سعيد أراق
الحوار المتمدن-العدد: 1756 - 2006 / 12 / 6 - 11:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المرآة الحقيقية لخطاباتنا,هي مسار حيواتنا.
مونطيني MONTAIGNE
إن التأمل العميق في التاريخ الإنساني بتشكلاته وحالاته وتحولاته ومجموع تمادياته الإنسانية والحضارية الرمزية والنفعية, يفضي إلى استجلاء الحقيقة الأولية البَائِنَةِ التالية: ليس التاريخ الإنساني في بعض تجليات سيرورته الناهضة دوما باتجاه المستقبل, سوى استرسال شغوف بالتعرف على الذات ومجموع مُغايِرَاتِها الحسية والمرئية وكذلك الملتبسة والمتحجبة. وعلى سبيل التفسير الأولي لهذا النوع من الشغف, يمكن القول مسبقا إنه شغف يرتبط بالوظيفة الأساسية التالية: الانتقال من مستوى التَّعَرُّفِ على الأشياء إلى مستوى تعريفها وتصنيفها وترتيبها في سُلَّمِ الأشياء والأفياء, ما دام أن »المعرفة ليست في نهاية المطاف سوى نوع من المبادلة, التي نعيد فيها –عبر اللغة- تمثيل وبناء ما في العالم من وجود وموجودات[1]«. لقد وجد الإنسان نفسه –في خضم تجربته الوجودية الفائرة بفائض الدهشة ورعشة الخوف والتساؤل- أمام مرآة لا تعكس صورته بجلاء, ولا تتيح له إمكانية الاستكانة المفرغة تماما من هاجس الفضول والسؤال. وهذه المرآة كانت وما تزال, هي هذا الكون المهيب المحيط به والحاضن لكل تطلعاته وتَنَطُّعاتِهِ ومجامع تَوْقِهِ الإنساني الذي لا يستوفيه العَدُّ ولا تستجليه كل بلاغة الكلام. لذلك–منذ البداية- تشكلت بين الإنسان وعالمه, علاقة تأسست إبستمولوجيا على منطق السؤال. وتحول السؤال-بناء على ذلك- إلى منطوقٍ وجودي مؤسس لصيغة ارتكاز الذات معرفيا وذهنيا في محيطها الطافح بفائض الأسئلة وهاجس المغالبة المستمرة لمُمْتَنِعِ الجواب.» وإذا كان القلق يستثير الجمال, فإن السؤال يوقظ سُبَاتَ الجواب[2]«. وبذلك تتحقق احتفالية اللقاء, وينشأ شَبَقُ المعرفة. ومن الناحية الرمزية, يبدو أن الإنسان قد أعلن مبدئيا وجوده في العالم, من خلال السؤال وعبره. ورغم أن أسئلة الإنسان لم تكن دوما أسئلة فلسفية بالضرورة, إلا أن صيغتها على ما يبدو, كانت–منذ البداية– تتَلَبَّسُ بلبوس التلوينات الفلسفية التي لا تخرج عن سؤال الماهية(ما هو؟) وسؤال الكيفية (كيف؟). وهما صيغتان تساؤليتان مؤسستان لمجموع إدراكاتنا ومعارفنا وتمثلاتنا ومُجْمَلِ أصناف أو أنصاف التغذية الراجعة المترتبة عما نعيشه أو نعايشه أو نتوق إليه تَوْقَ الغريق لطوق النجاة.
وإذًا, لا غرو أن اكتمال إنسانية الإنسان, مترتب–على نحو ما-عن اكتمال وعيه بالتشغيل الإجرائي لمنطق وسلوك التساؤل والسؤال. وذلك بالنظر إلى أن السؤال هو أول مدارج السالكين نحو شروط التعرف وقطوف المعرفة. لأن العلم بالتعلم, والتعلم لا يكون ولا يتكَوَّنُ كينونةً فعليةً وفاعلة, إلا بالسؤال. ومن هذه الزاوية, يبدو أن التاريخ الإنساني برمته, إنما هو تاريخ تعلم وتعليم بامتياز. والحديث عن الوضعية التعليمية التعلمية نفسها, هو في أصل فلكه ومنشأ مداره, حديث عن جوهر الوضعية الإنسانية بامتداداتها الأنطولوجية وتمادياتها الوجودية والظاهراتية, قبل أن يكون حديثا مستقى–في مبدئه ومعاده- من الأدبيات البيداغوجية الراهنة. فالإنسان موجود-بحكم مُدْخَلاتِ ومُتَرَتَّباتِ واقعه الوجودي نفسه- في خضم المساءلة المسرفة للعالم, وذلك بهدف العلم والتعلم و(اختبار الذات) بتعبير سقراط. ومعنى هذا أن وضعية التعرف على الأشياء معرفة عَالِمَة, والتعرف من خلالها على الذات وعلائِقِها بمغايِرِها, ليست وضعية أنتجها الإنسان من تلقائية اختياراته المحايثة لفعل الكينونة, بل هي وضعية جوهرية situation intrinsèque قائمة بالقوة ومتحققة بالفعل. وهي لهذا السبب بالذات, وضعية تتجاوز مقاس الإنسان, لكن دون أن تصادر فيه قدرته على تجاوز مقاسات ذاته.
تأسيسا على منطوق هذا الطرح, تتراءى المسيرة التاريخية للكائن-في ضوء ما راكمه من معرفة و ما اجترحه من استبصار بالمعنى الجشطالتي للكلمة– بمثابة ملاحقة مسرفة لهاجس الإدراك المتدَبِّرِ للعالم, الذي يمثل الموضوع الجوهري لكل المواقف الإشكالية والمعرفية والإنسانية. والواقع أن هذا الموقف الإشكالي التعلمي الوجودي والبدئي, هو الموقف الأبدي الذي نعيده ونستعيده–بصيغ شتَّى, وأحيانا بمنطق حكيم أو أَرْعَن- في كل تحرشاتنا المعرفية بالعالم وبما يطفح به من أشياء وماهيات وذوات. محكوم علينا إذًا, أن نَتَفَصَّدَ عَرَقًا من أجل أن نعرف ونعلم ونتعلم لكي نحتاط من غُبْنِ الجَهالَةِ ومَكْرِ العالم.» وما دامت المعرفة العلمية نفسها, ليست سوى تصحيح مسترسل للأوهام[3]«, فلا يهم دوما أن نخطئ أو نصيب, بل الأهم هو أن نتجنب خطأ الارتكان إلى سَوْأَةِ التغافل عن فهم وتدبير ما تباغتنا به هذه المرآة المهيبة التي يعانق فيها الكائن مقاسات الكون, فتنبلج الرؤى وتتشامخ الأحلام ويكبر أو يَصْغُرُ في عينه الإنسان. لقد قال كروكر Kroecker إن الله أنعم على الإنسان بالعدد الصحيح, وترك له المجال لإتمام واستتمام باقي الأعداد والمعدودات. أما "ألبرت إينشتاين" فقد أدلى –بدوره- بدلوه في الموضوع قائلا:»إن المجاهدة باتجاه المعرفة, تمثل –في رأيي- واحدا من تلك الأهداف المستقلة التي لا يمكن بدونها تحقق الوعي الإنساني بالحياة[4]«.
ولَئِنْ كان الجانب المرئي والمُدْرَكُ من مصير الإنسان, هو الحلول العارف والمتعرِّف في العالم وفي الوتيرة الدياكرونية لللَّحظات المرتحلة قُدُمًا على الدوام, فإن مراقي هذا الحلول تتأسس لا محالة, على الأقانيم البنائية التي تتدرج–في التنظير البياجوي- من الاستيعاب assimilation إلى المواءمة أو التكيف accommodation وصولا إلى التوازن équilibration. وقد قال "هنري برجسون"[5]:»رغم أن تاريخ تطور الحياة لم يكتمل بعد, إلا أنه يمكننا منذ الآن أن نستشفَّ الكيفية التي تمكن من خلالها الذكاء الإنساني من التشكل وفق تطور متواصل وحثيث, وذلك عبر خط متصاعد انطلاقا من فئة الفقريات les vertébrés, وصولا إلى الإنسان. إن تاريخ تطور الحياة, يوضح لنا إذاً, أن ملكة الفهم, تنطوي على ملكة القدرة والفعل, وتنطوي كذلك على دقة وتعقد ومرونة التكيف الواعي للكائنات الحية, مع شروط الوجود. ومن هنا يمكن استنتاج أن وعينا–بالمعنى الضيق للكلمة- موجه لتعميق اندماجنا الكامل في محيطنا, وصياغة تمثلات دقيقة حول علاقات الأشياء الخارجية فيما بينها «.
وعلى هذا الأساس, يبدو–من الناحية الأنطولوجية- أن مسار ومصير الإنسان يقترنان سلوكيا وذهنيا وفلسفيا بتشغيل الوعي والتحصن نسقيا بمستتبعات نتائجه ومستحكم وظائفه وتوظيفاته. إلا أن مفهوم الوعي هنا, لا ينبغي أن يختزل في المعنى الذي ارتبط تاريخيا وفلسفيا بالمرجعية اليسارية والإيديولوجيا الماركسية الآفلة, بل الوعي من حيث هو»ملكة التفكير والفهم والإحساس, التي يملكها الكائن الإنساني, والمتضمِّنَة لعمليات الحدس والاستبصار والتنوُّر[6]«, والتي يترتب عن اشتغالها إعادة مَفْصَلَةِ مجموعِ الارتباطات والتشريطات التي تنتظم وتنظم علائق الإنسان بالعالم القائم والعوالم الممكنة. ومعنى هذا أن آلية الوعي, هي آلية بنائية بامتياز, تُبْنى بقدر ما تَتَبَنْيَن, وتتبنين بقدر ما يُقْدِمُ الإنسان على تعقُّل ذاته وضبط براديجمات حضوره الفادح أو الكادح في هذا العالم. وذلك لأن »قدرة دماغنا على فهم قوانين الطبيعة, ليست مجرد حادث عرضي, بل هي تجلٍٍّ من تجليات الترابط الكوني الحميمي بين الإنسان والعالم[7]«. إلا أن الانتقال من حالة الفهم إلى مرقى الوعي, ليس بالضرورة انتقالا مضمونا ومفروغا منه على سبيل شرط المُسَلَّمَةِ والبداهة. وبمعنى آخر, ليس الوعي معطى جاهزا مُسْتَقْصًى –بالأصل والطبيعة-ضمن الترتيبات البيولوجية المحدِّدة لملامح الكينونة والتمظهر الإنسانيين. والوعي أيضا ليس "فضيلة طبيعية", بل هو عنصر مندرج ضمن لواحق الاكتساب بالمعنى الأنطربولوجي. وهو بالتالي مَدْرَجٌ من مَدَارِجِ إعادة بناء الإنسان وبنينة مرتكزات وجوده. إذ »لا وجود لأي فضيلة طبيعية. وكل الفضائل تفترض إرادة الإنسان ومبادرته لبناء ذاته بذاته[8]«. والحال أن البناء هو أجلى رغائب الذات المريدة, ليس لأن البناء هو المصير الوحيد المتاح, بل لأنه هو الاختيار الأبقى والمسلك الأَشَمّ. بل إن "غاستون باشلار", لا يتحدث حصرا عن البناء, وإنما عن إعادة البناء المنصَبَّةِ رأسا عما يشكل الإعلان الوجودي الأرقى للإنسان, ويَقْصِدُ به الفكر. ومن هذا المنطلق يؤكد أن كل السيرورة المسترسلة للفكر, وكل مستقبل الفكر, يتمثلان بالضبط في إعادة بناء العقل بكل مستلزماته العملياتية الذهنية الفاعلة.
على سبيل السؤال
ولكي نضبط فورة التداعيات التي ينفتح عليها هذا الموضوع, نعود من جديد إلى قضية المعرفة والتعرُّف, التي بدأنا بها وجعلناها صلب هذا الموضوع, وأساس تشعباته الجارية. ومن هذه الزاوية, يمكن أن نستنير بالأسئلة الاستشكالية التالية: ما الذي يجعل الإنسان بطبيعته, كائنا فاوْسْتِيًا بامتياز؟ هل العالم–بالنسبة للإنسان- يمثل مجرد مدى للحضور بالجسد والروح؟ أم هو تَمَادٍ بالعقل نحو الحدود القَصِيَّةِ للتعقل والتشريطات القصوى للثقافة؟. هل المعرفة تعرُّفٌ أم ترفُّعٌ أم مواكبة؟ هل هي معاكسة طليعية للموت أم منازلة فارهة للسَّفَهِ والجهالة؟. ما الذي نعرفه بالضبط حين نتعرف عما هو خارج عنا أو كامن فينا مثل الغُصَّةِ أو المُضْغَةِ أو المرارة؟. فِيمَ السَّعْيُ وَحَتَّامَ الارتحال وهذا الزَّادُ, يا صاحِ, ما أَسْمَنَ وما أَغْنَى, وما خَفَّفَ من انتِكاسَةِ الروح و انبِطاحِ الهامَة؟.
على سبيل الجواب
ما من وعيٍ إلا وهو وعيٌ بالموت والألم[9]
ميغيل دو أونامونو
1- الروح في المزادات المُفْلِسَةِ للمعرفة
لنبدأ من هنا: مدينة صغيرة تسمى كنتلنغن Knittlingen في ألمانيا. هادئة برتابتها الجميلة التي يستعذبها الباحثون عن الملالة والسكينة. هنا مضارب الدكتور "يوهانس فاوستوس" Johannes Faustus المشهور عالميا بإسم: "فاوست". ومن هنا انطلقت شرارته لتعم أرجاء العالم, ولترسم ملامح الإنسان الذي يريد أن يعلم حتى ولو باع روحه للشيطان.
في أركيولوجيات البحث عن حقيقة هذه الشخصية, يحكى أن "فاوست" ليس شخصية من نسج الخيال, بل شخصية واقعية عاشت بالفعل في مدينة كنتلنغن. وكان يمارس مهنة الطب, قبل أن يتحول إلى شخصية تأتي بالعجائب ويصدر عنها ما لا تدركه الألباب ولا تدري كنهه العقول. وتقول الأقاويل إنه تعاقد مع الشيطان, فباعه روحه مقابل الحصول على العلم والجاه والقوة والمعرفة. ثم مات بعد ذلك في ظروف غامضة. وانتهى فاوست, لكن أسطورته ظلت مستعادة.
لَئِنْ كان الإنسان يحلو له أن يتمثل رمزيا بما ليس هو على وجه الحقيقة, فإن في ذلك استجلاء لِمُضْمَرَاتِ طبيعته التي لا تَتَبَدَّى إلا بالتمثيل والمماثلة. فالإنسان هو دون كيشوط في نبالته المضحكة المبكية. والإنسان هو سيزيف في عبثية مصيره. والإنسان هو أوليس في مكره وتغربه وتيهه. والإنسان هو بروميثيوس. وهو أوديب. وهو أورفيوس. وهو نارسيس. وهو كذلك فاوست. ذلك الرجل الذي باع روحه بثمن بخس من أجل أن يعلم. يقول فاوست:»آه لو أن قوة الروح وَصَوْلَةَ الكلام, تكشفان لي الأسرار التي أجهل. آه لو أني لم أكن مجبرا بشقاء على قول ما لا أعلم. يا حبذا لو كان بإمكاني أن أعرف كل ما يحجبه عني هذا العالم, وأن أرى-دون أن أثقل كاهلي بالكلمات التي لا تجدي– كل ما تضمره الطبيعة من طاقة خفية وبذور يانعة أبدية[10].«
وبعد أن تَحْصُلَ له المعرفة التي قايضها بروحه, يستشعر فاوست أنه استكمل مدارج الارتقاء الأوفى نحو ما يمثل التَّوْقَ الأبديَّ المغذي لكل الاستيهامات الإنسانية. فيخاطب نفسه بكلمات نرجسية حالمة:»هل أنا الآن إلاه؟ كل شيء أضحى في ناظري واضحا كالشمس. في هذه الخطوط البسيطة, يتجلى العالم لروحي بكل ما فيه من حركة الحياة, وكل ما يستضمره من طاقة مفعمة خلاقة. وهاأنذا أخيرا أتعرف على حقيقة أقوال الحكماء[11]«. إن هذه المعرفة التي تَأَتَّتْ لفاوست من حيث لا تتأتى لباقي الناس, ليست من نوع المعرفة الاستعلائية transcendantale بالمعنى الكانطي للكلمة. إنها معرفة تقوم على مرجعية المصادرة, مصادرة الذات التي يتاح لها أن تتبوأ مقام المعرفة, لكن ليس من منطلق التجلي والحضور, بل من منطلق الاستلاب الذي يجهز على كل أمل لاحق في انتشال الذات من تردِّياتها الرَّعناء ومن القبضة التي لا ترحم. وإذا كان المَيْسَمُ الجوهري للمعرفة هو كونها تحررية وتحريرية بالانتساب والطبيعة والتعريف, فإن المعرفة على الطريقة الفاوستية, تقترن مبدئيا بطقوس المبايعة التي تتحول رمزيا, إلى نوع من تصفية الحسابات التعاقدية بين كِيَانَيْنِ لا يحتكمان إلى نفس المقتضيات والمنطق. وهي بالتالي معرفة لا تُحَرِّرُ الذات ولا تعلو بها ولا ترسم لها مآلا بهيا في الأفق البعيد, بل تطبق عليها من كل صوب وجانب, وتستبقيها بالتالي ضمن حدود الوعي الشقي بالقضاء المشؤوم والمصير المُدَرَّجِ بالمأساة. وبالتالي فمُتَرَتّباتُ المسار الذي انخرط فيه فاوست, ليس فيها على وجه الإطلاق, أي هامش لمصير مغاير أو تطور اختياري, حر ومتاح. لقد قال "إرفين لازلو"Ervin Laszlo:»إن التطور ليس هو المصير, وإنما هو الفرصة[12]«. لكن التأمل في قصة فاوست, هو تأمل في محدودية الفرص والاختيارات المتاحة أمام الإنسان الذي عليه أن يشقى من أجل أن يعرف. وحين تتحصَّلُ له المعرفة من حيث لا فِكَاكَ ولا مفر, تصبح قمة الحكمة هي توطين الذات على تبرير ما لا يطاق. وهكذا تنشأ المعرفة التي لا تفيد ولا تستفيد, لأنها معرفة تنفي الذات العارفة وتحشر كل خطاب حولها ضمن منطق التَّأسِّي والتأبين.
ومن هنا يبدو أن المعرفة على الطريقة الفاوستية, هي بمثابة مؤشر رمزي على المأزق الإنساني. فحالة الإفلاس الفاوستي, ليست حالة فاوست/الشخص, بقدر ما هي حالة فاوست/الإنسان. وهذا النوع من المعرفة, ليس رهانا بحتا, بل هو ضرب من المراهنة أو القمار. وكل مقومات المعرفة الفاوستية, تتغذى حصريا من مرجعية غيرية فادحة التسلط, شيطانية المقام. مما يجعل منها معرفة مشروطة نصيا ومقاميا ومصيريا بشرط الاستلاب والتبعية. وما يهمنا من دلالة هذين المفهومين–في هذا السياق- ليس الدلالة الإيديولوجية, وإنما الدلالة الإبستمولوجية والفلسفية في أبعادها المؤسِّسَة لخصوصية الشرط الإنساني ومحتوى تجربته الوجودية الماثلة والشاخصة. لقد قال القديس أوغسطين:»إن الإنسان الصالح, يكون حرا حتى حين يكون مثقلا بعبوديته«. لكنها بالتأكيد ليست حالة فاوست أو من جرى مجراه. لأن العبودية قد تكون بدورها مستساغة ولذيذة لمن أنشأته صروف الدهر على استرخاص الروح وتمجيد الشيطان.
وعليه
هل في بنياتنا أو ما يشبه البنيات المعرفية, بنيات فاوستية؟ هل نملك وَعْيَ ربط المعرفة بالتحقق السافر للذات أم أن معارفنا ليست في نهاية المطاف سوى الوجه الآخر لتغييب ذواتنا واستعذاب ما نحن فيه من مضيعة ومسغبة وإقصاء؟. ألم يكن امْرُؤُ قَيْسِنَا فاوستيًا قبل فاوست؟ هو أيضا كان له شيطانه الذي يلتقي به خارج مضارب القبيلة لكي ينفث في رَوْعِهِ مُسْتَلْطَفَاتِ القصائدِ وساحِر الأشعار.
2- المعرفة المرحة ومشارف الجنون
ماذا يقول لك وعيك؟ إنه يخبرك أن تكون الرجل الذي هو أنت. نيتشه
أما بعد
في كلمة تأبينية مؤثرة كتبها الكاتب الفرنسي ريمي دو غورمونRemy de Gourmont سنة 1900, على إثر موت نيتشه, جاء ما يلي:»إننا لا ننصح بالفلسفة النيتشوية للأشخاص ذَِوي الحساسية المرهفة والذين يحتاجون للمعتقدات المُطَمِْئنَة. فلسفة نيتشه تمنح نفسها للأقوياء وليس للواهنين والضعفاء, إنها فلسفة أولئك الذين لا يحتاجون من أجل العيش, للحليب المُحَلَّى الذي يجود به ضَرْعُ الأمنيات[13] .«
لا شك أن مقام التأبين هو مقام الجلالة الذي تَتَبَدَّى فيه الحياة موتا, والموت حياة. فيه نقول ما نشاء, وفيه نتلبس حسرتنا الغامقة ونناجي الفقيد عادة بما لم نكن نحسن قوله حين كان حيا يرزق ضمن زمرة الأحياء. نيتشه, ذلك الرجل الذي تفلسف وأخطأ وأصاب, قال ضمن ما قاله من قول حكيم أو أَرْعَن:»ليس الشك هو الذي يقود إلى الجنون, بل اليقين«.
والواقع أن طرح قضية الجنون من زاوية الشك أو اليقين, يطرح قضية حدود العلم وحدود الكفاية الإنسانية وقدرتها على تسلق هامة المعرفة للوصول إلى مقام العرفان بمعناه الاستناري, الذي يبدو أشبه ما يكون بالكشف الذي يزول به كل الغطاء وتنكشف به كل الحُجُب.
وإذًا, نيتشه, ذاك الرجل الذي انتهى به المطاف في لُُجَّةِ الجنون وبَرْزَخِهِ الآسِن, لم يكن يخشى الشك بقدر ما كان يَتَهَيَّبُ اليقين. وكتابه »المعرفة المرحة«1882, هو من نوع الكتب التي تطرح المعرفة باعتبارها أصلا تقويضا قاسيا لكل السُّلَط وفسخا مُبْرَمًا لكل ترتيبات الفكر الكنسي « esprit sacerdotal », ومرتكزاته الدوغمائية. وكأن التقويض هو السلطة المضادة التي تعلن الذات من خلالها, حالة النضج السامق والتعالي الكلي عن ابْتِسَاِر فعل الوجود في منطق الارتكان والانهزام والمساومة. وذلك لأن »النضج هو توسيع الشكوك, ويقظة الفكر من أجل أن يبقى في أعلى درجة من اللايقين. إن الإنسان الناضج إنسان حر. لأنه يعلم أنه لا يعلم, إلا أن ذلك لا يمنعه من التقدم نحو الأمام[14] .«
ولكن السؤال الذي قد نطرحه في هذا السياق, هو أشبه ما يكون بالمساءلة: ما هي حقيقة يقين نيتشه؟ هل هي حقيقة عارفة مُتَعَرِّفَة؟ أم هي حقيقة لا يدركها العقل إلا حين يستحيل إلى نقيضه ويستفحل فائض الجنون فيه؟.
وإذًا مرة أخرى, هل الجنون هو التتويج المُوَفَّى للمعرفة؟ أم هو اكتمال تَطاوُلِ قُنَّتِهَا نحو عنان السماء؟ هل الجنون هو التردي المجلجل في غَوْرِ الذهول أم هو الانعتاق الذي فيه كل الخلاص؟. لقد فسر "ريمي غورمون", جنون نيتشه, بأحد عاملين: إما بسبب وراثي ظالم, أو بسبب إفراط نيتشه في إعمال العقل بحثا عن أرض جديدة أو سماء. ولا شك أن مثل هذا التفسير لا يجيب بالضرورة عن طبيعة العلاقة بين الجنون واليقين عند نيتشه. إذ إلى أي حد يمكن اعتبار هذا الجنون واقعةً دالة معرفيا على تحقق معرفة يقينية شاخصة في صورة انبلاج كلي أو اكتمال؟. لقد أكد "نيتشه" في فلسفته, أن الحقيقة تُبْنَى بصيغة التعدد وليس بصيغة الأنموذج الموحد الحاضر قهرًا وجبرًا كمعيار. لا وجود لسلطة معرفية استعلائية مُلغية للإنسان. وليست الحرية نفسها سوى كلمة يُصَرِّفُهَا كل واحد على طريقته أو وفق هواه. المعرفة بطبيعتها مرحة حتى وإن انتهت بالجنون أو الخَبَلْ. إنها مراودة مبهجة ومبتهجة للممكن والمتاح والاحتمال. لذلك فهي دوما جامحة مثل جواد ونافرة متوثبة مثل غزال. وكما قال ستيرنر Stirner:»هناك معرفتي, وهناك معرفتك يا أخي«. أما ما عدا ذلك, فمجال النِّسَبِ والاختلاف. لأن »الدقة تضليل والصحة تَغِْريرٌ وانخداع«, بتعبير مافيت .Mavitوتلك قصة أخرى. لكن ما يهمنا في حالة نيتشه, هو كيف يحضر الجنون كحد شَرْطِيّ للمعرفة, التي تمثل »مأساة ذلك الكائن المخدوع:الإنسان[15]«. كيف يتوارى العقل في غياهب الاخْتِبَال فيصبح غيابُه أو تغييبه هو الحجة الدامغة على ارتقاء الذات نحو حَضْرَتِها الزاهرة المجلَّلَةِ صوفيًا بالمغانِم النورانية للمعرفة المتيقنة؟. هل يمكن أن نستقرأ فلسفة نيتشه ومسار الفيلسوف فيه, كتقويض لمرتكزات تمجيد العقل, الذي لا تَحْتَدُّ وتَشْتَدُّ ملكتُه إلا بالاعتراف معرفيا وإنسانيا بالوضع الاعتباري للجنون؟.
إن الثقافة الغربية ليست كما نتمثلها –نحن معشر الرابضين في الحمأة الواقعة خارج كل تَعَقُّلٍ أو جنون أو مواكبة-, ثقافة عقل خالص. الثقافة الغربية ثقافة عقل وجنون, وثقافة حلم واستيهام. ألم يعترف ديكارت–رائد العقلانية الغربية-أنه استلهم منهجه وفلسفته من رؤيا تخايلت له في المنام؟. محطات فلسفية وإبستمولوجية غربية عديدة تعيد تأسيس علاقة العقل بالجنون, لكي تكتمل المَشَاتِلُ اليانعة للمعرفة: بدأ تمجيد الجنون مع إيراسموس Erasmusفي كتابه (تمجيد الجنون) Éloge de la folie (القرن الخامس عشر). ثم إيتيان جون جورجي Etienne Jean Georget في كتابه (حول الجنون) De la Folie (1820). ثم ميشيل فوكو في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) الذي هو في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه(1961). وف.لودوك V.Leduc في كتابه La Folie en tete (1970). و(سوان) G.Swain في كتابه (موضوع الجنون) 1977. وبونافي L.Bonnafé في (كتابه الجنون والمجتمع)1992.
ومعنى هذا أن اختزال الفكر الغربي في مقولة العقلانية, هو نفي متسرع للوجه اللاعقلاني, المتمثل في ثقافة الجنون, التي تشكل لدى العديد من المفكرين والأدباء والفلاسفة الغربيين, قمَّةَ تَجَلّي العقل وفورةَ نهوضه الأخَّاذ. لأن »أجمل الأشياء, هي تلك التي يمليها الجنون, ويَخُطُّهَا العقل. وينبغي للإنسان أن يحدد موقعه الدائم بينهما, لكي يكون قريبا من الجنون حين يحلم, وقريبا من العقل حين يكتب«[16]. ومن هذه الزاوية, يمكن أن نعيد قراءة الفكر الغربي, بتمثلات جديدة بعيدة عن الإيماجولوجيا imagologie السائدة لدينا عن الغرب. فإذا كان الغربيون أبيقوريين على أكثر من صعيد, فالمعرفة الغربية بدورها أبيقورية على طريقتها, فهي تمتح مرحها من فائض العقل وطافح الجنون. وكتاب إيراسم Érasme "تمجيد الجنون", هو مؤشر مبكر على حضور الجنون, كرافد مغاير من روافد المعرفة الغربية وكأفق إنساني ومعرفي جديد ومأمول. يقول "إيراسم" متحدثا بلسان الجنون:»إذا ما قررتِ الكائنات الإنسانية الفانية, إحداث قطيعة مع الحكمة, لتعيش معي على الدوام, فإنها بدل مرارة الشيخوخة, ستتذوق ملذات الشباب الدائم[17].« ثم يضيف قائلا -بلسان الجنون- على سبيل الاستدلال:»من أين تأتي روعة الأطفال, إن لم تكن مني؟ من أين تأتيهم تلك الروعة التي تجنبهم العقل, وتحررهم بالتالي من الهموم؟[18].« إن هذا النوع من المنطق, قد يبدو محضَ مزايدة بلاغية متهتكة وسافرة. لأن الجنون في التمثل العام, هو المتاهة القصوى التي لا سَفَرَ فيها إلا بمحض المراوحة وعَتَمَةِ الِوجْهَة وسِقْطِ المنفعة. لا خير في الجنون ولا مندوحة عن العقل. وكل ما عدا ذلك, فهو زائد من القول ليس ينفع أو يضر. إلا أن هذا التمثل العام, لا يجد له بالضرورة صدى عند العديد من أقطاب الفكر الغربي. فقد »قال كاسطورياديس Castoriadis:الإنسان هو ذلك المجنون الذي مَكَّنَهُ جنونه من ابتكار العقل[19]«. وإذا تتبعنا هذه المواقف والأقوال لدى المفكرين الغربيين, نلاحظ أنها ليست لحظات فكرية شاذة أو معزولة في سيرورة الفكر الغربي. بل تمثل تراكما معرفيا وفلسفيا يفصح عن نفسه كتقابل معلن مع المفهوم المُبَخَّسِ للجنون في المرجعية التَّوْرَاتِيَةِ, التي تقول:»الجنون هو حجة الضعفاء, من أجل دحض الحقيقة.«[20] ولكي نوضح الأمور في هذا السياق, فالمقصود بالجنون هنا, ليس هو العقل الذي يعيش حالة العَيِّ والعياء والعماء, والغياب والخفوت, والتواري المطلق الذي لا انكشاف فيه ولا امتلاء. بل المقصود بالجنون هو السبيل المغاير لارتياد المعرفة. ولدينا في التراث العربي أيضا, من عُرِفوا تاريخيا تحت إسم "عقلاء المجانين", وعلى رأسهم "ميمون المجنون", الذي كان جنونه هو اكتمال العقل فيه. وفي حديثه عن الجنون, يقول طاغور:»بإمكاننا أحيانا حل مشاكل عويصة, عبر التحول إلى مجانين. الجنون يشبه البساط السحري في ألف ليلة وليلة. إنه يملك القدرة على الارتقاء بك فوق الاعتبارات الدنيئة التي لا حد لها, والتي تعترض سبيل الحياة اليومية«[21]. والجنون بهذا المعنى, هو المهرب الذي تتبوأ فيه الذات سُدَّة التعالي عن الدناءة الداخلة شرطا في تشكيل مُحَيَّا الحياة.
وإذا كان العقل منتوجا ثقافيا, فالجنون بدوره, منتوج أفرزته رؤى ثقافية قد تكون مختلفة ومُجَانِبَةً للتوجه العام, إلا أنها تندرج رغم ذلك في نسق التدافع المعرفي الذي يحتمل الشيءَ وضدَّه, والرأيَ ونقيضَه. المعرفة إذًا, ليست على الدوام تتويجا لممارسة عقلية. والجنون بدوره يحضر لدى الكثير من المرجعيات الغربية, كطريقة فائقة المردودية المعرفية والفلسفية والإنسانية. وها هو حكيم فرنسا فرانسوا دو لاروشفوكو, يقول:»إن الإنسان الذي يحيا بدون جنون, ليس حكيما بالدرجة التي يعتقد«[22].
وعلى العموم, تبدو مسيرة التَّمَاحُكِ بين العقل والجنون في الثقافة الإنسانية بشكل عام, مسيرة طويلة, تجللها إبستمولوجيا لحظات التقاء العقل بنقيضه, وتمجيد شَبَق التَّوَحُّدِ وطقوس اللقاء. لدرجة دفعت "إدغار موران", إلى القول:»في الأزمنة القديمة, كان الحديث يدور حول الحكماء. أما الآن, فإننا نعلم أن الجنون والحكمة, يمثلان قطبين متداخلين في حياتنا. إننا لا نعلم أبدا على وجه التأكيد, إن كان الإنسان فعلا حكيما من قبل«[23]. بل إن "كريستيان روبان", يلغي مفهوم الحكمة, ويعوضه ثقافيا بمفهوم المرح, حين يقول:»إن ما يتقابل في ثقافتنا مع الجنون, ليس الحكمة, بل المرح«[24]. لكن العودة إلى نيتشه, تقودنا إلى تَلَمُّسِ المشارف الوجودية القصوى التي تستحيل فيها لحظة الجنون إلى فرصة مغايرة لتجاوز التباسات العقل. هذا العقل الذي لا تكتمل قدرته على التعقل إلا بإنتاج نقيضه والغوص فيه والتمرغ في حياضه المتاحة أو المنيعة. يقول نيتشه: »هناك دوما القليل من الجنون في الحب. لكن هناك أيضا على الدوام, القليل من العقل في الجنون.«[25]
أما في حالتنا, فيبدو أننا لم نصل تاريخيا بَعْدَُْ إلى ما يمكن أن نسميه بلاغيا مرحلة ما بعد العقل, ما دام أن رهاننا الأساسي والحاسم –مرحليا- هو إعادة عقلنة العقل العربي, وإعادة فرز وترتيب بنياته, كما هو الأمر في مشروع نقد العقل العربي لدى الجابري. وتأسيسا على هذا, يبدو أن رهان جنوننا, ليس هو البحث اللاهث عن يقين. إذ وحده الشك يُعْوِزُنَا ويَجُوُز بنا نحو ضفاف "الحقائق المتغيرة" و"اليقينيات الظرفية", بتعبير كلود أليغر Claude Allègre. ولا يهم أن يكون هذا الشك على الطريقة الديكارتية, أو على الطريقة الساخرة-كما هو الأمر عند عبد السلام بنعبد العالي- من حيث هي طريقة متوجهة نحو خلخة السائد ومناهضة الفكر الدوغمائي المتلفع بيقينياته الزائفة العجفاء. لأن »المعرفة ليست سوى إبحار في يم اللايقينيات, عبر بعض أَرْخَبِيلاتِ اليقينيات[26]«. وهو موضوع سنعود إليه في غير هذا المَوْضِع.
إن مجموع ما سبق, يقودنا إلى استشفاف ملمح أساسي من ملامح اشتغال المعرفة, ويتمثل جوهريا في أن المعرفة, سواء على الطريقة الفاوستية, أو من منظور الفلسفة النيتشوية, ليست في نهاية المطاف سوى معرفة إجرائية. قد تقود–على سبيل الاحتمال-إما إلى حياض التجلي أو مشارف الجنون, إلا أنها تظل دوما مجرد سبيل يسلكه السالكون ومن اقتفى أَثَرَهُمْ بإحسان. أما ما عَدَا ذلك, فيخبرنا به عمر الخيام, حين يقول:»كل الناس يسعون لسلك طريق المعرفة. وهذه الطريق, بعضهم يستميت في البحث عنها, وبعضهم الآخر يؤكد أنه ارتاد جِنانَها واستلم مفاتيحها وعَضَّ عليها بالنواجذ. لكن, قد يأتي يوم, تتعالى فيه صرخة مدوية, تقول: مَا مِنْ مسلكٍ هناك, ولا وجودَ لأي طريق«.
لا غرو أن هذا الاحتمال, لا يحمل لنا بشرى كبيرة أو سُلْوَان. وقد لا يكون سوى مؤشر على النزعة العدمية le nihilisme التي انتعشت فلسفيا وإنسانيا, بعد أن استنفد العقل–على ما يبدو- مُجْمَلَ أوهامه واستيهاماته. وهذا يقود من جديد إلى طرح قضية الرهان الحقيقي للمعرفة, ومساءلة جدوى الوضع الإنساني نفسه. هل وجودنا كذواتٍ مُفْعَمَةٍ بوهم القدرة على التعرف والمعرفة, حضور سافر أم شبه استتار؟. هل كل مدانا الوجودي, ليس سوى نوع من الاحتلام المنذور دراميا للانمحاء والنسيان؟. ماذا يتبقى لنا من صروح معارفنا أو ما يشبه المعرفة, إن نحن تَكَوَّمْنَا على عدميتنا مثل المُسْتَحَثَّاتْ؟. هذا عمر الخيام مرة أخرى يقول:»لقد تعلمت الكثير, ونسيت الكثير أيضا, بشكل إرادي. في ذاكرتي, كان كل شيء يأخذ موضعه بأمان. فما كان في اليمين, مثلا, لم يكن يحتمل التحول إلى الشِّمَال. لكنني لم أذق طعم السكينة, إلا يوم طرحت عني كل شيء, بتهكم وازدراء. حينها, فهمت أخيرا أنه من المستحيل الوثوق في النفي أو الارتكان للإثبات«.
لا وجود إذًا لمعرفة يقينية. وكل محاولة لتنصيب شرط اليقين كأفقٍ غَائِيٍّ للمعرفة, هو سقوط سافر في الدوغمائية. إذ»لا وجود لحقائق أولية. هناك فقط أخطاء أولية[27]«. وإذا قمنا–على سبيل الفضول- بتعداد كل ما لنا من أعداء وخصوم, ربما يكون الفكر الدوغمائي هو أَلَدُّ الخِصَامْ. وربما كان "أندري موروا" André Maurois محقا حين قال:»أعتقد أني أرى في الطبيعة, حضور معالمِ نظامٍ, أو أَلَقٍ إلاهي ما...إلا أن المشهد الكوني في عموميته, يبدو لي مُستغلَقا ومبهما بالنسبة للعقل الإنساني[28]«. وتكسير المُستغلَقِ المعرفي لا يوجد بالضرورة ضمن نطاق أو حدود الإمكان. وكل هذا المسار الطويل العريض الذي خاض غماره الإنسان, لم يقده في نهاية المطاف, سوى إلى الاقتناع إلى حد الاحتقان, بأن الذات الإنسانية ليست ذاتا عارفة, بل هي مجرد ذات تحن باستمرار لأن تعرف, وتعيش معرفتها دوما بمنطق الحصافة المزيفة أو الادعاء.» إن الإنسانية تدور منذ آلاف السنين, حول نفس الوهم, تماما مثل سفينة شاردة تتقاذفها الأمواج في دوَّامة[29].« وغالبا ما تنطوي المعرفة على حصتها من الأوهام, بل وتتغذى منها كما يتغذى الإنسان على مُفْرَزَاتِ التراب. وحتى إمكانية تخلص الذات من أوهامها, للوصول إلى المعرفة, لا تتحقق غالبا إلا على حساب سعادة الإنسان, كما يعتقد إيراسم[30]Érasme. وفي كل الحالات, يظل "الجهل أفضل من ادعاء المعرفة", كما يقول "نيكولا بوالو" Nicolas .Boileau وليس في ذلك بالتأكيد, أي تقليل مجاني من شأن وقيمة المعرفة. لكن المجاهدة المضنية التي تتجشمها الذات-من أجل الاستظلال بشجرة المعرفة, وانْتِجَاعِ ِرحابِها الحَانِيَة- ثمنُها الفَاِرهْ, هو أن تصبح هذه الذات, ذاتا إشكالية محتقنة بتوترها وعُصَابِهَا ورَهَجِ الأسئلة التي لا تَذْوي أبدا ولا تستكين. إنه ثمن باذخ بالتأكيد, لكنه ثمن كل ولادة عسيرة ومُْرْتَقَبَة. وإذن "هناك ولادة في كل معرفة[31]"il y a une naissance en toute connaissance. وهو بالضبط ما سبق أن عبر عنه فكتور هوجو قائلا:"في المعرفة ولادة".Dans connaître,il y a naître ومع كل ولادة تشرئب الأعناق وتتطاول الهامة وتتحدد معالم الطريق. إلا أن »ما ينبغي أن نسير باتجاهه, ليس بالضرورة, هو مراكمة الكثير من المعارف, بل مراكمة الكثير من إِعْمَاِل العقل والتفكير[32] .«
لقد أكد هيغل أن العقل لا يمكن أن يفكر ويفعل في العالم, إلا لأن العالم ليس فوضى خالصة. لكن أين نحن الآن من هذا العقل بالمفهوم الهيغيلي؟. من أين يبدأ حد الفوضى, وأين ينتهي حد النظام؟ وإن كان هناك نظام, فما هو موقعنا فيه؟ وإن كان العالم فوضى, فهل نحن فيه مثار الشغب أم مجرد ذوات بيولوجية تتقن–كما يقولون لنا- جلد الذات وتفجيرها على مسمع من الناس ومرأى من الذاهلين؟...
على سبيل الختام
إذا كانت الغاية هي المعرفة, فيكفيك أن تعرف نفسك[33] – وليام شكسبير
الفُوبِيَاتُ عديدةٌ سامقةٌ مثل عِيدَانِ الخَيْزُرَان, طاعنةٌ في العمق الإنساني مثل رماحٍ جارحة. وإذا كان الخوف من الشيطان أو السطنافوبيا satanaphobie لم يمنع فاوست, من التعاقد مع الشيطان, فإن المانيافوبيا maniaphobie أو الخوف من الجنون, لم يمنع نيتشه من إجهاد عقله بمرح, بحثا عن خلاص أو احتمال سبيل. وفي حالتنا التي ننازل فيها التَّشَظِّي والخواء, عديدة هي الفوبيات العربية:الخوف من الأفكارideophobie, والخوف من التجديد kainotétophobie, والخوف من المرح chérophobie, بل وحتى الخوف من الخوف phobophobie. واللائحة طويلة. والأكيد أن الخوف هو قمة الاستماتة المسرفة في الخضوع. لأنه إذا »كانت أدنى درجة في ُسلَّمِ المعرفة, هي الاستيهام والظن. فإن أدنى درجة من النبل في تراتبية الفعل الإنساني الحر, هي الخضوع[34]«. ولا نأتي بجديد إن قلنا, إن انبطاحنا هو في المقام الأول, انبطاح بالفكر وخضوع بالعقل ورَجْمٌ بالغيب واحتكام للأزلام. وليس في جُبِّنَا جرأة أو جنون. وحدها الدوغمائية تملأ دروبنا الموحشة, وتطبق على كل المسالك, فتضيق الرؤيا وينشأ العنف ومضادَّاته, والتشدد ومُسْتأصِلاته, فنكتفي من السير بمراوحة الأقبية.
وإذًا مرة أخرى, ها نحن هنا ما نزال, على عِلاَّتِنَا كما أُرِيدَ لنا أن نكون أو لا نكون. نقيم في المعابر, ونقتات على رَهَجِ الظنون ومُسْتَخْسَرِ الأوهام واليقينيات السَّائِبَة. وليس لنا من جنوننا أو عقلنا إلا النِّقَم أوما شابه...وآخرُ الكلامِ أَنْ عِمْتُمْ مساءً أيها الرَّاقِدونَ وَهْنًا في أَفِْرشَةِ الدَّوَاهِي وأَرْوِقَةِ الأحلام. والسلام...
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-Edgar Morin ,Le vif du sujet,Points/Seuil n°137,p.372.
[2]-Christian Bobin ,Autoportrait au radiateur,Gallimard NRF 1997,p.49.
[3]-Gaston Bachelard ,Études.Vrin, 2002,p.14.
[4]-Albert Einstein ,Comment je vois le monde,trad. Régis Hanrion, Champs-Flammarion 1979,p.186.
[5]-Henri Bergson ,Evolution créatrice ,Félix Alcan,1907, 5e éd. P.U.F. 1991.
[6] -Encyclopédie EUREKA. The 21st CENTURY GUIDE TO KNOWLEDGE By Ian Adams. Thème : ( Consciuosness ).
[7] -Trinh Xuan Thuan, Le chaos et l’harmonie,France Loisirs,1998. p.248.
[8] -Louis Pauwels,Ce que je crois,éd. grasset,1952,p.35.
[9] -Miguel de Unamuno,Le sentiment tragique de la vie,trad.Marcel Faure-Beaulieu,Idées/Gallimard n°68,p.168.
[10] -Johann Wolfgang Von Goethe , Faust, éd.Flammarion ,1998, p.47.
[11] -ibidem ,p.48.
[12] -Ervin Laszlo , La cohérence du réel ,éd.Gauthier-Villars ,1989.
[13] -Remy de Gourmont,La mort de Nietzsche.Reproduit à partir de la sixième édition,Paris,Mercure de France,1923,p.185-191.
[14] -Louis Pauwels,Ce que je crois,Livre de Poche n° 4803,p.211.
[15] - Jean Anouilh ,Colombe,Livre de Poche n°1049,p.130.
[16] - André Gide,Septembre 1894, Journal 1889-1939, Bibliothèque de la Pléiade,p.50.
[17] - Érasme,Éloge de la folie,Éd. Garnier-Flammarion ,p.25.
[18] - ibidem,p.23
[19] -Edgar Morin,Amour, poésie, sagesse, p.62, Seuil, coll. Points n°P587
[20] -David Homel,L Évangile selon Sabbitha, trad. Daniel Poliquin, p.100, Éd. Leméac/Actes Sud, 1999
[21] -Rabindranath Tagore,À quatre voix,trad.Madeleine Rolland,Éd. Rombaldi,1961,p.209.
[22] -La Rochefoucauld,Réflexions ou Sentences et Maximes morales [209],Éd.Garnier Frères,1961,p.58.
[23] -Edgar Morin,Nul ne connaît le jour qui naîtra,éd.Stanké,2000,p.60.
[24] -Christian Bobin,L autre visage,Éditions Lettres Vives 1991,p.35.
[25] -Friedrich Nietzsche,Ainsi parlait Zarathoustra,trad.Georges-Arthur Goldschmidt,Éd.Livre de poche n° 987,p.52.
[26] -Edgar Morin ,Les sept savoirs nécessaires à l éducation du futur,Seuil 2000,p.94.
[27] -Gaston Bachelard, La psychanalyse du feu, Folio.Essais,1985, p.171.
[28] -André Mourois,Le peseur d âmes,Livre de Poche n° 1685|1686, p.221.
[29] -Remy de Gourmont,La mort de Nietzsche.Reproduit à partir de la sixième édition,Paris,Mercure de France,1923,p.185-191.
[30] -Érasme ,Éloge de la folie.Éd.Garnier-Flammarion ,p.54.
[31] -Pascal Quignard ,Vie secrète,Gallimard NRF 1998,p.149.
[32] -Démocrite,Les penseurs grecs avant Socrate,trad.Jean Voilquin,éd.Garnier-Flammarionm,n° 31,p.172.
[33] -William Shakespeare,Peines d amour perdues,trad. François-Victor Hugo,Garnier-Flammarion n° 47,p.259.
[34] -Jean Guitton,Mon testament philosophique, Éd.Pocket,
#سعيد_أراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟