|
فلسفة التكوين
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7877 - 2024 / 2 / 4 - 13:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٦٠ - الطبيعة
إذا كانت الفكرة الأساسية البارمينيدية " ما هو كائن يكون وما هو لاكائن لا يكون " ليست مجرد توتولوجيا tautologie أو تحصيل حاصل وتكرار للمعنى، وإنما فكرة تترتب عليها الكثير من النتائج الشديدة الخطورة في أغلب المجالات النظرية والعملية، فما هو هذا الكائن الذي يتحدث عنه هذا الفيلسوف الغامض ؟ فإذا كان هذا الكائن هو كما سبق وصفه، واحدا، ساكنا، متصلا، ولا يقبل القسمة أو التجزئة، أزلي غير قابل للفناء (لم يلد ولم يولد) متجانس، متماسك وملأ مطلق، بالضرورة لا يوجد أي شيء عداه، فهو الكل المطلق لا يحيطه أو يجاوره سوى اللاشيء أو العدم. ولكن في هذه الحالة، ماهي كل هذه الأشياء التي تحيط بنا في الحياة اليومية وتمتص كينونة الإنسان ووجوده ؟ ممارسة الحياة تجعلنا نعي العالم وكل ما يحتويه من كائنات بطريقة مغايرة لما يؤكده بارمينيدس، فكل الكائنات بشرية أو حيوانية أو نباتية تتمتع بميزات مناقضة تماما لمقولة الثبات والسكون وعدم الفناء .. إلخ. ولكن هذا هو ما يسميه بارمينيدس بالـ "دوكسا - Doxa" أو الرأي، ما تعوّد عليه الناس من آراء ومفاهيم وحقائق عامة يتقبلها الجميع بطريقة أوتوماتيكية بدون معاينة أو تدقيق، وبالتالي فهي مجرد وهم مضلل ببريقه الظاهر، ذلك أن كينونة الكائن الحقيقية "آليثييا ـ Alétheia"، ليست قابلة للظهور مباشرة ولابد لها من أن تختفي وراء غلالة من اللاكينونة، ومن هنا يبدو أن العدم يتغلغل في التركيب الأنطولوجي للكينونة ويصبحان شيئا واحدا. غير أن بارمينيدس بقي مترددا بين ما نراه وما لا نراه، بين ما يكون وما لايكون، فمظاهر الأشياء، أو الأشياء كما ندركها بحواسنا البشرية هي إدراك أو معرفة غير موثوق فيها ومجرد "دوكسا"، وفي نفس الوقت ليس هناك شيء آخر يمكن التعويل عليه، فيبدو الوهم كأنه الشيء الوحيد الحقيقي رغم كونه سرابا مضللا. وهذا ما فهمه أرسطو حيث أكد بأن بارمينيدس لا يؤمن بأي شيء ما عدا الواقع الحسي. أما جورجياس Gorgias؛ حوالي 483-375 ق.م. الفيلسوف السفسطائي فقد ذهب أبعد مما ذهب إليه بارمينيدس في هذا الإتجاه، وإن كان بطريقة غير مباشرة أو من طريق جانبي، قائلا بكل بساطة بعدم وجود أي شيء، وإن وجد أي شيء فإننا لن نستطيع إدراكه، وإن وجد أي شيء وتمكنا من إدراكه، فإن هذه المعرفة الناتجة عن إدراكنا لا يمكن التعبير عنها، لا يمكن قولها أو نقلها بالكلمات إلى أي إنسان آخر. ذلك أن وسيلة التفاهم بين الناس ونقل دلالة الأشياء هي اللغة، ولكن ألفاظ اللغة هي مجرد اشارات وضعية و رموز عشوائية أتفق عليها الناس للضرورة، وليست مطابقة ولا مشابهة للأشياء المفترض علمها، فكما أن ما هو مدرك بالبصر ليس مدركاً بالسمع، و ما هو مدرك بالسمع ليس مدركاً بالبصر أو اللمس، فإن ما هو موجود خارجاً عن اللغة فهو مغاير للألفاظ بالضرورة، فنحن ننقل للناس ألفاظا، أي أصوات وإشارات وليس الأشياء نفسها. فاللغة والكينونة دائرتان متخارجتان ولا يمكن أن تتطابق. إن بارمينيدس لم يسقط من السماء أو من السحاب كالأمطار ولم يكن ظاهرة طبيعية، وقصيدته الفلسفية أو الأنطولوجية والكوسمولوجية تتموقع بالضرورة داخل مناخ ثقافي مميز في فترة محددة من تاريخ الفكر اليوناني. ولهذا السبب كان من الضرورة إلقاء الضوء على بعض أعلام هذا الفكر الثري والذي ما زال يغذي الفكر والخيال الإنساني حتى اليوم. وذكر الآلهة وعناصر عديدة من الميثولوجيا الإغريقية في هذه النص المبني على طريقة قصائد هوميريوس، يدل بوضوح على أن كاتب ومبدع هذه القصيدة كان مندمجا في المجتمع اليوناني ومتابعا للنشاط الفكري والفلسفي وأنه كان يريد أن يتخذ موقفا محددا تجاه الأفكار السائدة آنذاك. ففي إحدى قصص الخلق الإغريقية القديمة، الأرض "غايا" والسماء "أورانوس" ألتقيا في البدايات الأولى قبل أن يكون هناك أي شيء وأنجبا من لقائهما مخلوقات تسمى "التيتان" أو الجبابرة وهم قبيلة من الآلهة الأقوياء الذين حكموا الأرض خلال العصر الذهبي الأسطوري، السابق لعصر الآلهة الأولمبية. يطلق اسم التيتان عادة على أبناء "غايا وأورانوس" الاثنا عشر، ستة أشقاء وست شقيقات، بحيث تزوج كل شقيق من شقيقته وأنجب عدداً من الأبناء التيتان. اختلفت الأساطير القديمة في وصفهم باختلاف الفترة الزمنية والمنطقة التي تأصلت منها الأسطورة، إلا أنهم كانوا يعدون في غالبية الأوقات تجسيدات لقوى الطبيعة ومظاهرها المختلفة وأيضا لبعض المفاهيم المتعلقة بالعلاقات الإجتماعية والنفسية بين مكونات المجتمع اليوناني في ذلك الوقت. من بين هؤلاء التيتان هناك على سبيل المثال " ثيميس - Θέμις " إلاهة القانون والعدالة وتمثل النظام الإلهي المقدس لإدارة المجتمع وذلك بتطبيق القانون بين البشر، وهي أيضا التي علمت أبوللون كل ما يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل وإستباق الزمن للتأثير في الأحداث وجعلها تتطابق مع إرادته ومصالحه. وهناك أيضا العدالة " ديكي - Δίκη " وهي إبنة ثيميس وزيوس، متخصصة في العلاقات الخارجية بين المجموعات الإجتماعية المختلفة وكذلك بين بين العائلات بعضها مع بعض، ومهمتها هي تطبيق العدالة في الأماكن العامة داخل المدينة. غير أن القانون والعدالة المعبر عنهما بهذه الآلهة، تختلف عن القانون البشري والعدالة العمياء التي تعتمد على العادات والتقاليد والموروث الإجتماعي والذي تتحكم فيه الضرورة والقدر Ananké - Ἀνάγκη، حيث كل شيء يكون كما هو ولا يمكن أن يكون بطريقة أخرى. بالعكس من ذلك، قانون ثيميس هو قانون عقلي، وعدالة ديكي هي عدالة مبنية على وزن الأحداث وتقديرها عقليا وإتخاذ القرار المناسب حسب هذه الموازين والإعتبارات المتعددة والمعقدة حتى يتطابق أو يقترب القرار المتخذ مع الحقيقة بقدر الإمكان. ولأهمية الأسطورة في نهاية القرن السادس قبل الميلاد في بلاد اليونان، فإن بارمينيدس بنى مدخل القصيدة بطريقة أسطورية وجعل الإلاهة تستقبله وجعل ديكي وثيميس جزء من المسرحية أو النص الغريب الذي أعتبره العديد من الشراح كنص مؤسس سواء للأنطولوجيا حسب البعض لتأكيده على ثبات الكينونة أو للفيزياء الطبيعية أو علم الكونيات في محاولته تحديد أسس العالم المرئي المحسوس في الجزء الثاني من النص حسب البعض الآخر، وفي السنوات الأخيرة ذهب البعض إلى إعتباره مؤسس نظرية المعرفة أو الإبيستيمولوجيا كما سنرى لاحقا.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية نص بارمينيدس
-
بقية الإحتمالات
-
خطايا الآلهة
-
في الطبيعة، النص المتبقي
-
الطريق إلى إيثاكا
-
قصيدة بارمينيدس - بقية
-
قصيدة بارمينيدس
-
المجتمع الفاضل
-
الثابت والمتحول عند بارمينيدس
-
خليبنيكوف واللغة المستحيلة
-
هاسبارا أو فلسفة إسرائيل الإعلامية -٣
-
المشروع الوجودي
-
جثت الكلمات المبقورة
-
العنصرية والخوف من الغرباء
-
هاسبارا - فلسفة إسرائيل الإعلامية -٢
-
هاسبارا - فلسفة إسرائيل الإعلامية
-
الذاكرة
-
الرسالة الأخيرة
-
جذور المقاومة والإرهاب
-
مهزلة القانون الدولي ومجلس الأمن
المزيد.....
-
وصول سجناء فلسطينيين مفرج عنهم إلى الضفة.. ونقل بعضهم للمستش
...
-
أول تعليق من نتنياهو بعد إطلاق سراح 3 رهائن جدد من غزة
-
سوريا.. قتلى وجرحى بانفجار سيارة مفخخة قرب -دوار السفينة- وس
...
-
المرشح الرئاسي في رومانيا يؤكد أن سياسات كييف تؤجج الصراع
-
السودان.. مئات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صابر
...
-
القائد العام للقوات الأوكرانية يشير إلى ضعف التدريب النفسي ل
...
-
موسكو: من المثير للاستياء أن غوتيريش لم يذكر خسائر الاتحاد ا
...
-
محكمة بريطانية تسمح بمراجعة قرار الحكومة بيع مكونات لمقاتلات
...
-
فيديو: هكذا سلمت حماس الرهينة الأمريكي الإسرائيلي كيث سيغل ف
...
-
دراسة دولية: اتكال ألمانيا على نجاحاتها السابقة أوقعها في مأ
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|