|
سياسة تعليمية لاستعمار العقول
أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
الحوار المتمدن-العدد: 7846 - 2024 / 1 / 4 - 02:54
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
برابهات باتنايك
إن الهيمنة الإمبريالية على العالم الثالث لا تُمارس من خلال الأسلحة والقوة الاقتصادية فقط، بل أيضًا من خلال هيمنة الأفكار، وذلك من خلال جعل الضحايا يرون العالم بالطريقة التي تريدهم الإمبريالية أن يروه بها. لذا فإن الشرط الأساسي للحرية في العالم الثالث هو التخلص من استعمار العقل هذا، والبحث عن الحقيقة فيما وراء تشويهات الإمبريالية. وكانت حركة الصراع المعادي للاستعمار تدرك ذلك؛ في الواقع يبدأ النضال مع بزوغ فجر هذا الوعي. وبما أن المشروع الإمبريالي لا ينتهي بإنهاء الاستعمار السياسي الرسمي، فإن نظام التعليم في المستعمرات السابقة المستقلة حديثًا يجب أن يهدف باستمرار إلى تجاوز أكاذيب الإمبريالية.
وهذا يتطلب أن تكون محتويات المقررات والمناهج الدراسية في المؤسسات التعليمية الهندية مختلفة عن تلك الموجودة في مؤسسات [راسمالية] المركز . وهذا واضح في حالة العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث يستحيل فهم حاضر البلاد دون النظر إلى ماضيها الاستعماري ؛ وتتجنب الجامعات الكبرى في المركز إقامة هذا الارتباط بدقة، وتعزو الحالة الراهنة من التخلف التنموي في البلاد إلى جميع أنواع العوامل الخارجية مثل الكسل، والافتقار إلى المشاريع، والخرافات، وقبل كل شيء، النمو السكاني المفرط. ولكن حتى في حالة العلوم الطبيعية، فإن المناهج ومحتويات المقررات الدراسية في جامعات العالم الثالث لا يمكن أن تكون متطابقة مع تلك الموجودة في جامعات المدن الكبرى، ليس لأن نظرية أينشتاين أو فيزياء الكم تحتوي على أي أيديولوجية إمبريالية، ولكن بسبب ان نطاق الاهتمامات العلمية في العالم الثالث ليس بالضرورة هو نفسه ما هو في البلدان المركزية . وفي الواقع، كانت هذه وجهة نظر جي دي بيرنال، العالم والمفكر الماركسي البريطاني، أحد الشخصيات العظيمة في القرن العشرين.
إن الاعتقاد بأن المناهج ومحتويات المقررات الدراسية في جامعات العالم الثالث يجب أن تكون متطابقة مع تلك الموجودة في جامعات بلدان المركز هو في حد ذاته أحد أعراض هيمنة الإمبريالية. كانت سياسة التعليم في الفترة التوجيهية [اقتصاد موجه من قبل الدولة] في الهند تدرك ذلك؛ على الرغم من الإخفاقات الواضحة في نظام التعليم، إلا أنه لا يمكن إلقاء اللوم على سياسة التعليم في تلك الفترة بسبب وجود رؤية خاطئة.
لكن مع الليبرالية الجديدة بدأت الأمور تتغير، مع اندماج البرجوازية الهندية الكبيرة مع رأس المال المالي المعولم، بينما يبحث شباب الطبقة المتوسطة العليا الهندية عن عمل في الشركات المتعددة الجنسيات، حيث أصبحت تنمية البلاد تعتمد على تصدير البضائع إلى الأسواق الخارجية و جذب التمويل الأجنبي والاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلاد. ومن الجدير بالملاحظة أن حتى كبار المسؤولين في الحكومة بدأوا يتحدثون عن إعادة دعوة شركة الهند الشرقية إلى الهند.
وبما أن عصر الليبرالية الجديدة يستلزم هيمنة رأس المال المالي المعولم، وبما أن رأس المال هذا يتطلب تكنوقراطية معولمة (أو على الأقل متجانسة)، فإن التركيز يتحول إلى وجود نظام تعليمي متجانس دوليا لتدريب مثل هذه التكنوقراطية؛ ومن الواضح أن مثل هذا النظام يجب بالضرورة أن يكون منبثقًا من المركز [الرأسمالي].
وهذا يعني نظامًا تعليميًا لا يهدف إلى إنهاء استعمار العقول، بل لإعادة استعمار العقول. ولتحقيق هذه الغاية، قامت حكومة UPA في وقت سابق بدعوة العديد من الجامعات الأجنبية المعروفة لإنشاء فروع لها في الهند، بل وحتى "تبني" بعض الجامعات الهندية التي يمكن تطويرها على شاكلتها. ومن الواضح أن جامعات أكسفورد وهارفارد وكامبريدج تمت دعوتها بموجب هذا المخطط ليس من اجل اتباع مناهج ومحتويات تم إعدادها داخل الهند، ولكن لتكرار ما يتبعونه في بلادهم. كانت الفكرة هي البدء بعملية يتم من خلالها توحيد محتويات المقررات الدراسية والمناهج الدراسية بين الجامعات الهندية وجامعات بلدان المركز، أي التراجع عن المحاولة التي بُذلت سابقًا نحو إنهاء استعمار العقول في الجامعات الهندية. في الواقع، صرح وزير تنمية الموارد البشرية الهندي علنًا في البرلمان أن هدفه هو توفير تعليم جامعة هارفارد داخل الهند حتى لا يضطر الطلاب الهنود إلى السفر إلى الخارج للحصول عليه.
لقد واصلت حكومة NDA إلى حد كبير ما بدأته حكومة UPA. وسياسة التعليم الوطنية التي سنتها تعطي تصريحًا رسميًا لفكرة نظام التعليم الموحد بين الهند و المراكز، وهو ما يعني بالضرورة اعتماد مناهج مشتركة، ومحتويات مقررات و دروس بين الجامعات الهندية و جامعات المركز.
نحو هذا التوحيد اتخذت خطوتين حاسمتين: الأولى هي تدمير تلك الجامعات في الهند التي كانت تقدم مضادًا للخطاب الإمبريالي، والتي جذبت، لهذا السبب بالذات، اهتمامًا عالميًا؛ الأمثلة الواضحة هنا هي جامعة جواهر لال نهرو، وجامعة حيدر أباد المركزية، وجامعة جادافبور، وغيرها.
والآخر هو إجراء المفاوضات تحت ضغط لجنة المنح الجامعية بين الجامعات الهندية الفردية والجامعات الأجنبية لجعل محتويات المقررات في مختلف التخصصات نسخ مطابقة لتلك الموجودة في الأخيرة. التحذير الوحيد هنا هو أن UGC يصر على إدراج بعض المواد حول موضوعات مثل الرياضيات الفيدية في محتويات الدورات الدراسية للجامعات الهندية والتي لا تتفق معها الجامعات الأجنبية دائمًا.
لا شك أنه سيتم التوصل إلى بعض الاتفاق بشأن هذه القضايا في الوقت المناسب، وفي هذه الحالة سيكون للجامعات الهندية مناهج ومحتويات دورات تمثل مزيجًا من مطالب الليبرالية الجديدة ومطالب عناصر الهندوتفا [القومية الهندوسية]. سيكون ذلك بمثابة استعمار للعقول بقشرة "مدى عظمة بلادنا في العصور القديمة". ولا ينبغي للإمبريالية أن تواجه أي مشكلة في ذلك. طالما أن الإمبريالية، وهي ظاهرة حديثة ظهرت مع تطور الرأسمالية، لا يتم تصويرها على أنها نظام استغلالي بل كمهمة حضارية خيرة لبلدان مثل الهند، طالما أن حالة التخلف الحالية في هذه البلدان لا تربط بأي شكل من الأشكال بظاهرة الإمبريالية، وهو ما لن يكون لو كان هناك توحيد في محتويات المقرر الدراسي مع جامعات دول المركز، فإن ما حدث في العصور القديمة لا يشكل أهمية كبيرة للإمبريالية، على الأقل بالنسبة لوجهة النظر الإمبريالية الليبرالية، المختلف عن اليمين المتطرف الذي يفضل خطاب التفوق الأبيض.
هناك اتجاه اخر له نفس النتيجة، اي إعادة استعمار العقول، وهو التخلص من العلوم الاجتماعية والإنسانية تمامًا، أو اختزالها في مواضيع غير مهمة، واستبدالها بمحتويات دراسية "موجهة وظيفيًا" حصريًا ولا تتضمن طرح أسئلة حول المجتمع، مثل الإدارة ومحاسبة التكاليف. في الواقع، لدى كل من عناصر هندوتفا والشركات مصلحة راسخة في هذا، حيث أن كلاهما حريص على أن يكون هناك طلاب يتمحورون حول أنفسهم بشكل حصري ولا يطرحون أسئلة حول مسار التنمية الاجتماعية. ويكتسب هذا الاتجاه أيضاً زخماً في الوقت الحاضر.
إن النظام التعليمي الذي يعيد استعمار العقول هو النظير للتحالف بين الشركات والهندوتفا الذي اكتسب الهيمنة السياسية في البلاد. إن إعادة الاستعمار هذه هي ما تريده الشركات؛ وعناصر الهندوتفا التي لم ترتبط أبدًا بالنضال ضد الاستعمار، والتي لم تفهم أبدًا معنى بناء الأمة، والتي لا تفهم دور وأهمية الإمبريالية، وبالتالي الحاجة إلى إنهاء الاستعمار في العقول، راضية تمامًا طالما يتم الثناء على عظمة الهند القديمة. إن النظام التعليمي الذي يروج للأيديولوجية الإمبريالية مع بعض التوابل الفيدية هو أمر جيد بما فيه الكفاية بالنسبة لهم. وهذا هو بالضبط نظام التعليم الذي تعمل البلاد الآن على بنائه.
ومع ذلك، فإن التحالف بين الشركات والهندوتفا هو استجابة لأزمة الليبرالية الجديدة، عندما يشعر رأس المال الشركاتي بالحاجة إلى التحالف مع عناصر الهندوتفا للحفاظ على هيمنته في مواجهة الأزمة. وبالمثل، فإن سياسة التعليم الوطنية ليست من أجل دفع الأمة إلى الأمام ، بل من أجل إدارة الأزمة من خلال تدمير الفكر، ومنع الناس من طرح الأسئلة والبحث عن الحقيقة. إن "التوجه الوظيفي" الذي تفتخر به هذه السياسة يقتصر فقط على عدد قليل من الأشخاص؛ وفي الواقع فإن أزمة الليبرالية الجديدة تعني عدداً أقل من الوظائف بشكل عام.
وبالتزامن مع ذلك، يستبعد نظام التعليم أعداداً كبيرة من الأشخاص؛ يجب ملئ عقولهم بدلاً من ذلك بالسم الطائفي ضمن خطاب اخر يتجاوز قضايا الحياة المادية، ويجعلهم مجندين محتملين من ذوي الأجور المنخفضة في فرق البلطجية الفاشية.
وبالتالي فإن سياسة التعليم هذه لا يمكن أن تكون إلا مؤقتة، حتى يبدأ الشباب في طرح الأسئلة حول البطالة و الوضع المعيشي السئ الذي أصبح مصيرهم. ومع استكشاف مسار تنمية بديل يتجاوز الرأسمالية الليبرالية الجديدة، سيبدأ أيضًا البحث عن نظام تعليمي يتجاوز ما تسعى حكومة NDA إلى تقديمه؛ وسوف يأتي إنهاء استعمار العقل على جدول الأعمال مرة أخرى، كما حدث خلال النضال ضد الاستعمار.
صحيفة ديمقراطية الشعب الحزب الشيوعي الهندي الماركسي
#أحزاب_اليسار_و_الشيوعية_في_الهند (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيان صحفي صادر عن الحزب الشيوعي الهندي الماركسي
-
دراما OpenAI والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكبيرة
-
العالم لا يريد الحرب
-
معارضة محور الهندوتفا-الصهيوني: دعم فلسطين
-
الاستعمار الاستيطاني تحت غطاء الضحية
-
لماذا يحب الهندوس اليمينيون المتطرفون شيطنة الفلسطينيين؟
-
مركز نقابات العمال الهندية CITU يطلب من الحكومة عدم إرسال عم
...
-
دعوة احزاب اليسار الى الاحتجاج :أوقفوا فوراً هذه الإبادة الج
...
-
مقاومة الإمبريالية هي المهمة الأولى للشيوعيين
-
الدولة الهندية تتجسس على آيفون سكرتير الحزب الشيوعي الهندي ا
...
-
بيان مشترك حول العدوان في غزة
-
الاحتلال الخانق لفلسطين أصبح الآن سلسلة من جرائم الحرب
-
الحرب بين إسرائيل وغزة: إنهاء الاحتلال
-
الحزب الشيوعي الهندي يدين الهجوم الإسرائيلي على مستشفى غزة
-
في دلهي: مقتل شاب مسلم معاق – الحزب الشيوعي الماركسي يطالب ب
...
-
التروس المختلفة في عجلة هندوتفا الفاشية
-
خطاب الكراهية ضد المسلمين في البرلمان الهندي
-
بيان صحفي عن اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي الما
...
-
قمع الديمقراطية في تريبورا
-
استهداف المسلمين في النظام التعليمي
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|