كان يرى فيه حياة , ويعرف أن الشعر لون من ألوان الشهادة , والكتابة هي النبيذ الذي تطهرت به دماء – المسيح – ومثلما لم تخنه المخيلة فإنه أدرك أن الكتابة رسالة القديسين والأنبياء , وبها تُطهر البشرية أدرانها من كل شوائب البشر ودناءاتهم , لذى تراه يسمو إلى مصاف الارتحال مع اللغة المجنونة , ويطير بجسده وروحانياتها ليلتقي مع سموات الأجنحة الفاتنة لملائكة لم يروا إلا عصافير الحقول 0
(( وأنا
كنت وحيد
والرمل على الشاطئ
كان وحيداً مثلي
أسنان البرد
تلوك
أصابع أقدام الليل المقفر
حين تكون بغير امرأة
تصبح مثلي
وترى الوحشة
كيف تضم أصابعها الزرقاء
وتغص عيون الرمل
بغصن من دمع ))
كل شيء موحش , والغربة لها أنياب الهم , والليل يجرجر خطاه على أروقة الشاعر , والمساحات تضيق , والعبث الوحيد هو عيون الرمل , فاللغة العادية , تصبح ألوان الروح , وتصنع الكلمات من روح الشاعر أقدام القفر , والمرأة هي الوحيدة القادرة على إطفاء الصقيع الثلجي الذي يتوسد روحه , فلا طبول ولا زمور هنا , فاللغة هامسة دافئة طيعة كخرير الماء , وممشوقة القوام كالحلم , والغصة في الرمل حنان , والفوران الروحي يتجذل غصص الماء , فالحلق ضيق كما الهم , فهنا الشاعر ينفض عنه عفن اللغة , ليُدْلي بحروف اللغة المنحازة إلى الحداثة الشعرية , التي تترك الحروف تصنع كائنات , تترك فضاءات اللغة ممهورة بالحرية , وتُعمِّرها بيوتاً مشرّعة للريح 0
ومن ديوانه – ( أين النهر يا رائحة القصب ؟) نقرأ :
(( يحدث أحياناً
ـ أن أكون سائراً على الرصيف الآخر
فأصطدم بذكرياتي 00 ولا أعتذر
ويحدث
على المنعطف مباشرة
أن يتأبط الصبح ذراعي
فنثرثر معاً 00 عن الزوجات والأطفال
ويوصيني بزوجه وطفليه
ثم أقرأ في صحف الصباح
أنهم أعدموه في الساحة ))
هكذا تتحول اللغة اليومية , إلى كتابة من نوع خاص , كتابة تخرج عن المألوف , فتصدمنا , وتترك مفاهيمنا المعتادة عن الشعر محض هباء , هذا هو الشعر الذي يخدعك ببساطته , ويترك تعيد حساباتك في مفاهيم الشعر , لأنك هنا أمام السهل الممتنع , ولا غرو, أن يشنق جزارو الشعر المقدس , هذا النمط من الكتابة , ويطردون هذه الكتابات من جنائنهم التي فُسد بيضها , وراح العطن يلوك الذكرى والذاكرة 0
فلنسمع إلى قصيدة " أيتها الحرية "
عندما توهجت حمرة المصابيح
- أوقدو تحية خضراء
منزوعة من كراسات شهيد رشيق
أيتها المرسومة , بالدم والروعة
زنري خصرك
بالسلام والقنابل
تعشقين زنابق الأجساد المتمردة
مخضبة بالأمل والدم
فلماذا تختبئين إذاً
في الحمامة والبندقية
أيتها الحرية العذراء ؟ ))
وتظل الحرية أكبر من الزنازن والأجساد الموجوعة , فهي الوحيدة التي لا يستطيع البشر تلويثها , لأنها الحاجة الأبدية لكل كائن , وهي الواحدة المهددة من كل كائن , ورغم ذلك تظل وتبقى 0
أمّا - لكازنتزاكي / زوربا – فيقول :
(( فلطالما حرثت البرق
بثورين رعد يين
وطالما عالجتها بالشفق
فليس للصليب
تشعب شجرة البندقية
فاخلع حديدك
- يانيكوس-
عن تفاحة آدم
وأرم زورباك تحت نقيق الضفدع
عله يجد أرملة بينهن
يستخرج الليْنيت من سرتها ))
فالشاعر زوباوي بطبعه , يعشق الأودية وقمم الجبال , كما يذوب عشقاً في الحرية التي عاشها حدّ الألم , وحاولت التسبب بموته أكثر من مرة , إذ هو لم يألف الحديد , الذي كسر منه غير عظم, وجعله يسير معقوفاً كحرف الراء 0
(( حبيبتي
يا أنثى مالك الحزين
يا امرأة من يفاع المحار
أتذكرين ؟
كيف ارتعشت طفولة الزغب
عند اقتراب فراشة الأصابع
هكذا سأعود
نافضاً غبار الأصفار عني
وسوف أكبل العالم
وأقيده بخيط تأملاتي
ثم أتركه معلقاً
مشنوقاً
بحبل أفكاري المتين ))
هو شاعر ليس لم يراسله أحد فقط , بل تُرك لأحزانه ولغربته , وبدأ يُذوب إلى درجة أنه تحول إلى هيكلي عظمي , وكأن كل اللذين يحيطون به , يتلذذون بعذاباته , فعلى الرغم من أنه : ألّف عشرات الدواوين الشعرية , والكثير من الدراسات الهامة عن الرواية والشعر والقصة , ودراسة عن حياة وأشعار الأديب الكبير - مظفر النواب -لا تقل عن أربعمائة صفحة وروايات كثيرة و وكل هذه لم تر النور , ورغم أنه تحدا ظروفه ومجتمعه وأصدر بعض المجاميع الشعرية على نفقته الخاصة , وإعانة بعض الأصدقاء , بأغلفة أبيض + اسود – وورق عادي , وهو كما يؤكد أنه على استعداد لإعطاء كل أعماله الأدبية لأي شخص كان لإصدارها, وليس لديه مانع أن تكون كل هذه الأعمال باسم الشخص المتبرع , المهم لديه أن تصدر هذه الأعمال , لأن بعض ضعاف النفوس من المتأدبين أخذوا بعض أعماله ونشروها باسمهم , وكان يضحك عندما يسمع ذلك , فتأملوا أي زمن وصل فيه الكتاب السوريين , في ظل اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة في سوريا 0
* صدر للشاعر وعلى نفقته الخاصة الأعمال التالية :
اً – أين النهر يا رائحة القصب ؟
2ً – أصوات من خيمة هندي احمر 0
3ً – طحين الدم
هذه هو أحمد عبد الكريم ونّوس الذي هو نموذج للنوادر من المبدعين الذين لو وُجدوا في بلدان تحترم الأدب , لكان لهم شهرة تعبر القارات 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟