|
أحزان السيدة السومرية
سمية الشيباني
الحوار المتمدن-العدد: 1756 - 2006 / 12 / 6 - 08:23
المحور:
الادب والفن
وجهها لا يفارق ذاكرتي، امرأة تركت بصماتها دون قصد على جسدي ورحلت.
كلما اختليت بنفسي أذكرها وأذكر ملامحها، تلك ملامح وجهها الحادة واللذيذة، ملامح سو مرية، تخرج من وجهي كلما نظرت الى المرآة وكأنها تقول لي (يا مسيت العافية) هكذا كانت تحيتها.
كان لي صباح خاص عندها حين أستيقظ من نومي (يا صباح النور يا بعد أهلي) أما حين أعود من مدرستي فكانت تستقبلني بإعجاب وتسمعني تحية (هلا بالحْديثة) والحْديثة باللهجة العراقية الدارجة تعني الصبية، وتلفظ بتسكين الحاء، وربما تعني الفتاة الحديثة العهد بالحياة.
كانت تطلب مني أن أرتب لها غرفتها، أو أن أشك الخيط بإبرتها فتشكرني بقولها (عفية بهبة الريح) بمعنى أنني نشيطة كهبوب الريح.
كانت حين تستحم تطلب مني أن لا أبتعد كثيراً فبعد قليل سيأتيني صوتها لأساعدها في حمامها.
كنت أفرح كثيراً لهذا الطلب وأعتبره فرصة لدخول عالمها الواسع من خلال جسدها المنقوش من الرأس حتى أخمص القدم!.
وتأتي اللحظة وأسمع صوتها فأجري باتجاه الحمام وتصعد الى رأسي الأبخرة ورائحة صابون الغار ويُنْقَشُ عالمي بآنية الحناء والضفائر السبع والمشط الخشبي والماء الذي يغلي ويملأ الجدران والأرضية والفضاء ببخاره. وجسد سيدة سو مرية يتوسط كل هذا العالم، جسد حليبي منقوش بالوشم الأزرق، رسوم ليس لها نهاية، خطوط ورموز لا أستطيع فك أبجديتها وتمتد يدي الى الليفة القطنية لأغمرها بالصابون المنقوع ثم أمررها على جسدها وأغرق بأحلامي وأسئلتي؟؟؟
كانت تحاول قدر استطاعتها أن لا تريني الأجزاء المحرمة من جسدها لكن عين فضولي تتبع الخطوط الزرقاء، أريد أن أعرف أين تنتهي تلك الخطوط؟ لكنها لا تنتهي! أسألها رغم إعجابي بهذا الجسدي العاجي المطرز بالفيروز:
- تقول المعلمة بأن الوشم حرام فلماذا وأنت تصلين نقشت جسدك هكذا؟!
تضحك ويهتز لحمها الناصع البياض المنقوش بالفيروز وتلتفت الي فيبدو وجهها وكأنه خرج من ملحمة سومرية بشفاه مكتنزة وأسنان ناصعة البياض قوية وخدود عالية وجبين عريض
وأنف قصير بعض الشيء، وجهها يعبر لي عبر سبع ظفائر بلون الحناء، كل ظفيرة بحكاية. ومن بين ضحكتها أسمع كلمات صافية من ذاكرة حاضرة:
- نحن من الزمن القديم لا نعرف التزين على طريقة هذه الأيام والمرأة لا بد أن تتزين لزوجها وهذه هي زينتنا، "الوشم، والحناء" وليغفر لي الله، لم يخبرني أحد بأن الوشم حرام.
أخرج من رحلتي الدافئة تلك لأنتظرها، تخرج من بخارها وترتدي ثيابها المعطرة وتجلسني على سريها فألتصق بها وكأنني أريد أن أُخرج ما بداخلها من قصص وحكايا، وللمرة الألف تقص علي حكاية عشقها التي تحدث عنها أهل قريتها من الصغير حتى الكبير.
حكاية أحزان السيدة السومرية وأفراحها التي لم يمهلها الزمن حتى تصاب منها بداء الملل أهلها يقيمون بيوتهم وأعراسهم وأسواقهم على الماء في منطقة الأهوار بالعراق، خرجت ذات يوم لتسلب قلب رجل فلاح مار بالصدفة فيقع في غرامها ويهرب معها الى المدينة خشية عقاب الأهل حيث لا يجوز زواج الفلاح صاحب المال والجاه والأسرة العريقة، بفتاة من الأهوار، رأس مالها قارب وتنور مبني من الطين.
لكنه يترك الأهل والمال والجاه من ورائه ليبقى قريباً من العيون السومرية! تتحدث عنه بإعجاب رغم مرور سنوات على وفاته:
- كان شاباً جميلاً وسيماً وطيباً. أغرمتْ به كما أغرم بها. لكنها وعلى حد رأيها أصابتها عيون الحساد فلم تنجب إلا ابنة واحدة ثم ماتت، ثم أنجبت ولدين ومات هو ليتركها وحيدة مع أحزانها ووحدتها وولدين، تفرك راحتيها وتبتسم وكأنها تراه أمامها:
- كان يحب الغناء وحين يغني يعمد إلى إغلاق باب الغرفة الأبعد عن موقع باب البيت ويطلب مني أن أجلس على عتبة الباب لأراقب المارة فإن تنبه أحد إلى صوته هرعتُ لتنبيهه بأن صوته قد ارتفع وأنه عليه أن يسكت! وتستطر:
- في زماننا عار أن يغني الرجل! والغناء لا يدل على رجولة، لكنه رحمه الله كان في رأسه طرب وكان يمتلك صوتاً جميلاً فلا يستطيع أن يمتنع عن الغناء ولو خلسة!.
الآن أنظر في مرآتي وأمرر يدي على ملامحي التي أورثتها لي. شفاه مكتنزة وعيون لوزية وخدود عالية وجبين عريض، لقد منحتني ملامحها السومرية وغادرت، لم يكلفها الله الكثير من العناء في دقائق قليلة هدأت وماتت! لم أرى أبي يبكي كما بكى يوم وفاة جدتي!.
أما أنا فتحجرت دموعي في عيني وبقيت واقفة طيلة ثلاث أيام على باب بيتنا كلما هممت بالدخول صوتها يستدعيني أن أعود لأتسمر في مكاني أرقب الطريق الذي سلكته يوم رحلت بجسدها العاجي المنقوش البارد.
بعد أسبوع حلمت بها وهي تطير الى السماء عارية بلا وشم! رحلت السيدة السومرية بلا ذنوب.
لماذا تلح الآن علي وتفرض نفسها على ذاكرتي؟ لماذا لا يهدأ العراق قليلاً ويستريح كي أذهب وأبحث في بعض ذكرى عن صورة أو رائحة؟ ربما أعثر على بصمة أو حتى على شعرة من ضفائرها السبع؟.
"الآن أيتها السيدة السومرية تفاصيلك تعيدني الى عراق الخير وحكايا ليالي السلام، وأحزانك صارت قطرة في بحر من دم! ونقطة في خلجان من الأحزان! والترمل صار شيئاً عادياً في بلاد سومر! متعجبةٌ كنتِ من ترملك؟!."
#سمية_الشيباني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في المرآة .... أرى وجهك يطلع من وجهي
-
تضيع أسماؤنا.. ونبقى نحن
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|