أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقافة مقتطفات 22















المزيد.....


هواجس في الثقافة مقتطفات 22


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 7859 - 2024 / 1 / 17 - 19:25
المحور: الادب والفن
    


عملياً, تعيش الثورة في احشاء المجتمع, في بنيته الداخلية مدة طويلة من الزمن, كصدام صامت بين القديم والجديد, بين القوى القديمة التي أضحت عائقًا, ليلاً عاجزًا أمام الانفتاح على مسارات الحرية والضرورة, تدفعها القوى الاجتماعية الجديدة للخروج من الرحم القديم لإنتاج واقع اجتماعي اقتصادي سياسي جديد.
إذاً, تقوم الثورة قبل قيامها الفعلي بزمن طويلة. تبقى قلقة, متوترة, لها مظاهر تشير إليها بشكل صامت من خلال الظلم الذي تمارسه القوى القديمة عبر ايديولوجيتها وسجونها واقتصادها وأزماتها المستمرة وعدم قدرتها على فتح مسار جديد, لبناء عالم جديد.
الثورات هي من الأحداث الفاصلة في التاريخ, تحاول أن ترتق جرحه العميق. إنها تزعزع التاريخ أو محاولة تغيير دمه أو خموله. هي جنين في احشاءه القديمة يريد أن يخرج إلى الضوء بولادة طبيعية أو عملية قيصرية وأحيانا كثيرة يخرج المولود ميتا لعدم اكتمال شروط الحياة فيه. عمليا, الثورة فن ديناميكي من أجل ديمومة الحياة والارتقاء بها من رتابة الحياة, الواقع, وإيقاعه القديم, يجدله الناس في لا شعورهم الجمعي, لبناء منظومة حياتيه جديدة, وواقع جديد. من أجل قلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب وقلع أو تكنيس قوى ماضوية أضحت عائقا أمام تطورات الحياة واستحقاقات الظروف الداخلية والخارجية في الدولة الواحدة والشعب الواحد. أغلب حكام منطقة الشرق الأوسط وتركيا وإيران وأفغانستان تحولوا إلى مجرد خدام لإدارة حروب الأخرين على أراضيهم أو أراضي غيرهم, في محاولة طمس تاريخ ومعالم هذه المجتمعات ودمار مستقبل أبناءها. إن ما يحدث هو مجرد حرب للحرب, دمار لمجرد الدمار, وتخريب لمجرد التخريب لحيوات الناس وأحلامهم وأمالهم في حياة مستقرة وأمنة. المرضى, الساديون الذين يديرون هذا العالم يتسابقون بتقديم الاقتراحات السادية لتفتيت المجتمعات البشرية والعمران والتاريخ لتعويم مصالح الاحتكارات العالمية المتداخلة. إنهم يظنون أن هذا الطريق هو الانجع للوصول إلى الثروة والمكانة والجاه والنفوذ دون أي احساس بالمسؤولية الأخلاقية أو الإنسانية, ودون الالتفات إلى الوراء, أو طرح السؤال: ـ وماذا بعد الدمار والخراب والحرب, إلى أين سنصل؟

قرية الشيخ عجيل بالقرب من القامشلي.
كان لدى بيت عمتي في قرية الشيخ عجيل دراجة هوائية خضراء اللون يستخدمها هوسيب في ذهابه إلى المدرسة في مدينة القامشلي وايابه.. نقطع الجسر الصغير على رافد الجغجغ ونتوغل في العمق. ينفتح المكان على الكروم والفضاء والأشجار. أكثر ما كان يثيرني هو برك المكن النقية كنبع ماء زلال. نلعب هناك مع السلاحف, نركض بين البساتين. احدى المرات ركبت في المقعد الخلفي للدراجة الهوائية. وابن عمتي وانيس المقيم في القامشلي جالسًا في الأمام وزافين يقودها. كان هناك فائض من الماء, نثره المطر على ضفاف الحياة فشكل تجمعًا كصور متماوجة. قاد زافين الدراجة داخل هذه الأكوام المائية البريئة ناثرًا الرذاذ المتناثر في الفضاء. كنا نضحك ونصرخ من الهياج والفرح والجمال. مسكت المعقد الذي يجلس عليه زافين بقوة حتى اتوازن, ولا اسقط في برك الماء العائمة الذي شكلها المطر العابر. وضممت رجلي بقوة إلى داخل الدولاب الخلفي. انحشرت أقدامي داخل العجلة مما أدى إلى تكسر اسياخ الدراجة وتقطيع لحم رجلي وجزء من العظم. تعطلت الدراجة, سقطنا في الماء وتبللت ثيابنا وأجسادنا. بكيت بمرارة من الوجع. ونزف الدم مدرارًا. حملني زافين على كتفه ومضى بي إلى البيت. تمزق الكاحل وتفتت. والمسافة للوصول إلى القامشلي إلى وقت طويل، ولا ثقة للناس بالطب الحديث.
جهزوا العربة والبغال وغطوني ووضعوني فيها. أخذوني إلى قرية دبانة, إلى الطبيب العربي, جدي. مسك رجلي وقال:
ـ أنت رجل يا آرم، منذ ولدت توسمت بك الخير. أنت من سلالتنا, رجلًا قويًا لا يخاف.
انظر، لقد قتل أولادي أمامي على يد الأتراك ولم أبك. أبوك رجل رقيق جدًا, كالنساء يبكي لأي مشهد حتى إلى كان مشهد موت كلب عابر. اما أنت فمثلنا. عليك أن تتوقف عن البكاء. المشكلة ليست كبيرة. تمزق الجلد وتفتت القليل من عظم الكاحل. الأن سأعالجك، بيد أني أطلب منك أن لا تبكي.
طلب جدي من أولاد عمتي أن يمسكوني. جلب أدواته الطبية, حشائش وأخشاب صغيرة ومتوسطة وربطهم برجلي. وبعد أن وضع الحشائش على الجرح قال:
بضع أيام وستطيب. ستعود مثل الحصان. من المعيب أن يبكي الرجل. سأصنع منك راعي غنم ناجح أو فلاح ماهر. والراعي أو الفلاح رجال شجعان, أوفياء للطبيعة والأرض والكائنات اللطيفة، ليس مثل والدك الضعيف الذي يركب الحديد التي يقودها الجن. أنت ابن الطبيعة, والقيم الشهمة والنظيفة. لا تذهب إلى المدنية, المكان الحرام حيث يبول الناس في بيوتهم, في الأماكن الضيقة كالسجن. توقف حالًا عن البكاء، قلت له :
ـ الجرح يؤلمني جدًا يا جدي.
ـ الرصاصات التي اخترقت جسدي لم تجعلني اصرخ أو اتوه. كن سبعًا مثل جدك. تكابر على الألم حتى تكون قويًا كالرجال
كان جدي يخاف الله والحكومة. لأنه يعتبرهما صنوان, إرادة في إرادة. الله وضع سره في السلطان ولهذا على الناس طاعته دون سؤال أو استفسار. ولم يكن يعرف القراءة والكتابة ويحتقر المدرسة ويعتبرها مضيعة للوقت والجهد ومخالفة لإرادة الله الذي يقدس العمل.
عندما كبرت قليلًا سألته:
ـ جدي.
ـ ماذا يا ابني.
ـ لماذا قتل الاتراك الكثير من أولادك وعائلتك, وبقية الشعب الارمني.
ـ قالوا لنا أننا كفار, لا نخاف الله ووجب قتلنا.
ـ هل قاومتم السلطان؟
ـ اعوذ بالله. كيف نقاوم السطان وهو ظل الله على الأرض.
ـ يقولون أنكم كنتم متمردين على السلطان والحكومة.
اغلبية الأرمن في الاناضول كانوا مواطنين مسالمين تحت حماية السلطان العثماني. وكنا نعمل باخلاص في الأرض ونتعاون مع بعضنا, نحن والأكراد والأتراك
ـ هل قاتل أي فرد من عائلتنا الجيش أو الحكومة التركية؟
ـ اعوذ بالله. لم يسبق لنا أن رفعنا عصا في وجههم. في منطقتنا والمناطق المجاورة لم يرفع اي كائن السلاح أو تكلم اي كلمة على الدولة أو السلطان أو الحكومة
إذًا لماذا قتلكم الأتراك؟ يقولون عنكم أنكم الأمة المخلصة. وهل يقتلون المخلصين لأنهم كفار؟ لم احصل على إجابة تروي الظمأ للمعرفة من جدي. لم يكن يعرف إلا الأرض والغنم والطب العربي والبناء وصناعة المحراث الروماني وتحضير الأعشاب للطبابة وسائس خيل ومصلح نعل الخيول.
قلت له, بينما كان يجريجر قدميه بعد أن تجاوز المائة عام، وفتقته تصل إلى ركبته وظهره منحني ويتكئ على عكاز. بشعره الأبيض وشواربه البيض.
هل اندمجت في دبانة.
ـ لا.. لا يمكن أن أنسى سعرت/ باطمان حاليًا/ ونبع الماء البارد والكروم. لا تفتح الجروح يا ابني. لقد أخذوا أرضي. لقد زرعت الكروم والأشجار بيدي. اليوم اثمروا. ولم نأكل منها.
هل تحب أن تعود إلى هناك
إن ازور قبر أبي وأولادي الذي قطعوا رؤوسهم أمام عيني، لم يبك أمامي. بقي متوازنًا, قويًا بيد ان الحزن كان نارًا كاوية يأكل لحمه وروحه وقلبه. وأضاف:
ـ لقد ضاع العمر يا ولدي, ولا اريد أن أرى الغريب يسكن بيتي وضيعتي وارضي ويأكل بالرغم عني من الثمار التي زرعتها بيدي. وشد على قبضة يده بقوة. وقال:
لا أريد أن أرى من اغتصب أرضي أمام عيني يزرعها أو يفلحها. سأبقى خاضعًا لإرادة الله ورحمته وامتحانه. وبطريقة استفزازيه لا تخلوا من سخرية سألته:
ـ هل اشتغلت في السياسة سابقًا؟
ـ سمعت بهذه الكلمة من قبل. بيد أني مؤمن بالله, والسياسة رجس من عمل الشيطان. لم اترك ضيعتي اكثر من مسافة قصيرة لا تتجاوز الثلاثين كيلو مترًا لمعالجة كسر اصاب ابن القائمقام. أنا رجل مربوط بالفصول والريح والحشائش. أقود البغال واساعد من يحتاج. حلمي أن أرضي الله, مستقيًا انفذ وصاياه بأمانة.
ـ ألست متذمرًا لما حدث لكم, للأرمن؟
ـ لا أعرف لماذا ذبحنا الاتراك. لست بكافر. ولا أملك المعرفة للاسباب التي ادت لفناءنا. كيف ساتذمر ولم أفعل أي شيء يخالف إرادة الله. حساب القاتل عند الله. ضحكت طويلًا من كلام جدي, بساطته. رقة قلبه رغم انه يدعي الخشونة. قلت في نفسي
ـ البساطة تغني القلب, تزوده بالراحة النفسية وتبعده عن الهموم وأوجاع الرأس. لا يتحفز أو يستنفر ولا يخاف. الضربة تأتيه مرة واحدة. ضربة قاضية وتنهي جميع الأرقام والرقيات التي كان يتلحف بها.
عاش عالمه الجميل دون مزيج من عقد ورؤى حقيقة للواقع وما يدور حوله. لكني لم أفهم كرهه لوالدي، أو كره جدي لوالدي أيضًا، ربما لأنه رحل للمدينة. لماذا لم يهضموا بعده عنهم ولم يهضموا عمله وتمرده على قيم وعقلية الفلاح وعزلته وتكرار فصول حياته كما هي.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 21 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 20
- هواجس في الثقافة مقتطفات 19
- هواجس في الثقافة مقتطفات 18
- هواجس في الثقافة مقتطفات 17
- هواجس في الثقافة مقتطفات 16
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 15 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 14
- هواجس في الثقافة مقتطفات 13
- هواجس في الثقافة مقتطفات 12
- هواجس في الثقافة مقتطفات 11
- هواجس في الثقافة مقتطفات 10
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 9 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 8
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 7 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 6
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 5 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 4 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 3
- هواجس في الثقافة مقتطفات 2


المزيد.....




- مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي ...
- تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر ...
- تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها ...
- مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي ...
- السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم ...
- إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال ...
- اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
- عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
- موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن ...
- زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقافة مقتطفات 22