|
جريمةُ أنْ نَعتاد
نجيب علي العطّار
طالب جامعي
(Najib Ali Al Attar)
الحوار المتمدن-العدد: 7794 - 2023 / 11 / 13 - 00:47
المحور:
الادب والفن
ليسَ في ذِهني الآن ما يَجعلُني أتردَّدُ في تَدوينِ عِبارةٍ قد تبدو، لأوَّلِ وَهلةٍ، أنَّها تَحصيلٌ حاصلٌ مِنْ شِدَّةِ بداهَتِها. بيدَ أنَّ نصيبَها مِنَ البَداهةِ لا يَعدِلُه إلَّا نَصيبُها مِنْ إهمالِنا للبَدَهِيَّات! ومَفادُ هذه العِبارةِ يَتلخَّصُ في أنَّ لكُلِّ إنسانٍ أمارةٌ خاصَّةٌ يَتأكَّدُ بها أنَّه لم يزل حَيًّا في هذا العالَم. وممَّا يَعنيهِ هذا الكلامُ أنَّ الإنسانَ يَعمَدُ إلى مُمارسةِ هذه الأمارة كُلَّما شعرَ بانعدامِ الحياة.
يَنقسمُ النَّاسُ إلى قِسمَيْن رئيسَيْنِ مِن حيثُ أمارةِ الحَياة هذه؛ كُثُرٌ يُبرهنونَ أنَّهم أحياءٌ عِبرَ بَرْهَنةِ أنَّهم ليسوا أمواتًا! بينما لا يَكتفي القِسمُ الثَّاني بهكذا بُرهان، فإذا بأحدِنا يَرى حَياتَه في قُدرتِه على العَطاء، وآخرٌ يراها في استجابتِه للجمال الهائلِ في هذا الوجود، وهذا في صِلتِه بالله وذاكَ في التمرُّدِ والنِّضالِ مِن أجل قضاياه، وآخرٌ في السَّيطرةِ على النَّاس والتَّحكُّمِ بهم وليسَ أخيرًا ذاكَ الذي يَرى حياتَه في موتِه، أو في قَتلِه على وَجهِ التَّخصيص. كُلُّ هؤلاءِ، وغيرُهم، يَسلكون سبيلًا واحدةً؛ البحث عن معنى وجودِهم أو اختراعِه. وكم أُشفقُ على أولئكَ الذين يؤمنونَ أنَّ وجودَنا في هذا الوجودِ لا مَعنًى له! أُشفقُ على عِبادِ الصُّدفةِ هؤلاء وأغبطُهم على عقلِهم الذي يستطيعُ أن يتعايشَ مع هكذا اعتقاد. أؤمنُ أنَّ الوجودَ على هذه الأرضِ باتَ أمرًا شاقًّا ومُرعبًا لكنَّ الشَّقاءَ والرُّعبَ ليسا بُرهانًا على عبثيَّةِ الوجودِ ولا مَعناه.
على أيِّ حال، سألتُ نَفسي كثيرًا عن أمارَةِ الحياةِ خاصَّتي ولم أجدْ غيرَ الذي أقومُ به الآن أمارةً حقيقيَّةً على أنِّي حيٌّ؛ إنَّها الكِتابة. الكتابةُ التي تفسَحُ لي فضاءً واسعًا لأكونَ حيًّا في عالمٍ يَضِجُّ بالقتلى. وليسَ مُرادي منَ الكِتابةِ هُنا فعلُ الكِتابةِ نفسُه وإنَّما ما تَفتحُه الكِتابةُ مِنْ أبوابٍ للحياةِ رغمًا عن الموت. كأنَّنا، حينَ نكتبُ، نتحدَّى الموتَ وننتصر! فالكِتابةُ حِرزٌ مَتينٌ يَحمي منْ ثلاث؛ النِّسيان، الكَذِب والمَوت. وأحدُ أهمِّ ما تمنحُنا إيَّاهُ الكِتابةُ، في عالمٍ يُحبُّ أن يَسكَرَ بالدِّماء والعَرق، هو التَّمرُّدُ على الاعتياد؛ اعتيادِ الجريمة! واعتياد القَتلِ على وجه التَّحديد، لأنَّ الذي يَعتادُ القَتلَ يكونُ اعتيادُ غيرِ من الجرائمِ تحصيلًا حاصلًا. فالقَتلُ أبشعُ ما يُمكن للإنسانِ أن يرتكبَه. حتَّى لو كان القَتيلُ يستحقُّ القَتل، لكنَّ القتلَ نفسَه يبقى أمرًا بَشعًا! ولطالَما راودَني هذا السُّؤالُ المُرعبُ؛ «لماذا اعتدنا القَتل؟»، وكُلَّما راودَني هذا السُّؤالُ لا أجدُ له إلَّا جوابًا واحدًا؛ «لأنَّنا اعتدنا الحياة». حينَ أقرأ خطابَ الله لنا في القُرآن أجدُ أنَّه كثيرًا ما يَمُنُّ علينا بأشياءٍ نعتبرُها بديهةً في حياتِنا. أشياءٌ كالسَّمعِ والبصر والرِّياح واللَّيل والنَّهار وغير ذلك ممَّا نألفُه في كُلِّ لحظةٍ من وجودِنا في هذا العالَم. كُنتُ صغيرًا عندما استمعتُ للقُرآن، ولم أكن أفهم مَعنى الإخبار عن أشياءَ كهذه. كنتُ أسألُ نفسي دائمًا؛ «هل أتعبَ الله جبريل ومُحمَّد بهذه الآيات لأجلِ أنْ يُخبرَنا أنَّه خلقَ لنا عَينين نُبصرُ بِهما وأُذُنَيْنِ نسمعُ بهما؟! لماذا لم يكتفِ بعبارةِ "اللهُ خالقُ كُلِّ شيء"؟». الآن، وقد كبرتُ قليلًا، أدركتُ أنَّ الله ليسَ ساذجًا مثلَنا، وأنْ ثَمَّةَ شيءٌ آخرٌ يُريدُه من هذا التَّذكير. إنَّه يَقول: «الأمرُ ليسَ عاديًا. كانَ باستطاعتي أن أخلُقَكَ بلا عينَيْن وأذنَيْن وأحرمَك من كُلِّ هذا الجمال الذي تراه وتسمعه. ليسَ عاديًّا أن ترى وتسمعَ!». أدركتُ أنَّه يُريدُ شيئًا واحدًا مِن كُلِّ هذا؛ ألَّا نَعتادَ الحياةَ حتَّى لا نَعتادَ الموتَ فضلًا عن القتل. يُعرِّفُ المُفكِّرُ عدنان إبراهيم الفيلسوف بما معناه؛ إنسانٌ فَشلَ اعيتادَ العالَم، فشلَ أن يرى العالَم على أنَّه عاديٌّ. ولا يَخفى على أحدٍ أنَّ الفلاسفةَ يعتبرون الطِّفلَ أكبرَ فيلسوف لأنَّه كائنٌ مُندهشٌ مِن كُلِّ ما حولَه والدَّهشةُ هي المُحرِّكُ الأوَّلُ للفلسفة. ولا يختلفُ الأمرُ عندَ العِلمِ والعُلماء، إذْ أنَّ السُّؤالَ هو مُحرِّكٌ أساسيٌّ من مُحرِّكات البَحثِ العِلميِّ. وتاليًّا، فإنَّ الاعتياد عدوٌّ لمصادرِ المعرفةِ الثَّلاث؛ الدِّين، الفلسفة والعلم، وليسَ بينَ أعداءِ الإنسانِ ما/من هو أخطرُ ممَّا/ممَّن يُعاديه في معرفتِه.
وفي حضرةِ القَتل الذي يُرتكبُ بنا، نحنُ العربَ، لا مَفرَّ لنا إلَّا المُقاومَةُ الشَّاملةُ كالقَتلِ الشَّامل الذي يُقرِّبُنا من الانقراضِ المَعنويِّ والماديِّ من هذا العالَم. وإذ أنَّ عدمَ الاعتيادِ هو أدنى المُقاومةِ، فإنَّ الاعيتادَ المُتعمَّدَ أقصى الجريمة. ليسَ المُرادُ هُنا عدمُ اعتيادِ القتل، بل عدمُ اعتيادِ المُقاومةِ بالدَّرجةِ الأولى. يَجبُ أنْ تبقى المُقاومةُ، رغمَ ضرورتِها وإلحاحِها، أمرًا طارئًا بقدرِ ما هو طَبيعيٌّ وغيرُ عاديٍّ. وعدمُ اعتيادِ الحياةِ ضروريٌّ هو الآخرُ لأنَّ الذي يعتادُ الحياةَ حتمًا سيعتادُ القتل، ومَن يعتادُ القتلَ فسيكونُ يومًا ما مُخيَّرًا بين خَيارَيْن لا ثالثَ لهما؛ إمَّا أن يكون القاتل وإمَّا القتيل. وفي عالَمٍ لا يُقيمُ وزنًا لأيِّ شيءٍ سِوى القُوَّة يُصبحُ اعتيادُ القتلِ جريمةً لأنَّ الذي يَعتادُ القَتلَ في عالمٍ كهذا سيكونُ مُستحقًّا له.
ونحنُ، إذ نَحيا على هذه الأرض، كُلُّ شيءٍ يُقاتلُنا في هذا العالَم؛ إنسانيَّتُنا، طفولتُنا، أحلامُنا الورديَّة، رغبتُنا في السَّلام، حقُّنا في العيشِ على هذه الأرض. ولا شيءَ أكثرَ قُدرةً على قَتلِنا من أولئكَ الذين يُبرِّرون قَتلَنا! وأولئكَ الشَّياطين الذين يَتَّهمونَنا بالخيانةِ إذا لم نُؤمنْ بأنَّهم يَقتلونَنا لأجلِنا! لكنْ لا مَفرَّ منَ الاعتراف بأنْ لنا حقٌّ سننتزعُه رغمًا عن رصاصِ القاتلِ وجبروتِه. حقُّنا في ألَّا نعتادَ قَتلَنا! سيبقى هَوْلُ قَتلُ إنسانٍ واحدٍ كهَوْلِ قتلِنا كُلِّنا. وحقُّنا في أن يَكونَ لنا مِن أمارةِ الحياةِ أمارةٌ غيرَ أنَّنا لسنا أمواتًا على سبيل القَتل.
#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)
Najib_Ali_Al_Attar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللهُ يَكفرُ بنفسِه
-
قتيلٌ يَرثي نفسَه
-
مَثالبُ الحَياةِ في حضرةِ القَتل
-
مَوْتانِ وحياةٌ واحدة
-
«آيديولوجيا الغَد» عندَ علي شريعتي
-
تَفجير 4 آب: بين الذِّكرى والقَضيَّة
-
عُذرًا حُسَيْنُ
-
الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة
-
قُرآنُ السَّيْفِ أم سَيْفُ القُرآن؟ (1)
-
ما لم تَسمعْه ليلى
-
عائدٌ إلى «الضَّاحية»
-
أديانُ الإسلام
-
دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس
-
مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي
-
رَبيعُ تِهران
-
مأساةُ الحِمار العَربيّ
-
سيمفونيّة الإرهاب
-
قَوْنَنَةُ الثقافة
-
ظاهرةُ عدنان إبراهيم
-
رسالةٌ الى الله
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|