|
ليبراليون جدد أم مكارثيون جدد
صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 1745 - 2006 / 11 / 25 - 11:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ أحداث سبتمبر 2001 يواجه العالم العربي حربا شرسة، تُوجت بالغزو العسكري لأفغانستان والعراق. ومع احتلال العراق مارس 2003 تصاعدت حدة الأصوات المنادية بتعميم ما حدث في أفغانستان والعراق على المنطقة العربية. لقد بدأت هذه الأصوات على استحياء منذ بواكير العقد الأخير من القرن العشرين، مستفيدة من وجودها في المجتمعات الغربية، أمريكا على وجه الخصوص، ومن حصولها على الجنسية الأمريكية في أغلب الأحوال، ومسترشدة ومستعينة بكتابات فؤاد عجمي وبرنارد لويس والكثيرين من كتاب اليمين الأمريكي المتطرف. لقد لعبت الكثير من الأقلام العربية المهاجرة دورا كبيرا في حض أمريكا وتشجيعها على القيام بغزو واحتلال العراق، بل إن الكثير من هذه الأقلام قد ساهم في تكوين رأى خاطئ لدى الإدارة الإمريكية تجاه امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وهو نفس السيناريو الذي يحاول البعض أن يرسمه الآن عن أوضاع الأقليات في العالم العربي، محاولين من خلال ذلك الضغط على الحكومات العربية من ناحية، واستجداء التدخل الأجنبي من ناحية أخرى. وإذا كان أحد العراقيين الأمريكيين قد قالها صراحة بأن أصوات المدافع الأمريكية على بغداد كانت مثل السيمفونية بالنسبة له، فلنا أن نتوقع طبيعة وسمات كتاباته الممتلئة بالكراهية والكذب في مرحلة ما قبل غزو واحتلال العراق.
مع الضعف العربي الراهن المرتبط بالهيمنة الأمريكية شبه الكاملة على المنطقة العربية، ومع ما وفرته الإنترنت من امكانيات واسعة للذيوع والانتشار، تصاعدت أقلام هذه المجموعة من العرب المهاجرين وغيرهم من العرب المقيمين بيننا، حيث انتشرت مقالاتهم وبياناتهم على صفحات الجرائد والإنترنت وعلى شاشات القنوات الفضائية المختلفة، مرة تحت شعار ما يسمى بالليبراليين الجدد، ومرة أخرى تحت بند حماية الأقليات في العالم العربي، ومرة ثالثة تحت شعار حقوق المرأة والعمل على نجدتها وانقاذها من براثن الرجل الشرقي المتخلف، ومرة رابعة تحت شعار حقوق الإنسان... إلخ من مثل هذه الشعارات المختلفة التي لن ينضب معين ذاكرتهم المثقوبة عن إيجادها والتعبير عنها.
واللافت للنظر هنا أن العالم العربي يواجه، ربما لأول مرة وبمثل هذا الحجم، هجوما خارجيا من قبل أقلام تصف نفسها بالعربية، وتدعي الانتماء لبلاد عربية بعينها. واللافت للنظر أيضا أن حجم العداء والكراهية الموجهان للعالم العربي من قبل هذه الأقلام يتجاوز في معظم الأحيان حجم العداء والكراهية الذي تنطوي عليه الأقلام الغربية التي يتصف الكثير منها بالموضوعية وبالتعقل، وفي أحيان غير قليلة بالنزاهة. ومن الطبيعي أن تنتشر الأقلام العربية المحلية الناقدة للأوضاع العربية الراهنة مطالبة بالتغيير والإصلاح والديمقراطية والدفاع عن حقوق الأقليات والمرأة والمعتقدات، لكن اللافت للنظر هنا هو الاشتباك الحادث الآن بين بعض هذه الأقلام الداخلية والأقلام الخارجية. وعلى ما يبدو أن هذه الأقلام الداخلية قد وجدت ضالتها وربما حمايتها في هذه الأقلام الخارجية الموتورة، بحيث يمكن القول بأن جانب الكراهية غير المعلن بوضوح وبفجاجة من جانب كتابات الداخل تُكمله كتابات الخارج الأكثر شراسة وحدة وكراهية. ويمكن القول بوجود نوع من توزيع الأدوار بين أقلام الداخل وأقلام الخارج ممن يصفون أنفسهم بالليبراليين الجدد، وهو ما يتضح بشكل كبير عند تناول أحوال الأقليات في العالم العربي، وهو الأمر الذي يستدعي الوقوف عند ملامح خطاب هؤلاء الكتاب وعلى توجهاتهم الاجتماعية والسياسية من ناحية، ومحاولة رصد حجم تأثيراتهم في العالم العربي من ناحية أخرى.
1- معظم هذه الأقلام من المهاجرين العرب إلى أمريكا وأوروبا منذ سنوات طويلة، وهو الأمر الذي يكشف عن انقطاع زمني ومعيشي وحضاري مع أوطانهم التي انطلقوا منها، ناهيك عن نتاجاتهم من أبناء الجيل الثاني والثالث والرابع، حيث تتمثل وسيلة المعرفة شبه الوحيدة عن أوطانهم فيما يصلهم من كتابات سواء في صورتها الغربية أو في صورتها العربية الناقدة والكارهة في أغلب الأحيان. ساعدت الإنترنت أيضا على التواصل بين بعض كتاب الداخل المنطوين على نزعات الكراهية لأوطانهم وبين كتاب الخارج، بحيث أصبح كتاب الداخل مجرد مرآة مشوهة غالبا لما يحدث في أوطانهم.
ويمكن القول هنا بأن العالم الذي يبنيه كتاب الخارج عن أوطانهم هو عالم شبه متخيل لا تغذيه ولا تشكله عناصر الالتحام وممارسات الحياة اليومية وأعبائها التي يواجهها أبناء الداخل. فهم يكونون صورا مبتورة في أغلب الأحيان عن عوالم أوطانهم السابقة. لا يعني ذلك أننا نرسم صورة وردية لما نواجهه في عالمنا العربي، فالمقام لا يتسع هنا لسرد الحجم الهائل من المشكلات والقضايا المصيرية منها وغير المصيرية التي نواجهها. لكننا نعايش هذه المشكلات يوما بيوم، نواجهها يوما بيوم، نكابد في سبيلها مواجهات السلطة مع ما يستتبعه ذلك يوما بيوم. ويمكن للمرء ملاحظة البيان الصادر عن ما يسمى بالليبراليين الجدد في العالم العربي والتوقيعات التي حاز عليها؛ فمعظم أسماء الموقعين على هذا البيان هم من المقيمين في أمريكا وأوروبا. ويمكن تشبيه هؤلاء المهاجرين بمثل هؤلاء الذين يغادرون أوطانهم بمشاعر الفقر والحقد على بني جلدتهم، ثم يعودون بعد فترة وهم أثرياء، حيث يمارسون أمراضهم على أقاربهم وجيرانهم، وينفثون الأحقاد الدفينة لديهم بعد طول غياب. ولعل ذلك ما يفسر حالة الحقد الجارفة التي تمتلئ بها كتاباتهم تجاه عالمنا العربي، الأمر الذي يستدعي ضرورة التحليل النفسي للكثير من هؤلاء المهاجرين أكثر من أى تحليل آخر.
2- يلفت النظر هنا محدودية عدد ما يسمى بالليبراليين الجدد سواء من أصحاب جوازات السفر الثنائية أو الثلاثية، أو من هؤلاء الكارهين الغلابة الذين مازالوا يحوزون على جواز سفر عربي وحيد، قياسا لحجم الانتشار الهائل والضخم لهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وبشكل خاص الإنترنت. فعلى الموقع الخاص بما يسمى بالليبراليين الجدد ما يشير إلى أن عدد الموقعين على ما يسمى ببيان الليبراليين الجدد قد وصل إلى الثلاثة آلاف فرد، ونقول نحن لنفرض أن العدد وصل إلى المئة ألف هل يعني ذلك أنهم يعبرون عن الشارع العربي وتياراته الغالبة، ولنفرض أن العدد وصل إلى المليون، هل يعطيهم هذا الحق في محاكمة العرب والتحدث باسمهم.
ما يحدث في الواقع هو قيام البعض من كتاب الداخل والخارج بالكتابة ضد العالم العربي، ثم يليه آخر وآخر من نفس العينة، ثم نفاجئ بعد ذلك بانتشار هذه الكتابات عبر العديد من المواقع والصحف بشكل لافت للنظر. وهو ما يستدعي التساؤل هنا عن طبيعة بعض هذه المواقع والصحف وشكل تمويلها والقائمين عليها وتوجهاتهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض هذه المواقع التي تدعي الحيادية والموضوعية في نقل الأخبار تقتصر في مجمل ما تنشره على ما يحرض على الكراهية بين أبناء العالم العربي، وما يثير الفتن والأحقاد بين أبناء الأقليات العربية. واللافت للنظر هنا وارتباطا مع ظاهرة ما يسمى بالليبراليين الجدد هو شيوع ما يمكن تسميته بالمراسل الأيديولوجي في عدد غير قليل من الصحف والمواقع العربية، وهو المراسل الغير معني بأي شيئ سوى قضيته هو، فلاتعنيه الحقيقة من قريب أو من بعيد، كل ما يعنيه هو الحديث عن همومه الشخصية وهموم أبناء جلدته. وفي أحد المواقع التي تدعي الحيادية والموضوعية والاهتمام بالمستقبل الإنترنتي، نجد العديد من هؤلاء المراسلين الأيديولوجيين الذين ليس لهم من هم سوى نقد العالم العربي والإسلامي، والحديث المتواصل والملح والممجوج عن مشاكل الأقليات، لدرجة أن المراسل الصحفي لهذا الموقع في مصر يكاد لا ينقل شيئا عن مصر سوى ما يتعلق بمشاكل الأقباط المصريين، كما أن المراسلة الفنية لهذا الموقع ليس لها من هم سوى الإشادة بالفنانات اللبنانيات، ودورهم التنويري والاجتماعي وربما السياسي في العالم العربي. ورغم حدة نقد هؤلاء الليبراليين للعرب وللمسلمين فإنهم أيضا يحتفظون بولاءات خاصة مع بعض الدول العربية الممولة غالبا لمواقعهم وصحافاتهم. ففي الكثير من المواقع يصعب أن يجد المرء نقدا لدول عربية بعينها مقابل النقد الذي يكيلونه ليل نهار لدول بعينها وأشخاص بعينهم.
3- يتجاهل ما يسمى بالليبراليين الجدد، وهم المقيمون في الغرب والمطلعون على تراثه الحضاري، أن تغيير المجتمعات لا يتم هكذا بشكل نخبوي بحت، وعبر مجموعة من المقالات المتناثرة هنا وهناك، وعبر استعداء الآخر الغربي ضد أوطانهم. من الممكن أن تحدث كتاباتهم، تحت وطأة الضعف العربي الراهن، بعض خربشات التغيير الفوقية المتخيلة، لكنه ذلك النوع من التغيير العابر، الذي يترك بعض البثور على الجلد، أكثر مما يتجاوز ذلك إلى اللحم والعظم. فهم يتخيلون أن العالم العربي يمكن أن يتغير من خلال الإنترنت، ومواجهة المقدس والديني، وتغيير الأنظمة الحاكمة. لا يعني ذلك أننا نريد للعالم العربي أن يقطع العديد من القرون حتى يتطور أو أن يمر بنفس المراحل التي مرت بها أوروبا لكى يصل إلى ما وصلت إليه، لكننا نقصد أن هناك العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يجب التفكير فيها بعقلانية وثورية في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي يتجاهله هؤلاء الليبراليون. فكيف يمكن الحديث عن التغيير الجذري في ظل نسب الأمية المرتفعة في الكثير من المجتمعات العربية، وكيف يمكننا أن نصل لتحقيق مستويات عالية من حقوق المرأة في ظل الممارسات السياسية القمعية التي تطال كل فئات المجتمع رجالا ونساءا وأطفالا، أغلبية وأقليات.
واللافت للنظر هنا، أن هؤلاء الليبراليين الجدد، وبخبث شديد، يداري على انقطاعاتهم البنيوية بمجتمعاتهم التي هاجروا منها، يصنفون كتاباتهم على أنها تمثل امتدادا لليبرالية الأولي في بواكير القرن العشرين. فهم يعتبرون أنفسهم امتدادا لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وفرح أنطون وطه حسين ومحمد عبده ومحمد حسين هيكل، متناسين أن هؤلاء امتزجوا بأوطانهم، وعبروا عن قناعاتهم وهم بين أراضيها، ودفعوا أثمانا غالية نتيجة لهذه الآراء، سواء من خلال قطع لقمة العيش أو من الإحباطات النفسية والمجتمعية. كما أننا ما زلنا نتذكر هؤلاء حتى الآن سواء بالمدح أو بالذم، أما أنتم فسوف تهيمون على صفحات الإنترنت، موجات متناثرة واحدة تلو أخرى مثل الملايين من الصفحات المتناثرة هنا وهناك. ومرة أخرى فهم يشبهون ذلك الثري القادم من الخارج الذي يبحث له عن عائلة أو قبيلة أو أقلية ينتمي لها، ويتماحك بها.
4- وطالما أن خطاب ما يسمى بالليبراليين الجدد يرتكز منذ بداية ظهوره وحتى الآن على التجاهل وغض الطرف عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي مرت وتمر بها المجتمعات العربية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، فإن أصحابه لا يجدون أية غضاضة ولا يشعرون بأى خجل في بث طروحاتهم العدوانية من جانب، والمجافية للحقيقة من جانب آخر. فحينما تغلب الأيديولوجية تنمحي البصيرة، وحينما تسود العواطف تتصدر الاتهامات، وحينما تهيمن النوازع يغيب الضمير.
يشتمل خطاب ما يسمى بالليبراليين الجدد على قاموس شتائم يندر أن نجد مثيلا له في الساحة العربية المعاصرة، بحيث يمكن وصف هذا الخطاب بليبرالية الردح لا أكثر ولا اقل. فالمسلمون ارهابيون، والعرب قد أصبحوا أسوأ جماعة بشرية في التاريخ المعاصر، والمقاومة فعل فاضح، وحزب الله تنظيم ارهابي، والإخوان المسلمون غير مضمونين في ادعاءاتهم عن الديمقراطية، وأنهم مثل الكلب الذي لا ينعدل له ذنب، وأن الحضارة الإسلامية لم تقدم طوال تاريخها سوى القمع والقهر والقتل. بل إن الأمر يصل بهم إلى اعتماد شروحات داروينية عنصرية تسم العرب بالقصور العقلي عن متابعة ما يحدث حولهم من عولمة وتقدم وتطور. فالعرب مسؤولون عن هزائمهم المتتالية، وأنهم لم يغتنموا فرص السلام المختلفة التي عُرضت عليهم، وأنهم غير واقعيين في تعاملاتهم السياسية، وأنهم متغطرسون، توجههم وتحركهم معتقداتهم الدينية التي عفا عليها الزمن، وبأن ما يصيبهم من كوارث هو من سوء أعمالهم، ونواياهم الخبيثة، وبأنهم متخلفون غير قادرين على استيعاب المتغيرات التكنولوجية الحديثة. يقدم خطاب ما يسمى بالليبراليين الجدد العرب على أنهم كتلة واحدة متجانسة لا يراعى فيها الاختلافات الحضارية والتاريخية، كما يقدمهم على أنهم كتلة بيولوجية تحركها جينات الكراهية والعنف والاستئصال والقتل والتدمير. والخطورة التي ينطوي عليها هذه الخطاب أنه لا يستند إلى التاريخ وأحداثه، فبجرة قلم تصبح الألف وخمسمائة سنة من عمر الحضارة العربية الإسلامية ظلام في ظلام، والمثير للدهشة أن الكتابات الغربية في أشد حمولاتها الأيديولوجية لم تصل إلى هذا المستوى من تعمد تحقيرنا وامتهاننا، بل إن البعض منها قد أشاد بالمنجزات الحضارية الإسلامية والعربية.
وفي هذا السياق، فإن النماذج التي يضربها هؤلاء الليبراليون عن العرب الناجحين هى النماذج المقيمة في الغرب، أما هؤلاء المقيمون في العالم العربي فليس أمامهم سوى السجون والمعتقلات والقمع. لم يذكر أيا من هؤلاء نجيب محفوظ على سبيل المثال إلا والسكين في عنقه، لم يذكرنا أيا منهم بأنه قد حصل على جائزة نوبل، ولم يكتب أيا منهم شيئا عن رواياته التي ربما لا يعرف عنها أى شيئ. لم يتناول أيا من هؤلاء نصر حامد أبا زيد إلا وهو مطارد من قبل الإسلاميين. ولم يصور أيا من هؤلاء أقباط مصر إلا وهم مطاردين ومشردين ومنبوذين، لم يتحدث أحد عن الكنائس التي تُبنى في كل مكان في مصر، وعن اطلاق قناة فضائية لهم. وللأسف فإن خطاب ما يسمى بالليبراليين الجدد لا يرى في عالمنا العربي سوى مظاهر القتل والإحباط والتدمير والقمع والبربرية. ولعل هذا التوجه ينبع من انكسار ذاتي؛ فمن ناحية لن يستطيع هؤلاء المهاجرون أن يصبحوا مهما حاولوا مواطنين من الدرجة الأولى في المجتمعات الغربية، ومن ناحية أخرى فإنه من غير المتصور أن يعودوا إلى أوطانهم الأولى مرة أخرى، ولأنهم لا يستطيعون أن يوجهوا سهام نقدهم إلى بلاد المهجر، فإنهم يوجهونها نحو أوطانهم الأصلية. وفي هذا السياق، يعجز المرء أن يجد نقدا واحدا في كتابات هؤلاء الليبراليين الجدد موجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو إلى أي من الدول الأوروبية، رغم الانتهاكات الهائلة التي حدثت ومازالت تحدث بين ربوع هذه الدول وبشكل خاص ضد الأقليات المهاجرة. وما حدث في فرنسا أخيرا يمنحنا مثالا جليا على الانتهاكات الممارسة ضد الأقليات العربية المسلمة المهاجرة، وعلى الصمت المطبق الذي أصاب هؤلاء الليبراليين الجدد تجاه نقد فرنسا وممارساتها القمعية.
5- من أسف أننا نشهد تصاعدا كبيرا لهذا الخطاب الذي يدعي الليبرالية، وهو أبعد ما يكون عن الليبرالية القائمة في جوهرها على التسامح وحرية الفكر والحوار وعدم تحقير الآخر المخالف في الرأى والتوجهات، حيث وصل الأمر بدعاة هذا الخطاب إلى استعداء الحكومات والأنظمة العربية على المخالفين لهم في الرأى والتوجهات، وهو الأمر الذي جعلني أصف خطاب هؤلاء بالمكارثية العربية الجديدة. ففي الخمسينيات، وفي حمأة الحرب الباردة بين أمريكا والإتحاد السوفييتي، وصل الهوس بجوزيف ريموند مكارثي النائب في الكونجرس الأمريكي آنذاك عن ولاية وسكونسن، إلى توجيه العديد من التهم لبعض صناع القرار الأمريكي، وللمفكرين، وللممثلين، بإيمانهم بالشيوعية وبقبولهم لها، وفيما بعد تم انشاء لجان استماع للتحقيق مع هؤلاء المتهمين، الأمر الذي أفقد الكثيرين منهم وظائفهم وأفضى بهم إلى الشارع لا حول لهم ولا قوة.
وعلى ما يبدو أن هؤلاء الليبراليين الجدد لم يكفهم ما يتهموننا به ليل نهار، ولم يكفهم استدعاء القوات الأمريكية لمهاجمتنا، ولم يكفهم دعواتهم المتواصلة لإنشاء محاكم دولية لمحاكمة الشيوخ والمفكرين العرب المخالفين لهم في المشارب والتوجهات، بل إنهم بدأوا حملتهم الشعواء في استعداء السلطات والأنظمة العربية علينا. فبعد أحداث عمان الدامية وجه الكثيرون منهم خطابهم إلى عاهل الأردن، وإلى غيره من الحكام العرب بضرورة قمع وتقييد من تسول له نفسه الحديث عن المقاومة في العراق، أو من ينتقد أمريكا وبالتبعية اسرائيل. لقد امتدت تحريضاتهم إلى ضرورة قمع وغلق بعض القنوات الفضائية ممن تتعارض مع توجهاتهم، وتقف موقف المعارضة والمقاومة من الاحتلال الأمريكي السافر للعراق، ومن الانتهاكات الإسرائيلية اليومية ضد الفلسطينيين، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أننا أمام مكارثية عربية في أشد توجهاتها عدائية وكراهية لكل من يخالفها الرأى والمشارب والتوجهات.
علينا أن نتوقع أن هذا الخطاب لن يتواني عن فعل أى شيئ في سبيل تحقيق مآربه، فهو أولا لن يخسر شيئا، حيث يتخندق في الخارج، أو يخفي نواياه في الداخل، وثانيا فهو يعلم طبيعة الظروف الراهنة التي يواجهها العالم العربي الآن، وهو ما يلقي العبء الأكبر على الشرفاء في كافة أنحاء العالم العربي، وهم بالمناسبة بالملايين وليسوا بالآلاف، على ضرورة العمل الجاد والمخلص من أجل فضح هذا الخطاب الموتور من جانب، وتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من جانب آخر. فنحن ليس لنا في النهاية سوى هذه الأرض وهذه الأوطان، كما أن أبناءنا لن يعرفوا غيرها، ولن يتحدثوا بغير لغتها.
د. صالح سليمان عبدالعظيم كاتب مصري [email protected]
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تفعيل الكراهية
-
للمرأة الفلسطينية كل الإجلال
-
قراءة في بيان الليبرالية الجديدة
-
الشخصية العربية المعاصرة، قراءة أولية
-
11 سؤال عن 11 سبتمبر
-
إدوارد سعيد ونقد -الاستشراق-
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|