|
رواية للفتيان دموع رينيت طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7782 - 2023 / 11 / 1 - 23:15
المحور:
الادب والفن
أبطال الرواية ـــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ريكو
2 ـ الأم
3 ـ رينيت
4 ـ الإلهة ـ الأم
" 1 " ــــــــــــــــــــــ
في منامه ، رأى غزالة ، وأي غزالة . هذا ما قاله ريكو لأمه ، وهو يتناول طعام الفطور ، قبل أن يركب حصانه ، ويخرج إلى الغابة ، باحثاً عن .. غزالة الحلم . وقدمت له أمه ، قطعة من الخبز الساخن ، مطلية بالزبدة ، وابتسمت متماكرة ، وقالت : أبوك أيضاً كان مثلك ، يحب الغزلان . وأخذ ريكو قطعة الخبز مبتسماً ، وقال : لكن غزالة واحدة فقط أسرته طول حياته . وعند الباب ، قالت له أمه : بنيّ ريكو ، حذار من الغزلان ، فأنت ملكي وحدي . وركب ريكو حصانه الفتيّ ، وقال : ليتني أرى غزالة ، كالتي أسرت أبي . ولوحت له مبتسمة ، وهو يمضي مبتعداً ، وقالت : عد إليّ بسرعة ، يا ريكو ، إنني أنتظرك . وقبل أن تغلق الأم الباب ، لاحظت أن الدخان ، المنبعث من قمة الجبل ، قد ازداد عما كان عليه منذ أيام ، وتذكرت ما قالته أمها عن جدتها العجوز : الويل لنا ، سيثور البركان قريباً ، ويدمر كلّ شيء . وطوال طريقه إلى الغابة ، التي لا تبعد كثيراً عن القرية ، لم تغب غزالة الحلم عن بال ريكو ، وحث حصانه ، وكأن الغزالة تنتظره في مكان ما ، ويريد أن يصل إليها ، قبل فوات الأوان . وتراءت له غزالة الحلم ، صحيح إنه يحب الغزلان ، يحب رقتها ، ورشاقتها ، وعيونها الواسعة السوداء ، لكن تلك الغزالة ، غزالة الحلم ، شيء آخر . وتمنى بينه وبين نفسه ، أن يراها ، أن يرى غزالة الحلم تلك ، بل وأن يحصل عليها ، ويحتفظ بها إلى جانبه ، مدى الحياة . أفاق من غيابه عما حوله ، وإذا هو بين أشجار الغابة ، ولمح غزالة مذعورة ، تمرق كالبرق على مسافة قريبة منه ، يتبعها كالرعد ذئب أزرق اللون ، بالغ الضخامة ، وقد كشر عن أنيابه الخناجر القاتلة . وعلى الفور ، رفع قوسه ، وأطلق منه سهماً كالبرق ، اخترق عميقاً كتف الذئب الأزرق الضخم ، وتعثر الذئب صارخاً ، وكاد أن يتداعى على الأرض ، لكنه تماسك وتوقف لحظة ، ثم لاذ بالفرار . وترجل ريكو عن حصانه الفتيّ ، وأسرع إلى الغزالة ، وهو يقول : اللعين ، كاد أن يفتك بكِ . وذهل حين سمع الغزالة تقول : لولاكَ .. وحدق في الغزالة ، وقد اشتد ذهوله ، فرفعت الغزالة رأسها ، وقالت : أشكركَ . فقال ريكو ومازال مذهولاً : أنتِ تتكلمين . فقالت الغزالة : هذا لأني لستُ غزالة .. ثم ابتسمت ، وقالت : نعم ، لستُ غزالة . ففغر فاه متمتماً : ماذا ! وأمام عينيه المذهولتين ، تحولت الغزالة إلى فتاة شابة جميلة ، وهي تقول : انظر . ونظر إليها مذهولاً ، فقالت : اسمي رينيت . ولاذ ريكو بالصمت ، فقالت رينيت : وأنت اسمك .. ريكو . اتسعت عينا ريكو دهشة ، وفتح فمه ليتكلم ، لكن رينيت رفعت رأسها منصتة ، ثم قالت : ماما تناديني . وأصغى لحظة مندهشاً ، ثم نظر إليها ، وقال : لم أسمع أحداً ينادي . فقالت مبتسمة : لم تسمعها ، ولن تسمعها ، إنها .. إنها ماما . ولاذ ريكو بالصمت ثانية ، فقالت الفتاة : ستعرف السبب ، حين تلقاها بعد قليل . وسارت الفتاة عبر أشجار الغابة ، وهي تقول : تعال معي ، يا ريكو . ودون تردد ، ودون أن يعرف لماذا ، وجد ريكو نفسه يسير وراءها ، تاركاً حصانه يرعى العشب بين أشجار الغابة .
" 2 " ـــــــــــــــــــــ
توقفت رينيت ، ومعها توقف ريكو ، وعبر الأشجار رآها تتطلع إلى كوخ ، لاح من بعيد ، تقف على مقربة منه امرأة في أواسط العمر . والتفتت رينيت إليه ، وقالت : ماما تنتظرنا بالباب . ومن دون أن ينظر إليها ، أو يرفع عينيه عن الكوخ ، قال ريكو : لقد جبتُ الغابة مراراً ، لكني لم أنتبه إلى وجود كوخكم ، في هذا المكان . لم تلتفت رينيت إليه ، بل قالت : ماما ستكون ممتنة لك ، فهي تعرف أنك أنقذتني من الذئب الأزرق . ونظر ريكو إليها مندهشاً ، فاستطردت رينيت قائلة : وستكرمك ، فهي تحبني جداً ، وقد تعطيك فضة أو ذهباً ، أو أحجاراً كريمة ، فلا تأخذها . ولاذ ريكو بالصمت ، فاستطردت رينيت قائلة : لديها تميمة ، على هيئة قلادة ، من يضعها حول عنقه ، يفهم ما تقوله الكائنات الأخرى ، مهما كانت لغتها . استأنفت رينيت سيرها ، متجهة نحو الكوخ ، وقالت : هيا ، ماما تستعجلنا ، ويجب أن نذهب إليها . وعلى أعقابها سار ريكو ، فقالت رينيت : أطلب منها تلك القلادة التمية ، وستعطيك إياها ، رغم اعتزازها بها ، فأنت أنقذتني من الذئب الأزرق . وتقدما من الأم ، التي كانت تتطلع إلى ريكو ، وقالت رينيت : ماما ، أقدم لكِ ضيفنا . . وقالت الإلهة ـ الأم : أهلاً ريكو . وبدت الدهشة على ملامح ريكو ، لكنه أجاب قائلاً : أهلاً بكِ ، سيدتي . وقالت الإلهة ـ الأم : أنت شاب قويّ ، وشجاع . ورمقت ابنتها رينيت بنظرة سريعة ، وقالت : أشكرك ، لقد أنقذت ابنتي من الذئب الأزرق . ورد ريكو قائلاً ، مغالباً دهشته : عفواً ، ما كنت لأترك الذئب الأزرق يؤذيها . واستدارت الإلهة ـ الأم ، متجهة نحو الداخل ، وقالت : تفضل ، الأفضل أن نرتاح قليلاً داخل الكوخ . ونظرت رينيت إلى ريكو ، وقالت : ادخل . ونظر ريكو إلى حيث ترك حصانه ، وقال : حصاني وحده حيث كنا ، أخاف أن يهاجمه حيوان ضار ٍ . وقالت الإلهة ـ الأم ، دون أن تتوقف : تعال ، لا تخف ، سيبقى حصانك سالماً في مكانه ، حتى تعود إليه . وقالت رينيت : اطمئن ، هيا ندخل . وتبع ريكو الإلهة ـ الأم إلى الداخل ، ورينيت تسير في أثره ، وتوقف داخل الكوخ مذهولاً ، وبدا له وكأنه جناح فخم في قصر من قصور الأمراء . ونظرت رينيت إليه مبتسمة ، وقالت الإلهة ـ الأم : يبدو أن الكوخ قد أعجبك . فقال ريكو : لا يوحي من الخارج ، بأنه في هذه الفخامة والروعة من الداخل . واتسعت ابتسامة رينيت ، وقالت : هذه ماما ، إنها ساحرة . ورمقتها الإلهة ـ الأم بنظرة خاطفة ، وقالت : فرخة الإوزة عوامة . ورمقت رينيت أمها بنظرة ذات معنى ، ثم قالت : لابد أن ضيفنا جائع الآن ، يا ماما . وعلى الفور قالت الإلهة ـ الأم : ليطلب ما يشاء . فسارع ريكو إلى القول : لدي بعض الطعام في .. وقاطعته رينيت قائلة : تذوق طعام ماما ، ولن تندم ، هيا يا ماما ، طعامك . واستدارت الإلهة ـ الأم قائلة : لحظات ويجهز الطعام . فتراجع ريكو إلى الوراء ، وقال : إذن سأطمئن على حصاني ، وأعود سريعاً . فقالت الأم ، دون أن تلتفت إليه : قلت لك اطمئن ، حصنك سيبقى في انتظارك ، متى ما ذهبت إليه . وقالت رينيت : تغدّ أولا، ثم اذهب إلى حصانك . وتوقف ريكو ، وقد لاذ بالصمت ، فقالت الإلهة ـ الأم ، وهي تتهيأ لإعداد الطعام : اذهبا ، وتجولا في الجوار ، وسأناديكما حالما يجهز الطعام . وقالت رينيت : هذا جيد . ثم نظرت إلى ريكو ، وقالت : هيا ، يا ريكو . وخرجت من الكوخ ، فمضى ريكو في أثرها ، ليتجولا في الجوار ، ريثما يجهز الطعام .
" 3 " ــــــــــــــــــــ
بعد أن فرغوا من تناول طعام الغداء ، الذي أعدته الإلهة ـ الأم ، نهض ريكو ، وقال : اسمحا لي ، سأذهب للاطمئنان على حصاني . وهمت رينيت بالنهوض هي الأخرى ، وفمها مازال مملوءاً بالطعام ، وقالت : مهلاً ، يا ريكو ، سآتي معكَ حيث الحصان . وعلى الفور ، مدّت الإلهة ـ الأم يدها ، وأطبقت على يد رينيت ، وقالت : بنيتي ، أبقي أنتِ . ثم نظرت إلى ريكو ، وأضافت قائلة : ستتأخر في العودة ، إذا رافقتك رينيت . وصمتت برهة ، ثم قالت : لقد أنقذت ابنتي من الذئب الأزرق ، وعليّ أن أكافئك ، وسأكافئك مكافأة لم أكافئها لأحد حتى الآن . وأسرع ريكو إلى الخارج ، وهو يقول : لن أتأخر ، يا سيدتي ، سأعود حالاً . ونظرت الإلهة ـ الأم إلى رينيت ، وقالت بنبرة موحية : أيتها العوامة . وردت رينيت بنفس النبرة الموحية : إنني ابنتك ، أيتها الإوزة . وابتسمت الإلهة ـ الأم ، وقالت : أعرف أن كلّ ما حدث في الغابة ، هو من صنعكِ . ولاذت رينيت بالصمت ، فتابعت الإلهة الأم قائلة : لقد رأيتِ ريكو قبل اليوم . وهزت رينيت رأها ، ثم نهضت ، فقالت الإلهة الأم : ولأكثر من مرة . وتوقفت رينيت قرب النافذة ، المطلع على أشجار الغابة ، وقالت : رأيته مرات ، وفي أكثر من مكان في هذه الغابة ، على مدى أشهر عديدة . وابتسمت الإلهة ـ الأم ، وقالت : وحتى حادثة الذئب الأزرق ، الذي لا وجود له في الغابة ، كانت من صنعكِ أنتِ ، يا عوامتي . وقالت رينيت مبتسمة : أردته أن يكون بطلي المغوار ، ومنقذي من موت محقق . وقالت الإلهة ـ الأم : وهاهو ، كما أردته ، بطل مغوار .. ومنقذ . وقالت رينيت بنبرة معاتبة : ماما . ونهضت الإلهة ـ الأم ، وهي تقول : بنيتي رينيت ، أنت تلعبين بالنار . وتطلعت رينيت عبر النافذة ، إلى أعماق الغابة ، وقالت : حتى في هذا ، يا ماما ، فأنا عوامة . والتفتت إلى أمها ، وأضافت قائلة : أنتِ أيضاً أحببتِ صياداً ، عندما كنتِ شابة في عمري . فقالت الإلهة ـ الأم : لكن أمي نبهتني إلى أنني إلهة ، وعليّ أن أبقى إلهة ، وقد أصغيت إلى ما قالته لي أمي ، وعملت بما نبهتني إليه ، وبقيت إلهة . ولاذت رينيت بالصمت ، فاقتربت الإلهة ـ الأم منها ، وقالت : إنني أمكِ ، أرجو أن تصغي إليّ ، أبقي إلهة حتى النهاية . وتراجعت رينيت ، ثم مضت إلى الخارج ، وهي تقول : سأنتظر ريكو في الخارج . وأقبل ريكو ، بعد حين ، على حصانه ، وتوقف على مقربة من رينيت ، وقال : أراكِ هنا . فردت رينيت قائلة : إنني أنتظركَ . وترجل ريكو عن حصانه ، واقتربت من رينيت ، وقال : ربما عليّ أن أغادر قبل المساء . فقالت رينيت : لن تدعك ماما تغادر . وقال ريكو : جئت لأصطاد . ورفعت رينيت عينيها السوداوين الواسعتين إليه ، وقالت : القمر الليلة سيبزغ بدراً ، ابقَ يا ريكو ، أريد أن أجلس معك هنا ، على ضوء القمر . وصمتت رينيت لحظة ، ثم قالت بصوت عذب : أرجوك ، لا تقل .. لا . وتطلع ريكو إليها ، ولم يقل .. لا .
" 4 " ـــــــــــــــــــــ
جنباً إلى جنب ، جلس ريكو ورينيت صامتين ، تحت ضوء القمر ، فبعد أن تناولا طعام العشاء ، مع الإلهة ـ الأم طبعاً ، خرجا من الكوخ كما اتفقا سابقاً ، وجلسا تحت ضوء القمر . وظلا هكذا صامتين ، لا يريمان ، ولا ينظر أحدهما إلى الآخر ، لفترة ليست قصيرة ، وكأن الليل والصمت وضوء القمر قد سحرهما . وبصورة لا إرادية ، مدّ ريكو يده ، وتحسس القلادة التميمة ، التي وضعتها الإلهة ـ الأم حول رقبته ، بعد أن فرغوا من تناول طعام العشاء . وحينها نظر ريكو إلى الإلهة ـ الأم ، وقال ممتناً : أشكركِ ، يا سيدتي . ولمست الإلهة ـ الأم القلادة التميمة ، وهي حول رقبته ، وقالت : هناك نصيحة مهمة ، يا ريكو ، سأدع رينيت تقدمها لك نيابة عني ، حين تجلسان بعد قليل ، في الخارج ، تحت ضوء القمر . وتململ ريكو وكأنه انتبه من غفوة عميقة ، ونظر إلى رينيت ، وهما يجلسان تحت ضوء القمر ، وقال : قالت أمك أنك ستقدمين لي نصيحة حول القلادة التميمة ، نيابة عنها . فقالت رينيت : آه ، نعم ، فالقلادة التميمة مفيدة ، لكنها أيضاً خطرة ، خطرة جداً . ولاذ ريكو بالصمت ، فتابعت رينيت قائلة : ستفهم بفضلها ما تقوله الكائنات الحية ، وربما سيكون بعض ما ستقوله تلك الكائنات ، محرجاً بل وحتى خطراً .. وصمتت رينيت ، ثم قالت محذرة : إياك أن تتدخل أو تفشي بما تسمعه وإلا .. وتساءل ريكو متوجساً : وإلا .. ؟ وحدقت رينيت فيه ، وقالت : تصير حجراً . وخفق قلب ريكو بما يشبه الخوف ، ثم قال : لا أريد أن أصير حجراً ، فأنا مازلت شاباً . وتطلعت رينيت إليه ، وقالت : ولابد أن هناك من ينتظر عودتك على أحرّ من الجمر . فقال ريكو : نعم ، هناك من ينتظر عودتي . . وصمت لحظة ، وعينا رينيت المتلهفتان المتوجستان متعلقتين بعينيه ، فقال : أمي . وتساءلت رينيت : فقط ؟ فردّ ريكو قائلاً : فقط . ولاذت رينيت بالصمت لحظة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لو كنتُ فتاة ، يا ريكو ، لانتظرتك حتى آخر العمر . ونظر ريكو إليها مندهشاً ، فنهضت رينيت وهي تقول : تأخر الوقت ، من الأفضل أن تأوي إلى فراشك ، فأمامك غداً جولات صيد متعبة . ونهض ريكو بدوره ، ومدّ يده ، وأمسك يدها ، وقال بصوت هامس متأثر : رينيت .. ونظرت رينيت إليه ، بعينين يغرقهما الحزن ، فتساءل ريكو : ما الأمر ، يا رينيت ؟ وارتمت رينيت على صدره ، وهي تتنهد بحزن ، فقال ريكو : تعالي معي . فقالت رينيت بصوت يغرقه الحزن : ليتني أستطيع ذلك ، ليتني أستطيع ، يا ريكو . ومدّ ريكو يديه ، ورفع وجهها الغارق بالحزن ، وقال متحيراً : لا أفهم ما تعنين . وهمت ريميت أن تتكلم ، وربما لتبوح إليه ما نهتها أمها عنه ، لكن تناهى إليها وقع أقدام ، فتراجعت قليلاً ، وقالت : ماما قادمة . ووقف ريكو محرجاً ، فتقدمت الإلهة ـ الأم منهما ، وقالت : لقد برد الجو . فقال ريكو : نعم ، لقد برد بعض الشيء . وتراجعت رينيت ، ثم مضت نحو الداخل ، وهي تقول : إنني نعسانة ، سأنام . ونظرت الإلهة ـ الأم إلى ريكو ، وقالت : الأفضل أن تنام أنت أيضاً ، يا ريكو . فقال ريكو : سأبقى هنا قليلاً ، ثم آوي إلى فراشي . فقالت الإلهة ـ الأم : كما تشاء . ولبثت في مكانها برهة ، ثم استدارت ، ومضت إلى داخل الكوخ ، وهي تقول : أتمنى لك التوفيق ، يا ريكو ، تصبح على خير . فرد ريكو بصوت خافت : أشكركِ ، يا سيدتي ، تصبحين على خير .
" 5 " ــــــــــــــــــــــ فز ريكو قلقاً ، على حمحمة حصانه ، الذي ربطه ليلة البارحة ، إلى شجرة قريبة من كوخ الإلهة ـ الأم وابنتها رينيت . وفتح عينيه اللتين كان النعاس مازال يغشاهما ، وفوجىء بأنه يرقد في العراء ، على مقربة من الشجرة ، التي ربط إليها الحصان . وفوجئ أكثر حين لم ير الفراش الذي نام عليه ليلة البارحة ، بل ولم ير الكوخ نفسه ، الذي أوى إليه مع رينيت والإلهة ـ الأم . وتلفت حوله مذهولاً ، يبحث دون جدوى عن رينيت وأمها الإلهة ـ الأم ، اللتين استضافتاه يوم أمس ، ترى أين اختفتا ؟ وحمحم حصانه ثانية ، كأنه يريد أن ينبهه إلى وجوده ، فالتفت إليه متسائلاً ، وصعق حين سمعه يغمغم بلغته الخاصة : الأفعى اللعينة ، لو لم اقتلها بحافريّ الأماميين ، للدغت فارسي ريكو ، وربما قتلته . وعلى الفور نظر ريكو إلى حافري الحصان ، ورأى على مقربة منهما جسد أفعى مدماة ، فهب واقفا ، ورفع الأفعى القتيلة برمحه ، ثم رماها بعيدا ، والتفت إلى الحصان ، وقال : أشكرك ، يا صاحبي . ورمقه الحصان بنظرة متفهمة ، لكنه لم يرد عليه ، فتقدم ريكو منه ، وربت على عنقه ، وقال محدثاً نفسه : من يدري ، ربما فهمني . ورغم ما جابهه مع الحصان والأفعى الضخمة ، لم تغب رينيت وأمها الإلهة ـ الأم عن باله ، فليس من السهل أن ينسى لقاءه البارحة معهما ، و .. وتذكر القلادة التميمة ، فمد يده إلى عنقه ، وإذا هي موجودة ، حيث وضعتها الإلهة ـ الم ، هذا يعني أن رينيت والإلهة ـ الأم كانتا حقيقة وليس وهما ، لكن .. أين هما ؟ وعلى الفور ، أسرع يدور بين الأشجار ، لعله يقع على اثر لهما ، لكن دون جدوى ، فلم يكن لهما أي اثر ، في أي مكان . وتوقف حائرا ، فاقترب حصانه منه ، وكان يتبعه عن بعد ، فقال ريكو : إنها فكرة ، فلأبحث عنهما على ظهر الحصان . وركب ريكو الحصان ، وانطلق به على مهل ، يسير بين الشجار ، ويتلفت يمينا ويسارا ، لعله يلمح رينيت أو الإلهة ـ الأم ، لكن دون جدوى . وتناهى إليه رفرفة أجنحة صغيرة ، فرفع رأسه إلى الأعلى ، ورأى الطائر الصغير ، الذي يعيش على صيد الأسماك الصغيرة ، يقترب من نسر ضخم يقف على شجرة قريبة ، وهو يقول : أيها النسر .. ورمقه النسر بنظرة حادة غاضبة ، فقال : رأيت سمكة كبيرة تسبح قرب الشاطىء ، وهي اكبر من أن اصطادها ، اذهب إليها واصطدها . وتطلع النسر بعينيه حادتي النظر باتجاه النهر القريب ، وقال : ستدفع الثمن إذا كنت تكذب . فرد الطائر الصغير قائلاً : اذهب ، وسترى أنني صادق في قولي ، بل وستشكرني . وعلى الفور فتح النسر جناحيه ، وطار متجهاً نحو النهر ، لعله يصطاد السمكة الكبيرة ، التي حدثه عنها الطائر الصغير . وهز ريكو رأسه ، السمك لذيذ ، وهو نفسه يحب أكل السمك ، ومن يدري ، فقد تكون السمكة قد ابتعدت ، فلا يجدها النسر ، وحث ريكو حصانه مبتعدا ، ليت السمكة قد ابتعدت ، فلا يجدها النسر . وتوقف ريكو بحصانه منصتا ، فقد بدا له أنه يسمع دبيب أقدام ، وتلفت وقلبه يخفق بشدة ، لعلها رينيت ، وهدأ قلبه ، لم تكن رينيت بل ثعلبين فتيين ، ربما ذكر وأنثى يتهامسان ، ورغم خفوت صوتهما ، سمع احدهما يقول للآخر : صدقيني ، بيتها هنا . تساءلت الثعلبة : الأرنبة ! فقال الثعلب ، وهو يخطو أمامها بحذر : نعم ، وصغارها الخمسة ، تعالي ، ستشبعين اليوم . الأرنبة المسكينة ، قد يكون بيتها هنا فعلاً ، وقد يصطادها هذان الثعلبان اللعينان ، و .. هل يحذرها ، وهز رأسه ، سيصير حجرا إن حذرها ، ثم إنه هو نفسه يأكل السمك والطيور والأرانب و .. وحث حصانه مبتعدا ، وراح يدور بين الأشجار ، وقد ارتفعت الشمس فوق الغابة ، ومع زقزقة العصافير ، أحس بزقزقة بطنه ، آه انه جائع ، لم يأكل منذ ليلة البارحة ، وأمامه تجوال طويل ، فليتوقف ويأكل . وتوقف ريكو بحصانه قرب شجرة ضخمة ، وترجل عنه ، وتركه يرعى ، بينما جلس هو في ظل الشجرة ، يتناول من الطعام الذي أعدته له أمه ، قبل أن يبدأ البارحة رحلته إلى الغابة .
" 6 " ــــــــــــــــــــــ
ﻻ يدري ريكو كيف أغفى ، تحت ظل الشجرة ، التي جلس تحتها ليتناول طعامه ، فهو لم يكن متعبا ، والنهار لم ينتصف بعد ، وحتى طعامه لم يأكل منه سوى لقيمات قليلة . وفي منامه ، رأى غزالة تقبل من بين الأشجار ، وهي تتلفت حولها ، وتوقفت على مقربة منه ، دون أن يبدو عليها أنها انتبهت إلى وجوده . وسرعان ما رفعت رأسها ، وهتفت : خشفي . وانتظرت قليلا ، ولما لم يرد عليها احد هتفت ثانية بصوت أعلى : خشفي ، أنا هنا . ولم يطل انتظارها هذه المرة ، فقد اقبل خشف صغير من بين الأشجار ، وهو يهتف : ماما .. ماما . وأسرعت الغزالة إليه ، وقالت : تعال ، يا صغيري ، ﻻ تخف . وتوقف الخشف لصقها ، وقال : ماما ، رأيت النمر ، يتسلل بين الأشجار . وحضنت الغزالة خشفها ، وقالت : قلت لك أن ﻻ تبتعد عني ، يا بني . وقال الخشف ، ومازال في صوته شيء من الخوف : إنه مرعب ، يا ماما . فقالت الغزالة : النمر حيوان مفترس ، تخافه كائنات الغابة كلها . فتراجع الخشف قليلا ، وقال بشيء من الانفعال : سأقتله حين اكبر . ابتسمت أمه ، وقالت : لو كان بإمكاني أنا أن اقتله لما حاولت قتله . ونظر الخشف إلى أمه ، وتساءل قائلا : لماذا ! ونظرت الغزالة عبر أشجار الغابة إلى الجبل ، الذي ترتفع خيوط الدخان من أعلاه ، وقالت : يقال أن النمر هو ابن الجبل ، وإذا قتله احد ، فسيدفع هو ومن معه الثمن غاليا . وهنا تناهت عبر حفيف أغصان أشجار الغابة دمدمة غامضة مخيفة ، فأنصتت الغزالة مليا ، ثم دفعت خشفها برفق ، وقالت : أخشى أن يكون هذا هو النمر ، هيا نبتعد وإلا .. وقبل أن تختفي الغزالة وخشفها ، بين أشجار الغابة ، سمعها ريكو تقول ، وكأنها تخاطبه : حذار ، النمر المفترس في الجوار . وأفاق ريكو ، وقلبه يخفق بشدة ، وخيل إليه انه يسمع مع حفيف أغصان أشجار الغابة ، دمدمة غامضة مخيفة ، ونهض واقفاً ، وراح يتلفت حوله قلقاً ، اهو النمر حقاً ؟ وهدأ قليلاً ، عندما رأى حصانه يرعى العشب باطمئنان ، على مسافة قريبة منه ، لكنه مع ذلك ، جمع بقية الطعام في صرته ، وأعادها إلى الخرج ، ثم امتطى حصانه ، وحثه عل السير . سار الحصان ببطء بين الأشجار ، وريكو يتلفت حوله منصتاً ، ورغم الهدوء الظاهر ، أحس ريكو بشيء مريب ومقلق يدور حوله في الخفاء ، وتوقف بحصانه حين رأى حمامتين تقبلان من بعيد ، وقد بدا القلق عليهما . وحطت إحدى الحمامتين على شجرة قريبة ، وسمعها ريكو تقول للحمامة الثانية : بنيتي ، تعالي ، وقفي معي فوق هذه الشجرة . وحامت الحمامة الثانية حولها ، وهي تقول : النمر المفترس في الجوار . وقالت الحمامة الأولى : هذا ما كنت أخشاه ، وجعلني اتبع الفتاة ، حال خروجها من الكوخ . وحطت الحمامة الثانية على مقربة من أمها ، وقالت : يفترض بأمها أن تمنعها من الخروج ، مهما كان الثمن ، فهي فتاة صغيرة . فردت الحمامة الأولى قائلة : أمها مريضة ، وقد حاولت ذلك ، لكنها أصرت على الخروج ، لتأتيها بأزهار البابنج ، لعلها تشفى من المرض . وهبت الحمامة من مكانها، وهي تقول : اتبعيني ، عسى أن نبعد النمر عن الفتاة الصغيرة . وحلقت الحمامتان مبتعدتين ، وسرعان ما اختفتا وراء الأشجار الكثيفة العالية ، وعلى الفور امتطى ريكو حصانه ، وانطلق به في أثر الحمامتين .
" 7 " ـــــــــــــــــــــ
تابع ريكو الحمامتين من بعيد ، وحاول أن يبقيهما في مدى نظره ، لكنهما ورغم سرعته المتزايدة ، راحتا تبتعدان عنه ، حتى اختفتا تماما وراء أشجار الغابة الكثيفة العالية . لم يتوقف ، وظل منطلقا على حصانه ، بالاتجاه الذي اختفت فيه الحمامتان ، لكنه توقف أخيرا ، إذ لم يكن هناك اثر للحمامتين في أي مكان . وتلفت حوله ، وقلقه يزداد حدة ، فتلك الفتاة الصغيرة معرضة للخطر ، وقد يهاجمها النمر في أية لحظة ، ويفتك بها ، وهي تحاول أن تأتي بأزهار البابنج لامها المريضة ، الراقدة في الكوخ . وهبت الريح ، وارتفع حفيف أغصان الأشجار ، ومعه تناهت إليه دمدمة غامضة مخيفة ، واتسعت عينا ريكو قلقا ، انه النمر ، ﻻبد انه عرف مكان الفتاة الصغيرة ، وسيسرع نحوها و .. ولكز حصانه بقدميه ، وانطلق به نحو كوخ الحطاب ، إن الحمامتين اختفتا ، وربما حاولتا أن تبعدا النمر المفترس عن الفتاة الصغيرة ، وهذا محال ، وﻻبد أن الفتاة الصغيرة تجمع الآن أزهار البابنج على مسافة ليست بعيدة عن الكوخ . وصدق حدسه ، ففي مرج مشمس بين الأشجار ، وعلى مسافة ليست بعيدة من الكوخ ، لمح فتاة صغيرة تسير ، وفي يدها سلة صغيرة ، ﻻبد أنها كانت تجمع فيها أزهار البابنج ، لتأخذها إلى أمها المريضة ، التي ترقد الآن في الكوخ ، في انتظر صغيرتها . والآن ما العمل ؟ وتوقف ريكو على مرتفع معشب ، بين الأشجار المرتفعة ، يطل على المرج ، الذي تتجول فيه الفتاة الصغيرة ، وهي تجمع أزهار البابنج ، وتضعها في سلتها الصغيرة . وفكر أن يسرع على حصانه إلى الفتاة الصغيرة ، وينذرها من خطر النمر المفترس ، ويطلب منها أن تعود مسرعة إلى الكوخ . وتراءت له رينيت ، تقول له ، وهما يجلسان تحت ضوء القمر : إذا أفشيت لأحد ، ما تسمعه من الكائنات الحية ، ستصير حجراً . ترجل عن حصانه ، ووقف إلى جانب شجرة ضخمة ، راح يراقب من ورائها ما حوله ، دون أن تغيب الفتاة الصغيرة عنه ، فليبقَ هنا ، فقد ﻻ يأتي النمر ، وقد يجد له فريسة ينشغل بها ، حتى تملأ الفتاة الصغيرة سلتها بأزهار البابنج ، وتعود إلى الكوخ . وتطلع ريكو إلى الفتاة الصغيرة ، ورغم البعد ، رأى بشرتها الحنطية الصافية ، وشعرها البني الذي تطايره الريح ، الويل للنمر ، سيمنعه من الاقتراب منها ، مهما كلفه هذه الأمر . ثم أين أبوها الحطاب ؟ كيف يسمح لنفسه بان يغفل عن فتاة صغيرة مثل هذه الفتاة ، خاصة وان أمها مريضة طريح الفراش في الكوخ ؟ وانتبه ريكو إلى الحمامتين ، تقبلان مسرعتين من بعيد ، وتتجهان نحو الفتاة الصغيرة ، ترى هل نجحتا في إبعاد النمر ، أم أن .. وتناهت إليه حركة مريبة من بين الأشجار ، ربما هو النمر يتسلل نحو الفتاة الصغيرة ، و .. وعلى الفور شد ريكو يده على قوسه ، ومضى يتسلل بحذر نحو الفتاة ، وكمن وراء شجرة ليست بعيدة عنها ، وراح يراقبها ، والحمامتان تحومان قلقتين حولها ، وسمع الأولى تقول للثانية : يا للويل ، النمر المفترس اللعين ، انه يقترب . وقالت الثانية : لو كان بإمكاني أن اقتله لقتلته . وقالت الأولى : لكن قتله يسبب كارثة ، أنسيت انه ابن الجبل الغضوب . وصاحت الثانية : ليكن هذا النمر من يكون ، .. يا إلهي .. هاهو قادم . وعلى الفور ، وربما بصورة ﻻ واعية ، امسك ريكو سهما من سهامه القاتلة ، وشده بيده إلى القوس ، لن يدع النمر يلمس شعرة من هذه الفتاة الصغيرة ، مهما كان الثمن . وأعولت الريح ، وعصفت بالأشجار ، والتمع برق أعقبه رعد هز الغابة ، وهنا برز النمر ، وعيناه تتقادحان ، ويبدو انه أبصر الفتاة الصغيرة ، التي أرعبها البرق والرعد ، فانطلق نحوها مزمجرا، وقد كشر عن أنيابه القاتلة . وبرز ريكو من وراء الشجرة ، ورغم انه تناهى إليه مع الريح العاصفة صوت رينيت تحذره : حذار ، يا ريكو ، لا تقتل النمر وإلا .. لكنه أطلق سهمه نحوه ، وأصابه إصابة قاتلة .
" 8 " ــــــــــــــــــــ اهتز الجبل غاضبا ، وارتفعت دمدمته ، حتى كأن الرعود اجتاحت العالم كله ، وتزايد تدفق الدخان الكثيف من فوهة البركان ، وراح يزحف على وجه السماء الزرقاء ، ويغطيها شيئا فشيئا . وتلفت ريكو حوله قلقا مذهولاً ، بينما راحت الأرانب والغزﻻن والثعالب تتراكض من مكان إلى مكان ، وهي تتصايح وتولول مذعورة . صاح أرنب : اهربوا .. اهربوا . وصاح أرنب آخر : الجبل غاضب . وصاح ثعلب : ولن يهدا غضبه حتى يدمر كلّ ما يقف في طريقه . وقالت غزالة ، وهي تدفع خشفها أمامها : اهرب .. ، يا بنيّ ، أهرب . وتساءل الخشف ، وهو يركض أمام أمه : ماما ، ماذا يجري ؟ أخبريني . ودفعته أمه ثانية ، وقالت : سينفجر الجبل ، ويثور البركان ، اهرب بسرعة ، اهرب . لكن الخشف بدل أن يسرع أبطأ ، وقال : ماذا يجري ؟ ماذا يجري ؟ فقالت الغزالة ، وهي تدفعه بقوة : أحدهم ، على ما يبدو ، قتل ابن الجبل المدلل ، النمر ، اهرب . وقال الخشف ، وهو يركض أمام أمه : لو انتظر حتى أكبر ، لقتله بنفسي ، وخلصت كائنات الغابة المسالمة كلها منه ، ومن شروره . والتفت ريكو إلى حصانه ، حين سمعه يصيح : يا ويلي ، ستغرق حمم البركان الملتهبة القرية كلها ، وتقتل كل ما فيها من الأحياء . وعلى الفور ، أسرع ريكو إلى حصانه ، وقفز على ظهره ، وصاح : هيا إلى القرية ، هيا بسرعة ، قبل أن ينفجر البركان ، وتتدفق الحمم . وانطلق الحصان يسابق الريح ، متجها بريكو نحو القرية ، والجبل يتفجر غاضبا ، وينفث دخانه المتزايد ، الكثيف نحو السماء ، وراح ينسدل كما الليل على الجبل والقرية والغابة كلها . وتراءت القرية لريكو من بعيد ، ببيوتها الصغيرة الجميلة ، وطرقها وحدائقها ، وسكانه الآمنين ، فحث حصانه صائحا : هيا .. هيا .. يجب أن ننذر أهل القرية ليتركوا بيوتهم ، ويعتصموا بالتلال القريبة وإلا غمرتهم حمم البركان . وهنا تراءت له رينيت ، وهي تحذره قائلة ، وهما يجلسان جنباً إلى جنب ، تحت ضوء القمر : حذار أن تشي لأحد بما تسمعه من الكائنات الأخرى ، وإلا صرت حجراً . لم يتوقف ريكو ، وتراءت له أمه تناديه هذه المرة ، وهي تتطلع إليه ، وتهتف : ريكو .. فحث ريكو حصانه ، وكأنه يريد أن يبعد عنه تحذير رينيت ، وهتاف أمه المؤثر ملأ كيانه ، فصاح ثانية ، والرعود تقصف حوله : هيا ، هيا أسرع ، يجب أن نصل قبل انفجار البركان ، وتدفق حممه . ومرة أخرى تراءت له رينيت ، وفي نفس الوقت تراءت له أمه .. صاحت رينيت: ريكو .. وهتفت أمه : ريكو .. ورغم أن رينيت لم تغب عن مخيلته ، إلا انه اندفع داخل القرية ، وراح يصيح : أيها الناس اسمعوني .. اسمعوني .. ورغم اضطراب الناس ، وركضهم حائرين مضطربين في جميع الاتجاهات ، إلا أن بعضهم توقف ، وراحوا ينصتون له ، فتابع صائحا : البركان سينفجر .. وتغرق الحمم القرية كلها . وترجل ريكو عن حصانه ، الذي مضى مبتعداً على الفور ، ومضى يركض مضطرباً كالمجنون ، وفتح ريكو فمه ، وهمّ أن يصيح ، لكنه لم يستطع ، فقد بدأ يتحول إلى تمثال من حجر ، وهل يستطيع تمثال من الحجر أن يصيح ؟
" 9 " ــــــــــــــــــــ كما شاءت الإلهة ـ الأم ، ظلت رينيت إلى جانبها ، ومثلما ابتعدت هي عن صيادها الشاب ، عندما كانت شابة ، واختارت أن تبقى إلهة ، اختارت رينيت أيضاً ، أن تبتعد عن ريكو . وتركته يذهب وحده ، لكنها وربما مثل أمها ـ الإلهة ، لم يغب صيادها ريكو عن بالها لحظة واحدة ، كما لم تغب هي عن باله . وظلت تتحين الفرص ، فتغيب عن أمها بحجة أو أخرى ، فتتابعه من بعيد ، وهو يتنقل في الغابة ، من مكان إلى مكان آخر ، بحثاً عنها ، لكن دون جدوى . وينتابها القلق والخوف ، كلما أصغى ريكو إلى كائن ، وسمع سرا من الأسرار ، فقد كانت تخشى أن يضعف ، ويحاول إنذاره ، فيصير حجرا . وعندما رأته من بعيد ، يصغي إلى الحمامتين ، انقبض قلبها ، فهي تعرف انه عاطفي ، وانه قد يضعف أمام تلك الفتاة الصغيرة ، وهذا ما حدث . ورغم تحذير أمها ـ الإلهة لها ، أسرعت رينيت لتبقى على مسافة من ريكو ، وازداد قلقها عندما رأته يقتل النمر ، ويثير بذلك غضب الجبل ، ويتسبب بثورة البركان وجنونه القاتل . وتابعته من بعيد ، وهو يعدو على حصانه إلى القرية ، ويرتكب الخطأ الذي خشيت أن يرتكبه ، فقد انذر أهل القرية ، بأن البركان سيثور ، وأن عليهم أن يلجأوا إلى التلال القريبة . وأمام عينيها العاشقتين ، رأته يتحول شيئا فشيئا إلى تمثال من حجر ، وتوقفت في مواجهته ، مغالبة بكاءها ، دون أن تلتفت إلى البروق والرعود ، وحمم البركان وصراخ أهل القرية وهم يتراكضون تاركين بيوتهم ، ليفروا بأرواحهم وصغارهم إلى التلال القريبة . ومدت رينيت يديها المحبتين ، وعانقت ريكو ، عانقته حجراً بارداً ، وتمنت في أعماقها لو أنها عانقته حياً دافئا ، تلك الليلة ، عندما جلسا جنباً إلى جنب ، تحت ضوء القمر ، وهنا انبثقت الدموع مم عينيها ، وراحت تسيل فوق التمثال ، وتساقطت فوق الأرض . هدأت البروق والرعود ، وهدا غضب الجبل المجنون ، فخمد ثوران البركان ، ولم يعد ينفث الحمم الساخنة، وكف تماما عن الدمدمة ، وعاد إلى صمته المعهود ، ولكن بعد أن احدث خرابا كبيرا فيما حوله . صحيح إن الحمم لم تصل البيوت والبساتين ، لكنها غمرت بعض أشجار الجبل ، وقتلت بعض الكائنات الحية التي لم تستطع أن تهرب في الوقت المناسب ، كما غمر الرماد الذي نفثه البركان مع الدخان ، دروب القرية وبيوتها وحدائقها الجميلة . ومن بعيد ، من أعلى التلال ، راح أهل القرية يراقبون متألمين ما يُلحق البركان بقريتهم الجميلة ، ويتساءلون عما جنوه ليغضب الجبل منهم ، ويجن جنون البركان ، الذي طالما كان هادئا ، ويكتفي أحيانا بالدمدمة ، أو نفث بعض الدخان والرماد . وفي غمرة ثوران البركان ، وتدفق الحمم الملتهبة ، اقترح بعض أهالي القرية ، أن يتركوا قريتهم المنكوبة ، ويهاجروا إلى القرى المجاورة . وهذا ما فعله البعض منهم ، لكن اغلب الأهالي فضلوا الانتظار ، لعل البركان يهدا ، فيعودوا إلى بيوتهم ، والى حياتهم الهانئة التي تعودوا عليها . وهدأ الجبل فعلاً ، وكف البركان عن قذف حممه اللاهبة ، وشيئا فشيئا اطمأن أهالي القرية ، وراحوا ينسلون الواحد بعد الآخر ، من التلال التي لجأوا إليها ، ويعودون إلى قريتهم . نعم ، إنهم لا يستطيعون الابتعاد عن قريتهم ، التي ولدوا وعاشوا فيها ، كما عاش فيها آباؤهم وأجدادهم ، صحيح إن القرية لم تعد كما كانت ، قبل أن يجن الجبل ، ويثور البركان ، فالرماد يغطي الدروب والحدائق والبيوت ، لكن هذا أمر يمكن إصلاحه ، وسيصلحونه لتعود قريتهم كما عهدوها نظيفة جميلة مريحة . وفوجئ أهالي القرية بوجود تمثال من الحجر وسط المدينة ، وعلى مقربة منه ، ومن باطن الأرض ، يسيل نبع ماؤه صاف كدموع الأطفال والعشاق ، من يدري ربما كانت هذه .. دموع رينيت . وهنا تقدمت طفلة من التمثال ، وأشارت إليه بيده الصغيرة ، وصاحت : انظروا ، إنة ريكو .
23 / 11 / 2015
البراق
براق الإبداع والتفرد و .. الجوائز
يعود الفضل في تعرفي على عالم " البراق " الرائع ، إلى الفنافنة التشكيلية ، رسامة الأطفال المبدعة ، انطلاق محمد علي ، التي فازت بالعديد من الجوائز العربية والعالمية ، منها جائزة " نوما " اليابانية . وقبل أن تعرفني انطلاق على " البراق " عرفتني على دار " كندة " في عمان ، وصاحبتها الأديبة المبدعة الأردنية ـ الفلسطينية روضة الهدهد ، وكان من حصيلة هذا التعرف ، أن نشرت لي العديد من قصص الأطفال ، حول القضية الفلسطينية ، في زاويتها للأطفال ، في جريدة الدستور الأردنية . وقد جمعت هذه القصص ، فيما بعد ، وأصدرتها في كتاب جميل ، عن دار " كندة " بعنوان " حكايات ليث " ، وصدر الكتاب بمناسبة مرور " 50 " عاماً على نكبة الشعب الفلسطيني على أيدي الصهيونية ، المدعومة من قبل الامبريالية العالمية . وتواصلتُ مع " دار البراق " ، وطلبوا مني بعض النصوص ، فأرسلتُ لهم أربع روايات للفتيان ، وافقوا على ثلاث روايات منها ، ثم أرسلت رواية أخرى ، فوافقوا عليها ، وضموها إلى الروايات الثلاث السابقة ، واتفقوا معي على نشرها ، في وقت لاحق . وفي عام " 2013 " وبمناسبة مؤتمر للأطفال أقامته دار ثقافة الأطفال في بغداد ، التقيت بأحد مسؤولي الدار ، هو الأخ علي القاسمي ، وقال لي إنهم سيصدرون الروايات الأربع ، لكنهم يفضلون الآن قصصاً قصيرة ، ولتكن قصصاً قصيرة جداً . وأخبرته بأن لديّ قصصاً عديدة ، بطلتها طفلة صغيرة ، في حدود الرابعة من العمر ، تعيش مع أمها ، في انتظار أبيها الذي غيبته الحرب ، فطلب مني أن أرسلها لهم على جناح السرعة . وبالفعل وما أن عدت إلى الموصل ، حتى أرسلت لهم تلك القصص ، وعددها " 89 " قصة ، وقد أعجبتهم جداً تلك القصص ، وقد اختاروا منها " 34 " قصة على ما أعتقد ، على أمل أن يصدروها في " 6 " أجزاء ، كما تعودوا أن يصدروا كتبي ، التي ينشرونا لي في دار " البراق " . لكنهم طلبوا مني ، أن أكتب قصة جديدة ، أنهي بها تلك المجموعة ، على أن تكون قصة متفائلة ، فمعظم قصص المجموعة ، كانت رغم طرافتها ، يغشاها شيء من الحزن الشفاف ، وهذا ما فعلت ، فقد كتبت القصة رقم " 90 " ، ذكرت فيها عودة الأب سالماً إلى عائلته ، وإلى طفلته الصغيرة " توتو " . ومما له دلالة ، أن هذه الدار أنشأها ويديرها ثلة من الشباب المتحمسين لثقافة الأطفال ، استطاعوا بجهودهم ، وايمانهم ، أن يجمعوا حولهم ، وحول براقهم ، أعداداً طيبة من المبدعين العراقيين والعرب ، من كتاب وفنانين ، على مختلف الصعد . وقد أصدرت دار " البراق " خلال عمرها القصير ، العديد من الكتب الإبداعية ، كانت نموذجاً رائعاً ، على صعيد التأليف والرسم والتصميم والطباعة ، ويكفي أن أثنين من الكتب التي أصدرتها عام " 2015 " حظيا باهتمام كبير على صعيد الوطن العربي كله ، فقد رشح كتاب " قصتنة صارت مثل " لجائزة الشيخ زايد لكتب الأطفال ، وظهر في القائمة الطويلة للجائزة ، أي أنه كان واحداً من أفضل " 8 " كتب صدرت للأطفال خلال هذا العام ، بينما فاز كتاب " بغلة القاضي " من تأليف الكاتب العراقي المعروف شفيق مهدي بجائزة اتصالات لكتاب الطفل في الامارات العربية ..
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة للأطفال آتٍ مع الشمس
-
رواية للفتيان ايتانا الصعود إلى سماء آنو
...
-
رواية للفتيان بدر البدور
...
-
قصة للأطفال اليمامة البيضاء والجرافة قصة
...
-
دموع رينيت كتاب جديد للفتيان
-
رواية للفتيان الرحلة الثامنة
...
-
رواية للفتيان المعجزة
...
-
رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال
...
-
رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
-
مسرحية للفتيان اورنينا
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
رواية للفتيان السندباد البحري طلال
...
-
رواية للفتيان دروفا ـ نارانا
...
-
رواية للفتيان سامو وسومو
...
-
رواية للفتيان النمر
...
-
رواية للفتيان البديل طلال حسن
-
رواية للفتيان الزواج المقدس
...
-
رواية للفتيان رجل النار
...
-
شجرة الزيتون
-
رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
المزيد.....
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|