|
هواجس في الثقافة مقتطفات 2
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 7845 - 2024 / 1 / 3 - 09:44
المحور:
الادب والفن
عن الرواية منذ بداية التاريخ، سعى الإنسان إلى الخلود، فحلّق وأبدع، حلمَ وخلقَ لنفسهِ إلهاً على مقاس حلمه، وارتقى بالحلم إلى الخلودِ في محاولةِ تجاوز المكان والزّمن الذي يعيشه عبر خلقِه الملاحمَ والأساطير، وهي شكلٌ آخر لهذا التّجاوز، وحتّى الأغاني كانت محاولةً للهروب من الحيّز الضّيّق إلى الفضاء الطلق. في الحقيقة، أحبّ أن يكون الزّمن معوّماً في الرّواية إضافة إلى المكان، فهذا يغني العملَ ويفتح الآفاق الواسعة للمعرفة، وينقل العمل الفنّي الرّوائيّ من الحيّز المُحدّد إلى الحيّز العامّ للوجود، كمراوغةٍ لالتقاط زواياه وأبعاده، وفتح مستوياتٍ وعلاقات مفتوحةٍ في الإطار العامّ للرّواية. إنّ الزّمن الإنسانيّ والروائي، صراعهما يجب أن يكون مفتوحاً. صحيحٌ أنّ الرّواية تحتاج إلى حقلٍ "زمكانيّ" لإضفاء قيمةٍ خاصّة لها، ولتأخذ بعداً دلاليّاً في عملية تشكيلها، بيد أنّ ذلك يجب أن يبقى عائماً لرصد التحوّلات في داخلها. في رواية "في الأرض المسرّة"، استطعتُ إسقاط زمن السّلطة العثمانيّة؛ لأقيّم الزّمن الإنسانيّ في علاقته بها، وعلاقة السّلطة في تشظّي المجتمع وتفتيته، فجعلتُ الزّمن التّاريخيّ زمناً روائيّاً، زمن البشر المهروس، زمنَ الحكاية والإنسان الذي لا ينتهي وصولاً إلى دلالات عامّة. إنّ العمارة الفنّيّة للرّواية يجب أن تنظّم فنيّاً وجماليّاً؛ ليحمّل الكاتب من خلالها منظوره للعالم، وموقفه الفلسفيّ والفكري من التحوّلات الاجتماعيّة والسّياسيّة والرّوحية، ويرصد من خلالها زمن الإنسان؛ خضوعه ونضاله، نجاحه أو هزيمته، أمله، فرحه، مسرّته، يأسه، وجوده وموته، وآليّة حركتهِ داخل هذا الحيّز الفضفاض والضّيّق في الوقت نفسه. لا أعتقد أنّ النّقد الرّوائي يُواكب تطوّر الرّواية، ويجب ألا نغفل أنّ من يقيّم الأعمال الإبداعيّة هي البلدان المركزيّة "أوروبا والولايات المتّحدة"، وهي من تسوّق أيّ عملٍ، أو تحطّ من قيمته الفنّيّة. إنّ القارئ المُعاصر أصبح أسيرَ هذا التقييم؛ فالأعمال الإبداعيّة التي تتماهى مع تحوّلات الحداثة هي من تُفتَحُ لها الأبوابُ وتنطلقُ إلى العالميّة، وقد ساهمت الجوائز العالميّة التي يمنحها الغرب في تخريب الإبداع والعطاء الأدبيّ لمصلحة التوجّه السّياسيّ، والاستراتيجيّ لقيادة العالم. هناك عشرات الآلاف من المبدعين جرى تهميشهم، ونكران أعمالهم لمصلحة أعمالٍ مَرْضيّ عنها، ولهذا أرى أنّ الرّواية، والشّعر، والفنون كلّها تعيش في قوالبَ جرى السّهرُ عليها، لتتناغم مع القوالب المرسومة في أذهان من يريد أن يحوّل الفنّ والأدبَ إلى مجرّد سلعةٍ وجوائز. وأعتقد أنّ الكثيرين من الفنّانين والأدباء بدؤوا يتكيّفون ويكتبون بما يتناغم مع ما يريده أصحاب ما بعد الحداثة
الفيلسوف والكاتب الماركيز دي ساد الماركيز دي ساد، من هو، ضحية من بالضبط، هل هو ضحية العقل والتخيلات البشرية الوراء طبيعية، هل هو ضحية الكهوف النفسية الدفينة في النفس البشرية خرجت من أعماق دي ساد أو تجسدت به. هل تكوين عقله، بنية عقله اخترقت الأغوار العميقة للنفس البشرية، أم كان ضحية أسرار الطبيعة الكامن في لا شعوره الذي اعتبره جزءًا من أسرار الكون ومجاهيله. كل التناقضات وجدت في هذا الإنسان، الشذوذ والعنف الشديد، تمزيق جسد الضحية، هرس حلمات النساء، والتمتع بهتك أعراف المجتمع وتقاليده، السخرية من الدين ورجال الدين والمجتمع. لم يصلح للعيش في المجتمع النمطي، لم يصلح للزواج والحياة الروتينية، كان يهرب إلى كل شيء غير مألوف، يذهب إلى الشذوذ في كل أشكاله. يعتبر دي ساد مازوخي وسادي في الوقت نفسه، ربما لم يكن همه أن يصل إلى النشوة الجنسية عندما كان يعذب نفسه أو خليلته، وأنما لاكتشاف ما لم يكن مكتشفًا. هل كان يبغي الحرية المطلقة، بعيدا عن القوالب الاجتماعية المزيفة والجامدة والكاذبة، هل كان يبحث عن المطلق؟ وهل كان شجاعًا أمينًا لمبادئه أم ضحية النمطية والسلوك الشاذ للسلطات المتعاقبة الي نمطتت الحياة والسلوك والأخلاق والمبادئ التافهة؟ أنا شخصيًا أثمن تمرده المطلق على القيم والأخلاق والمبادئ المعفنة التي نعيش تحت كنفها، لكني لا أملك قدرته في تشريح النفس الإنسانية كما فعل، كما لا أملك أسلوبه، كما أني لا أملك شجاعته وقوته وصدقه مع نفسه، وربما تهوره واندفاعه إلى أقصى درجات الهوس والهيستيرية في كل شيء. من قال نحن طبيعيين، والمركيز دي ساد مريض؟ من الذي يحدد أن هذا مريض أو مجنون وذاك سليم؟ هل هذا العالم العبودي طبيعي؟ هل تظنون أنفسكم طبيعيون؟ هل هذا العالم المختل، حروب وجوع ونهب ونفاق ورياء، طبيعي؟ لماذا تمرد المركيز دي ساد على القيم الاجتماعية وأخلاقه ونفاقه وكذبه، كان هواية أم وراء تصرفه وتطرفه، عقل ورأس يفكر؟ هل كان سلوكه تمردًا أم بحث عن اللذة؟ لماذا فعل هذا وفي حوزته المال والمكانة والسلطة والشهرة والوسامة؟ إنه خارج سياق المألوف، هذه حقيقي، لهذا هو ثوري، قلب القيم السائدة رأسا على عقب وسخرها منها وتحداها وبصق عليها، بصق على قيم الخنوع والذل. إنه روائي وكاتب ومتمرد، أنه ليس إنسانًا عاديًا يمارس اللذة والشهوات من خارجه، بل كان منحرفًا عن انحراف المجتمع لذاته، وهذا المجتمع كان منسجمًا مع كذبه وانحلاله ورياءه وأخلاقه الكاذبة وادعاءته الكاذبة بالفضيلة، في سلوكه وممارساته الذي اعتبره تمثيل في تمثيل لتسويق نفسه من أجل البقاء البيولوجي والاستعراض الشكلاني. وكان ساخرًا أمينًا من المجتمع، ومن السلطة كمفهوم. وكان وسميًا وغنيًا، وأمه من عائلة البوربون، اعتقد أن أصوله من أصل ملكي من العائلة المالكة. لقد درسه فرويد، وعلماء نفس كثر، وخرجوا باستنتاجات كثيرة. وماذا عن شخصيات روايات ديستويفسكي، أليسوا منحرفين، شاذين، مرضى، مجرمين ومجانين، ولديهم إشكاليات غريبة في الحياة. كتبت قبل أيام، قلت إذا كان العمل الفني أو الأدبي ليس تمردًا، جنونًا، وحشًا يخترق المجهول، لا نستطيع القول أنه عمل مميز، سنقول عنه أنه عمل نمطي مكرر لا جديد فيه. سأقول أن الجنون هو الدرب إلى الخلاص، أما نحن، نحن البشر النمطيين، أسياد المرض، نرتضى على أنفسنا أن نبقى الحشرات القميئة في مختبرات السلطة، ليس الأن فحسب، وأنما منذ آلاف السنين، راضخين وتابعين كالدجاجات الموجودة في قن السلطة. كان سؤالي ولا يزال قائمًا: هل دي ساد ضحية، لكن ضحية من بالضبط، العقل، المجتمع، الحضارة، الطبيعة، لأن هذه الأخيرة تحمل في داخلها أسرار وطاقات هائلة؟ هل الإنسان المختل مسؤول اختلاله أو عن سلوكه أم أن السلوك له دوافعه خارج عن إرادة وسيطرة صاحبه؟ هذه الأسئلة ستبقى كجزء من أسرار الإنسان، أعماقه الغير مكتشف.
عن الغربة لم نولد غرباء، تم أخذنا كقطيع واحد إلى الغربة. الغربة ليست قدر، نحن نولد طبيعيين، تتم صناعتنا في المخابر لنتحول إلى غرباء نهرب إلى الأصدقاء كلما سنحت لنا الفرصة، نحتمي بهم، نضع رؤوسنا على أكتافهم، نأخذ من بعضنا بعضًا، بعضًا من الطاقة في هذه البرودة العالمية. نهرب إلى الفرح، نصنعه بأيدينا، نزينه ليقف على قدميه ليتحدث إلينا ونتحدث إليه، نراه ضرورة، ونحاول أن نعيشه. نحن، البشر ندعو للشفقة، أنتم ترون وجه اللوحة الخارجي، لكن جوهرها يحتاج إلى قراءة عميقة. مأساة الإنسان إن تكوينه النفسي وأحلامه وفرحه وحزنه نابع عن علاقة غامضة ومقطوعة وناقصة بالجنس. إنه كائن عاشق للجنس ومغموس فيه، بل غارق فيه ثم ناكر له. إنه ينتظر الليل، السكون، ليكون برفقته، ليقطع مع الضجيج، يتوحد به، بالحياة والوجود. إنه سرنا العظيم الذي لم نستطع إن نفككه، ولا نريد.
العالم الإسلامي بكلمات ما يحدث في العالم الإسلامي، هل هو رد فعل عنيف على الحداثة الرأسمالية، هل يريدون رفضها بالكامل كقيم وأفكار وقناعات ومبادئ؟ هل يريدون العيش في عالم افتراضي غامض؟ كيف يمكنهم حل هذا التناقض، بين ما يريدون وما يحدث على أرض الواقع؟ هناك مشكلة نفسية عميقة جدًا، لا الرفض للحداثة يجدي ولا العيش فيه يجدي من موقعهم الفكري والعقلي والقيمي. هذه الحيرة مصيبة وقهر وضغط نفسي ووجودي. عدم التصالح مع العصر كارثة ولا يوجد في الأفق حل، وبين الواقع والجنة المتخيلة هناك حياة طويلة على المرء قطعها. المسلم مثله مثل بقية البشر سيستخدم منجزات العصر وعلومه سواء أراد أو لم يريد، ولا يمكنه القفز عليه، وإلا سيبقى غريبا منفصلا عن كل شيء. الشيوخ خربوا عقل المسلم، هناك آلاف الأقنية الدينية تبث الغث والسمين، تلعب على تفكيره وبساطته، قسم يقول الغناء حلال والآخر يقول حرام، وقسم يقول الكحول حرام وغيره يقول حلال، قسم يقول الحجاب حلال وقسم يقول حرام، وكانوا في السابق يقولون الاستماع الى الراديو حرام وكمان التلفزيون واليوم يقولون حلال. عالم من التناقضات والدمار الذاتي، من سيحلوه مع الأيام.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس في الثقافة ـ مقتطفات ـ 1 ـ
-
عيد رأس السنة الجديدة في السجن
-
هواجس ثقافية معاصرة
-
فرانكشتاين
-
قراءة متأنية في رواية الرحيل إلى المجهول للكاتب آرام کرب
...
-
الهيمنة
-
البشموري
-
والدي العاقر
-
المثقف العضوي
-
مشكلة سبينوزا
-
الكبت في رواية عندما بكى نيتشه
-
عندما بكى نيتشه
-
الوعي المغيب
-
نيتشه في رواية
-
تدمر العسكري أقسى سجون العالم
-
الأثير
-
أدم وحواء
-
أبق حيث الغناء ـ 20 ـ
-
أبق حيث الغناء ـ 19 ـ
-
أبق حيث الغناء 18
المزيد.....
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|