أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تشريح الذات: كانَ ربيعاً عارياً















المزيد.....



تشريح الذات: كانَ ربيعاً عارياً


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 7929 - 2024 / 3 / 27 - 20:13
المحور: الادب والفن
    


1
غرقَ قلبُ دارين بالغم والقهر، نتيجة مآل السياسة ومفارقاتها وتناقضاتها، وكانَ مزدهراً قبلاً بالآمال العريضة ـ كربيعٍ يعدُ الشجرة بثمارٍ خرافية، مستحيلة. وهوَ ذا الفصلُ ربيعٌ حقاً، بشواهدٍ لا تنتهي من مساكب الأزهار وخمائل الورود وأجمات الأشجار؛ وكلها قد غدت سيمفونية مُنسجمة، بتغريد الطيور وطنين الهوام وهسيس السواقي. لقد تجسّد ذلك الجمال جميعاً في عشيقته، " روكسانا "، وهيَ مستلقية بجسدها الرائع على الأرض المعشوشبة، الممتلئة بالحصى، فيما الصخور المتواطئة تحميهما من أعين الفضول والنميمة. رأسها المكلل بالشَعر العسليّ، كان يتوسّد حجره، فيما قسمات سحنتها، الأشبه بآلهة إغريقية منحوتة بدقّةٍ بالغة، تنبضُ بالرهافة والنعومة والنقاء ـ كما سائر أعضاء جسمها، في حقيقة الأمر. إنها ترنو إلى حبيبها بعينين في لون الخضرة المحيطة بالمكان، تظللهما رموشٌ ناعسة. وكانت بين حينٍ وآخر، تنثرُ بعضَ الكلمات من فمها الناضج الشفتين، مازجةً العربية بالكردية تارةً، وبالسويدية تارةً أخرى.
إنها تذكّرت ربيعاً مماثلاً، جدّ قبل ثلاثة أعوام، ملأ مواطني " السليمانية " بالشجاعة والعزيمة، ليتجمهروا أولاً على شكل جزرٍ صغيرة، تتطاير في أجوائها المناقشات والمجادلات، فما لبثت أن غدت كتلة واحدة، إتجهت بإصرار إلى مبنى الأمن العام بهدف تحرير المعتقلين. على أثر معركة قصيرة الأمد، إنتصر فيها العددُ على العدّة، إستسلمَ أفرادُ الأمن ومن ثم سيقوا إلى ساحة المدينة، ثمة أينَ أجلسوا تحت الشمس وأيديهم معقودة على رؤوسهم. كانَ المؤمل أن يشملهم العفو، لما إتسمَ به خلقُ الكرديّ من الرحمة والتسامح، لولا أنّ النفوس ضّخت بالغضب على أثر فتح الزنزانات: عشرات الفتيات البريئات، كن قد أضحين أمهات لأطفال لا يعرفن آبائهن في جولات الإغتصاب الدورية. عندئذٍ لم يكن في الوسع صدّ الجمهور الثائر لشرفه وكرامته، والذي إنهال على أفرادَ الأمن بالهراوات والقضبان الحديدية، لدرجةٍ طمست فيها معالمهم، وكذلك الفرق بين الجاني والبريء.
" لم تطل فرحتنا بتحرير مدينتنا، والإقليم كله بما فيه كركوك، إلا لبضعة أسابيع. وإذا بطائرات الهليكوبتر تملأ السماءَ، كغربان الشؤم، فتصلي الأهالي بنيران الحقد الأعمى. ثم ما لبثَ أن تلى ذلك زحفُ الحرس الجمهوري، الموصوم بالوحشية اللامتناهية "، واصلت روكسانا إستحضارَ نتفٍ من ذكريات تلك الأيام المُستطيرة. وقالت أنّ قربَ السليمانية للتخوم الإيرانية، جعل معظم السكان يفرون إليها بملابسهم ودونما أن يحملوا شيئاً تقريباً غير أطفالهم. لقد إستعملوا في الهروب مختلف أنواع المركبات، ومنهم من لم يجد سوى البغال أو حتى السير مشياً على الأقدام. وصلت عائلتها مع الآخرين إلى الحدود، وكان الوقتُ على مشارف الليل، والبرودة قارصة في تلك المناطق الجبلية، المجللة بالثلوج. تنفسوا الصعداءَ، لما أشرفوا على مشهد الجانب الآخر من كردستان، المكتنف بالعتمة مع بصيص أنوارٍ هنا وهناك تدلّ على بيوتٍ قروية. حرسُ الحدود، كانوا على شيءٍ كبير من الإنسانية، فأرشدوا التائهين إلى المخيمات، التي أقيمت على عجل، وقدموا لهم الطعام والماء والبطانيات.
بدَوره، إستعادَ دارين صُوَراً من ذلك الربيع، الذي أستهل بأخبار إندحار جيش صدام ومن ثم الإنتفاضة الشعبية، العارمة. لم يكن لحديثٍ غيره أن يجري على كل لسلن، ثمة في النادي الكرديّ أو في مقهى " الحجرة الحمراء "، المُعدّ مَعْقِدَ المثقفين اليساريين في أوبسالا. هنا وهناك، كانَ الجدالُ محتدماً بين المؤيدين للهجوم الأمريكيّ والمعارضين له. إلى صف هؤلاء الأخيرين، كانَ يقفُ الكثير من كرد تركيا، وذلك على خلفيةٍ إيديولوجيةٍ غالباً. وكان منهم، " خالو "، المناضل المخضرم سابقاً وربيب الملاهي حالياً، الذي كانَ يصرخُ في النادي بعصبيّة: " هل يسعدكم أن يقوم صدام بقصف كردستان تركيا بالسلاح الكيماوي، مثلما فعل قبلاً بكردستان العراق؟ ".
في تلك الأيام، كانَ دارين ما ينفكّ عن رفد جريدةٍ كردية أسبوعية برسومه، لتزيّن الصفحات الثقافية، التي يُشرف عليها صديقه " دوغان "؛ الروائي المعروف، المقيم في ستوكهولم. كانت مراسلاتهما منتظمة، يتخللها الزيارات المتبادلة بين حينٍ وآخر. ابن خال الكاتب الكبير، المدعو " عُمَرو "، كانَ قد أضحى آنذاك بمثابة السائق الخصوصيّ. كشخصٍ خدوم، دأبَ على تلبية طلب إبن عمّته بأن يجلب دارين بسيارته إلى العاصمة. في إحدى المرات، أبلغه قريبه أن يتجه مع الضيف رأساً إلى المقهى اليونانيّ، الكائن في مركز المدينة، والمُعدّ كمكانٍ أثير لنخبة الأجانب الثقافية. ثمة، ما عتمَ أن طالعهما مشهدٌ مألوف: خفيفو وابن عمّه، " أحمي "، كانا قد شرعا بقفزاتهما الثعلبية من حديثٍ لحديث مع كمٍ كبير من الإطراء والمداهنة. فكيفَ يفوّتان مناسبةٍ كهذه، جمعتهما بالروائي الكبير وآخرين من مواطنيه، المشتغلين بحقل الأدب والإعلام؟ بلى، وسينضم إليهم بعد قليل الشاعرُ " شيركو "، الذي أصمّ سمعه عن أي شيء إلا عن أخبار معارك التحرير في موطنه. وبلغ به الحماس، أن قالَ بنبرةٍ تعبّر عن الثقة بالنفس: " القادة الكرد، بعثوا برسالةٍ إلى صدام، مفادها أنه لو فكّر بتكرار ما فعله في الجنوب الشيعيّ، فإنهم سيغرقون بغداد بمياه سد دوكان! ". هذه المعلومة، رسمت إبتسامة ساخرة على فم دوغان، وما لبثَ أن إنتقلت إلى فم دارين. كان الرجلُ شاعراً مبدعاً، ولا جدال، ولو أنّ فيه شيئاً من طيش الأطفال وسذاجة العواجيز.
بعدئذٍ جاءت " نالين "، وهيَ شقيقة داوود، اللدودة. كانت ناشطة معروفة، إختصّت بمنظمة نسوية ضمّتها مع إحدى الفتيات، وذلك بهدف ضمان هبات المُحسنين السويديين. هذه الأخيرة، ما عتمَ أن إنشقت عن المنظمة بعدما إتهمت رئيستها بمحاولة إغتصابها حينَ كانت في ضيافتها في إحدى الليالي. مع أن الشكوى حُفظت لعدم توفر الأدلة، إلا أنّ سحاقية المَعنية كانت واضحة؛ بشعرها القصير كما وبحقدها الغريب على جنس الرجال. وعلى العموم، كانت إمرأة في نحو الأربعين، عجفاء ومعتدلة القامة، حادة القسمات. وكانت تبدو أيضاً مثل " باتمان "، بملابسها الدائمة السواد. في ذلك العام، كانت قد تعهّدت نشرَ ديوانٍ مشترك لإبنيّ العم، تسبّبَ في قطيعتهما معها؛ لإدعائهما أنها إحتكرت جميع النسخ تقريباً، علاوةً على رداءة الطبع. على ذلك، ما أن ظهرت عند مدخل المقهى إلا وسكتَ زوجُ الثعالب عن الكلام المباح.

2
مع ذلك، كانت ظهيرة ربيعية رائعة، محتفية بمهرجان الآمال والأماني. عقبَ ظهور تلك الباتمان، بهيئتها المعلومة، غمز خفيفو بعينه لإبن العم، ومن ثم توجّه بالقول للشاعر المخضرم: " سَيْدا! هلمّ بنا لقضاء ما عزمنا عليه ". حينما علم دارين أنهم سيرتادون متجراً لبيع الكتب العربية، فإنه أعرب عن رغبته بمرافقتهم. ثم إلتفتَ إلى دوغان، مودّعاً: " سنلتقي في مناسبة أخرى ". كانَ قد سلّمه رسومَ الجريدة، وفي مقابل ذلك، إستلم هوَ عدداً من المواد الأدبية كي ينجز لها الموتيفات. قبل قليل، حينما كانَ دوغان يُطنب كمألوف عادته بتلك الرسوم، ما كانَ من خفيفو إلا أن صعّر خدّه، ليبدي هذه الملاحظة: " ولكن في ظنّي أن فن الموتيف أضحى له شأواً آخر، بالأخص مع فتوحات السورياليين ". عدا أنه لم يسمع بمفردة " الموتيف " إلا في هذه الجلسة، فإنه تكلّف الدقة في التعبير، فطلب من ابن عمه برصانة أن يفيده بالمفردات الكردية، المناسبة للعربية. مع أن الخطابَ كان موجّهاً للكاتب الكبير، فإن دارين هوَ من ردّ بالقول: " نعم، وخصوصاً الرسوم السوريالية لصحيفة البرافدا! ". مع تعالي ضحكات الحضور، لم يكن من الثعلب الصغير إلا أن شد على حقيبته بعصبية ثم نهضَ لمغادرة المكان.
وإنها نفس الحقيبة، التي راحَ صاحبها يدس فيها الكتب، المسروقة من المتجر. كان يتناوب مع ابن عمّه على مراقبة مدير المكتبة، المصريّ الجنسية، الجالس خلف مكتبه والمشغول طوال الوقت بالمكالمات الهاتفية أو بمداعبة كرشه. كانَ المتجرُ فارغاً إلا من هؤلاء الزبائن الأربعة. في أثناء ذلك، كان دارين وشيركو منهمكين في تصفّح الكتب، دونما إنتباهٍ لما يجري في ظهرانيهما. عند الصندوق، ظهرَ أن إبنيّ العم لن يشتري كل منهما سوى كتاباً واحداً. خارجاً، قالا لشيركو بنبرة خبيثة: " إنك لم تقتن سوى عدداً قليلاً من الكتب ". تلقاء دهشته، أخذا يُفرغا ما سرقاه من داخل حقيبتيهما؛ وأيضاً من جيوب وطيّات معطفيهما. بغية التخفيف من صدمة الرجل، بررا فعلتهما بالقول: " إنه يسرقنا بكتبه الباهظة الثمن، ولم نقم بشيء أكثر من إسترداد بعضَ حقنا ".
ذلك التبرير، كان إذاً يوحي بالبراءة. لكن في واقع الحال، أنّ زوج الثعالب ـ المنتميين لأسرة من رجال الدين ـ كانا يعتبران مالَ الآخرين هو مالهما المشروع. آنذاك، لم تكن قد أينعت بعدُ موهبتهما في إستلاف المبالغ الكبيرة من الأصدقاء والمعارف؛ ومن ثم النوم عليها، أبداً. أصغر الثعلبين، كانَ في المقهى يضعُ الملعقة الصغيرة في حقيبته، قائلاً بتفكّه: " إنها تلزم مطبخ إمرأتي! ". كذلك لو ركبَ القطار، فإنه يُفرغ حجرات التواليت من كرات المناديل الورقية ويدسها في حقيبته: " إنها تلزم حمّام إمرأتي! ". عندما كانَ دارين يلتقي معه، فإن بصره يتجه حالاً إلى الحقيبة، الموحية بخصلة صاحبها. لم يكن عبثاً، والحالة هذه، أنه سيحشو مستقبلاً مجموعاته الشعرية بقصائد منتحلة من أقرب أصدقائه بشكل خاص؛ وربما حصرياً. فإنه لا يهنأ بالسرقة من مشاهير الشعراء، كون ذلك محفوفاً بالخطر من ناحية، ومن ناحية أخرى يفتقد لمتعة الكيد والغل والتشفّي.
صاحبنا، المدعو بالعصفور، كان في تلك الآونة يعمل بشكلٍ مؤقت في مطعم ماكدونالدز، الكائن بالقرب من مركز ستوكهولم. ما أن علمَ زوجُ الثعالب بأمر مواطنهما، إلا وداهما المطعم على وجه السرعة. الشاب، المتجاوز العشرين ببضعة أعوام، فوجئ المرة تلو الأخرى بهما وهما يطلبان المزيد من شطائر الهمبرغر. كانَ من الممكن أن يفقد عمله، لو أن زملائه قدّموا شكوى بحقه للإدارة. كونه شبه ضرير، جعلهم يغضون الطرف عما كانوا يلاحظونه. لم يكن خفيفو بَطِناً، ولا إبن عمه أيضاً. لكنهما كانا يعانيان من جوع مزمن، طال تخمّره، وربما يعود لعدة أجيال أو حتى قرون. في هذا السياق، في الوسع ذكر حادثة صغيرة. فإن آنسة إحدى دور الحضانة، لحظت أكثر من مرة طفلة صومالية وهيَ تأكل التراب بشراهة. هذا، مع أنها من مواليد السويد. ثم تبيّنَ أن الأمرَ يتعلق فعلاً بالجينات، وذلك على خلفية المجاعات، التي إبتليت بها الصومال على مر السنين.
من ناحيته، كانت مشكلة شيركو هيَ قلة معرفته بحقيقة موهبته الكبيرة. وذلك عائدٌ بالطبع، لبساطته وتواضعه. إن عدم إلمامه بلغة أخرى إلى جانب الكردية والعربية، جعله منكمشاً في حضور نخبة مثقفي كرد تركيا؛ ودوغان في مقدمتهم. هذا، بالرغم من أن هؤلاء، المنتمين غالباً ل " أدب البيتزا والكباب "، لجدير بهم أن يغدوا أقزاماً أمام قامة عملاق مبدع ـ كالشاعر شيركو. في المقابل، لم يكن هذا الأخير أديباً مغموراً بحال من الأحوال؛ هوَ من إستحقَ جائزة " توخولسكي " المرموقة، التي حصل عليها في مسنهل حضوره إلى السويد. كما أن منتخبات من شعره، ظهرت في كتابٍ بالسويدية في عامٍ سابق.
ولعلنا نقسوا على الرجل، بالقول أن سذاجته أعطت الفرصة لأحدهم، لكي يقوده في المحافل السويدية مثلما يصطحب أمرؤ حيواناته المنزلية الأليفة إلى حفلات أصدقائه. وبالطبع، فالمعنيّ هوَ دوغان. إنه كان ينظر بخفّة إلى الشاعر، وربما كذلك للهجة الصورانية ككل؛ المكتوبة بالأحرف العربية. في ذلك الربيع، أوقع شيركو نفسه في موقفٍ مُحرج. ففي أثناء الإحتفال بعيد نوروز في صالة كبيرة في ستوكهولم، كان ثمة مطرب شاب مع فرقته، الغربية الألحان. في الأثناء، بدأ الدخان الإلكتروني يتصاعد من جهاز على مقربة من الفرقة. فما كانَ من شيركو سوى النهوض مذعوراً، ليخاطب أحد المشرفين على الحفل: " ذلك الجهاز يحترق وربما يُشعل النار في القاعة جميعاً! ". كانَ دارين جالساً بالقرب من دوغان، فالتفت هذا إليه ليرمقه بنظرةٍ فيها ما فيها من التهكّم والتفكّه.
كانَ دوغان يُعطي نفسه أهمية كبيرة، كمن يرى قامته متضخّمة في لعبة الضوء والظل. آنذاك، لم يكن إنتاجه أكثر من ثلاث روايات، مكتوبة بلغة خشبية في غاية الركاكة وأسلوب تقليديّ سقيم مع حبكة مفككة وسرد يفتقد للمتعة. تلاعبه بالشكل، ليسبغ على نفسه صفة المعاصرة، لم يكن يفيده بشكلٍ من الأشكال. لكنه سيفيد مستقبلاً من ترجمة رواياته إلى لغاتٍ أخرى، حيث أضفى المترجمون عليها رونقاً جميلاً. أحدهم، كانَ عم خفيفو؛ وهوَ مَن ذكرناه فيما سبقَ عند الحديث عن تنقيح أطروحة الحوت، الجامعية.
وإنما في تلك الآونة، وصلت رسالة من صديقٍ مقرّب من دارين، كان ملتجئاً إلى بيروت بسبب ملاحقة السلطات الأمنية. في الرسالة، أبدى ذلك الصديق رغبته في ترجمة باكورة أعمال دوغان الروائية. هذا الأخير، عبّرَ عن فرحته بالخبر ـ وكالعادة ـ قال أنه لا يطلب من المترجم سوى أن تكون الطبعة جيدة. لاحقاً، ستضيع أوراق الترجمة، على خلفية إعتقال صاحبها ومن ثم الحكم عليه بالسجن في دمشق. قبل حدث الإعتقال، كانَ دوغان يسأل باستمرار عن أوضاع مترجمه ويُعرب عن إستعداده لمساعدته مادياً. إنما بمجرد علمه باعتقاله، وإستحالة مشروع الترجمة، لم يعُد يأبه إطلاقاً بمصيره.

3
كانَ، إذاً، ربيعاً مُفعماً بالآمال العامّة. شخصياً، كانَ دارين يأملُ بطباعة باكورة أعماله الشعرية، وقد وصلت نسخة منها، مرقّنة على الآلة الكاتبة، إلى ذلك الصديق المقيم في بيروت. نسخة أخرى، كانَ قد سلّمها لصديق في دمشق، وذلك قبيل مغادرته إلى المهجر. أما النسخة المتبقية، فقد إستولى عليها خفيفو بحجّة مراجعتها لغوياً. لحُسن الحظ، أن هذا الأخير كان على علمٍ بأن بعض قصائد المجموعة منشورة سلفاً، وإلا لما تورّع عن نسبها لنفسه. كان قد أضحى فريسة لشعور الحسد، منذ أن وقعت المجموعة بين براثنه. وسيبقى مُعانياً من هذا الشعور، دونَ أن يرتقي به. في قرارة نفسه، كان يحترم موهبة دارين. إلا أن ذلك الإحترام، الخفيّ، لم يمنعه في كل مناسبة من إظهار كراهيته وعداوته. لقد بات يخجل من مجموعته الشعرية الأولى، التي طبعتها في عام سابق تلك الباتمان. وبقيَ يتجنّب ذكرَ هذه المجموعة إلى أن تبرأ منها نهائياً حينَ نشرَ دواوينه في كتاب واحد قبل موته بعامٍ واحد. كانَ حتى لحظة رحيله عن الدنيا، ينظر في مرآة نفسه، فلا يرى سوى وجهاً شوّهه الحسدُ واللؤم. أما ابن عمّه، أحمي، الذي شاركه في الجزء الكرديّ من تلك المجموعة الأولى، فإنه صار فيما بعد ينشر قصائده الجديدة ويزوّر تاريخ كتابتها. هوَ أيضاً، كانَ مبتلٍ بحقيقة مرّة؛ أنه قارب آنذاك سنّ الأربعين ولم يكن في جعبته سوى ثلاث قصائد هزيلة. وسيتبرأ بدَوره من تلك القصائد، حينما أضحى نجماً مرموقاً في فضائية ب ك ك، يقدّم من خلالها برنامجاً ثقافياً، يستضيفُ فيه نماذجَ ساذجة وشبه أمّية من الأدباء والفنانين. لكن دعونا لا نستبق الأحداث، على أية حال.
قلنا أنه كانَ ربيعاً، أنعشَ آمال الكرد، وذلك تحت وطأة الضربات الأمريكية لنظام صدام. فلم يكن بلا معنى، أن الإحتفال بعيد نوروز ذلك العام كانَ الأشد حماسة وصخباً. بطبيعة الحال، حضرَ دارين حفل أوبسالا، الذي تصدّرته لوحته الضخمة، المليئة برموز التاريخ والأسطورة. اللوحة، أجهد نفسه فيها خلال شهر أو يزيد، ثم قام بإهدائها للنادي الكرديّ. مطربة معروفة، من إقليم " ما وراء السكة الحديدية " ظهرت أولاً على المسرح، لتصرخ: " يا أخوتي! كردستان العراق تحررت ". لكن أغلب مواطنيها لبثوا واجمين، لسببٍ أو لآخر. إلى أن دبّ الحماس في الجميع، مع بدء الفقرة الفنية، فهرعوا إلى حلبة الرقص ليشكلوا حلقة وراء حلقة. ثم حان الوقت لوصلة المطرب، " شفطر "، وكانَ مكتسٍ بهيئة البيشمركة وعلى رأسه العمامة الحمراء. في أوج إنفعاله بصوته الجميل، الشبيه بقرقعة عشرات جرار الغاز المعدنية، المصطدمة بعضها ببعض ـ في ذلك الإنفعال، بدأت عمامته تنحلّ رويداً. عندئذٍ أخذ يهدّئ من حركته، أملاً في أن ترعوي العمامة. إلا أنها إستمرت بالنزول إلى أسفل، حتى حجبت عينيه أخيراً، وسط هرج الجمهور وقهقهاته. الأحمق القرويّ! كان يعتقدُ أن قيامه بشدّ العمامة المحلولة، سيُقلل من هيبته أمام الجمهور.
أخيراً، إختتمَ الحفلَ زوجُ تلك المطربة المعروفة، وكان في حقيقة الأمر أكثر شهرة منها. كان قصير القامة، سحنته سمراء، ينفتح فيها عينان تنطقان بالمكر، وتلفها لحية ثورية غيفارية. بكلمة أخرى، كان شبيهاً بقزم حكايات الأطفال. كعادته، عبّرَ عن أسفه لعدم تمكّنه من الإطالة، كونه عائداً تواً من إحدى الدول الأوربية. عقبَ مناحة " حلبجة "، دفعَ الجمهورَ مجدداً إلى حلبة الرقص.
ومثلما تذوب الثلوج ربيعاً، خمدت سريعاً آمالُ الكرد. وقد ذكرنا كيفَ تواطأ الأمريكان مع صدام حسين، فسمحوا له باستخدام طائرات الهليكوبتر لقمع الإنتفاضة الشعبية، التي عمت معظم المحافظات. صوَر ملايين النازحين الكرد، الهاربين نحو الحدود الإيرانية والتركية، هزّت الرأي العام العالمي أكثر مما فعلته صوَرٌ مأسوية لمجاعة القرن الأفريقي في نفس العام. المظاهرات الحاشدة في ستوكهولم، تحولت إلى أعمال عنف مع البوليس. ثم هوجمت السفارة العراقية ليلاً بقنابل المولوتوف، فرد الحراس بإطلاق الرصاص. عُمَرو، كان مع أولئك المهاجمين، الذين اتفقوا منذ البداية أن يسلموا أنفسهم طواعية للسلطات. لكنه غافل رفاقه، فتسلل من بين صفوفهم كي يتجه رأساً إلى سيارة بوليس كانت متوقفة في شارع قريب. قدّم لهم المعلومات المطلوبة، ثم إتجه إلى حيث تقف سيارته. بفضل هذه الوشاية، تم رفع العلامة الحمراء حول اسمه ( استحقها قبل بضعة أعوام لأنه ضربَ حارس أحد الملاهي )، ومن ثم حصل على الجنسية السويدية. فيما مضى، كان قد أظهر لدارين سلاحاً أوتوماتيكياً، عارضاً عليه خطة مزعومة لإغتيال السفير التركيّ. لكن صديقه فوّت عليه تلك اللعبة، لأنه أساساً لا يؤمنُ بالعنف.
في أوبسالا، نُصبت خيمة إعتصام للمضربين عن الطعام، وذلك على طرف ساحة المدينة الرئيسية. كان دارين بين أولئك المعتصمين، وقد أدنفه الحزنُ والقهر وليسَ الجوع. تلك الفنانة المعروفة، زجّت بنفسها في الخيمة مع إمرأة أخرى. في ساعةٍ مبكرة من المساء، حضرَ دوغان وتفقد مكان الإعتصام. ثم رفع صوته، بغية رفع معنويات الموجودين: " لقد إجتمعنا مع وزير خارجية السويد، وكذلك وجهنا رسائل لسفراء الدول العظمى. نأملُ بتدخل دوليّ عاجل، ينهي مأساة أخوتنا النازحين على الحدود الإيرانية والتركية ". هذه الخطبة، لم تحظ سوى بنظرات الضغينة من غالبية مواطنيه. لعلهم كانوا يحسدونه، لما أحيط به اسمه من هالة الشهرة، وكأنما يقولون له: " بماذا أنت تتميّز علينا؟ الحارة ضيّقة ونحن نعرف بعضنا البعض! ".
في اليوم التالي، تم إستدعاء ذلك المطرب الشهير إلى النادي الكرديّ كي يقوم بإحياء حفلٍ، يذهب ريعه لمساعدة أولئك النازحين. حينما أخذ رئيس النادي بشرح أهمية الحفل، قاطعه المطربُ بالقول: " دعني من سيرة فلان وعلان، فلا وقت لديّ لسماعها! ضَعْ أمامي على الطاولة مبلغ عشرة آلاف قرون ( كرون ) وأنا سأحيي الحفل حالاً! ". بعد بضعة أشهر، عندما إستقرت الأوضاع في كردستان العراق، ذهب مطربنا ليغني للبيشمركة. ومن ثم أضحى ضيفاً دائماً على فضائية الإقليم، وعلى قادته أيضاً.

4
ومن حكايات الأطفال، برزَ أقزامٌ آخرون في ربيع العام التالي. إنهما قزمان، في حقيقة الأمر. كلاهما تقرّبَ من دارين، لدافعٍ لم يسبر هوَ دافعَهُ بشكلٍ أكيد. " دجلة "، كانَ صاحبَ مشروع مجلة أدبية كردية.. وأحمي، الذي جهدَ لإحباط ذلك المشروع. يعطي دجلة إنطباعاً ( لو تركنا قامته جانباً )، برسمٍ كروكيّ لأديب من القرن التاسع عشر. بل إنه أوحى بنفسه بذلك الإنطباع، حينما نوّه على مسمعٍ من دارين بحضوره المتواتر لمسرحيات تشيخوف في دار التياتر الكبير في العاصمة. لكنه إنتقل مؤخراً إلى بلدة صغيرة، تبعد قليلاً عن أوبسالا، وذلك عندما إشترى فيلا جعل دورها الأرضيّ سوبرماركت. كان المؤمل، بحسَب كلامه دائماً، أن يُغطي دخلُ السوبرماركت تكاليفَ إصدار المجلة: " على الأقل، في الأعداد الأربعة الأولى؛ بما أنها مجلة فصلية. بعدئذٍ نعتمدُ على إشتراكات القراء، وربما أيضاً الإعلانات! ".
من جهته وبإلحافٍ من صاحب المجلة، قدّمَ دارين مساهمةً متواضعة للعدد الأول. قبل صدور العدد، إلتقى دجلة بشكلٍ مكثف مع النخبة المثقفة في أوبسالا. فعدا عن دارين وعُمَرو، كانَ هناك " زورو "، المبدع في قصيدة النثر، وكانَ يقرضها بين حينٍ وآخر على إيقاع صوت صندوق المتجر، الذي يديره بالنيابة عن زوج قريبته. هذا الرباعيّ، عقدَ عدة إجتماعات في مقهى مُترف، يقع على ناصية شارع " ستور غاتان "؛ أين وجد ذلك الكُريدور المعلوم، وأيضاً متجر الحوت. في هذه الحالة، وبناءً على ذكر تلك الأماكن الأثرية، يُمكن القول أنها كانت إجتماعاتٍ تاريخية. ويُعتقد أنّ أحمي شارك في أحد الإجتماعات، هوَ مِن إستقرّ في ستوكهولم غبّ نيله حق الإقامة الدائمة. هذا الإجتماع، كحال ما سبق من إجتماعات، كانَ يُشبه مسرحية هزلية. كان ينقص المسرحية فتاةٌ، وربما كان في الوسع الإستعانة بالنادل الحسناء لو إمتلك أحدهم جرأة دعوتها. وكانت هيَ مكتسية بمريولة كلاسيكية، ملائمة لعمارة وأثاث المقهى. خارجاً، كانت قطرات المطر تبلل الشمس المشرقة بخجل. وفي مقابل المقهى، كان ثمة " بوب " للشباب، سبقَ أن إرتاده دارين لمرةٍ وحيدة حينَ كان على علاقة بزميلة دراسة، فنلندية الأصل، إتخذته عشيقاً لبضعة أشهر.
في أثناء الإجتماع، كانَ صاحبُ مشروع المجلّة من التنفّج أن أوداجه إنتفخت ـ كضفدع إمتلأ جوفه بالماء وبالبراز الأخضر اللون. لكنه كانَ مُتسامحاً إزاء ضحكات السخرية، التي كانت تنتابُ أحمي بين حينٍ وآخر. وقد تمادى هذا الأخير، لدرجةٍ أعتقد فيها دارين أن الرجلَ في حالة سُكر. لكنه لم يكن كذلك، سوى أنه أحرقَ الكثيرَ من السجائر. ليسَ في هذه الجلسة، بل فيما بعد، توصّل دارين إلى أنّ قزم حكايات الأطفال هذا، كانَ لا يرغب أن يظهر إسمه في المجلة إلا لو كانَ هوَ مدير تحريرها. وفيما بعد أيضاً، سيصدر مجلة أدبية هزيلة، بطبعة في غاية الرثاثة، وفوق ذلك، بغلاف أبيض وأسود: سعار إصدار المجلات والأدبيات، الذي أجتاح الكرد في ذلك الوقت، كان مبعثه غالباً المعونات المادية السخية من جانب المجلس الأدبي السويدي.
للحق، أن عُمَرو كانَ الأكثر حماساً بين المجموعة، بالرغم من برودة صاحب المجلة إزاءه. كانَ شائعاً نعتُ " الكذّاب " على ذلك المتحمّس، كما أن قدراته الأدبية كان مشكوكاً بها. هذا، كان يكتب بكردية اللهجة الدوملية، ويدّعي أنها لغة مستقلة. لكنه توصلَ لإقناع دجلة بمقدرته على إدارة صندوق السوبرماركت، بالتعاون مع صديقته السويدية. في أحد الأيام، مرّ عُمَرو على دارين، لكي يصحبه بالسيارة إلى الفيلا. كان الطقسُ جميلاً، وجميع أزهار الربيع متفتحة ـ كما لو أنه مهرجان الطبيعة. في بستان الفيلا، جلسَ دجلة على مسكبة الحشائش، المقصوصة بعناية، وكان برفقته جارٌ سويديّ: " إنه من أهم الأصوات الشعرية المعاصرة في السويد "، قدّمَ الرجلَ الخمسينيّ. وكانَ دجلة قد أسعدَ الشاعرَ، بأن ترجم له إحدى القصائد ومن المفترض أن تنشر في العدد الأول من المجلة. كلبُ الضيف، كانَ من نوع " البوديل "، الشديد الحساسية والبالغ النباهة. كذلك لاحظ عُمَرو، الذي ما لبثَ أن بدأ يضرب الحيوان على رأسه، شاتماً إياه بالسويدية. فما كان من صاحب الكلب، على حين فجأة، إلا الإستئذان بالإنصراف عابساً. عقّب دجلة آسفاً، مُخاطباً ذلك الأرعن: " لقد أزعجتَ الرجلَ بضربك لكلبه "
" خرائي عليه وعلى كلبه! "، ردّ عُمَرو باستهتار. ثم أضافَ ساخراً: " لم أسمع من قبل باسم هذا الشاعر، بالرغم من أنني ترجمتُ لطائفة كبيرة من الشعراء السويديين ". كانَ هذا فوق ما يطيقه دجلة، فقلب شفته بإزدراء ثم خاطبَ الآخرَ بنبرة الأمر: " إذاً دعكَ من سيرته، وإذهب إلى عملك ". على الغداء، إقتحم الأرعنُ الوليمة دونَ أن يُدعى. قال وهوَ يتشمم، كالبوديل، رائحةَ الأطباق الشهية: " تركتُ فيكتوريا على الصندوق، وجئتُ كي نتابع نقاشنا في شأن المجلة ". طريقته في الأكل، ذكّرت دارين بزوج الثعالب، المعانيين بدَورهما من آفة الجوع المزمن.
مع مرور الأيام، كانت تتناقصُ بإضطراد إيراداتُ السوبرماركت. وكانَ دجلة من الحياء والحَرَج، أنه إمتنع عن صرف ذلك الأرعن، الذي تبيّنَ أنه لصٌ أيضاً. إلى أن أخذ دارين على عاتقه، مهمة تخليص ظهر الرجل من تلك الشوكة. وقد جرى الأمرُ على سبيل الإتفاق. فذات ليلة، كانَ عُمَرو في ضيافته حينَ إتصلت " نوشين "، إمرأة دجلة: " لقد أخبرتني فيكتوريا، أن صديقها عندك؟ ". على الأثر، تناول عُمَرو سماعة الهاتف. كانت تطلبُ منه أن يذهب في صباح اليوم التالي إلى المطار بسيارته، لكي يجلب زوجها القادم من تركيا. بعد قليل، قال دارين للضيف، مُتكلّفاً الإستياء: " هل تظنك سائقاً شخصياً، أنتَ الأديب المبدع؟ "
" آه، والله كلامك صحيح! "، ردّ عُمَرو مع سيلٍ من الشتائم. ثم عاد إلى الهاتف، ليتكلم مع إمرأة مخدومه: " أختاه، لقد طرأ لي شاغلٌ مهم صباحاً. فلن أستطيع، والحالة هذه، أن أذهب إلى المطار ". ويبدو أن المرأة كلمته بغضب، ومن ثم أغلقت الخط.

5
في النادي الكرديّ، كان ثمة حجرة صغيرة، يشغلها رجلٌ متفرّغ بصفة الموظف أو الكاتب. لكنه لم يكن يفعل شيئاً غير العمل على كتابٍ ضخم، جمع فيه جانباً من التراث الشفاهي لمنطقة شهرزور. كان يدّعي السذاجة، لكي يأمن كيد رئيس النادي. فهذا الأخير، شأن معظم كرد إقليم " ما وراء السكة الحديدية "، كانَ على إستعداد حقاً لتعلم خمس لغات تركية ـ لو وجدت على أرض الواقع ـ إلا أنه من المُحال عليه محاولة فهم اللهجة السورانية. على أية حال، كانَ الموظف يكن الود لدارين من باب إعجابه بثقافته وحماسته القومية المتأججة. إنه باحث، تخرج في بداية عقد السبعينات من إحدى جامعات بودابست في إختصاص الإثنوغرافيا. لقد أوحى لدارين إعداد مقابلة صحفية معه، لكي يتم نشرها في المجلة الأدبية. حينما ظهرَ ذلك العدد الأول، تبيّنَ أن دجلة حذفَ جملة في المقابلة، بحجة أنها أمرٌ شخصيّ. الجملة، كانت عبارة عن تنويه بفضل دارين على الباحث، كونه أناره بفكرة كتابة مؤلّف عن متحف إثنوغرافي، أنشأه الرجل عقبَ إنفاق 11 آذار/ مارس لعام 1970، الذي أوجد مبدأ الحكم الذاتي لكردستان العراق. عدا ذلك، ظهرت قصيدة لخفيفو ( ترجمة إبن عمّه )؛ هوَ مَن كانَ قد حثّ دارين هاتفياً، بالقول: " دَعْ دجلة ومجلته، ولا تضيّع وقتك سوى بالإهتمامات الأدبية ". أما أحمي، فإنه إعتاد آنذاك أن يقول لدارين: " عندك وقت فراغ كبير، أشغله بالكتابة والرسم! ".
إحتفاءً بظهور العدد الذهبيّ من المجلة، وبطبعةٍ قشيبة، شاءَ صاحبها أن يجمع النخبة الثقافية على عشاءٍ في الفيلا. وبلغ من لطف الرجل، أن طلب من دوغان أن يمر على دارين لإحضاره بسيارته. حينما وصلا، كان ثمة حوالي عشرين شخصاً والصخبُ على أوجه. المدعو " مَحْمي تاكسي "، كانَ صوته أعلى من الجميع. لقد إستحق ذلك اللقب، كونه يقود منذ عقدين، على الأقل، مركبة " أدب البيتزا والكباب ". كانَ يزأر في حقيقة الحال، مُعبّراً عن خيبته لكون المجلة عرضت إعلاناً لصحيفة في إسطنبول، مرتبطة بتنظيم ب ك ك. وكان عبثاً توضيح دجلة، بأن المجلة إقتطفت قصاصات من صحف الأحزاب الأخرى. ولم يكن ممكناً الدوس على فرامل الرجل، إلا عندما تحايل عليه دوغان، بمخاطبة الآخرين: " صديقنا محمي، يتحدى عادةً حضورَ أيّ سهرة بأن يبزّوه في تحضير الكبّة النيئة "
" وأنا ما أنفكّ أقبلُ التحدّي! "، هتفَ الرجلُ وقد إرتعشَ شاربه الغليظ تأثراً. هكذا توجّه من فوره إلى المطبخ، لينشغل ثمة بإعداد الطبق المأمول. بسبب ثرثرته، كادت نوشين أن تطرده من المطبخ أكثر من مرة. كانت هيَ المرأة الوحيدة بين الحضور، كون الأدب النسويّ الكرديّ لم يكتشفه بعدُ علماءُ الأركيولوجيا. أطباقها كانت شهية بحق، تمتحّ من مطبخ ماردين العريق. إلى ذلك، هُرّقَ الكحولُ بغير حساب، وكانَ العرَقُ التركيّ سيّدَ المائدة. حينما عادَ المدعوون إلى الصالون كي يتابعوا أحاديثهم الأدبية، كانَ من الصعب أن يفهموا بعضهم البعض. ولم يكن للقهوة تأثيرٌ يُذكر، لدرجة أن عدداً منهم أغفى مع غطيطٍ مزعج. صاحبُ الدعوة، الذي إحتفظ بتحفّظه وإتزانه، كانَ أيضاً متسامحاً إزاء أولئك السكارى. المشكلة، أن هؤلاء سيعودون بسياراتهم، واليوم عطلة نهاية الأسبوع، حيث تكثر دوريات البوليس على الطرقات. فتكّرمَ المُضيف في آخر السهرة، بدعوة مَن يشاء إلى الرقاد في الفيلا. فيما الضيوفُ يتوزعون على الحجرات العديدة، كانَ دارين قد ركبَ مع دوغان في الطريق إلى أوبسالا. هذا الأخير، لم يشرب خلال السهرة سوى قدحاً من النبيذ. وكانت نوشين قد عاتبته في بدء السهرة، بالقول: " لِمَ لمْ تُحضر شيلان معك؟ كنتُ تسليت معها فيما أنتم تتداولون شئونَ الأدب ".
كانت هيَ المرة الأولى، يظهرُ فيها إسمُ دارين في هيئة تحرير مجلة أدبية. هذا وحده، كانَ مبرراً كي يوغر صدر كلّ من زوج الثعالب. على سبيل المصادفة، أنه وجدَ نفسه في أحد الأيام في المكتبة العامة، فأختار زاوية بالقرب من أرفف الكتب الأجنبية، وضعوا فيها طاولة مع كرسيين. إذا به يسمعُ صوتَ أحمي، وكانَ يتحدث مع زورو عندَ أرفف الكتب. في سهرة الأمس، كانا كلاهما عند دارين، فتعشوا وشربوا وذكروا الكثير من الطرف. إنهما الآنَ يتحدثان عنه، مع إطلاق الضحكات الساخرة. كانَ الثعلبُ العجوز يقول: " إنه يرغبُ أن يكونَ بطلَ الفيلم، سواءً أكانَ الفيلم عربياً أو كردياً ". فيعلّقُ الآخرٌ بالقول: " وهوَ أصلاً يُتأتئ باللغة الكردية هاهاها! ". عندئذٍ لم يكن دارين مُتحمّساً لفكرة إظهار نفسه، لمفاجأتهما؛ وذلك كيلا تتأثّر صداقتهم. إلا أنّ زورو لمحه، حينما كانَ يبحث عن كرسيّ كي يجلس عليه: " آه، أنتَ هنا من زمان؟ "، تساءل بنبرة المُحرج. رد دارين، كاذباً: " أنا وصلتُ تواً، وكنتُ أتفقد الكتبَ السويدية في الطابق الأرضيّ ". هكذا إنضما إلى مجلسه، ولكنهما لم يفوها بكلمةٍ في شأن المجلة الأدبية.
في حديث سابق، كانَ دارين طرفاً فيه، سأل دجلة الثعلبَ عن رأيه بزورو من ناحية قدراته الأدبية. فأجابَ هذا باقتضاب: " ياو، إنه يود أن يغدو شاعراً ولو على سبيل الكيد والعناد ". لكن أحمي في خلواته مع صاحب المجلة، لم يجرؤ على مسّ موهبة دارين. إذ كانَ هذا الأخير في مستوى لا يطوله الأدعياء، فضلاً عن شهادة الشاعر شيركو. كذلك من جهته، كانَ دوغان قد قال أكثر من مرّة، أن رسومَ دارين كأنها قصائد أصيلة.
لم يكن زورو أقل ضيقاً من زوج الثعالب، بموهبة دارين الأدبية. بيد أنه كانَ يشعرُ بودّ صادق نحو هذا الأخير: " من النادر العثور على كرديّ مثله، يتمسك بلغته القومية؛ بله وهوَ المنحدرُ من مجتمع الأقلية، هناك في قلب العروبة النابض "، كما قال مرةً. من ناحية أخرى، كانَ زورو شديدَ التحمّس للمجلة الأدبية، وأبدى إستعداده لإرسال مجموعة من الأعداد إلى أصدقائه في الوطن. كون البريد يخضع لرقابة مشددة في الشمال السوريّ، وبالأخص الجزيرة، فإنه إستفهمَ من دارين ما لو كانَ لديه عنوان صديقٍ مشترك في دمشق. هذا الصديق، كانَ بدَوره قد أصدر في عامٍ سابق مجلة أدبية، ولو أنها في مستوى متدنٍ من ناحية المواد والإخراج. بعد إرسال الطرد الحافل بنحو أسبوعين، إذا به يعود إلى السويد مع عبارة تفيد بعدم صحّة العنوان. تلقاء إستياء المُرسل، أبرز له دارين آخر رسالة من ذلك الصديق مع نفس العنوان على الظرف. بالرغم من ذلك، لم ينسَ زورو خسارته مبلغ البريد المضمون. بعد بضعة أعوام، خابر دارينُ صديقَهُ بشأن الأوراق المطلوبة من السفارة السورية في برلين لإتمام عقد زواج. إذ كانَ زورو قد جلبَ عروسه من الوطن، بحسَب هكذا معاملة. أضافَ هذا أخيراً، قائلاً لصديقه المتصل: " ولا تنسَ إرسال خمسين دولاراً، ثمناً لطابع المعاملة ". فيما بعد، علم دارين أن السفارة لا تحصّل هكذا مبلغ من مواطنيها. عندئذٍ، تذكّرَ المثلَ المعروف: " الفلاح، من المحال أن ينسى ثأره! ".
دارين أيضاً، أرسل عدة أعداد من المجلة إلى أصدقائه في دمشق. فوق تسديده الثمن المرتفع للبريد المضمون، فإنّ دجلة قال له هاتفياً وهوَ يتنحنحُ: " يجب أن يدفع أولئك الأصدقاء ثمنَ النسخة، لأننا نتكلف كثيراً في أمور النشر ". وكأنما دارين يجهلُ حقيقة، أن المجلة تُطبع بشكلٍ رخيص في تركيا، وفي المقابل، يحصل صاحبها على مبلغٍ طائل من المجلس الأدبيّ في السويد، الذي يُشرف على قسمه الأجنبيّ صديقاه دوغان ومحمي.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشريح الذات: كانَ خريفاً دافئاً
- أنهارٌ من زنبق: الخاتمة
- النملة الممسوسة
- أنهارٌ من زنبق: النهر السابع
- المطاردة
- أنهارٌ من زنبق: النهر السادس
- الهوّة
- أنهارٌ من زنبق: الفصل الخامس
- الشحيح والشيطان
- أنهارٌ من زنبق: النهر الرابع
- أنهارٌ من زنبق: النهر الثالث
- أنهارٌ من زنبق: النهر الثاني
- أنهارٌ من الزنبق: النهر الأول
- أنهارٌ من زنبق: ملاحظة
- أملُ إبليس: خاتمة
- أملُ إبليس: عن السهرة الأخيرة
- أملُ إبليس: عن الفروة الثعلبية
- أملُ إبليس: عن الفردوس الموعود
- أملُ إبليس: عن المازة المرّة
- أملُ إبليس: عن القلب النبيل


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تشريح الذات: كانَ ربيعاً عارياً