أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر30















المزيد.....

من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر30


عبدالرحيم قروي

الحوار المتمدن-العدد: 7894 - 2024 / 2 / 21 - 16:16
المحور: الارشيف الماركسي
    


أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة الثلاثون

القسم الثالث
النزعة المادية الجدلية
حياة المجتمع الروحية

النزعة المادية الجدلية هي وحدها التي تحمل جواباً علمياً على مشكلة الوعي، كما رأينا في الجزء الثاني. كما أنها تتيح لنا فهم أصل الأفكار وعملها، وفهم النظريات الاجتماعية والآراء السياسية والمؤسسات السياسية التي هي جزء من المجتمع.
ولقد خصص ستالين لهذه المسألة صفحات مهمة من كتابه "النزعة المادية الجدلية والنزعة المادية التاريخية".
وتتضمن هذه المسألة جانبين يجب التمييز بينهما بدقة:
1 – ظهور مختلف صور الوعي في الحياة الاجتماعية.
2 – أهميتها والدور الذي تقوم به.
ويبحث الدرس الثاني عشر الجانب الأول، بينما يبحث الدرس الثالث عشر الجانب الثاني. وأما الدرس الرابع عشر فهو يدرس أصل الاشتراكية العلمية وأهميتها.

الدّرس الثاني عشر
حيَاة المجْتمَع الرّوحيَّة
هي انعكاس لحياته المادية
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
1– مثال
2– "التفسيرات" المثالية
3– النظرية المادية الجدلية
أ) حياة المجتمع المادية واقع موضوعي موجود مستقلاً عن الوعي وعن إرادة الأفراد والإنسان عامة
ب) حياة المجتمع الروحية انعكاس لواقع المجتمع الموضوعي
ج) كيف تتولد الأفكار الجديدة والنظريات الاجتماعية
د) مسألة الآثار الباقية
4– الخلاصة
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
1 – مثَال
نقرأ في بعض نشرات الأونسكو أن السلم لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة "تهدئة العقول"، وأنه يجب، إذا ما أردنا القضاء على الحرب، القضاء عليها في عقول الناس. لأن سبب الحروب ذاتي. أو كما يقول المحللون النفسيون هناك "غريزة للاعتداء" تكمن في وعي كل إنسان أو ما يسمى "بالكراهية الموروثة".
مثل هذه النظرية، عن أسباب الحرب، هي نظرية مثالية يختلف عنها موقف النزعة المادية الماركسية، فهي تقول أن سبب الحروب يكمن في واقع المجتمعات الموضوعي. أصل الحروب في عصر الاستعمار الأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى البحث عن أسواق جديدة بواسطة القوة. وهذا قانون موضوعي وهو قانون الفائدة القصوى الذي يفسر لنا الحروب. أما فيما يتعلق بالأمور الذاتية (كفكرة الحرب) (والكراهية وغريزة الاعتداء) فهي تتولد عن التناقضات المادية التي توجد وضعاً موضوعياً للحرب. والواقع الموضوعي هو الذي يفسر لنا ظهور الأمور الذاتية وليس العكس.
يمكننا أن نستشهد بغير ذلك من الأمثلة. ويلاحظ بصورة عامة أن العصور الحالية تظهر تعارضا قويا بين النظرية الفكرية للرأسمالية في النزع الأخير، وهي نظرية فكرية تقوم على العداوات القومية والعنصرية وعلى السلب والحرب ، وبين النظرية الفكرية للاشتراكية المنتصرة، وهي تقوم على التعاون والإخاء بين الأمم والأفراد كما تقوم على السلم. ولقد عبر بول اليوار عن هذا النضال بين النظريات الفكرية المتناقضة في شعر رائع.
يجعلنا الواقع الموضوعي للمجتمعات ندرك، في كلتا الحالتين، ـ حالة الرأسمالية والبرجوازية الكبرى من جهة وحالة الاشتراكية والحركة العمالية من جهة ثانية ـ نضال الأفكار لأن حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لحالته المادية.
وتتعدد وجوه حياة المجتمع الروحية من فن وقانون ودين، الخ. ولا يمكننا أن ندرس هذه الوجوه جميعاً بالتفصيل. وإذا رجع القاريء إلى كتاب "النزعة المادية الجدلية والنزعة المادية التاريخية" لوجد ستالين يلح في القول على الأفكار الاجتماعية والنظريات الاجتماعية والآراء السياسية والمؤسسات السياسية وذلك نظراً لأهميتها العملية الكبرى.
الأفكار الاجتماعية: وهي الأفكار التي يكونها الفرد في مجتمع معين حول مكانه في الوجود، وكذلك الأفكار عن الملكية والأفكار الأخلاقية عن العائلة والحب والزواج وتربية الأطفال (أو ما يسميه فلوبير بالأفكار "الموروثة") وكذلك الأفكار التشريعية. مثال ذلك الفكرة البرجوازية القائلة بأن حق الملكية "حق طبيعي" قائم بذاته. وتعبر هذه الفكرة عن الواقع المادي، وهو أن الملكية الخاصة هي أساس المجتمع البرجوازي، ولما كانت ملكية وسائل الإنتاج لا تُمس في نظر البرجوازية المتملكة، كانت فكرة الملكية الخاصة، في رأي الأخلاق البرجوازية، معطى أساسياً.
النظريات الاجتماعية: وهي النظريات التي تجعل من الأفكار الاجتماعية التي أشرنا إليها سابقا مذهبا وعقيدة تجريدية. مثال ذلك نظرية "المدينة" عند أفلاطون، ونظرية الدولة عند هوبس وجان جاك روسو وهيجل ونظريات الخياليين الاجتماعية أمثال بابوف وسان سيمون الخ...
الآراء السياسية: وهي الآراء الملكية أو الجمهورية المحافظة أو المتحررة الفاشية أو الديمقراطية الخ...
والأفكار حول حرية الرأي والاجتماع والتظاهر الخ..
المؤسسات السياسية: أي الدولة ومختلف أجزاء نظام الدولة. وهناك فرضية ماركسية مهمة جدا تعتبر الدولة عنصراً من حياة المجتمع الروحية فهي تعكس حياته المادية.
2 – التفسِيرَاتُ المثَاليَّة
فلنعد إلى الموقف المثالي الذي بدأنا منه فهو أكثر المواقف انتشاراً ويتخذ وجوهاً
عدة منها:
أ) أقدم النظريات وأشدها غموضا هي النظرية الدينية اللاهوتية. فهي ترى في حياة المجتمعات المادية انعكاساً للفكرة الإلهية وتحقيقاً لمخطط وضعته العناية الالهية. فالنظام الاجتماعي صادر عن الإرادة الآلهية. ولما كانت الطبيعة والعقل البشري لا يتغيران فكل تغيير في المجتمع كفر والحاد وهو من عمل الشيطان لأنه مس لارادة الله، ولهذا كانت كل فكرة تدعو للتغيير آثمة. وقد تولد عن هذه النظرة النزعة الأكليركية التي تقول بأن الأكليروس، وهو المؤتمن على اسرار الله، يمكنه أن يضمن النظام "الاجتماعي" وقامت البرجوازية الثورية بمحاربة هذه النظرية التي كانت تلائم تماماً المجتمع الإقطاعي.
ب) ثم تأتي نظرية مثالية جوهرها برجوازي وقد توسع بها فلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسي. فقد قاموا بمحاربة "الحق الإلهي" باسم "الحق الطبيعي" و "الديانة الطبيعية" وباسم "العقل". فكانوا يقولون بأن النظام الاقطاعي فوضى لأنه لا يتفق ومتطلبات العقل الذي يجد كل إنسان صورته في نفسه. يجب إذن تغيير المجتمع باسم العقل الشامل الخالد، فيصبح النظام الاجتماعي أخيراً انعكاساً للنظام العقلاني.
وهذه النظرية كالسابقة مثالية بالرغم من أنها تمثل خطوة للإمام بالنسبة للنظرية السابقة لأنها تعبر عن أفكار البرجوازية الثورية أمام أفكار الإقطاعية الرجعية. فهي لا تتساءل عن أصل الأفكار بل هي تعتبرها معطى اولياً يتولد منه واقع المجتمعات المادي.
يجب أن نلاحظ، مع ذلك، أن فلاسفة القرن الثامن عشر الماديين – ولا سيما هلفتيوس أدركوا أن أفكار الإنسان هي ثمرة تربيته. كما إنهم ألحوا على القول حول تعدد النظريات الفكرية في المجتمعات عبر الزمان والمكان ـ ولكنهم كانوا يجهلون علم المجتمعات الذي سيؤسسه ماركس، ولذلك عجزوا عن الاندفاع في التحليل أكثر مما فعلوا.
ج) يجب أن نعترف لهيجل بمكانة مهمة. فلقد قام في كتابه "فلسفة التاريخ" بدراسة العلاقات بين التطور المادي والتطور الروحي في المجتمع. ولما كان مثالياً فلقد أقام "الفكرة" السيدة، في البدء، التي تولد المجتمع ولا تقل في ذلك عن الطبيعة. وما التاريخ إلا عبارة عن تطور الفكرة. وهكذا يصبح تاريخ اليونان القديم عبارة عن تجلي فكرة الجمال. وكذلك يكون سقراط وعيسى المسيح ونابوليون لحظات من لحظات الفكرة.
ولما كان هيجل جدلياً فهو يقوم في بعض الأحيان بتحاليل رائعة. غير أن نزعته المثالية تقضي به إلى أن يجعل للرجال العظام دوراً كبيراً مبالغا فيه فيمسون العوامل الوحيدة للتقدم التاريخي. كان لا بد لهذا الجانب من فلسفة هيجل أن تستغله بوقاحة الفلسفة الفاشية التي تعتقد أن الشعب لا شيء، وأن "السوبرمن" المعصوم هو كل شيء. ولهذا قال أحد المعجبين بالدوتسي "الفاشية هي ما يفكر به موسوليني في هذه اللحظة" كما كان هتلر يقول أمام فرق الصاعقة: "سأفكر من أجلكم".
د) الصورة الأخرى للنزعة المثالية علم الاجتماع الذي وضعه دور كهايم وزملاؤه.
لربما تولت الكثيرين الدهشة إذا قلت لهم بأن علم الاجتماع الذي وضعه دور كهايم مثالي. ألم يهاجم علماء الاجتماع اللاهوت والميتافيزيقا؟ ألم يحاولوا دراسة الوقائع الاجتماعية (كالمؤسسات، والقانون، والعادات) دراسة موضوعية حسب تطورها وهم خالو الذهن من أي رأي سابق بصددها. لا شك أنهم أرادوا ذلك ولكن الفرق الكبير بين الارادة والفعل. إذ أن علماء الاجتماع البرجوازيين، عادة، يفسرون التغيرات المادية بواسطة نمو "الوعي الجماعي" الذي يظل سراً غامضا في ذاته. فيبدو تاريخ المجتمعات عندئذ كتحقيق مستمر للمطامح الأخلاقية التي تكمن في الوعي الإنساني منذ العصور الأولى. فلماذا يتطور "الوعي الاجتماعي" باتجاه معين ولا يتخذ أتجاها أخر؟ لا أحد يدري. ذلك لأن علماء الاجتماع يجهلون (أو يتجاهلون) الإنتاج، ونضال الطبقات وهما من عوامل التاريخ. بل يفضلون العوم على السطح. فإذا وجد الضمان الجماعي فما ذلك الا لأن "الأفكار تطورت" لأن كل شيء يرجع كما ترى فلسفة ليون برنشفيك إلى "تقدم الوعي".
هـ) يجب أن نشير إلى أن من بين أبطال النزعة المثالية المندفعين في هذا الميدان برودون الذي تحدثنا عنه سابقا يرى برودون أن تاريخ المجتمعات هو تجسيد مستمر لفكرة العدالة "الكامنة" في "الوعي" منذ بداية الإنسانية. ولهذا كانت علاقات الإنتاج تحقيقاً "للمقولات الاقتصادية" التي ترقد في "عقل الإنسانية". وهذا الوعي غير المحدث ـ أو "العبقرية الاجتماعية" كما يقول برودون ـ ماثل في التاريخ بأكلمه. فهو يفسر كل شيء ولا شيء يفسره. ولما كان الوعي هو ما هو عليه انتهى الأمر ببرودون إلى إنكار واقع التاريخ نفسه.
ليس من الصحيح القول بأن شيئا من الأشياء يحدث أو أنه ينتج لأن كل شيء موجود في المدنية وفي الكون يفعل منذ القدم. وكذلك شأن الاقتصاد الاجتماعي" ولا شيء جديد تحت الشمس. وهكذا يزول التاريخ بجرة قلم.
نلاحظ أن برودون الذي يثور دائماً ضد الجزويت ورجال اللاهوت باسم الوعي ـ برودون الذي يتبجح بمعارضة "نظام الثورة" (أي نظامة) "بنظام الوحي"، برودون الذي يخيفه تنظيم البروليتاريا الثوري فيتولاه الذعر أمام العمل فيجعل من حزب العمال "كنيسة" كما يفعل اليوم زملاؤه الاشتراكيون الديمقراطيون ـ هو نفسه ضحية الأفكار الأكلييركية التي يخيل إليه أنه يحاربها. لأن "الوعي" بالنسبة للبرجوازي الذي يخيل إليه أنه معيار العالم والتاريخ ليس سوى الآله القديم بعد أن أصبح علمانياً بصورة غامضة. وهكذا تكون فلسفة برودون مثالية في أصلها.
وقف ماركس في وجه هذه الفلسفة في أحد كتبه الرائعة: "بؤس الفلسفة" (1847) فكتب يقول: "لنقل كما يقول السيد برودون أن التاريخ الحقيقي الذي يسير حسب الزمن هو التتابع التاريخي الذي ظهرت فيه الأفكار والمقولات والمبادىء" .
فلقد كان لكل مبدأ عصره الذي ظهر فيه، فظهر مبدأ السلطة، مثلاً، في القرن الحادي عشر، كما ظهر مبدأ النزعة الفردية في القرن الثامن عشر. وهكذا كان العصر ينتمي للمبدأ وليس المبدأ هو الذي ينتمي للعصر، أي أن المبدأ هو الذي يضع التاريخ وليس التاريخ هو الذي يضع المبدأ. حتى إذا ما تساءلنا، كي ننقذ المباديء والتاريخ معاً، لماذا ظهر مبدأ ما في القرن الحادي عشر أو في القرن الثامن عشر بدلا من أن يظهر في عصر أخر، اضطرنا ذلك للبحث عن حالة الناس في القرن الحادي عشر وحالتهم في القرن الثامن عشر، وما هي حاجاتهم وقواهم الإنتاجية وطريقتهم في الإنتاج والمواد الأولية لهذا الإنتاج وأخيراً كيف كانت العلاقات بين الناس، تلك العلاقات التي هي ثمرة لهذه الظروف الحياتية.
أليس تعمق جميع هذه المسائل هو صنع للتاريخ الحقيقي للناس في كل عصر وتمثيل هؤلاء الناس على أنهم أبطال مأساتهم وممثلوها في نفس الوقت؟ ولكن حينما ننظر للناس على أنهم ممثلو تاريخهم وأبطال هذا التاريخ نصل من وراء ذلك إلى نقطة البداية الحقة لأننا تخلينا عن المبادىء الخالدة التي تحدثنا عنها آنفا .
ويصح نقد ماركس لبرودون على جميع صور النزعة المثالية التي اشرنا اليها في المقاطع (أ) (ب) (ج) (د) لاننا نجد في جميع هذه الحالات أن الواقع ينظر إليه بالمقلوب حتى يصبح تفسير الأفكار الحسي غير مفهوم. وتدلل النزعة المادية الجدلية، التي تعيد الأشياء إلى أوضاعها الصحيحة، على أن الأفكار الاجتماعية هي انعكاس لتطور التاريخ المادي الموضوعي. لأن النزعة المادية الجدلية وحدها هي التي تقيم دعائم علم النظريات الفكرية.
فالنزعة المثالية تعلن عن الأفكار وتقوم بعرض لها آخذة على "النزعة المادية" "الملعونة" أنها تنكر الأفكار (وسنرى أن هذا غير صحيح) والحقيقة أن النزعة المثالية تتحدث عن الأفكار بقدر جهلها لها، فهي تطلب منها أن تفسر كل شيء وأن ظلت هذه الأفكار غير مفهومة لها.
3 ـ النظريَّة المَاديّة الجَدليَّة
إذا صح أن الطبيعة والكينونة والعالم المادي هي المعطى الأول بينما الوعي والفكر هما المعطى الثاني المشتق من المعطى الأول، إذا صح أن العالم المادي هو واقع موضوعي يستقل في وجوده عن وعي الناس، بينما الوعي هو انعكاس لهذا الواقع الموضوعي فأن نتيجة ذلك أن حياة المجتمع المجتمع المادية وكينونته هما أيضا المعطى الأول بينما حياة المجتمع الروحية هي المعطى الثاني المشتق من المعطى الأول، وأن حياة المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن إرادة الإنسان، بينما حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي ولهذه الكينونة .
وهكذا تكون النظرية القائلة بأن حياة المجتمع الروحية تعكس حياته المادية نتيجة مباشرة للنزعة المادية الفلسفية التي عرضناها في الجزء الثاني من هذا الكتاب (ولا سيما في الدرس العاشر).

أ) - حَياة المجْتَمع المَادَية وَاقع مَوضُوعي مَوجُود مُستَقلاً عَن الوَعي وَعنْ إرادة الأفراد والإنسَان عَامَّة
سمى بعض المفكرين المثاليين هذا الواقع الموضوعي المستقل عن الوعي بالقضاء المحتوم ولقد جدد الوجوديون الألفاظ مع احتفاظهم بنفس الشيء، فهم يتحدثون عن "الإنسان ـ الملقى به ـ في العالم" وعن "وضع" الإنسان. وسوف نرى في الجزء الرابع من هذا الكتاب المخصص للنزعة المادية التاريخية أن هذا الوضع ليس سراً وأنه يمكننا أن ندرسه بصورة علمية.
وسوف ندرك، بدراسة بعض الأمثلة، ما هو هذا الواقع الموضوعي المستقل عن الوعي.
حين أخذت البرجوازية الفتية الأوروبية، في عصر الإقطاع، ببناء المصانع الكبيرة، كانت تجهل نتائج هذا "التجديد" الاجتماعية الذي سيؤدي إلى ثورة ضد السلطان الملكي الذي كانت تنعم بعطفه (بعد أن شجعت الملكية المصانع الجديدة) كما أدت إلى ثورة ضد طبقة النبلاء التي كانت تحلم بدخولها!
حتى إذا ما أدخل الرأسماليون الروس الصناعة الحديثة الضخمة إلى روسيا في عهد القياصرة لم يدركوا أنهم يمهدون بذلك لانتصار الثورة الاجتماعية في المستقبل.
وحينما دخل صانع الأحذية، الذي يتحدث عنه ستالين في كتابه "فوضوية أم اشتراكية ؟"، في خدمة ادلخنوف فأنه كان يجهل أن النتيجة البعيدة لهذا القرار، الذي كان يظنه مؤقتا، ستكون انضمامه إلى الأفكار الاشتراكية .
حينما أقام الاستعماريون الأمريكان، ثم الرأسماليون الغربيون، الحصار الاقتصادي حول الاتحاد السوفياتي والديمقراطيات الشعبية عام 1947 على أساس مشروع مارشال، لم يخطر ببالهم أنهم يعملون بذلك على تكون سوق عالمي جديد، سوق اشتراكي يقضي على السوق الرأسمالي الوحيد القديم .
ذلك هو القضاء المحتوم الذي يدور حوله الكثير من القصص. يؤدي النضال من أجل ارضاء المصالح المباشرة الى نتائج اجتماعية بعيدة عن إرادة أولئك الذين قاموا بهذا النضال. وليست هذه المصالح المباشرة اعتباطية لأنها صدى للوضع الموضوعي في فترة معينة وفي مجتمع معين وفي طبقة اجتماعية معينة.
وهذا جزء مهم من النزعة المادية التاريخية عبر عنه ماركس بقوله:
يدخل الناس، خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، في علاقات معينة ضرورية مستقلة عن ارادتهم، وهي علاقات إنتاجية تمثل درجة معينة من نمو قواتهم المادية .
مثال ذلك أن العلاقات الرأسمالية للإنتاج لم يخترها الناس بأنفسهم لأن نمو قوى الإنتاج، وسط المجتمع الإقطاعي، يؤدي بالضرورة إلى تكوين علاقات رأسمالية للإنتاج، وليس غيرها سواء أراد الناس ذلك أم لم يريدوا. وهكذا يُجبر كل جيل جديد على الخضوع لظروف موضوعية. فهل هذا هو القضاء المحتوم؟ كلا. لأننا ـ سنرى ـ أن الدراسة العلمية للعلاقات الموضوعية للإنتاج تسمح لنا بفهم طبيعتها والتنبؤ بتطورها والإسراع بها.
أما القول "باستقلال" الذهن، في كل مناسبة، كما يفعل المثاليون، فأن ذلك جهل للظروف الموضوعية التي تفرض نفسها على الذهن وهو لا يدري منها شيئا. لأن هذا هو حظ المفكر المثالي التعس. فهو يعتمد على وعيه دون أن يتساءل عن الظروف الموضوعية التي تعمل على وجود هذا الوعي وفعله فيخيل إليه أن الوعي يكتفي بذاته. وهذا وهم تحاربه النزعة المادية. نخلص من الملاحظات التي قدمناها إلى نتيجة مهمة عملية. فلقد برهنا على أن تغييرات مهمة مادية قد تمت عبر التاريخ دون أن يعي الذين شاركوا فيها أو أثاروها نتائجها أو يريدوا هذه النتائج. من الخطأ القول، إذن، بأن الثورة الاشتراكية لن تحدث في بلد إلا إذا آمن جميع العمال سابقا بالنظرية الثورية. لأن ملايين الناس الذين صنعوا بأيديهم، في تشرين الأول سنة 1917، الثورة لم يكونوا بعيدي النظر كما كان لينين أو البلشفيك وهم طليعة الثورة العلمية. ولكنهم حين قاموا بهذه المهمة التاريخية الكبرى كانوا يعملون على تغيير وعيهم الخاص وانتصار الإنسان الجديد، وهو انتصار تنبأ به ماركس علمياً.
يتبع



#عبدالرحيم_قروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر29
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر28
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر27
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر26
- قليلا من التواضع يارفاق احتراما لمشاعر شعوبنا
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر25
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر24
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر23
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر22
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر21
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر20
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر19
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر18
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر17
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر16
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر15
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر14 ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر13
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر12
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر11


المزيد.....




- مصر.. الحكومة توقف نزيف خسائر البورصة بتأجيل ضريبة الأرباح ا ...
- هل صرخ روبرت دي نيرو على متظاهرين فلسطينيين؟.. فيديو يوضح
- فيديو يظهر الشرطة الأمريكية تطلق الرصاص المطاطي على المتظاهر ...
- رغم تأكيد صحيفتين إسرائيليتين.. دي نيرو ينفي مهاجمة متظاهرين ...
- معهد فرنسي مرموق يرد على طلبات المتظاهرين بشأن إسرائيل
- مؤسس -تويتر- يعرب عن دعمه للمتظاهرين في جامعة كولومبيا
- بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه..شرطة جورجيا تفرّق المتظ ...
- تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض
- مصير فلسطين في ضوء العدوان على غزة
- بعد تداول فيديو -صراخه على متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين-.. رو ...


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر30