أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - أعداءك ضمان النجاح والبقاء















المزيد.....

أعداءك ضمان النجاح والبقاء


نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)


الحوار المتمدن-العدد: 7902 - 2024 / 2 / 29 - 02:06
المحور: الادب والفن
    


لا يزال وجود الإنسان على ظهر الأرض لغزًا، لكن اللغز الأكبر هو محاولاته المستميتة من أجل البقاء والتعايش، ولو في أسوأ الظروف وأقسى درجات الإحباط والأسى. وغالبًا ما تتواتر حكايات عن أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، وأن الظروف القاسية صنعت قامات بشرية يبجِّلها التاريخ والمجتمع ويتخذ منها درَّة تاج. والسبب وراء هذا التناقض هو طبيعة الإنسان التي تسعى دومًا لتحدِّي كل ما يحيطها، وتتخذ من الصعاب عدوًا يجب قهره على مستويات عدَّة. وعلى النقيض، إذا لم يجد الإنسان عدوًا ليقهره، فإنه يتَّخذ من نفسه عدوًا ويبدأ في تدمير نفسه؛ ولربما كان خير دليل اقتراف فعل أحمق أو جريمة دون داعٍ، أو حتى إدمان المخدرات، بالرغم من علم المتعاطي بمدى خطورتها.
ولقد تطرَّق لذاك الأمر تَّى "بيير كونيسا" Pièrre Conesa الكاتب والمفكِّر والباحث ونائب وزير الدفاع الفرنسي السابق والخبير بالسياسات الداخلية والخارجية وكذلك بالتاريخ السياسي والعسكري، وهذا بالإضافة إلى كونه أستاذًا جامعيًا، وتشير تلك الخبرات والمناصب أن صاحبها داهية نافذ البصيرة. وعلى هذا الأساس سطر "بيير كونيسا" Pièrre Conesa كتابًا تحت عنوان "صناعة العدو"La Fabrication de l’ennemi عام 2011؛ ليكون نبراسًا يُحتذى به.
وأحد المبادئ الهامة التي يبني عليها "بيير كونيسا" الكتاب مقولته: "إن من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش". فمحاربة العدو هي الأدرينالين الذي يفْرزه جسد الإنسان ليحفِّزه على تنمية غريزة حب البقاء وكذلك تصبح هدفًا ساميًا، بلوغه يحقق نشوة الانتصار. ويتبلور هذا المفهوم مع مناقشة أدب ما بعد الاستعمار من ذاك المنظور؛ فهناك بالفعل عدوًا، ألا وهو المستعمر الذي تكرِّس الشعوب جهودها للحد من هيمنته ومقاومته بغرض القضاء عليه. وحتى بعد إزاحة العدو المُستعمِر ، تجد الشعوب المستعمرة فيه نموذجًا جليًا للحاضر الغائب الذي بجب أن تضمر له العداء الشعوب التي استعمرها مسبَّقًا، وكذلك تعزو إليه ما أصابها من تدهور وانحطاط حتى ولو كان على الصعيد الأخلاقي أو الإنساني. ولهذا السبب حذَّر المفكر والفيلسوف السياسي "فرانتز فانون" Franz Fanon (1925-1961) من خطورة المرحلة التالية لطرد المستعمر التي يتحوَّل فيها أبناء البلد الذين وصلوا لسدَّة الحكم إلى نسخة مطابقة للمستعمر ويمارسون نفس القهر والضغوط النفسية والاجتماعية على أبناء البلد. وعلى نفس الغرار، يُحاكي الأفراد نفس الممارسات على المحيطين بهم.
وانبلجت تلك الظواهر بجلاء في سياق رواية "موسم الهجرة للشمال" (1966) للكاتب السوداني "الطيب صالح (1929-2009). ولقد نالت تلك الرواية شهرة عالمية واسعة وتُرجِمَت لأكثر من عشرين لغة. وتعد أهمية هذه الرواية أنه تمت كتابتها في مرحلة انتقالية من تاريخ السودان، ولكنها أيضًا لا تزال تموج بالاضطرابات والحروب الأهلية الناجمة عن تخبُّط هواياتي ناجم عن وقوعها لفترة طويلة تحت وطأة المُستعمِر الإنجليزي، لكن أضحت فيما بعد دولته قبلة يرنو إليها أبناء البلد ويتوقون زيارتها، ولهذا ذكر بطل الرواية وهو في طريقه لعاصمة بريطانيا متهكمًا واصفًا إيَّاها "لندن عاصمة العلم والاستعمار".
والبناء الروائي يعمد تكرار هذا النموذج لتوضيح مدى تغلغل وجود العدو ليس فقط في سدَّة الحكم بل في كيان الشعوب المستعمَرة. فبطل الرواية هو ابن نابغة لخادمة تعمل في بيت عائلة إنجليزية؛ والقهر الذي تشعر به هو تفانيها في خدمة من ينهبون بلادها ويستعبدون أبناء شعبها، وهي بالتأكيد ليست مستثناة من ذلك. والغريب أنها تعمد أن تجعل من ابنها نموذجًا آخر لمن يقهرها؛ فبوساطة من تلك الأسرة الإنجليزية يسافر إلى لندن من أجل استكمال دراسته. لكن، ذاك ذاكرة هذا الشاب يعلق بها ذكرى أجيال تجرَّعت الأهوال على يد هذا المستعمر الغاشم، ولهذا لم يشعر بأن الأسرة الإنجليزية كانت ذات فضل عليه، ولم يكن لها كذلك شعورًا بالامتنان، بل أنه تمادى في العداوة حينما ابتدع طريقة غير مألوفة للانتقام من قاهري أبناء بلده وقتلهم بكل وسيلة ممكنة.
طبقًا لكتاب "صناعة العدو"، فإن "بيير كونيسا" منذ بداية الكتاب لا يحدد طريقة مقبولة أو غير مقبولة للقتل، فهمه الأكبر هو بحث وتحليل الأسباب التي أفضت إلى نشوء علاقة العداوة، وكيفية ابتداع وتفاقم الخيال والصورة الذهنية للانتقام والقتل قبل التنفيذ أو الذهاب للحرب، لكنه أيضًا يشدد أنه بعد بناء هذا المتخيَّل تتم عملية القتل براحة ضمير. وهذا ما فعله تمامًا بطل الرواية، ذاك الراوي الذي لم يعطيه المؤلِّف اسمًا حتى يتحوَّل إلى نموذج يحتذى بابتكاراته، حتى ولو في القتل والانتقام. فلقد نهل "الراوي" من علوم المستعمر حتى حصل على درجة الدكتوراة في الأدب وأضحى يشغل وظيفة أستاذًا جامعيًا، لكن موقعه كمعلِّم ذو سطوة على أبناء المستعمِر لم يشفي صدره الموغر. ولهذا، شرع في تنفيذ مخططات القتل بطريقة ترضي ضميره وغروره. فلقد استغل قدرته على غواية النساء، بكلامه المعسول ورائحة البخور والطقوس الشرقية، في انتهاك أجسادهن وتحطيم قلوبهن، وحتى من تزوَّجته وحاولت أن تردعه وتجعله يتجرَّع ذاك العذاب النفسي عينه انتقامًا لكرامتها التي يهدرها عمدًا، قتلها بدم دون أن يبدي الندم.
العدو بالنسبة للرَّاوي، كما هو الحال تبعًا لمفاهيم "كونيسا"، وجوده شديد الأهمية اجتماعيًا وسياسيًا في المجتمعات المُعاصرة؛ فهو الوسيلة الفاعلة لبناء هوية ثابتة وراسخة. فالعدو هو ذاك الآخر الذي يشكِّل الشرّ والتهديد ولا يمكن فصله عن الحياة لأهمية وجوده بشكل دائم ومستقر. وعلى هذا الأساس، وعبر حلقات التاريخ المتعاقبة، نجد أن المجتمعات المستقرَّة التي لا أعداء لها تعمل على صناعة عدوًا؛ فالعدو وجوده يقدِّم خدمات كثيرة ذات قيمة، ويكون بمثابة المهدئ الذي يجعل أبناء الشعب تتغاضى عن السلبيات التي تؤرِّق سُبُل العيش من خلال خلق إحساس بالمسئولية القومية وضرورة توحيد الصفّ، وبهذا تترسَّخ الأواصر الجمعية لدى أبناء الشعب. وبنفس الطريقة، فإنّ الرَّاوي بعد رجوعه للسودان، يتزوَّج ويعيش حياة مستقرَّة مع زوجة مُتفانية في حبه وخدمته، لكنه يهجرها للبحدث عن عدو جديد ينتشله من حياة راكدة، بل ويجد في مقتلها وسيلة لبدء حياة انتقام جديدة ضد كل من يمزق بلاده بالحروب الأهلية.
لقد صنع "الطيب صالح" الأعداء في الداخل والخارج، وجعل من الراوي نبراسًا لهوية مكتملة فهمت قواعد البقاء والريادة، وهذا ما يعلِّمه للمتواجدين في محيطه ولذاك الوافد من بلاد المستعمر من أجل توحيد صفّ من استطاع الذهاب لبلاد الغرب دارسًا، حتى تتحوَّل علاقته بها إلى فاتحًا.



#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)       Naeema_Abdelgawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ الحجاز في العصر الأموي من خلال شعر الأحوص
- شرارة الضحك والسخرية: مارك توين
- ما بين التعاسة والسخرية ضحك ملوَّن
- المسرح الشعري وديونيسوس إله الممارسات الدنيوية
- هيفاستوس إله الابتكارات والرقمنة
- الهوية والتأريخ الشعبي
- -آلهة أمريكية- فلك أسطوري معاصر خلقه نيل جيمان
- الدولة الأموية والعرجي فارس الشعر
- الحضارة العربية وتاريخ من الواقعية السحرية
- الإعلام والنشطاء والصحافة الصفراء قديمًا: أبو فراس الحمداني
- عميد الشعر العربي ورائد حركة الحداثة: أبو تمَّام
- الحجاج: بلاغة الأديب ووحشية السفاح
- جيبوتي دولة عربية ذات إبداع أفريقي
- أبو العلاء المعري والتيار الوجودي
- -تونس والإبداع العربي- في لجنة العلاقات العربية بإتحاد كتاب ...
- دولة مالي ومماليك مصر: عصور من الانفتاح على إفريقيا
- العصر العباسي وأيدلوجيا الحداثة في شعر أبي نواس
- حياة اللهو والمجون مرادفها -عمر بن أبي ربيعة-
- -أبو العتاهية- رائد الشعر الشعبي يعشق جارية
- بانوبتيكون المقاربة السوسيولوجية في -صباح ينتظر الفرج-


المزيد.....




- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - أعداءك ضمان النجاح والبقاء