أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - ما بين التعاسة والسخرية ضحك ملوَّن















المزيد.....

ما بين التعاسة والسخرية ضحك ملوَّن


نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)


الحوار المتمدن-العدد: 7845 - 2024 / 1 / 3 - 16:50
المحور: الادب والفن
    


في القرن السادس عشر، إبان عصر النهضة في بريطانيا، كتب الكاتب المسرحي كريستوفر مارلو Christopher Marlowe (1564-1593) رائعته "دكتور فاوست" Doctor Faustus التي اكتسبت شهرتها لكونها عمل تراجيدي شديد الجديَّة، يغلب عليه الطابع الديني، لكنه في نفس الوقت شديد الثورية. أمَّا الغريب هو أن المسرحية تخيِّم على أحداثها الكوميديا، بالرغم من أنها تدور حول أرواح معذَّبة من الإنس والشياطين.
واستطاع الكاتب اجتذاب الجمهور ليس فقط بحبكة وحوار وخيال فريد، بل بإرغامهم على التعاطف حتى مع العاصين؛ وأيضًا لومهم على إقتراف المعاصي. ومن أشهر الجمل الحوارية في المسرحية التي تواترت وتناقلت عبر الحضارات المختلفة، هي تلك التي صرَّح بها أحد كبار الشياطين "ميفيستوفيليس" Mephistophilis حينما قال: "ما يبث الرَّاحة في قلوب التعساء هو صحبة أشباههم"، وتم تحوير هذه الجملة إلى أن أصبحت مثل إنجليزي دارج ترجمته: "التعاسة تعشق الصحبة".
وفيما يبدو أن الكاتب الكبير إبراهيم أصلان (1935-2012) قد سار على نفس الدرب في إبداعه الروائي الذي يدور حول المهمَّشين التعساء الذين يعيشون خارج حدود المكان، دون علم أحدهم شيئًا عن تفاصيل حياتهم البائسة، إلى أن كشف عنها النقاب "إبراهيم أصلان" في رواياته ذات الطابع الثوري الفريد المُثير للجدل. وما يثير الدهشة هو أسلوبه الساخر الذي يُجبر القارئ على الضحك حتى الثمالة بالرغم من أنه يروي حكايات أشخاص تصيبهم الحياة الاجتماعية والحالة النفسية والمكانة الاجتماعية بتعاسة قصوى. ويجب الأخذ في الاعتبار أن أعمال "إبراهيم أصلان" لا تنتمي إلى فصيل "الواقعية القذرة"، بل هي أعمال تنقل الواقع وتنتقده مع الاحتفاظ بروح الشخصية المصرية التي تعتمد على السخرية من مآسيها وتحويل الأحزان إلى مواقف كوميدية.
واستطاع "إبراهيم أصلان" الغوص في أعماق شخصياته وتقديمها بصورة لا يختلف عليها أي فرد؛ لأنه نفسه جزء من واقع المهمشين المهملين في الفناء الخلفي من المجتمع، والمعزولين عنه بأسوار عالية سميكة شيَّدها التباين الاجتماعي والثقافي، اللذان بدورهما عملا على إختلاف منظور المهمشين لطبيعة الأفعال وطريقة الحياة عن هؤلاء الذين يعيشون داخل حدود المجتمع النظامي. وتأتي مصداقية "إبراهيم أصلان" من كونه أحد سكَّان المناطق المهمشة، وبالتحديد حي "الكيت كات" بمنطقة إمبابة؛ حيثما نشأ وتربى بعد أن نزحت أسرته إلى القاهرة من قرية "شبشير الحصَّة" بمحافظة طنطا. وكان لعمله "بوسطجيًا" الفضل في التمعُّن جعله في عالم المهمشين ومشكلاته ودفعه لتأليف مجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء". وعندما إتخذ وظيفة ثابتة في مكتب البريد، كتب مجموعته القصصية الثانية "وردية ليل". ومن الجدير بالذكر، أن إبداع "إبراهيم أصلان" نادر ويأتي على فترات متقطعة، لكنها تلقى ترحيبًا واسعًا واحتفاءًا جماهيريًا وأدبيًا. ويجب الأخذ في الاعتبار أن لموطن مولده في طنطا ومكان نشأته في حي الكيت كات بإمبابة حضورًا واسعًا في جميع أعماله، ولربما كانت السبب في لفت الأنظار إلى إبداعه؛ حيث أنه قدَّم في فترة الستينات نموذجًا اجتماعيًا مغايرًا لم يألفه سكَّان أحياء القاهرة، ولهذا كانت أعماله ثورة على تقاليد الكتابة السائدة في ذاك العصر.
وتأنِّي "أصلان" في الكتابة جعله ينتظر عشر سنوات (1972-1981) حتى ينتهي من كتابة أولى رواياته "مالك الحزين"، ولقد قضى تلك السنوات العشر في ملاحظة ودراسة شخصيات تحيط به عن كثب، فكتب عنها وعن واقعها، لدرجة أن الرواية تحتوي على 90 شخصية. ولقد استطاع "إبراهيم أصلان" ببراعة فائقة رسم ملامح كل شخصية بشكل عميق، والعجيب كانت قدرته على طبع كل شخصية على ذاكرة القارئ، وجعل كل منها بطلًا. فالبطل الرئيسي في "مالك الحزين" المكان؛ حي "الكيت كات"، الذي أخرجه "أصلان" إلى النور بعد كبوته الاجتماعية والثقافية. فلقد كان حي الكيت كات في الماضي بقعة يرتادها الملوك وعِليَة القوم، إلى أن أصبح بقعة الفقر والبؤس روَّادها. وواصل "أصلان" ثورته على الواقع وتقاليد الكتابة الروائية عندما جعل الأحداث تدور في يومين فقط، دون الالتزام بحبكة واحدة وأسلوب روائي واحد؛ فالعالم المتكامل الذي صوَّره "أصلان" في نص روائي قصير (نوفيلا) شخصياته المتباينة تقتضي تعدد الأساليب الروائية. ولهذا، نأى "أصلان" بنفسه عن تنميق الكلمات، وآثر الاقتصاد في الوصف والجمل الحوارية؛ وكأنه يؤكِّد أن المهمَّش يجب عليه أن يعبِّر عن نفسه بجمل مقتضبة حتى يجذب انتباه من لا يمرّ بنفس ظروفه البائسة، فأهل السعادة أو من ينعمون بحياة كريمة لا يمكن لهم فهم ما يقاسيه التعساء. ورواية "مالك الحزين" عملًا أدبيًا استثنائيًا في الرواية المصرية، شكلًا ومضمونًا. وشخصيات الرواية وجودها لا يخدم النص الأدبي، بل أن النصّ الأدبي هو من في خدمة إبراز تواجدهم حينما يتواردون بتلقائية على الأحداث عند ممارسة حياتهم اليومية. ومن ثمَّ، لم يحاول "أصلان" تنميقهم شخصهم أو إضفاء لمحة جمالية على سلوكهم أو لغتهم، حتى ألقاب الشخصيات كانت واقعية: "سيد طلب المسخرة، ورمضان الفطاطري الهايف، والأسطى سيد الإنجليزي، ومجاهد بائع الفول، والهرم بائع الكيف". ولقد حازت رواية "مالك الحزين" على إعجاب النخبة وجمهور القرَّاء، وتم إدراجها ضمن أفضل مائة رواية في الأدب العربي.
ولمَّا تلقَّفت السينما المصرية هذا العمل الغني في فيلم أخرجه "داوود عبد السيِّد" تحت اسم "الكيت كات"، عام 1991، حقق الفيلم أيضًا نجاحًا جماهيريًا واسعًا على الساحة المصرية والعربية، علمًا بأن الرواية كانت تركِّز على شخصية "يوسف النجَّار"، ذاك الشاب الجامعي الذي أصبح مثل حي الكيت كات؛ فبالرغم من كونه مثقَّفا، هو غريب عن مجتمع الشباب الجامعي، وحبيس حي إمبابة الذي يعيش فيه حياة من الوحدة والحزن. أمَّا الفيلم، ركَّز على شخصية والده، الذي حكايته واحدة ضمن أخريات عدَّة.
وكما جعل "أصلان" من البؤس والسخرية من قسوة الحياة رابطًا قويًا بين أبطال العمل، جعل من الفكاهة والكوميديا مغناطيسًا. وتباينت ألوان الكوميديا والضحك بين الأسود والرمادي والأبيض. ففي المواقف شديدة القسوة الطاغية على الرواية، كانت الكوميديا سوداء، يضحك فيها القارئ وقلبه يذرف الدمع. وكانت رمادية في المواقف التي تثير الدهشة كما في حكايات وأفعال "الهرم بائع الكيف" ومغامراته في التهرُّب من الشرطة. أمَّا الكوميديا البيضاء الصافية فهي تعبِّر عن مواقف خفيفة مثل سرقة رأس العجل من "الأسطى سيد الإنجليزي" في الأوتوبيس، وكشف "الشيخ حسني" أسرار أهل الحي في الميكرفون إبَّان العزاء، وغيرها من المواقف، مع الأخذ في الاعتبار أن جميعها بائسة.
"مالك الحزين" هي بوتقة لألوان من الضحك الأسود والأبيض والرمادي، ولكل منهم تواجده الخاص في حياة التعساء من المهمشين أو من هم دونهم؛ فالكل شركاء في الهم والضحك.



#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)       Naeema_Abdelgawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح الشعري وديونيسوس إله الممارسات الدنيوية
- هيفاستوس إله الابتكارات والرقمنة
- الهوية والتأريخ الشعبي
- -آلهة أمريكية- فلك أسطوري معاصر خلقه نيل جيمان
- الدولة الأموية والعرجي فارس الشعر
- الحضارة العربية وتاريخ من الواقعية السحرية
- الإعلام والنشطاء والصحافة الصفراء قديمًا: أبو فراس الحمداني
- عميد الشعر العربي ورائد حركة الحداثة: أبو تمَّام
- الحجاج: بلاغة الأديب ووحشية السفاح
- جيبوتي دولة عربية ذات إبداع أفريقي
- أبو العلاء المعري والتيار الوجودي
- -تونس والإبداع العربي- في لجنة العلاقات العربية بإتحاد كتاب ...
- دولة مالي ومماليك مصر: عصور من الانفتاح على إفريقيا
- العصر العباسي وأيدلوجيا الحداثة في شعر أبي نواس
- حياة اللهو والمجون مرادفها -عمر بن أبي ربيعة-
- -أبو العتاهية- رائد الشعر الشعبي يعشق جارية
- بانوبتيكون المقاربة السوسيولوجية في -صباح ينتظر الفرج-
- درس -النوَّار- القاسي يزجي نيران فضيحة -الفرزدق-
- -كليلة ودمنة- وثيقة سياسية غرضها المقاومة
- حجافل السايبورج من الخيال العلمي للواقع


المزيد.....




- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...
- -مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - ما بين التعاسة والسخرية ضحك ملوَّن