|
تحليل المُحتوى لـ “خطاب التّنصيب”
عباس بوصفوان
(Abbas Busafwan)
الحوار المتمدن-العدد: 7909 - 2024 / 3 / 7 - 20:14
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
الفصل الرابع من كتاب: "البحرين 1923: نقدٌ منهجيٌ للسّرديّة السّائدة عن عِشرينيّات القرْن العِشرين" لـ عباس بوصفوان.
الفصل الرابع: تحليل المُحتوى لـ “خطاب التّنصيب”
أوّلاً: البعد المنهجي
يهدف هذا الفصل إلى تحديد أولويّات المُقيم السياسي، ستيوارت جورج نوكس (1869- 1956م)، وحصر القضايا الرّئيسيّة في خطابه، بالاتّكاء على منهجيّة تحليل المُحتوى، التي تتيح إخضاع جميع النّصوص المكتوبة، مثل الكتب والجرائد والخطب السّياسيّة والدينيّة للتحليل العلمي، من أجل "تفادي النّتائج الانطباعيّة والعاطفيّة" ، والغاية من اتباع منهجيّات متعددة، في هذا الكتاب، ضمان سلامة الخلاصات التي ننتهي إليها.
بملاحظة الجَدولين (1) و(2)، والرّسم البياني (1) تتجلّى مجموعة من القضايا، ومدى الحيّز والمساحة المخصصة لكل منها، مُقاساً بعدد الكلمات، ونسبتها المئويّة من مجمل النص، أو من مجموع الكلمات المفتاحيّة، الأمر الذي يوضح نقاط التركيز لدى المتحدث وأولوياته.
الجدول رقم (3) يُعيد جمع الكلمات المفتاحيّة ودمجها في عنوان واحد، وبذا فإنه والرّسم البياني رقم (2) يظهران على نحو أكثر دقة العناوين الرّئيسيّة للخطاب، والأولويّات الأبرز للمُقيم السياسي، التي تتمثل في تمكين القبيلة الحاكمة من الهيمنة على السلطة والثروة، وليس وضع برنامج للإصلاح كما يُشيع الإنجليز والرواية السائدة، وسبق أن أبرزنا – باقتضاب شديد - بُعد "الهويّة" ، فقد اعتبر نوكس الجُزُر سنية، مهملاً البُعد الشيعي.
منهجيّا، الكاتب مدعوٌّ لإيضاح مبرّرات قيامه بتحليل خطاب نوكس، وسبق أن أشرنا إلى أن ذلك الخطاب يعدُّ من الأكثر تأثيراً في الجُزُر، في المئة عام الأخيرة، وفي السّنوات المُقبلة.
كما نرجو أن تكون القضايا الرئيسيّة والكلمات المفتاحيّة قد باتت واضحة للقارئ، فلا حاجة إلى تكرار التعريف بها، وستقدم السطور التالية تحليلاً إضافيّاً.
تحليل المُحتوى يمكن أن يشكّل لوحده كتاباً منفصلاً، غنيّاً بالمعلومات المستقاة منهجيّاً، الأمر الذي يعطي التّحليل المبني عليها قدراً وافراً من الصدقيّة والموضوعيّة، علماً بأنّنا لن نكثر من الجداول والرسومات البيانية، ولن نبرز كل ما تقوله الأرقام والإحصاءات ودلالاتها، وسنعوّل على تدقيق القارئ في البيانات المعروضة.
ونُشجع الباحثين على المزيد من التّحليل النوعي لهذا الخطاب المهم، والخطابات الإنجليزية أو المحليّة الأخرى، لأننا لن نجيب على كافة الأسئلة التي يطرحها. وبطبيعة الحال، يمكن اتباع تصنيفات وكلمات مفتاحية أخرى لتحليل النص، والخروج بنتائج أوْسَع.
ثانيا: الفرضيّات
الغاية هنا اختبار إضافي لبعض فرضيّات البحث، التي نرجو وقد أصحبت واضحة للقارئ، وأبرزها:
1. الإصلاح لم يكن هدفاً بريطانيّاً، وإنمّا هو شعار برّاق ومخاتل، فالإجراءات الإنجليزيّة هدفت إلى تقوية النفوذ الاستعماري.
2. اهتمام نوكس كان مُنصبّاً على ترسيخ حكم الأسرة الخليفيّة، وتثبيت سلطة الشيخ حَمَد الذي أعلِن رئيساً للمشيخة، التي باتت خاضعةً على نحو شبه كامل لسلطة المُعتَمَد البريطاني، والسلطات الأعلى درجة في الحكومة البريطانيّة في الهند.
3. الإقطاع صنيعَة بريطانيّة بقدر ما هو ممارسة خليفيّة، وشكّل نمطاً للحكم في عهد عيسى بن علي، ولم يكن نتاج ضعف السّلطة في مركز القرار.
4. النّموذج المَركزي في الإدارة، الذي اتبع بعد "خطاب التنصيب"، لم يشكل مسارا جادّا لحوْكمة مؤسسات المَشْيَخة وآلية اتخاذ القرار فيها، ولا يمكن اعتباره نموذجاً مرتبطاً بالإصلاح أو الانتهاكات، إنه نظام مُحايد.
5. زيادة مركزة السلطة في عشرينيّات القرن العِشرين لم تُهشّم سلطة القبيلة، ولم تسعَ أصلا إلى تفتيتِها.
6. الغاية من إقامة الهياكل البيروقراطيّة وتحديثها، والإجراءات الأخرى المُكمّلة، هو إخضاع مراكز القوى الخليفيّة والسنيّة والشيعيّة للحاكم الجديد، وتسهيل إدارة شئون المَشْيَخة، وجعلها مواكبة لزمانها التقني.
7. ترسيخ الطّائفيّة السياسيّة، كان هدفاً مُدركا ومخطّطاً له من قبل الإنجليز، ولم يكن عرضاً جانبيّاً.
8. سعى نوكس إلى تأكيد عزل الجُزُر عن جوارها العراقي والإيراني.
9. جُلُّ ما سبق أهملته الرواية السائدة، أو فشلت في قراءته وإبرازه، وانخدعت في كثير من الحالات بالرّواية الإنجليزية وشعاراتها الزّائفة.
ثالثاً: القضايا الرّئيسيّة
جدول رقم (1): القضايا الرّئيسيّة في خطاب نوكس، ومدى الحيّز المخصص لكل منها مقاساً بعدد الكلمات، والنسبة المئويّة من مجمل الخطاب .
الرّسم البياني رقم (1): القضايا الرّئيسيّة في خطاب نوكس، ومدى الحيّز المخصص لكل منها مقاساً بعدد الكلمات
رابعاً: الكلمات المفتاحيّة
جدول رقم (2): الكلمات المفتاحيّة وتكرارها في خطاب نوكس.
خامساً: الحيّز للحاكم الجديد والقديم والعُتوب
خصص المُقيم السياسي نحو 30٪ من خطابه للحديث عن الحاكم الجديد وإليه، بعدد كلمات تبلغ 683 كلمة من مجمل الخطاب البالغ عدد كلماته 2325 كلمة (أنظر الجدول رقم 1)، ويتكرر اسم حَمَد 27 مرّة في الخطاب، بنسبة تبلغ 14.3، من عدد الكلمات المفتاحيّة التي رصدها الجدول رقم (2).
بيْد أنّ التدقيق يقودنا إلى أن جل خطاب نوكس كان عن حَمَد وإليه، سواء بالتعبير له عن الدعم، أو بتقديم نصائح له أو تعليمات أو نقد أو تحذير، وحتّى حين كان نوكس يوجه كلامه إلى الأسرة الحاكمة أو الشيعة أو السنة، أو يتحدث عن الضّرائب وتجارة اللؤلؤ، فإنه يؤكد على مركزية حَمَد في المشهد السياسي، بوصفه ممتثلاً لأوامر الإنجليز بتوليه المسؤولية ويحظى بدعمها إزاء أي تحدٍّ.
بالمقابل، لا ينشغل نوكس بالحاكم المنزوعة صلاحياته، عيسى بن علي، وقصته تشغل حيزاً متواضعاً في النص، مقداره 5.59% (الجدول رقم 1)، ويرد اسمه 6 مرّات، بنسبة 3٪ من مجمل الكلمات المفتاحيّة المرصودة (الجدول رقم 2)، مقرونة بالمدح أو الذم، وتبرير نقل السلطة، وهي نسبة متواضعة تجعل من نعت إعلان نوكس "خطاب العزل"، ومجلس مايو على أنه "مجلس العزل"، توصيفين لا يعكسان جوهر المشهد.
ويوجه المُقيم السياسي حديثاً مقتضباً إلى أفراد آل خليفة، مقداره 7.78% من مجمل الخطاب، دون منحهم لقب "الأسرة الحاكمة"، فهو يخاطبهم بلقب الأسرة المعروف، آل خليفة، ولا أقول إن تلك إشارة واضحة إلى أن بيت الحكم في حَمَد ونسله، وعلى الجميع السّمع والطّاعة له، فذلك مما هو مستقر، وقتئذٍ.
وحين نجمع الكلام عن حَمَد (29.38%/ 683 كلمة) وعيسى (5.59%/ 130 كلمة) وآل خليفة (7.78%/ 181 كلمة)، نخرج بنتيجة مفادها أن أكثر كلام نوكس كان موجها للأسرة الحاكمة أو رموزها، بمقدار 42٪/ 994 كلمة. (لاحظ الجدول رقم 1)
سادساً: بين الحكم والسلطة والإدارة
عادة ما تشير وسائل الإعلام إلى "الإدارة الأمريكية"، بوصفها حكومة الولايات المتحدة، ولا يوجد في الدستور الأمريكي مصطلح الإدارة، وإنما الحكومة الفيدرالية .
في خطاب نوكس، ترد كلمة الإدارة 4 مرّات، والسلطة 4 مرّات، وكلمات الحكم ومشتقاتها 25 مرّة (الجدول رقم 2)، وهذا يعطي وزناً هائلاً للسلطة في خطابه، ولذا يمكن اعتبارها أولى الأولويّات.
ولا يظهر وجود فروق جوهرية، لجهة الدلالة السّياسيّة، بين تلك المصطلحات (الحكم، السلطة، الإدارة) في حديث نوكس، حيث يرد لفظ "الحكم" عادة، بشكل سلبي أو شبه سلبي، مقرونا بالحاكم المعزول، مثل قوله "أدّى الحُكم المُتساهل والمُتسامح للشيخ عيسى، قد يسمّيه البعض سوء الحُكم"، بينما يرتبط مصطلح السلطة باحتمال أو بوقوع الاستيلاء عليها.
أمّا لفظ الإدارة فيحضر بشكل إيجابي، عادة، مقرونا بالإنجليز، مثل "قرّرت الحكومة البريطانية، انطلاقاً من حكمتها وهادفةً للخير للعام، إدخال دم جديد وتدعيم الإدارة"، أو مقرونا بالحاكم الجديد، مثل "ما دفعه إلى تحمّل هذه المسؤولية على عاتقه وعبء الإدارة، بغض النظر عن بعض التردّد، هو احترام السُمعة الحسنة لأبيه، ومنفعة آل خليفة، ورفاهية المجتمع السنيّ".
مع ذلك، يُنهي نوكس خطابه داعِما لحَمَد، بذكر مصطلح حكم وليس إدارة، حين يقول: "يا صديقي - وهنا أخذته بيده - أسأل الله أن يمنّ على حكمكم بالبركة والازدهار"، وقد فكرتُ في الاستفادة من عبارة "وهنا أخذته بيده"، في عنوان الكتاب، إنها صورة بألف كلمة، أمّا عيسى بن علي فقد غاب حتى عن مجلس التنصيب، ولم يكن هناك تسليم وتسلّم علني.
سابعاً: الحيّز للسنة والشيعة
يخصص نوكس نحو 9.51٪ من حيّز كلامه عن الشيعة (221 كلمة) (الجدول رقم 1)، ويرد لفظ "شيعي" مرّة واحدة، ومصطلح "المذهب الشيعي" مرّة واحدة، ومصطلح "السكان الأصليون" مرّة واحدة، بنسبة 䀥.58 (الجدول رقم 2)، وسندقق تالياً في المضمون، بيْد أنّ في النسبة المتواضعة دلالة على عدم اكتراث بشؤون الشيعة، وبهموم الشعب عموماً، كما سيتضح، ووصف الشيعة بأنّهم السكان الأصليين، أقرب ما يكون إلى دغدغة للمشاعر، مادامت لم تتحول إقرار كاملاً بحقوق المواطنة المُتساوية.
أمّا الاتهامات الموجّهة إلى النخبة الشيعيّة بالتآمر مع الإنجليز، فكانت هجوماً مضاداً، وحرباً سياسيّة وإعلاميّة، وقد ساهمت الرواية السائدة في تغذية فرضيّة التوافق الشيعي الإنجليزي حين صوّرت أو تكاد الإجراءات وكأنها إصلاحات تصب في صالح البحارنة، غير مدركة أن نوكس قرر صراحة أن من يُسمّيهم السكان الأصليين عليهم عدم توقع المساواة، والقبول بالمُواطنة من الدرجة الثانية، وهو نفق مظلم لم تخرج الجُزُر منه بعد.
وبشأن الحيّز الذي منحه الخطاب للسُّنة، فبلغ 362 كلمة/ 15.57٪ من مجمل الخطب، بينما حضر الشيعة بنسبة 9.51٪/ 221 كلمة، (الجدول رقم 1)، ويذكر نوكس السُّنة 7 مرّات، بنسبة 3.7٪ من نسبة الكلمات المفتاحية، ويمكن أن يضاف لهم لفظتي الدواسر والشيخ قاسم المهزع، ويكون التكرار 9 مرّات، بينما ذكر الشيعة 3 مرات بنسبة 䀥.58 (الجدول رقم 2)، وصحيح أن الحضور السّني أكبر من الشيعي في الخطاب، بيْد أنّ على السّنة التذكر أنهم ليسوا حُكاماً، ولا ينافسون الحكام، إنهم مفضّلون لدى الحاكم والإنجليز لأسباب أو أخرى، شرط أن يعرفوا حدودهم.
ثامنا: الحيّز للأجانب
من الملفت حضور الأجانب في الخطاب بنسبة 8.3% / 194 كلمة (الجدول رقم 1)، الأمر الذي يعبّر عن أهميتهم في حسابات البريطانيين، وكما تكرر كلمة الأجنبي 13 مرّة، جميعها بشكل إيجابي. (الجدول رقم 2)
ويعتبر نوكس الحاكم المعزول، عيسى بن علي، صاحب "حكمة" وتدبير، "بإحالة القضايا الأجنبية إلى المُعتَمَد السياسي، أدّت إلى زيادة عدد الأجانب، وثرواتهم، وأهميّتهم في المجتمع على نحوٍ مدهش"، وعلى حَمَد المضي في ذات الطريق، من أجل زيادة "الثروة، والراحة، والرخاء العام لمدينة المنامة"، التي يسيطر الأجانب على مساحات مهمّة من تجارتها، ويروّج البريطانيون أن الوافدين قاموا ببناء العاصمة، في انحياز فاقع للأجانب، الذين هم في هذه الحالة البريطانيين والأوربيين، أكثر من غيرهم.
تاسعاً: الحيّز للأبعاد الماليّة والعمل
يشغل البعد المالي والاستثماري حيزاً كبيراً في خطاب نوكس، ويتكرر نحو 12 مرّة، بنسبة 8.4٪، (الجدول قم 2) وهي نسبة كبيرة مقارنة بالكلمات المفتاحيّة الأخرى.
يمكن أن يتكثف الحضور والتكرار إذا أضيف للبعد المالي ملف الجمارك والعائدات التي تتكرر 12 مرّة، بوصف الرسوم إيراداً حكومياً، وأُضيفُ لها تكرار كلمة "عمل" (6 مرّات)، باعتبار العمل والعمال فاعلين في السوق، وبذا يكون المجموع 30 تكراراً، وهذا ما يجعل من البعد المالي أولوية لدى الإنجليز ويأتي في المرتبة الثانية وليس الخامسة من ناحية التكرارات. (الجدول رقم 3).
ونظريّاً، يمكن إضافة ملف الضّرائب ضمن البعد المالي، بيْد أنّ هذا الملف (الضّرائب) يظهر في خطاب نوكس، وكأنه شأنٌ حقوقيٌ وشيعيٌ.
كما أنّ البعد المالي ينال القسط الأكبر من كلام نوكس الموجّه لحَمَد، فأكثر من نصف النصائح والنقد والتعليمات التي أسداها المقيم السياسي للحاكم الجديد كانت على صلة بالمصاريف والميزانيّة والمشاريع وحُسْن التدبير المالي، حوالي 344 كلمة من أصل 683 مجموع الكلمات التي كانت نصيب حَمَد. (الجدول رقم 1)
عاشراً: الحيّز للإصلاح وتجارة اللؤلؤ والقضاء
الإصلاح ليس مركزياً في خطاب نوكس، فهو يحضر بنسبة 5.29% / 123 كلمة (الجدول رقم 1)، وتتكرر ألفاظ: "إصلاح"، "إصلاحات"، "الإصلاح الإداري"، كل منها مرّة واحدة، والمجموع 3 مرّات، وكأن الإصلاح يكاد ينحصر بمجرد تغيير الحاكم، وتثبيت عرشه.
وكما تلاحظون فإني أدرج هنا ملف "تجارة اللؤلؤ" ضمن عنوان الإصلاح، لأنه من أكثر الملفات التي كانت بحاجة إلى اتخاذ قرارات عاجلة للحد من الظلم المستفحل فيها، بحسب خطاب نوكس نفسه، وقد خصص له حوالي 9.38%، من خطابه (218 كلمة من أصل 2325)، ثم نراه يعدد مشاكله من "العبودية الدائمة، وأنّ الاحتيال، والخداع"، في هذه التجارة، بل ويذكرُ نوكس الغاصة 4 مرّات، في موقع الذم والجهل، أحياناً، لكن المقيم السياسي بعد كل هذا ينتهي للقول بأن المُعتَمَد السياسي والحاكم المُعيّن غير مَعنِيين بعلاج مشاكل تجار اللؤلؤ والظلم الذي يسودها، وعلى من يرغب في المساعدة أن يفعل ذلك تكرماً منه!
كما أنّي أدرج ملف القضاء ضمن ملفات الإصلاح، بيْد أنّ الإنجليز لم يكونوا معنيين بإصلاحه، بل بإخضاعه.
لذا، فليس كل ما يحضر في خطاب نوكس، يعني اهتماماً إيجابيّاً، بل قد يكون سلبياً أو عدم اكتراث، فلا يجوز الاكتفاء بالنظر في الأرقام دون تفحّص المعنى.
الحادي عشر: للحيّز للخدمات والقيم
لا تشكل الخدمات الصحيّة والتعليميّة والإسكانيّة هاجساً لنوكس، فهو يذكر التعليم مرّة واحدة في مقام لفت انتباه أفراد الأسرة الحاكمة إلى أهمية ذلك، ثم يذكرُ الطلاب مرّتين والمدرسة مرّة واحدة، في إطار توبيخ حَمَد على منحه طالباً هديةً ثمينة، باعتبار ذلك تبذيراً، وكان يمكن للمقيم السياسي الإشارة إلى أهمية التعليم في هذا الإطار، وتشجيع الحاكم على العناية ببناء المدارس في مختلف المناطق، للبنين والبنات، وللشيعة أيضاً، باعتبار التعليم أساس التطور والتنمية، لبلد أحوج ما يكون إلى ذلك، بيد أنّه لم يفعل، بل اختار أسوأ منطقة ينصح فيها الحاكم بعدم التبذير، وهذا لا يمنع بعض السرديات من اعتبار الإنجليز بناة البحرين الحديثة!
ولا تمثل قضايا العدل والُمساواة ومعاناة الناس هاجساً رئيسياً لأعلى سلطة بريطانيّة في الخليج، فهذه القضايا إمّا لا تُذكر، مثل العدل والحرية، أو ترد على هامش النص، أو على نحو استبعادي، مثل المُساواة التي على الشيعة ان لا يتوقعوا حصولها، وكان حرياً به أن يؤكد على العدل والمساواة والاخوة والوحدة الوطنية والشراكة المجتمعية، لو كان حريصاً على البلاد والعباد، ومتى كان الاستعمار معنيّاً بذلك؟
الثاني عشر: الحيّز للمنامة والمحرق وسترة
يذكر نوكس اسم مدينة المنامة مرتين، ويربط رخاءها بالأجانب، من دون أن يذكر اسم أي مدينة أخرى في الجُزُر، وهذا يحتاج إلى تحليل، إنْ لجهة مكانة الأجانب ودورهم في الأجندة البريطانيّة والسلطة المحليّة، أو لمدى عناية حكومة ديلي - حَمَد بالتنمية في كل بقاع الجُزُر الصغيرة.
وقد يكتشف القارئ أن المَبدأيْن السابقين باتا جزءاً من الإستراتيجيّة التي أعقبت مغادرة الإنجليز، أعني إهمال "الأطراف" والتركيز على بناء العاصمة، واستثمار الأجانب للضغط على المواطنين، أو باعتبارهم (الوافدين) النموذج المنشود في الولاء للحاكم.
ولم أرصد في الجدول قضايا الديمقراطيّة وحقوق الإنسان والصّحافة، فلم يكن متوقعاً من نوكس ذكرها.
الثالث عشر: الحيّز للبعد الأمني
الأمن عادة ما يكون على قمة الأولويات لأي حاكم جديد، ويبدو أن الإنجليز لم يكونوا يشعرون بوجود تهديد أمني داخلي، أو خارجي، يستدعي من نوكس رفع وتيرة الحديث عن "الأمن"، وهي الكلمة التي ذكرت مرّة وحدة، في إطار الإشادة بتحقيق الجُزُر "السلام والأمن" على مدى خمسة وخمسين عامًا، من حكم ابن علي.
إذاً، لم يظهر نوكس أي قلق بشأن حدوث اضطرابات بعد إعفاء حاكم وتعيين آخر، وكان قلقه له سمات سياسية، بشأن "المحاولات التي قام بها أشخاص غير مخوَّلين للاستيلاء على السلطة التنفيذية أو القضائيّة ستعرّضهم للمضايقة والعقاب"، وحديث نوكس هنا عما حدث قبل تعيين حَمَد.
ويتضح أن الأمن لم يكن هاجساً في التحذيرات الثلاثة التي أطلقها نوكس، فقد كانت ذات طابع سياسي أو مالي، ومركزة على أهمية احترام شرعية الحاكم الجديدة، فعلى "من يجمعون عائدات هذه الجُزُر.. دفع العائدات كلها إلى الشيخ حَمَد"، وذلك كان التحذير الأول.
أما التحذير الثاني، فهو موجّه لأفراد الأسرة الحاكمة، و"مجرَّد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقكم العيش على حساب المجتمع"، وهذا ليس بيت القصيد ولا مربط الفَرَس، فلم يكن نوكس معنياً بذلك، وإنّما كان مشغولاً بضرورة إقرار رموز آل خليفة بشرعيّة الحاكم الذي عيّنَه مرسوم إنجليزي.
والتحذير الثالث موجه للقضاة، ذلك أن "الأشخاص الوحيدين الذين يتمتعّون بصلاحية رفع القضايا إلى الشريعة هم الشيخ حَمَد والمُعتَمَد السياسي في البحرين".
وليس في التحذيرات الثلاثة ما يؤشر إلى قلق الإنجليز من احتمال ارتفاع السلاح ضدهم من أي طرف، كما حاولت الأجهزة البريطانية في نوفمبر 1923، اتهام بعض المعارضين للإجراءات بأنّهم بصدد القيام بعمليات تخريبية، مع أنهم كانوا يعبرون عن رأي قديم لديهم.
الرّابع عشر: قضايا لا حيّز لها في عقل الإنجليز
جدول رقم (3): الاهتمامات الأبرز في عقل نوكس
الرّسم البياني رقم (2): الاهتمامات الأبرز في عقل نوكس
كما أن سبق وأشرْنا، فإن الجدول رقم (3) والرّسم البياني رقم (2) يُعيدان تجميع الكلمات المفتاحيّة ودمجها في عنوان واحد، بما يساعدنا على تحديد أولويّات الإنجليز على نحو أكثر وُضوحاً، وتتمثل في التالي:
1. توطيد أركان السُّلطة، فقد تكرّرت الكلمات الدّالة على الحكومة أو الإدارة أو السلطة، نحو 32 مرّة، وهي كلمات لها معنى واحد تقريباً في خطاب نوكس، وتكرّرت كلمة الحاكم المُعيّن، حَمَد، 27 مرّة، فيكون المجموع 59 تكراراً.
ولأن سلطة الشيخ الجديد ارتبطت بالإنجليز، فإن هزيمته هزيمة لهم، وعدم الاعتراف به حاكماً يعني عدم الاعتراف بهم مهيمنين، لذا أضيفُ إلى هذا البند الكلمات الدالة على دور الإنجليز، والتي تكررت 16 مرّة؛ وبذا يكون مجموع تكرار الكلمات الدالة على السلطة الإنجليزية الخليفيّة، أو ما يمكن تسميته حكومة المُعتمَد – حَمّد، حوالي 75 تكراراً، بنسبة 40٪ تقريباً من مجمل الكلمات التي رصدناها، وهذه النسبة الطاغية لا تقارن بكلمة الإصلاح، التي لم تُذكر إلّا لماما، ومع ذلك مُنحت إجراءات العِشرينيّات صفة لم تكن مركزيّة في خطاب الإنجليز وممارساتهم العمليّة.
2. الأمور الماليّة هي القضية الثانية التي يوليها المقيم السياسي الاهتمام والعناية، وتحضر بنسبة 16٪ تقريباً، وقد أشرنا لهذه النقطة في السطور أعلاه عن الأبعاد الماليّة والعمل.
3. يمكن أن نرصد وعياً بريطانيّاً ملحوظاً بالمشاكل التي تعاني منها الجُزُر، إذ تحضر القضايا التي هي بحاجة إلى إصلاح بنسبة 11٪ من مجمل الكلمات المفتاحيّة في خطاب نوكس، ويمكن أن تزداد النسبة في حال إضافة التكرارات الخاصة بالقضاء، بيد أن الوعي بالمشكلات لم يدفع المقيم السياسي لاتخاذ إجراءات تصحيحيّة، يعكس ذلك الوعي، وقصدت القول إن عدم وضع حدّ لمشاكل الغاصة، مثلا، لا يتعلق بنقص في المعلومات أو قلة في الدّراية، إنما كان خيارا سياسيا.
4. تنسجم الخلاصات المُستقاة من الجدولين (2) و(3) القائميْن على رصد الكلمات المفتاحيّة، مع الخلاصات التي عكسها الجدول رقم (1) الذي رصد القضايا الرئيسيّة في خطاب نوكس، كما تنسجم هذه الاستنتاجات مع فرضيّات الكتاب، والتحليل الوصفي في فصوله.
5. يمكن الاستطراد وقول المزيد من التحليل بناءً على المعطيات التي يقدمها الجدول رقم (3) والجداول الأخرى، لكني أتوقّف عن كتابة المزيد، لأني أحاول قول القدر المعقول من الكلام، دون إطناب، تاركاً للقارئ التمعّن في الجدول رقم (3)، أو البحث عن كلمات مفتاحيّة جديدة في الخطاب المنشور في نهاية هذا الكتاب، وسيلاحظ أن القضايا المهمّة للشعب لم تكن تشغل عقل الإنجليز، ولا تحضر في مقالهم بالقدر الذي تصوره بعض السرديات في حديثها المتكرر عن الإصلاح المزعوم.
لكل ما سبق، فإنه حري بالساسة تعليق خطاب نوكس على جدران مكاتبهم، من أجل فهم أعمق لمشاكل البلاد وجذورها.
#عباس_بوصفوان (هاشتاغ)
Abbas_Busafwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحرين.. الطّريق إلى نظام 1923
-
البحرين: التأثيرات الجيوسياسية: المَشْيَخات وفارِس
-
الغايات الكبرى للإنجليز في عشرينيّات القرن العشرين
-
البحرين 1923: إجراءات استعمارية في قالب حلوى
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|