|
استغرق الأمر شهرا واحدا فقط لسحق عالم الأدب الألماني
محمد ناجي
(Muhammed Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 7896 - 2024 / 2 / 23 - 18:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة / محمد ناجي
مقدمة المترجم :
موضوع الاستبداد والدكتاتورية وما ينتج عنها من مظاهر وعيوب ، هي من أكثر المواضيع غموضا وتشويها وتهميشاً عند (المنظومة والعقل السياسي والثقافي العربي السائد) والشارع الذي يتبعهم ، لذا نرى أن بعض الكتاب وحتى ضحايا الاستبداد يعارضون طاغية هنا ويبررون ويطبلون ويمجدون آخراً هناك ، ويفوت عليهم جهلاً أو عمداً أن الطغاة يحذون بعضهم (حذو النعل بالنعل) ! وهذا مايفسر استمرار الاستبداد وعودته اليوم بمظهره الفاشي الجديد في أكثر من بلد في العالم .
أن ما حدث بالأمس ويحدث اليوم وفي مقدمتها شيطنة الخصم المعارض وتسقيطه بمختلف الوسائل وصولا إلى تصفيته المعنوية والجسدية ، ليس حدثا خاصا بزمان ومكان ، وبالتالي معزولا وبعيدا عما حدث ويحدث اليوم (عراقيا وعربيا وحتى عالميا) ، بل هو تكرار لما حدث في مكان وزمان آخر ، فالمضمون واحد وإن اختلف في الشكل والتفاصيل والتسميات . ومن يرجع ولو قليلا ويقرأ شئ من تاريخنا بعقل حر ومنطق بعيد عن التخندق ، أو ينشط الذاكرة فانه حتما سيجد وقائع مماثلة ، وإن لم تكن بالسرعة التي يشير لها هذا المقال عما فعله النازيون في اضطهاد وازاحة الفكر والثقافة والمثقفين المعارضين لنهجهم من المشهد السياسي والثقافي العام .
**************
في يوم الثلاثاء الموافق 14 فبراير/شباط 1933 ، بعد أسبوعين من استيلاء الاشتراكيين الوطنيين " النازيين" على السلطة في ألمانيا ، تلقى الناقد المسرحي الأكثر تأثيراً في البلاد ، الفريد كير ، مكالمة هاتفية غير متوقعة . كير البالغ من العمر 65 عاماً كان يعاني من حمى تصل إلى 39 درجة ولم يغادر فيلته الواقعة في ضاحية جرونوالد ببرلين منذ أكثر من أسبوع ، فقد ضربت موجة من الأنفلونزا الشديدة أوروبا ، وفي ألمانيا يتم إحصاء الحالات الجديدة كل يوم .
المكالمة كانت من ضابط شرطة خيّر ، حذر فيها كير من أنه سيتم حجز جواز سفره في اليوم التالي . تعامل كير بشكل غريزي مع الخبر . وبعد ثلاث ساعات ونصف وصل إلى براغ .
بعد أسبوع ، هرب الكاتب هاينريش مان . لقد كان منذ عامين رئيساً لقسم الأدب الأكثر حداثة في الأكاديمية البروسية التي يبلغ عمرها مائتي عام - وهذا القسم وليد لجمهورية فايمار 1918 ، التي كانت مضطربة في الفترة الأخيرة . لفترة طويلة ، تحدى مان الاشتراكية القومية " النازية" الصاعدة . والآن اضطر إلى الاستقالة . والأمر الأكثر خطورة بالنسبة لأذناب الحكام الجدد هو أن مان ــ بالتعاون مع الفنانة كاثي كولويتز ــ وقعا للتو على "نداء عاجل" ضد الاشتراكيين الوطنيين "النازيين" ولصالح الاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين . ويمكن رؤيته ملصقاً على اللوحات الإعلانية في جميع أنحاء برلين ، قبل الانتخابات الجديدة التي أعلنها هتلر للرايخستاغ في 5 مارس/آذار .
قبل يومين من مغادرته البلاد ، حضر مان أمسية في منزل رئيس تحرير إحدى أهم الصحف اليومية الليبرالية في فترة فايمار ، وهي صحيفة فوسيش تسايتونج . دار هناك حديث عن التغيرات السريعة ، وفي المساء انتشر القلق . يقال إن الرؤوس ستتدحرج بعد الانتخابات الجديدة .
تم اتخاذ القرار ، وتم تعبئة الحقيبة في الشقة الواقعة في شارع Fasanenstrasse . هاينريش مان ميسور الحال بعد نجاح روايته " البروفيسور اونرات " التي تحولت إلى فيلم "الملاك الأزرق" الذي لعبت فيه مارلين ديتريش دور البطولة .
إنه معتاد على السفر ، لكنه الآن بحاجة إلى مناورة ومراوغة . غادر شقته في صباح اليوم التالي وهو يحمل فقط مظلة في يده ، واستقل القطار إلى فرانكفورت . كانت خطيبته نيللي كروجر قد وصلت من قبل إلى المحطة ووضعت الحقيبة على رف القبعات في القطار . بعد عدة تغييرات مظللة والانتقال من قطار لآخر ، يصل مان إلى الحدود الفرنسية ويسير بأمتعته المحمولة عبر بوابات المدينة إلى ستراسبورغ . كان يتوقع أن يغيب لبضعة أشهر ، لا أكثر ، وبعدها ينبغي أن يكون الأمر قد انتهى .
سارت الأمور بسرعة مذهلة جداً ، ومدمرة جداً . وخلال أربعة أسابيع فقط ، تمكن الاشتراكيون الوطنيون "النازيون"من تفكيك المؤسسات الديمقراطية في جمهورية فايمار بالقوانين واللوائح والعنف ، وجعلوا جزءاً كبيراً من أبرز الشخصيات الثقافية في ألمانيا يفرون من البلاد .
في كتاب الناقد الأدبي الألماني أوفي ويتستوك الأكثر مبيعاً (فبراير 33 : شتاء الأدب) الصادر عام 2021 ، يمكن متابعة كيف حدث ذلك عندما تم تشديد الخناق على المؤلفين الذين لم يعودوا مرغوبين .
تم اخلاء الساحة . كان ألفريد روزنبرغ وجوزيف جوبلز قد وضعا بالفعل السياسة الثقافية للاشتراكية القومية موضع التنفيذ في نهاية العشرينيات من القرن الماضي : روزنبرغ مع نضاله من أجل الثقافة الألمانية ، وجوبلز كزعيم لوزارة الدعاية الوطنية في الحزب النازي . لا يمكن لأي عمل ثقافي أن يكون عفوياً تماماً . وما يجري تمريره أولاً ينمو وسرعان ما يصبح حقيقة . فجأة فات الأوان .
إنه مثل الشتاء الذي يقترب ببطء . ترى الألوان تتغير ، وتشعر بالبرد الخفيف ، ولكنك لا تزال تستمتع بشمس الخريف الضعيفة . ثم تستيقظ ذات صباح وترتجف . مقياس الحرارة عند الصفر ، وطبقة رقيقة من الصقيع فوق كل شيء . ها هو هنا الآن ، جاء الشتاء فجأة .
لقد فات الأوان ، كان بالتأكيد يوم 28 فبراير/شباط ، أي اليوم التالي لحريق الرايخستاغ المميت في برلين . تجتمع حكومة هتلر في الصباح ثم تقدم اللائحتين اللتين جاءتا للتغطية على كل الحقوق في جمهورية فايمار مثل حرية التعبير ، وحرية الصحافة ، وحرية تكوين الجمعيات ، وحرية التجمع . وأصبح من الممكن فتح البريد والتنصت على الهواتف ولم تعد المنازل الخاصة محمية من الاقتحام . ومع هذه الإجراءات غير المتوقعة وغير التقليدية ، ألغي حكم القانون ، وذهب الوسط الثقافي الطليعي الألماني في عشرينيات القرن العشرين إلى القبر .
يهرب الكثيرون في نفس اليوم : استقل برتولت بريشت القطار إلى براغ في الصباح . تمكن ألفريد دوبلين ، مؤلف رواية (المدينة الكبيرة برلين ألكسندربلاتز) ، من التخلص من رجل قوات الأمن الخاصة الذي كان يراقبه خارج المنزل ، وانطلق في وقت متأخر من الليل إلى باريس .
لكن آخرين لم يلحقوا .
عندما تلقى الصحفي وداعية السلام كارل فون اوسيتسكي الخبر المتعلق بالحريق مساء يوم 27 فبراير/شباط ، كان قد تلقى بالفعل عدة مكالمات للمغادرة . وهو سبق وسُجن في السابق بتهمة الخيانة بعد أن كشف أن ألمانيا ، بالرغم من الحظر الذي فرضته عليها معاهدة فرساي ، قامت بتسليح قواتها الجوية .
رفض المغادرة . فلديه الكثير ليدافع عنه ، علاوة على أنه كان يريد الإدلاء بصوته في الانتخابات المقرر إجراؤها في الخامس من مارس/آذار ، واسمه غير مكتوب في اللوحة على الباب ، فكيف يمكن للشرطة العثور عليه ؟
لكن في صباح اليوم التالي للحريق ، تسري مثل موجة عبر برلين ، اللوائح الجديدة لم يدخل أي منها حيز التنفيذ بعد ، حسناً ، إنها غير موجودة بالفعل . لكن الديكتاتورية تقف وتضع قدميها في الردهة وتريد الدخول . طرقت الشرطة الباب قبل الفجر بوقت طويل . في الثالثة والنصف صباحاً ، يقفون خارج باب اوسيتسكي ، أخذوه ولم يعد أبداً .
هذه هي المفارقة المستمرة في التاريخ . نحن نعلم ، وهم لم يعلموا . نحن نضع المسافة الزمنية بيننا كفاصل لكل ما حدث ، ونقرأ قصص حياة الناس بأثر رجعي . ولكن قبل أن يحدث ذلك ، لا نعرف أنه سيحدث ، وعندما يحدث ، فإنه يحدث فجأة ، ونحن مندهشون من حدوثه وأننا لم ندرك أنه سيحدث .
في فبراير/شباط 1933 ، لم يكن الكتّاب الألمان على علم بـ "محرقة الكتب" القادمة في أوبيرن بلاتز في برلين في 10 مايو/مايس ، وبإنشاء الهيئة الوطنية للثقافة في سبتمبر/أيلول ، وبتقسيمها الفرعي الهيئة الوطنية للآداب في العام التالي . ولم تكن عائلة مان الثقافية بأسمائها المحترمة - توماس وهاينريش وكلاوس وإريكا - على علم أيضاً بأن أحد أصدقاء العائلة السابقين ، الكاتب هانز جوست ، سيصبح بعد عامين المشرف الدائم على الأدب الألماني بصفته رئيساً لكل من قسم الأدب في الأكاديمية البروسية والهيئة الوطنية للآداب . ولكن في وقت لاحق من ربيع عام 1933 ، أظهر جوست بوضوح موقفه في مسرحية عُرضت لأول مرة في عيد ميلاد هتلر في 20 أبريل/نيسان .
"عندما أسمع كلمة ثقافة ، أضع يدي على مسدسي ."
وهذا هو بالضبط ما فعله النظام الجديد للتو . فكان الأدب الألماني الذي يُمَجّد اليوم منبوذاً داخل حدود البلاد . تحدث كريستيان آدم عما نشأ بدلاً من ذلك في كتابه المثير للاهتمام "درس تحت حكم هتلر" الصادر عام 2010 . أدب دعائي ذو توجه أيديولوجي ، ولكن قبل كل شيء ، طوفان من الترفيه الخفيف ، وهو ما يسيطر على سوق الكتب المنظمة الآن ، ومن بين أمور أخرى ، بدأت طفرة القصص البوليسية الألمانية .
لقد كانت الثقافة دائماً سلاحاً . تم استخدام الخبز والسيرك لاسترضاء الجماهير . في ألمانيا ، أصبح الأدب الشعبي يعمل كستار دخان كثيف وممتع ، يمكن أن يخفي عن نسبة كبيرة بما فيه الكفاية من المواطنين ، دخان البارود الذي كان ينتشر بوتيرة مفزعة في جميع أنحاء أوروبا .
آن صوفي ليونج سفينسون - باحثة في الأدب
#محمد_ناجي (هاشتاغ)
Muhammed_Naji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة أليكسي نافالني للعالم في فيلم -نافالني- و -قصر بوتين-
-
وقفة مع العوار … ثقافة الاعتذار !
-
جريمة كل الجرائم
-
وقفة مع العوار ... كلب ابن الكلب !
-
-سنكون معا حتى القبر-
-
وقفة مع العوار … السقوط المدوّي !
-
سامعين الصوت... !
-
إمبريالية بوتين -المناهضة للاستعمار- تتماشى مع التاريخ الاست
...
-
توقع فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الإيطالية
-
- رجال أقوياء : من موسوليني حتى الوقت الحاضر-
-
وقفة مع العوار ... 14 تموز الباب المشرعة للعنف والدكتاتورية
...
-
موقف حزب اليسار السويدي من عضوية الناتو
-
انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو سيغير البنية الأمنية لشمال
...
-
العضوية في الناتو لن تجعل السويد أو العالم أكثر أمنا
-
عودة الفرع للأصل ... قضي الأمر الذي فيه تستفتيان !
-
مقترحات أوكرانيا في مفاوضات اسطنبول
-
لا للحرب … *
-
(عقلية خندق العشيرة) … وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر !
-
بيان الاشتراكي الروسي أليكسي سخنين وجبهة اليسار الروسي يدين
...
-
آنا ستاروبينيتس : بهذا النص أحرق الجسور إلى وطني
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|