قد يكون هذا الموضوع عسير الفهم بعض الشيء لحساسيتة، وبخاصة في الظروف التي استجدت على الساحة العربية والعراقية بالذات، وقد يُفهم أننا نحاول تبرير مواقف الجامعة العربية ورئيسها أو الإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب وأمانته العامة ورئيس الإتحاد، أو الإنتقاص من دور هاتين المؤسستين واتهام المسؤولين فيهما بالتقصير لعملهم الوظيفي والذي هو معروف لدى الكثيرين، هذا العمل المنصوص في الإتفاقيات التي نظمت تأسيس وعمل المؤسستين والمستجدات التي طرأت عليهما بعد ذلك. بدون النظر إلى ما وصلت عليه علاقات الدول العربية فيما بينها وبين دول العالم.
أجد مع شديد الأسف أن البعض لا يفرق ما بين مؤسسة رسمية حكومية، ومؤسسة شعبية لا تأثير رسمي أو حكومي عليها، مؤسسة تقوم الدولة/ الحكومة بتأسيسها أو السيطرة عليها بعد ذلك ، تضع اسسها وبرامجها وخطط عملها وتعين مجلس إدارتها/ أمانتها ورئيسها وتدفع مصاريفها ورواتب القائمين عليها أيضاً، وبين مؤسسة ( جمعية أو اتحاد ) تعتمد في تشكيلها على قوى اجتماعية أو ثقافية أو نقابية غير مرتبطة مع الدولة ، تنتخب إدارتها أو أمانتها العامة ورئيسها بشكل ديمقراطي أو بعد اتفاق جميع الأطراف المعنيين في أي مجال ذكرناه، تقوم ذاتياً بمصروفاتها ودفع رواتب العاملين فيها من خلال تموينها الذاتي غير المشروط.
هاتان المؤسستان، الرسمية والشعبية لا يجمع نشاطهما إلا بما هو عام ( الدفاع عن الوطن أو القضايا المصيرية مثلاً ) ولكل واحدة أهدافاً تعمل من أجلها، وخطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها في الكثير من الآحيان.
ويكمن الفرق الجوهري بينهما في التبعية لسياسة الدولة بدون أي تضاد معها، فالرسمية لا تستطيع الخروج عن الطاعة والحدود وإلا تعرضت إلى المحاسبة تصل أحياناً إلى تبديل ادارتها ورئيسها بقرار حكومي رسمي، مثلما يجري نقل أو تبديل أي موظف رسمي يعمل في أحدى مؤسسات هذه الدولة.
أما المؤسسة الشعبية فلها أهدافها وطرق عملها ثم اختصاصها ( كجمعية الدفاع عن حقوق الإنسان، التنظيمات النقابية غير الرسمية العلنية أو السرية، روابط أو جمعيات الأدباء والمثقفين ، مجلس السلم، لجنة الدفاع عن الحريات الديمقراطية والنقابية، لجان أخرى متنوعة وحسب الإختصاص ) هذه اللجان أو الجمعيات تشكل في نطاق البلد الواحد أو على نطاق المنطقة والعالم، المهم في هذا السياق أن لا تكون راضخة للدولة كمؤسسة حكومية، لكي تؤدي دورها الريادي المستقل في الدفاع عن من تمثلهم فضلاً عن القضايا التضامنية، الوطنية أو القومية والطبقية، وتقف متضامنة في القضايا المشتركة مع القوى التي تقف معها وتناضل من أجل أهدافاً مشتركة تخص الجماهير المعنية في البلد الواحد أو مع منظمات مهنية واجتماعية في بلدان أخرى، ولا نجزم من ناحية اخرى أن هذه الجمعيات في بعض الحالات لا تتأثر بسياسة الإحتواء أو الضغط أو الإرهاب لمواقفها الوطنية والسياسية والثقافية وغيرها، ولكن ليس كما هي المؤسسات الرسمية أو التي تهيمن عليها الدولة.. مثل أتحاد النقابات الرسمي، أتحاد الكتاب الرسمي الإتحادات المهنيةالرسمية، الجمعيات الخيرية والتعاونية الرسمية وشبه الرسمية، ولا سيما في الدول الشمولية ذات نظام الحزب الواحد .
من هذا المنطلق نوجه الإنظار والإنتباه إلى عمل الجامعة العربية وعمل هياكلها التنظيمية التابعة لها. فالجامعة العربية هي مرآة تعكس حال الأنظمة العربية في أي زمان ، وسوف لن تتغير إلا بتغيير لسياسة الدول العربية وتركيباتها الحاكمة التي سوف تؤثر على تغير نمط وطريقة توجهاتها ومواقفها من القضايا الراهنة التي تواجه الأقطار العربية نفسها وبمنظار جديد غير القديم.
الجامعة العربية: هي تجمع حكومي رسمي للأعضاء المنتمين لها وفق نظام أقر منذ تأسيسها وَعُدل البعض منه حسب الظروف التي تلت عملية التأسيس ولا سيما دخول أعضاء جدد لهذه المؤسسة. فالجامعة العربية أولاً وآخراً تراعي مصالح هؤلاء الأعضاء وتحاول الموازنة في المواقف لكي تكون حيادية في نزاعات قد تنشب بين الأعضاء، دون الدخول في تفاصيل تخص القضايا الداخلية أو تتدخل في سياسة هذه الدول بأي شكل من الأشكال ، ربما فقط من باب التشاور والاستفسار والتدخل في حل الخلافات بين الأعضاء بدون اتخاذ قرارات تصل مثلا إلى الطرد أو التجميد، والحالة الوحيدة التي أتخذتها الجامعة العربية وأمانتها هي قضية مصر في (عهد السادات) وثم تراجعت عنها بدون ألغاء اسباب التجميد بل العكس فقد جرت مكافأة الدولة المصرية على الرغم من استمرار علاقتها بإسرائيل بعودة عصمت عبد المجيد أميناً للجامعة العربية. كما لم تتخذ أية إجراءات ضد الأردن أو قطر أو أي بلد عربي أقام أو يقيم مثل هذه العلاقةالدبلماسية أو التجارية معها.
ان اعضاء مجلس الجامعة ورئيسها لا يعينون إلا بموافقة الدول الأعضاء وتلعب الدول الكبيرة والمؤثرة دوراً استثنائياً في تعين الأمانة العامة للجامعة والرئيس والموظفين العاملين فيها.
الجامعة العربية تجتمع وتناقش قضايا عربية ودولية ولا تتدخل في مساجلات عن الحقوق والحريات الديمقراطية فهذه مُرَحلة على لجنة سميت بهذا الأسم وهذه اللجنة لا يمكن أن تتخذ قرارات مستقلة لأنها تعرض نتائج أعمالها ومقترحاتهاعلى مجلس الأمانة العامة والرئيس. لا يمكن أن يتحرك الرئيس مهما كان ( ليس دفاعاً عن عمر موسى أو على ممن سبقوه ) بخاطره وحسب رغبته وآرائه الشخصية في هذا الحدث أو ذاك، ولا يمكن أن تطغي مشاعره حتى الإنسانية فوق النهج الرسمي للجامعة العربية لأن ذلك سيعرضه شخصياً للمحاسبة وليس بالبعيد ، الإتهامات المختلفة ( ونحن أساتذة فيها ) كالرشوة والفساد أو الإنحياز والقذف والشتم ( الصحاف سابقاً ضد عصمت عبد المجيد ـــ الخلاف الكويتي مع عمر موسى وحوادث أخرى علنية ، أما السرية فحدث ولا حرج )
ألأمانة العامة والرئيس يمثلون مصالح حكوماتهم الرسمية،ومصالح الدول العربية مجتمعة التي اقرتها أجتماعات القمة للرؤساء والملوك وما تطرحه الأمانة العامة الذي يجب أن يحظي بموافقة الأكثرية لأجل تنفيذه.. إذا اقتنعنا أو لم نقتنع في هذا الشيء، ولا يمكن ان نطلب من الجامعة العربية ورئيسها التحرك وفق رغبتنا وما نراه من أمور تحدث على الساحة العربية أو العالمية أو الشؤون الداخلية للأعضاء في الجامعة، مثلاً أن يطرح على مجلس الجامعة مفاتحة صدام حسين للتنحي عن الحكم بدلاً من الحرب والإحتلال وسمعنا حول المسألة الكثير. أو نطلب تجميد عضوية الذين يقيمون العلاقة مع اسرائيل بعد اندلاع الإنتفاضة الثانية وتدنيس الأقصى من قبل شارون والمحاولات لتهديم هذا المسجد ذو الأهمية البالغة بالنسبة للمسلمين وليس العرب فحسب، أو التدخل في شؤون الدول التي تمارس الإرهاب والتعسف ضد مواطنيها( وإلا لن يبقى عضواً في هذه الجامعة)
وما دام العاملين في أجهزة الجامعة موظفين يتقاضون رواتبهم من الأموال التي تقدمها الدول الأعضاء، فهم لا يمكن يخرجوا بأي حال من الأحوال عن سياستها وعملها وتوجهاتها مهما كانت آرائهم الشخصية مخالفة لذلك. وحالهم في هذه الحالة كما هو حال الموظفين الرسميين في أي جهاز حكومي.
البعض لديه تصورات خيالية، يريد من هؤلاء الموظفين التدخل في كل شاردة وواردة بدون الإلتفات إلى الواقع المزري الذي تعيشه أساساً العلاقات العربية، العربية.
الإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب
الإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب مثال آخر مشابه لجامعة الدول العربية وأمانتها العامة، هذا الإتحاد تأسس سنة 1956 بإرادة نقابية عمالية شعبية حرة غير حكومية، على أثر اجتماع خمس اتحادات نقابية حرة شكلت هذا الإتحاد الدولي، لكن الحكومات العربية ذات العلاقة وجدت من الخطورة استمراره كمثل للحركة النقابية المستقلة الحرة، بشكل أوضح، استقلالية القرارات عن السياسات الرسمية الحكومية، وعدم الخضوع لهذه السياسة ، فقامت في بداية الأمر على احتواء الإتحادات الوطنية والهيمنة عليها، وبعدما انتهت من أحتواء الإتحادات الوطنية، توجهت وفق مراحل أيضاً للهيمنة على الإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب بواسطة أتحاداتها التي أصبحت رسمية حكومية 100%، وبعد أن أصبح هذا الإتحاد الدولي تابعاً للسياسة الأتحادات الحكومية الرسمية أصبحت قراراته وتوجهاته شبه رسمية، وحجم دوره وطوقت حركته بحدود حمراءلا يمكن تجاوزها.. فمثلاً لايمكن قبول أتحاد معارض لدولة لها علاقات جيدة مع الإتحاد الدولي وتدفع المقسوم من المساعدات ، وإذا وافقت الإمانة العامة للإتحاد في زمن ما وبخاصة فترة الثمانينات بقبول اتحادات سرية لدول لا توجد فيها تنظيمات نقابية، فذلك انتهى بمجرد أن تأسست نواة للنقابات الحكومية في هذه الدول وأصبحت الإتحادات في خبر كان ( اتحاد اليمن في الشمال بعد الوحدة، البحرين، عُمان، اتحاد الأردن السابق، اتحاد فلسطين السابق ).
الأتحاد الدولي وأمانته العامة والرئيس يجري تعينهم بعد مشاورات ومداولات قبل انعقاد المؤتمر ويتفق على أعضاء الأمانة العامة الخمسة والرئيس .. فمن غير المعقول أن يقف هذا الإتحاد ضد خرق الحقوق والحريات النقابية وأضطهاد الطبقة العاملة في أي بلد يمثلها أتحاد نقابي رسمي في الأمانة العامة أو عضواً في الإتحاد الدولي.. وهناك تجارب عديدة مع الأمانة العامة للإتحاد مع الإتحادات الرسمية الحكومية.
قد لا يتفق البعض مع ما ذكرناه لكنها الحقيقة المرة، فالجامعة العربية والأمانة والرئيس لا يمكن أن تتعامل مع الحكومات العربية الأعضاء كمعلم المدرسة مع التلميذ الصغير العاق والشرس والمشاكس الكسول.. وهذا مستحيل بسبب العلاقات الرسمية والتمثيل الدبلماسي بين الأطراف.
كما لا يمكن أت تطالب الأمانة العامة للإتحاد الدولي بطرد اتحاد رسمي لأنه لا يمثل الطبقة العاملة ووجود خرق للحقوق والحريات النقابية في بلد هذا الإتحاد وهو ليس بالساكت فحسب وإنما يقوم بدعم اجراءات الحكومة الإرهابية ضد العمال، لا بل يمارس هذا الإرهاب والتعسف من أجل تطبيق قرارات الحكومة حتى لوكانت هذه القرارات ضد مصالح الطبقة العاملة وضد مصالح البلاد.
ععلى ضوء ما ذكرناه نشير إلى تجربة قد نستفيد منها جميعاً .
عندما أصدر النظام العراقي قانون رقم 150 الذي ألغى بموجبه العمل النقابيى في القطاع العام وقطاع الدولة وغير اسم العمال إلى موظفين كان الإتحاد النقابي الرسمي بقيادة فاضل غريب خير مطبل ومزمرٍ ومنفذٍ لهذا القانون.. وقدم حينها بعض العمال النقابيين العراقيين المعارضين للإمانة العامة للإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب نص هذا القانون وقوانين أخرى، مع أسماء عشرات العمال النقابيين المعارضين المعتقلين والمعدومين وفق تلك القوانين القرقوشية التي وضعت اساساً لتحجيم العمل النقابي وممارسة سياسة إرهابية تعسفية ضد الطبقة العاملة، وطلب من الإمانة العامة اتخاذ قرار تجميد عضوية الأتحاد الرسمي العراقي في الأمانة العامة وليس عضويته في الإتحاد الدولي، الذي لم يقف متفرجاً فقط بل ساهم في تنفيذ تلك القوانين كاي مؤسسة أمنية حكومية، فضلاً عن أن الإتحاد الحكومي العراقي لم يدفع أشتراكه ولم ينفذ التزاماته المالية ، وانقطاعه عن حضور اجتماعات الأمانة العامة. فأغلقت الأعين قبل الآذان ومجرد أن طلب الأحاد الرسمي العراقي العودة للإمانة العامة بعد انقطاع دام حوالي أكثر من خمس سنوات رحب بطلبه ترحيباً كبيراً وتم نسيان كل الخروقات لقوانين منظمة العمل العربية والدولية فيما يخص الحقوق والحريات النقابية والديمقراطية.
نعتقد ان تحميل هذين المؤسستين، الجامعة العربية ورئيسها، والإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب وامانته العامة ورئيسه أكثر من طاقتيهما هو الضرب في الرمال، ونحتاج لفهم هذه الموضوعة أن ندرك مسؤولية الجماهير في الوطن العربي ومنظماتها الوطنية التقدمية والقومية والديمقراطية أن تلعب دوراً لا تستطيع الجامعة العربية التي تمثل الحكومات العربية أن تلعبه، وكذلك مسؤولية الطبقة العاملة في الوطن العربي في تأسيس نقاباتها الحرة بعيدة عن الهيمنة وتسلط الدولة لكي تلعب دوراً أيجابياً في الدفاع عن الحقوق والحريات الديمقراطية في هذه البلدان، والذي لا يمكن للإتحاد الدولي لنقابات العمال العرب أن يلعبه بوضعه الراهن وظروفه الرسمية.