|
الفكر المنغلق
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7934 - 2024 / 4 / 1 - 00:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٧١ - الفلسفة النهائية، أو الفلسفات المغلقة
لا شك بوجود إستمرارية وتطور للمقولات الفلسفية المتعددة التي أنتجتها اللغة اليونانية منذ بداية الفلسفة حتى اليوم، وكما سبق القول، النصوص اليونانية القديمة، بارمينيدس، أفلاطون، أرسطو وغيرهم لم تكن عائقا لتطور الفكر وتنوع إتجاهاته ومصادره، بل كانت هذه النصوص هي الأسس التي بني عليها كل المعمار الفلسفي المعاصر. والفرق الكبير بين تاريخ الفكر الفلسفي اليوناني وتاريخ الفكر الإسلامي العربي أو الفارسي، يكمن في أن الأساس الذي بني عليه هذا الفكر الأخير هو نص مقدس، يقوم مقام العقل، وهو الذي يرسم خارطة البناء الذي يجب تشييده، يرسم حدوده وتفاصيله الدقيقة ويعين الطريق الصحيح المسموح به والطريق الخاطيء والمحرم والذي يجب تجنبه. وهذا النص المقدس لا يقدم نصائح أو معلومات كما هو الحال مع إلهة بارمينيدس، بل يقدم تعليمات وأوامر إذا حاد عنها الإنسان فقد يسبب ذلك أن يقطع رأسه في أقل الأحوال، كما حدث مع الحلاج وغيره. النصوص المقدسة عموما تشكل الحواجز والأسوار والأسلاك الشائكة التي تحاصر العقل وتجعله يدور في الفراغ. ويذهب البعض إلى أن قداسة النصوص، ليس فقط السبب في غياب الفكر الفلسفي وتليف العقل، وإنما في غياب كل النشاط الفني والإجتماعي والسياسي مثل المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى والرقص والسيرك وبقية الفنون، والسبب في إنتشار الفقر والتصحر الفكري في كل مجالات النشاط الإجتماعي والثقافي والسياسي في المنطقة. ولكن في نفس الوقت، هناك من يدّعي بأن هذا لا يعدو أن يكون مبررا واهيا لتصوير غياب الفكر النقدي وغياب الفلسفة من الساحة الفكرية العربية والإسلامية، ويذكرون سقراط الذي حكم عليه بالموت بتجرع السم وكذلك غاليليو ومحاكمته من قبل محاكم التفتيش الرومانية سنة 1632، حيث اتهم بالهرطقة وحكم عليه بالسجن لإرضاء خصومه الثائرين وكذلك حرق سافونارولا في فلورنسا يوم ٢٣ مايو سنة ١٤٩٨ ومحاكم التفتيش وحرق الساحرات إلخ.. أي أنه في حقيقة الأمر لا يوجد أي حاجز حقيقي يمكن أن يقف أمام تطور الفكر إذا كان هذا الفكر يتمتع بالحرية والإنفتاح والإرادة الكافية لمواجهة قيود السلطة وحدودها التعسفية. فلا يوجد ما يكوّن جوهر الإنسان وهويته الحقيقية أكثر من الفكر والتفكير وممارسة النشاط العقلي وإنتاج وتخيل الأنظمة النظرية التي يمكن تبنيها للتأثير في العالم والطبيعة لصالح الإنسان وسعادته. الفلسفة اليونانية، كغيرها من النظم الفكرية في مجتمعات أخرى كالهند والصين واليابان، أنتجت أنظمة وأشكال فكرية متعددة، والتي تطور بعضها لينتج ما نراه اليوم من علوم تطبيقية وتكنولوجيا متقدمة. بطبيعة الحال، نحن لا ندعي أن الفكر هو الذي ينتج الأنظمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية على غرار المثالية بكل أشكالها وأنواعها، فنحن ماديين حتى النخاع كما يقال، ولكننا نعتقد أن النشاط الفكري والفلسفي يسهل عملية التغييرات السياسية وبالتالي الإقتصادية، فالثورة الفرنسية لم تحدث في فراغ فكري، بل مهد لهذه الثورة عدة سنين من فكر التنوير، وإن كانت للظروف الإقتصادية الكلمة الأخيرة لإشعال فتيل الثورة البرجوازية الفرنسية سنة ١٧٨٩، التي أنهت نظام الحكم الفيودالي القديم. والتنويرحركة ثقافية تاريخية قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة (بدلا من الله والدين. ومن هنا نجد ان عصر التنوير هو بداية ظهور الافكار المتعلقة بتطبيق العلمانية لقيادة العالم إلى التطور والتحديث وترك التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية التي كانت منتشرة طوال القرون التي نعتوها «بالعصور المظلمة». عصر التنوير Siècle des Lumières إذا هو حركة فكرية خلال مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديث في القرنين 18 و19، قام بها الفلاسفة والعلماء، الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته، واعتمد التنويريون على التجربة العلمية والنتائج المادية الملموسة بدلا من الاعتماد على الخرافة والخيال. ونشر الفلاسفة والعلماء في تلك الحقبة أفكارهم على نطاق واسع من خلال إجراء اللقاءات العلمية في الأكاديميّات والجامعات والصالونات الأدبية والمقاهي والتجمعات السياسية، ومن خلال الكتب المطبوعة والصحف والمنشورات المتعددة حتى قوّضت أفكار عصر التنوير السلطة الملكية وسلطة الكنيسة، ومهدت الطريق أمام الثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما تعود مجموعة متنوعة من الحركات الفكرية في القرن التاسع عشر، بما في ذلك الليبرالية والحركة الكلاسيكية الحديثة، بأصولها الفكرية إلى عصر التنوير. ويدعي العض بأنه كان للفكر الإسلامي دور في تكوين الفكر التنويري الأوروبي، حيث قام بعض المفكرين والعلماء المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا بدراسة وترجمة الأفكار الإغريقية، الأمر الذي أدى إلى تطويرها، وإلى خلق مجالات علمية جديدة. فمن خلال ترجمة ابن رشد وتعليقاته حول أرسطو تم تقديم الفكر النقدي العقلاني إلى أوروبا حيث دُرِّست الأطروحات التي قدمها ابن رشد في الجامعات الأوروبية الأولى مثل باريس، وبولونيا، وبادوا، وأكسفورد. وإن كان من الحق أن نتسائل، إذا كان هذا الدور حقيقيا كما يدعون، فلماذا لم يحتفظ المسلمون بهذا الفكر النقدي العقلاني الذي لا أثر له في تاريخ العرب والمسلمين ؟ والفلسفة اليونانية كغيرها من النظم الفكرية قد ساهمت وهيأت الظروف المناسبة لإنتاج حياة روحية وإجتماعية تزامنت مع التغييرات الإقتصادية الكبرى، مما مكن هذه المجتمعات من إبداع أنظمة إجتماعية وسياسية وروحية تنظم العلاقات المعقدة بين الإنسان والقوى الطبيعية والروحية، بين الإنساني والمقدس، وذلك من أجل إعداد الإنسان ماديا وروحيا لحياة سعيدة وممتلئة على هذه الأرض. وهذا هو ما سماه اليونانيون بالحكمة "سوفيا σοφία". ولا نرى هنا أي شيء يمكن أن يمنعنا من الإعتقاد بأن كل الثقافات والشعوب شرقا وغربا، شمالا وجنوبا كانت تمارس هذه الحكمة ذاتها ولنفس الأهداف المذكورة سابقا، بطرق مغايرة أو متشابهة، وأن حب الحكمة φιλοσοφία لا يمكن أن ينحصر في نقطة جغرافية أو تاريخية محددة. وها هو روبرت كمينغز نيفيل Robert C. Neville، من مواليد 1 مايو 1939، في سانت لويس، ميسوري، بالولايات المتحدة الأمريكية وهو فيلسوف منهجي ولاهوتي متخصص في دراسة الأديان، مؤلف العديد من الكتب والأوراق البحثية، والعميد السابق، وأستاذ فخري للفلسفة والدين واللاهوت لكلية اللاهوت بجامعة بوسطن، في دروسه عن فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، يذكر قائمة من المفكرين والفلاسفة ينتمون لمجتمعات ولغات في غاية الإختلاف، وإن كانوا جميعهم يشتغلون في حقل من الحقول بما يسمى بالفلسفة. نقطة إنطلاقه الأساسية هي أن "فلسفة الدين هي الفلسفة التي تقول شيئا مهما عن الدين". ولذلك يدرس اعلام مثل أفلوطين، أوغسطين، ديونيسوس الزائف أو الأريوباجي، بونافنتورا، أنسيلم، موسى بن ميمون، توماس الأكويني، دونس سكوت، ويليام أوف أوكهام، ديكارت، هوبز، لوك، سبينوزا، لايبنتز، هيوم، كانط، هيجل، شلايرماخر، كيركيجارد، نيتشه، بيرس، جيمس، ديوي، وايتهيد، هايدجر، فيتجنشتاين، هارتشورن، ووايس وغيرهم. ويقترح بالإضافة إلى الفلاسفة الغربيين المذكورين الفلاسفة الإسلاميين الذين يقولون شيئا مهما عن الدين ويشملون الكندي، وابن الراوندي، والفارابي، وابن سينا وأبو حيان التوحيدي، والغزالي، والحلاج، وابن عربي، والرومي، وابن رشد. ونجد من بين فلسفات جنوب آسيا التي تقول شيئا مهما عن الدين فلسفة الأوبنشاد، والبهاغافاد غيتا، والمدارس الأرثوذكسية الستة للهندوسية، وخاصة اليوغا والسامخيا، والفيدانتينز مثل شانكارا، ورامانوجا، ومادفا، والكشميريين الشيفيين مثل أبهينافاغوبتا. كما يذكر الفلسفات في الثقافات البوذية العديد من النصوص من الشريعة البالية، وخاصة دامابادا والحوار مع الملك ماليندا، وفلسفات ناجارجونا، وفاسوباندو، وأسانجا، وكوماراجيفا؛ وفي الجانب البوذي الصيني هناك سينغ تشاو، وتشي تسانغ، وهسوان تسانغ، وتشيه آي، وفا تسانغ، وشين هسيو، وهوي نينغ. من بين الفلاسفة الصينيين الذين يقولون أشياء مهمة عن الدين هناك كونفوشيوس، ولاوتسي، وتشوانغزي، ومنجزي، وزونزي، ووانغ بي، وموزي، وتشو دوني، وشاو يونغ، وتشانغ زي، وتشينغ هاو، وتشينغ يي، وتشو شي، ووانغ يانغ مينغ. بالطبع هناك العديد من الفلاسفة الآخرين من هذه التقاليد الذين لديهم فلسفات كاملة تقول شيئًا مهمًا عن الدين، ولكنها تقول أشياء أخرى عن الأخلاق والسياسة والدين والعلاقات الإجتماعية بين الناس ... بطبيعة الحال البروفيسور نيفيل، بإعتباره لا هوتيا يدافع عن الدين ويريد بناء صرح فلسفي قائم على أسس لاهوتيه ويرى "إن مفتاح الدفاع عن فلسفة الدين التي تعالج الأسئلة الكبرى هو إظهار أنه من المعقول والممكن أن تكون لدينا فلسفة نهائية" وهو بالضبط الذي نعنيه حين تحدثنا عن الحواجز والعقبات المفترضة التي تحاصر العقل وتمنعه من الإنعتاق والتفكير الإبداعي الحر، وهذه الفلسفة النهائية هي ما تفادته الفلسفة اليونانية التي بقيت فلسفة نسبية ومفتوحة على المستقبل.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن فلسفة النقل
-
من بقايا أوراق السيد نون
-
السؤال الذي يقتل
-
الفلسفة بين الشرق والغرب
-
التصوير أثناء الحرب
-
الذي يكون والذي لا يكون
-
الرصاصة ورقصة الغجرية
-
أوليس وقوة الخداع
-
أليس وأوليس
-
عودة إلى ظاهرة الإرهاب
-
الشعر وفلسفة التكوين
-
الفكر والخيال واللغة
-
المقص يأكله الصدأ
-
تجار الحشيش وشيوخ النفط
-
إنتحار الكلمات
-
محمود درويش والحصار
-
آخر أبطال الأوديسة
-
طاعون الهزيمة
-
مربعات الكآبة
-
رحلة بارمينيدس
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|