طالعتنا صحيفة القدس العربي في عددها 29 يناير، بتقديم من لدن الشاعر والكاتب العراقي حكمت الحاج – المقيم في تونس ، لرائد من رواد ومبدعي الموسيقي العراقية والعربية، وهو العازف الشهير والمؤدي الشاعري ( الهام المدفعي ) .
ان اول صورة تتناولها ذاكرة المستمع او المشاهد لهذه الشخصية التي ظلمتها الإقلام الناقدة ، هو روح التراث والأصالة، ولأن الشاعر حكمت الحاج تحدث عن الحفل الموسيقي الذي احياه الفنان الهام المدفعي على الفضائية التونسية – فان مقالته الطيبة وان ذهب الى بعض من التاريخ فيها جاءت وصفية وسريعة ، وهو ما جعلني اكتب هذه السطور التي كانت في ذاكرتي لولا السبق الجميل الذي حققه الشاعرحكمت الحاج ..
والحق ان الفنان الهام المدفعي رمز ارتبط اسمه بآلة الكيتار الغربية ، عزفا وأداء صوتيا ، غير ان ملامح الأداء التي سار الفنان الهام المدفعي عليها وطورها خلال سني مسيرته الفنية ، انما تمثل عملا خلاقا ورائعا تجسد في السعي الدؤوب الذي قام به الفنان في نقل وتوزيع معالم ومفردات موسيقى التخت الشرقي الى آلات ( الباند الغربي ) ، ولأنني ممن امتهن شخصيا العزف على آلة الكيتار ، فإن بعض الإيقاعات التي تؤدى في النمط الغربي كانت من ابداعات الفنان ذاته ، ويتناولها الموسيقييون بـإسم الهام المدفعي ، ومنها الإيقاع الذي يؤدي الفنان عليه الاغنية المقام العراقي التراثية ( يا زارع البزرنكــوش – إزرع لنــا حنـّة ) حيث يطلق على إيقاعها ( إلهامي ) ،وهو ما أغضب الفنان والملحن العراقي عباس جميل ، حين أدى معنا في جمعية الفنانين في المنصور أغنية ( يازارع البزرنكوش ) ، حيث قال ما الذي تعنونه بـ ( إيقاع الإلهامي) وحين استمع الملحن الكبير اليه ، وجد فيه بعض الإختلاف في الدوران الذي تؤديه الطبول الغربية مع جزئي الصنوج المصاحبة ، فأثنى عليه .
وللأمانة التأريخية فقد أدى الهام المدفعي هذه الأغنية وأغان تراثية أخرى مثل ( ون يا كلـب ) وأغنية ( النوم محرم على الأجفان – لما حبيبي جافاني ) وأغنية ( واعله جبـين الترف – لوكـي يمكرونـه ) و ( ما رابض ) و(جل جل عليه الرمان ) و ( آنه إمنين وإنته إمنين- حادك حادك زماني ) وكلها من الوان المقام العراقي الرائع ، وقد اضاف اليها جملة من الفنانين أغان أخرى مثل اضافة الفريق البغدادي ( ديفلز ) لأغنية ( تانيـني صحت عمي يجمـال ) من التراث الريفي المتأخر ، وهي من كلمات والحان وغناء الفنان عبد الجبار الدراجي وأغنية ( يا ناس ولفي شماله ) للمطرب الكبير ( ناصر حكيم ) وأغنية ( علليالي ليالي ليالي ) للمطرب الريفي المشهور _ ( داخل حسن ) .
اما في تحليل إيقاع الجورجينا العراقي الخالص ، فهو إيقاع تنفرد بتأديته الموسيقى العراقية لوحدها ، وكما أدت ذلك المطربة العراقية الرائدة ( عفيفة اسكندر ) اغنية – ( شدعيلك يللي إحركت كلبي ) و( يم عيون حراكة ) لزهور حسين وأغنية ( للناصرية ) و ( الليلة اسافر للهند واشوف حبيبي ) ( نوحي على العافوج يا روحي نوحي ) من المقام العراقي الأصيل ، حيث أدى الفنان الهام المدفعي أغنية ( يحمام يحمام ) للمطرب رضا الخياط على ذات الإيقاع ، علما بان إيقاع الجورجينا الثقيل ، إذا ما سُـــرّع الزمن فيه ( التامــبو ) فإنه سيقترب من إيقاع ( الهيـوه ) الخليجي – الأفريقي الجذر ، و حين سمع موسيقار الأجيال الملحن العربي محمد عبد الوهاب إيقاع الجورجينا العراقي ، فقد قال قولته الشهيرة : " ان مجمل الموسيقى العربية تدور في فلك واحد ، بإستثناء الموسيقى العراقية ، فانها تدور في فلك خاص بها " .
لقد كانت اسهامات العام المدفعي في مجال توزيع الجمل اللحنية إبداعا آخرا ، يضاف الى ابداعاته في العمل في مجال التراث الموسيقى العراقي الأصيل ، حيث أصبحت آلة ( الباص كيتار ) ، بديلة لآلة ( الكونترباص) في التخت الشرقي ، ولكن بأسلوب ( الجمل المكررة – الدبــلات ) ومن الذين أبدعوا في ذلك الفنان العراقي عازف الباص كيتار الرائد ( آرميــن ) ، وهو نهج جعل الأغنية تتماهى مع النغم المهيأ والجديد من مزاوجات الحروف الموسيقية داخل ذات الإستقرار اللحني ، وهو جمال متموسق لم تألفه الأذن الشرقية من قبل ، لكنه وبمصاحبة الخلفية الموسيقية لآلة الكيبورد ( الأورغ ) للفنان ( سعد هرمز ) ، والأداء الشاعري لآلة وصوت الفنان الهام المدفعي مع الترديد الهاروموني لفرقته المؤديه والمغنية معا ، تكون النتيجة فنا أصيلا و مبدعا ، لا يتضارب وشرائط الأداء اللحني العربي ، وان احتج البعض من النقاد والموسيقيين ومن هم الملحن العراقي فاروق هلال ، على ان هذا الأداء انما يمثل تغريبا وابتعادا عن الجذر الموسيقي الشرقي ، في تقليد الآلة الغربية لحرف وروح الآلة الشرقية ، وهو رأي يحمل الكثير من الصحة عند التذوق العالي لما يطلق عليه الملحن العراقي المعروف طالب القره غولي ( روح الأداء في الآلة والصوت المؤدي – المطرب - ) .
ان الهام المدفعي في توزيعاته التي اختلفت ما بين المقام العراقي كما في الأغان التي اشرنا اليهن ، أو اغاني المعاصرين له ، والمطربين العرب ، انما يمثل حالة من حالات تمثيل الأغنية الشرقية لكي يثبت انها حية ، ويمكن تؤدى على مختلف الثقافات الموسيقية ، ففي الوطن العربي ما من مستمع نهم إلا ويتغنى بـ ( مالي شغل بالسوك مريت اشوفك ) و ( فوك النخل ) و( خطار عنده الفرح نعلك صواني شموع ) .
والشيء الأهم الذي فات الشاعر حكت الحاج ان الهام المدفعي وان كان من الرواد في مجال تأدية الأغنية غربيا ، الا انه لا يعتبر عازف الكيتار الأول في العراق وهناك عدة اسماء سبقته في هذا المجال ومنهم الفنان المعروف ( فؤاد مسعود) والفنان ( رهــرانت ) الذي وزع للمطربة العراقية المعروفة سيتا هاكوبيان أغنيات مثل ( شـــوكي ) و (عَـلــشواطي عيوني تِـربي ) و غيرها ، ومن الجيل الثمانيني الجديد الفنان ( هيثم كنار ) والفنان ( رعد بركات) والعازف العراقي المعجزة ( توني ) الذي يرأس معهدا في الأردن لتدريس آلة الكيتار ، وهناك العازف والمؤدي ( ديلورعيسى ) باغنيته التي اشتهرت في حينها ( خاله شيسوي وياج ؟) وتعد من التراث القديم ، وهناك من الأسماء التي جاءت بعد الهام بفترة وجيزة ، ومنها الباند الغربي ( الأجراس ) و( شيراك ) ، و غيرهم ، غير ان المميز في عمل الهام المدفعي هو الثقافة العالية في التذوق والأداء والإبتعاد عن الخطوط التجارية والأنماط المستهاكة ، وعمله الدؤوب في احياء معالم التراث الغنائي ، وهناك اللمسـة الشاعرية في صوته الحنين الذي يشعرك برومانسية حقيقية كما في يا ( عذولي لا تلمني، فالهوى غدار ) و ( عسنك هله ويبه يا شط عسنك – محضي من شوف الماي ) من المقام العراقي والتي اداها مطلع السبعينيات واغنية ( يضربني طول أنا بالخيزرانه... ) و( آنا يـسوادي ) على إيقاع الهجع الراقص – وهي من التراث الريفي و( طلعت يا محله نوره... ) للموسيقار العربي سيد درويش ( تحت الرمانه ) وغنيتها المطربة العربية المبدعة ( فيروز) ، حيث اعجبت المطربة الإيرانية الكبيرة كوكوش بأداء تحت الرمانه ، فأدتها في بغداد .
ان خط الموسيقى الغربية يحمل جذورا عميقة في العراق ، وذلك ان العراق ، وهو بلد متعدد الأعراق والإنتماءات ، يحمل الكثير من اناشيد وطقوس الأقوام التي كانت وما زالت تعيش على أرضه ، حيث أثرت تراتيل الكنائس واناشيدها في القداسات وبما جعل شريحة كبيرة من المسيح - الآثوريين والأرمن والسريان في العراق – يؤدون مقاطع في أغنيات الأعراس والتوليفات الشخصية ذات طابع كنائسي ابرالي رائع ، والأروع من ذلك ان النغم المؤدى يحمل طابعا شرقيا اخاذا كما في صوت المطرب ( جنان ساوى ) و ( سركون هرمز ) و( خبات ) و ( ديلورعيسى ) وغيرهم .
لقد عمل الفنان الهام المدفعي ، على مزج التراث بآلة الشجن الحديثة – الكيتار- وهو أمر يعد تطويرا وابداعا ، حيث الشمولية ( بسبب من سعة انتشار هذه الآلة وبساطتها وشاعريتها ) في الاستماع الى الأغاني التي يعاد احياءها وبروح جديدة محدثة ، لا تقترب إلا من روح ونسق الإبداع عند الإثنين ( هم المستمع) و( وله المؤدي ) ، كما قام الفنان العراقي الموصلي ( سيف شاهين ) - بتقديم أغان عراقية على نمط ( البلــوز الغربي ) في أغنية ( حتى انتِ اللــي أحبه ) ومن قبل اغنية ( ما ريدك ما ريدك ) .
تحية خالصة الى الفنان المبدع الهام المدفعي ، والى مزيد من الإبداع والأستلهام الشعري الذي نوه اليه كاتب المقال في قصيدة ( الجراح ) – ( الصباح الجديد ) للشاعر التونسي الرائع ابو القاسم الشابي ، وهو عمل اداه الفنان الهام المدفعي في مطلع السبعينيات ، ثم اعاد تسجيله بأسلوب حديث ، ولألهام المدفعي اغنية اخرى من قصائد الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي ، وقصائد أخر تضمنتها حفلاته الخاصة .
تحية من القلب الى واحد من اعمدة الهم الموسيقي العراقي والعربي ، شاخت الآلة يديه ، وهو ملتزم ومبدع لا يشيخ ،
حيث عمل على اللحن والعزف والتوزيع والأداء معا ، مع الوفاء الرائع لأحياء جذور التراث من المقام والأغنية الريفية والمتداولة ، تحية الى الهام المدفعي .