أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - *سردية واقعية: آخرة -الحاج خَيْري-!















المزيد.....


*سردية واقعية: آخرة -الحاج خَيْري-!


لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)


الحوار المتمدن-العدد: 7768 - 2023 / 10 / 18 - 18:32
المحور: الادب والفن
    


—كتب:لخضر خلفاوي*
——****——
-… وصلت و حسب طقوسي اليومية بعد الظهر إلى رُكن من أركان اغترابي الفكري و الوجودي لاختلي بنفسي .. كانت ساحة المقهى/المطعم تعجّ بالزبائن في هذا اليوم الجميل حيث أعرف معظم وجوههم دون أكلّف نفسي عناء معرفة كنية الجميع …
قمتُ عند وصولي بطلبي لدى النادل ، لكن كنتُ على وقوف خارجا في حيرة من أمري أواجه مشكلة شحّ الطاولات الشاغرة .. كنت أبحث عن طاولة شاغرة بكرسيها استوطنهما بعزلتي مع نفسي … فكأنّ الجو المشمس و الربيعي في آخر -تشرينياتي الأولى - بهذا الفضاء و هذا المكان كان يداهن مزاجي السريع التقلّب و الالتهاب ، و أنا أعرف أنّ -مَجيئَاتي- و تردداتي على هكذا أمكنة اعتادت جلوسي و مروري و كيميائياتي الفكرية و الإغترابية اللامنقطعة هي آخر أنفاس توديعية لدورة حياة طويلة قضيتها هَهُنا و استعدادا لدورة حياة هناك…!.
لا يمكن أن استريح لدقائق أو لبعض ساعة إلا إذا ركنتُ إلى طاولة منفردا بنفسي و مخرجا أغراضي و أفتح محفظة كمبيوتري المحمول لتصريف استدراكا للوقت الضيق كعادتي بعض من ملفاتي الكتابية أو الاتصال عن بعد ب ( سيرفير ) صحيفة "الفيصل"، و أراقب جديد مواد التحرير التي تم اعتماد برمجة نشرها في النشريات المستقبلية … كنتُ لم انته بعد من همّ صغير مدرج ضمن قائمة الهموم الكثيرة في مختلف -الأحجام - و المتفاوتة الوقع السلبي على مزاجيتي العامة .. اعتقد أن الظروف في الشرق الأوسط و الحرب على "غزة الجريحة" و خط الصحيفة التي أُديرها كانت سببا في ذلك ؛ كون الصحيفة تعرّضت علبة بريدها الإلكتروني الرسمية إلى اختراق أو محاولة للتوغّل كوني واجهت معضلة فتح ( العلبة البريدية الإلكترونية ) و لم تعد كلمة السّر مجدية رغم صحتها و تعذر عليّ لوقت دام نصف نهار لعبَ لعبته القذرة على أعصابي كي أتمكّن من إعادة الأمر إلى نصابه و اطلع من جديد على البريد الوافد خاص بقسم التحرير! كنتُ أقول في نفسي وقت اكتشافي المعضلة : هل للموساد الإسرائيلي ضلع أو يد في ذلك ، أو هل للجهات الأمنية الفرنسية هنا دخل؛ بحكم أن النظام و السياسة الفرنسية متلازمين مع ( الكيان الصهيوني ) المستعمر للأراضي الفلسطينية .. متضامنا مع الكيان الصهيوني قلبا و قالبا و أكّد ذلك الولاء و التضامن اللامشروط مع -إسرائيل -في خطاب الرئيس ماكرون الرسمي قبل يومين و اعتبار العرب و الفلسطينيين المغتصبة أرضهم هناك بالإرهابيين و الهمجيين !.
-كنت ُ أُلوّح ببصري بشيء من القلق لعدم شغور مكان بإمكانه احتوائي و خلوتي لبعض من الوقت الاستراحي المُستقطع من يومي ؛ لكن لا طاولة شاغرة لمن ينادِدْ الوحدة و اغترابه المُستديم! فجأة أُبصِر على محض الصدفة و مخاض قلقي من شح الأمكنة عندما تشرقُ شمس في الشمال .. كانت يدٌ تلوّحُ باتجاهي و صاحبها يومئ باستدعائي ، كانت يد الحاج " بوعزة "…
ثم رافق الإيماءة صوته : تعالَ يا ولدي ! تعالَ! اقبلْ ! ارتاح ! خذْ مكاني و اجلسْ !
**
الحاج بوعزة هو كما ذكرت سابقا شيخ عربي من أصول مغربية تجاوز الثمانين ، يُحب الجلوس و الحديث معي لما تُتاح الفرصة و ذلك ( عندما لا أكون مشغولا ، أو آثر الحديث معه و مصاحبة أفكاره على الانعزال بنفسي و عالمي )…فوحدة هذا الرجل تقسمني إلى أجزاء تذروها رياح الشمال الباردة إلى كم وجهة ..كما يقسم مخترقا "الرّاين" أمصار أوروبا . أعماق هذا النهر العظيمة المهول تبدو لي مظلمة و ضامّة لمملكة الشياطين اللئيمة ، أعرفه جيدا هذا النهر لأنّي مشيت على جسوره الألمانية و الفرنسية و كأن تلك الشياطين المنتعشة في أعماقه أصابتني و -فلذّة من فلذات كبدي - بنصب عظيم لا مثيل له قبل أكثر من سبع حِجَج .. هل كان الرّاين يغار من رَياني الواعدة ؟! -وجهان مرحان ، ضاحكان كنّا أنا و هي .. و كنًا سعيدين ببعضنا و هي تتهيّأ لخوض غمار تجربة دراسية خاصة بالغة الأهمية تشاكسني بمرح و فتوة و بكل آمالها و أحلامها و نحن نتوكأ عند كل فسحة و خرجة صيفية حواف جسر نهر "الرّاين" العظيم .. كنّا نرى تحتنا عبور و انسياب مِلاحِي جميع المراكب و البواخر ..و على المعبر قوافل لا تنتهي من كل أنواع المركبات الخاصة و التجارية وافدة و ذاهبة من / إلى جميع بلدان الإتحاد الأوروبي. لم أكن أدري أنها كانت آخر مرة استطيع فيها الابتسامة و الضحك و المرح مع فلذّة الكبد و لم أكن أدري أن منطقة ( الرّاين) كانت آخر محطة ينتهي فيها انسجامي و استقراري .. بعدها كانت نفسي تحدثني تطيّرا أن منطقة الألزاس هذه اغتالت بنصب شياطين عمق نهرها كل شيء جميل صنعته بكلتا يدي على مرّ تجربة لم تكن هيًنة البناء و لا التحقيق !. لا تحدّثني عن -الرّاين- يا أبا العزّ فلقد سرق منّي ضحكتي و ضحكة صغيرتي الواعدة التي كانوا يسمونها في مقاعد الدراسة قبل المرحلة الجامعية باللؤلؤة النادرة !.. ها هو قد اغتال ابتسامتي و ابتسامتها و أحالنا مُحرّفاً كل الخطط التي رسمناها معاً و حلمنا بها معاً إلى رواق مأسوي من الحياة جدّ شائك و مؤلم ..!.
**
ولد الحاج بوعزة في أعماق الريف للمملكة المغربية و عاش حياة البدو و الريف و الطبيعة دون كل هذه التعقيدات و التطورات و التحولات المهولة التي عرفتها الإنسانية و عالمنا في هذه الألفية.. كنتُ كلما أحدثه عن شيء يقول لي :
-يا ولدي .. أنا لا أعرف هذا ، أعذرني ، فقد ولدت و ترعرعت و تربيت في البراري و الخلاء والممتدّ على لمح البصر مع المعز و الأنعام، لم أتعلم في المدارس، كنتُ بفطرة البدو أدكّ الأراض الفلاحية من كل جهاتها التابعة لعائلتي و عرشي آتيها أنّى شئتُ .. كنتُ أدكّها دكّ المحتاج لأجل البقاء .. حياتنا في ذلك الوقت كانت مرادفا للتحدي ..أو كمن أخذوه عنوة إلى جبل صخري مع طلوع الفجر و أمروه أن ينحته كاملا من السفح إلى القمّة بمعرفته قبل مجيء غروب الشمس ! نحن الذين حفرنا الفقر مذ الطفولة و الحاجة و الجبل بقيَ على حاله إلى يومنا هذا .
-لمّا اشتد عود الحاج بوعزة و صار شابا يافعا و أراد أن يكسر الوحدة بواحدة لا حول لها إلا بالله و البادية و "الخيري" العاشق الواعد .. اختار "الزهراء" ابنة عمه.. كانت حبيبته و من بني جلدته .. فالجلدة في سبعينيات تلك الأرياف تعرف بعضها و على بعضها تنطبق و تقع و إن لم تنطبق و تقع فالأعراف تطوّعها ، تواقعها و توقعها حتما على بعض.
واعدها بالزواج ، بالمودة، بالرحمة كوعد المحاريث للحقول و الأراضي، بدأ يعيش حلم اللمّة و ( عمارة الدار )، لكن اللُّقمة شحيحة و مرّة .. ضاق ذرعا بشقاء الأرض و حرثها و انتظار ما تجود به المواسم انتظار و ترقب و لهفة لاعب لعبة النرد أو كمن يستقسم بالأزلام ! كان كل ذلك الشقاء الذي يمنحه للأرض لا يكفي لسد كل حاجياته من الأحلام و حاجيات من حوله .. فقرر الهجرة إلى فرنسا ..حينها أخبر حبيبته و استشارها و خيّرها بصراحة بين الموافقة و الانتظار أو حرية عدم انتظاره و التسريح بمعروف .. فوافقت على مشروعه و نذرت للرحمن انتظاره !…كانت تقول له قبل الوداع و ركوب الباخرة : انتظار الخيري خير ! انتظار -الخيري- خير و لا خير فيمن لا يفِ بوعده لخيري !!
قبل أن يتزوج بحبيبته و يستقدمها بعد عامين إلى المهجر و يخلفا صبيانا و بناتا، حيث درسوا و تخرجوا و توزعوا جميعهم ببركة الله و الكفاح الطاهر على أمصار أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. جرّب "خيري" العيش و الاندماج المهني و الإجتماعي حال دخوله التراب الفرنسي كل المناطق ، بحثا عن عمل ، عن أي عمل يُمكِّنُهُ من بناء ما حفرته البادية و الريف و قسوة الطبيعة في نفسه من فقد و حاجة العيش الكريم، إلى أن استقر به المقام مجبرا في أبرد منطقة في فرنسا بالشمال الشرقي الحدودي بين ألمانيا و سويسرا ، تدعى الألزاس/ Alsace .
-لقد استوطن بردها عظامي و يرفض هذا الأوّل و الأخير أن يرحل.. أو يستلّ مني ! برد -الألزاس الفرنسي - يا ولدي كيان غاشم غير ناطق لكنه فاعل، يشتغل خرابه بصمت و ببطء ، إنه دائم بداخلي، برد الألزاس يا ولدي ( فاشي )، لهذا استطيع فهم سبب فُتون "هيتلر" السفّاح بها عندما وقع في غرام هذه المنطقة و انتزعها من فرنسا لتكون ألمانية لأكثر من أربع سنوات رغم أنوفهم في حروبه ضد أوروبا و العالم في القرن الماضي …و كانت المنطقة الوحيدة التابعة لفرنسا التي أنشئت فيها محارقا و معسكرا نازيا يسمّى Natzweiler-Struthof. لتصفية عرقية ، سياسية ل المعادين للهيتلَريّة الطاغية !.
هيتلر ضمّ إليه ( الألزاس ) و فرنسا استردتها بمساعدة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية و أنا مذ أنّ ضمّني هذا البرد يا ولدي لم استرد نفسي و عافيتي منه ؛ حرق على مهل دفء صحاري و قفار بيئتي الأولى من أرياف "مرّاكش" بلدي الحبيب الذي جئت به إلى مهجري لأجل القوت.. لأجل القوت يا ولدي لخضر ! …إيه يا ولدي العزيز وجعي متوغّل كتوغّل نهر "الراّين" Rhin لجسد أوروبا انطلاقا من الألزاس و ألمانيا و سويسرا ..و النّمسا و الأراضي المنخفضة .. كم وددت أن أسأل بحر الشمال : أنّى لكَ هذه العظمة في التدفق و البرد ، لقد أوجعتني يا بحر .. سبحان الله.. الرّاين/ الرايخ/ الرّاين/ الرّايخ ! و كأنّ هيتلر أو (الرّايخ الألماني Deutsches Reich الثالث ) / الأمبراطور / كانت بوصلته التوسعية هي ( الرّاين)، يقتفيها محطة محطة و جغرافيا بعد جغرافيا لممارسة طقوس الاستحواذ على كل شيء لإشباع مآرب مرض العظمة !.
أذكر كنت يومها أنصت إليه باهتمام و هو يسرد لواعج الماضي و الحاضر .. كنتُ أقول له مُربّتا على قلبه :
-لا عليكَ يا صاحبي ! لا عليكَ يا أبا العزّ ؛ إنّي أريدكَ أن تبثّ لي بثّك ، ضمّه إلى بثّي ، إنّي أريد أن تبوء بهمّك إلى همّي و أبوء بهمّي إلى همّك و نكون إن شاء الله من أصحاب الدّار ! الأبقى ! الأبقى يا أبا العزّ ! دار الآخرة ! هناك لا برد و لا حيف ؛ عدا رضوان الله !
-كان يردّد: آمييييين يا ولدي ! آمييين يا ولدي ! لكمْ أدعو لك بكل الخير يا ولدي لما استعمل ذلك المرهم المسكّن المؤقت للروماتيزم للآلام المفصلية و العضلية الذي اهديتني إليه و اهديتِنيهُ ذات شتاء قارص لما حدّثتك عن آلام الجسد لثمانيني لا ينتظر من الدّنيا سوى الموت ! يا ولدي لخضر في هذه السّن مع أوزار تعبها فإنَّ الوحدة موتُ ، و الاغتراب موتٌ و انتظار الموت موت ، و الموتُ هو الموتُ .. و لا شيء بعد الموت ! ذلك المرهم السحري لو لم تدّلني عنه لطال جهلي و عدم معرفتي بتواجده في الصيدليات ، لو لا هذا المرهم لماَ عرفت هدنة الآلام الملازمة خاصة عند قدوم البرد الشديد .. لذلك أشرت إليه عند حضور إحدى بناتي كي لاينسون اسمه و علامته و يشترونه لي كلما احتجته. كلّما أسكتُ بمرهمك صياح و صراخ ذاكرة عضلات و مفاصل جسدي و صحتهم التي صرفتها على مناجمهم لاستخراج الفحم و تصنيعه و تكريره .. أي ذلك الألم المنبعث من أدغال عضلات ظهري أو الصاعد من مفاصلي السفلية، العارج من متحف تعب الشغل المتضمّن في جسدي بكل خلاياه و أجزائه في تلك المناجم في أقصى الظروف المناخية .
***
خجلت كثيرا من الحاج بوعزة و هو يهمّ بالنهوض و يدعوني بإلحاح شديد أن آخذ مكانه و كرسيه و طاولته و يؤثر على نفسه الوحيدة في انتظار قدوم وقت صلاة المغرب ليتوجه إلى مسجد تركي ( عثماني) ليس ببعيد عن سكناه تعوّد على الذهاب إليه و الصلاة فيه …
-يا حاج بوعزة مالك تنصرف ؟! ما بكَ !؟ ما هذا الذي تفعله يا رجل .. لا يليق هذا والله ! ! لماذا تغادر ؟! تفاعلت معه و أنا ألحظه يتنازل عن مقعده عن طيب خاطر و طاولته ..
فردّ بأدب معهود:
-لا يا ولدي ( ما فيهاَ باسْ !)، أجلس ، أجلس ، أعرف أنّكِ تحبّ أن تشتغل مستفردا بنفسك و لا تحبّ الإزعاج في هكذا حالات شغل..
فاندهشت لتصرفه و زاد إصراري على بقائه.. و أخذت أبحث عن كرسي ثم التحقت بطاولته و لم أتركه ينصرف لأجلي … و بلباقة و تأثرا بسلوكه ضحيت بالدقائق الأولى التي برمجتها في استغلالها في العمل أثناء هذه الخلوة الطقسية، ثم أخذت أُجاريه و أتناقش معه و أسأله عن حاله و أحوال أهله و أولاده ..
حاولت ككل مرة استطيع فيها تبديد وحدته اللي تصل قلبي مباشرة دون تشفير!.
بينما أنا أدردش معه فإذ به كعادته يقطع حديثي و يخبرني بأمرٍ متأثّر به جدا و هو خبر (الموت) و للموت لدى "بوعزة " رمزيته و معجمه الخاص .. كان يحدثني باكتراث و أسف عن وفاة أحدهم ، زبون اعتاد على هذا المكان كان يعرفه .. :
-ذلك السيد ، اسمه عبد الحق ، هو جزائري الأصل ، ألا تعرفه !؟ أنا متأكّد أنك تعرفه و رأيته ألف مرة لكنك لم تنتبه فقط .. ربما لا تعرف اسمه لكن أنا واثق أنّك تعرفه ! هو يرتدي قبعة دائما بلون رمادي و يجلس في معظم الاحيان هناك مع صحبته (يشير إلى زاوية من زوايا المكان) ! الله أكبر ! حاجة الله ادّاها الله ! مات شابا المسكين ! ربي يرحمه المخلوق !ماتَ و انتهى الأمر!
-كان الحاج بوعزة يحاول أن يؤتي بكل التواصيف والإيماءات الممكنة و المفردات كي يساعدني على التعرف على الرجل الذي مات ، لكنه لا يدري بأن مخّي يشتغل بشكل ( شائك)، و شروحاته لن تجدِ نفعا ، بالإضافة إلى مرضي العضال التنكّسي العصبي و ( الثقوب السوداء ) التي بدأت تُعمّر مُجتاحة هي الأخرى لمملكة الذاكرة الشخصية …رغم عناية أهله له من أولاده و بناته كلما سمحت الفرصة إلا أنّ الوحدة جعلت منه يتحول رغما عن نفسه ( عدّادا ) للرّاحلين و حديث الموت لديه له وقع خاص !..
ذكّرني حديثه هذا بحديث سابق من زمن حين قطع حديثنا فجاة عند تذكره للأمر و بكل اكتراث و تأثر ليزف لي خبرا كاذبا ( دعاية ) سمعها و التقطها بمسجد الأتراك و هو يقول لي و يعيد: السعيد عويطة مات !.. السعيد عويطة! يا الله ! عويطة مات ! هل يُعقل هذا !! السعيد عويطة يموت ! - و كأنّ المشاهير لا يموتون!كنت أقول في نفسي و أنا استمع إليه .
-فكنت أقول له: هل أنتَ متأكّدا !؟ أنا لم أسمع هذا الخبر ! فقد يكون كذب الافتراض و وسائل الإعلام اللارسمية! لكنه كان مصرا على الخبر و بتأثر و تعجب كبيرين!
لمّا لاحظتُ أنه متعنّت و مصرّ و مكترث و غير مصدق ما صدّق من خبر وفاة العدّاء المشهور عالميا فقلت له بلين و لطف بعد أخذ و رد أن كل من عليها فانٍ و لا أحد يسلم منها، إذا كان عظام التاريخ من أنبياء و رسل قبض الله أرواحهم دون استثناء و دون مشورة في أجل مسمّى فلا سعيد عويطة و لا أي مشهور أو إنسان عادي و ما من دابة على وجه الأرض إلا و يقبض الله روحها …
و عدتُ إليه بهذا المنطق و التوضيح أشرح له أن جميعنا سيرحل لا شكّ في ذلك ..
:عبد الحق و عباد كثيرون ممن تراهم الآن أمامك في هذه الساحة سوف يرحلون كلهم و يعوّضون بآخرين، نعم يا حاج .. سيذهب الله بهم جميعا إلى الآخرة و يعمّر هذه الساحة بناس وقوم آخرين .. عسى تكون الآخرة أفضل بالنسبة لمن اشتغل عليها و لها و لم تغره الحياة الدّنيا و نسى ربه و سبب وجوده في هذه الحياة !
-الآخرة ! هيه الآخرة ! كان يردد الكلمة لكن ترديده ذلك فيه نبرة شكّ أو شيء من الالتباس و بدا عليه عدم فهم الموضوع أو تخوف منه !
-نعم الآخرة يا بوعزة ! الآخرة ، الحياة بعد الموت ! هؤلاء سيحييهم الله جميعا من الأجداث و لو كانوا ترابا أو رمادًا .. الدّنيا هي أولانا ( الأولى )، و ربنا يذكرنا و يحذرنا في وقت واحد بأن أُخرانا ( دار الآخرة ) هي خير و أبقى لمّا يحيينا و يحاسبنا !
-يرد: خير!؟ أبقى! كيف!؟ نحياَوْ مرة اخرى !!
كان بادٍ عليه كل الالتباس حول ماهية ( الدار الآخرة ) و الحياة بعد الممات .. و خصوصا لما ذكرتُ أنها -قد تكون- خيرا أمّا البقاء فهي باقية في كل الحالات ! و أنّ الحياة مهما كانت هي (فانية ) بكل حالاتها .. لكنه عاود بجدية / الجاهل /لا غبار عليها في طرح السؤال علي:
-أوَ تعتقد يا ولْدي أن ( دار الآخرة) هي خير من ( الدّنيا )!؟
الحاج بوعزة رجل يعزه -محبة - الجميع من كل الأعراق ، أكرادا و أتراكا و عربا و قبائلا .. لطيف مع الجميع و الجميع يبادله اللطف و حسن المعاملة، مواضب على عبادته ، هادئ الطبع ، بشوش ، مبتسم ، يسلم الناس من لسانه و يده حاج و معتمر لبيت الله، وجهه يترادف مع البرّ و الإحسان و علاوة على هذا أحبه لأنّ سنّهُ يذكرني بوالدي، خيري يذكرني بعزيز على قلبي و هو والدي ، لهذا أصبر عليه و على ثيم حكاويه ؛ لأنّي أريد أن أشعر نفسي بأنّي بحضرة والدي ..كان الحاج بوعزة بمثابة ريح بالوكالة لمخيال والدي !
عند سماعي هذا التساؤل كدتُ أن اغترّ و تأخذني العزة بإثم تجربة النّزر القليل( أو شوية معرفة) تحصّلت عليها في غضون عقدي الخامس !
- استدركت نفسي و استغفرت الله في سرّي و قلت في خلدي ياه يا لخضر ! أوَ تعجب لعدم تأكّد إيمان الحاج بوعزة المدعو - خيري - بأخْيَرَيّة(الآخرة) على الدّنيا و دكاترة و علماء ( قيل عنهم علمانيون / لا دينيون ) أي يرتكزون على العلم (الظاهر) الدنيوي و علومهم الدنيوية و شهاداتهم الكبرى و جدّ مشهورين مات منهم الكثير و مازال منهم من ينتطر أجله على قيد الحياة لا يعترف أصلا بوجود الله أو بشيء اسمه ( الحياة بعد الموت )…بل هناك من يعتبر الخالق و كل المعتقدات و الديانات و الكتب السماوية أساطيرا و اختراعات بشرية و أنّ الإنسان لمّا يموت انتهى الأمر و لا شيء يُذكر بعد ذلك و من الغباء تضييع الوقت في تخيّل حياة بعد الموت ، في اعتقادهم ما -الحياة- إلا تلك -اللحظة - التي يتاح فيها القبض سريعا على ملذاتها و شهواتها من خمر مباح و سكر و جنس ( زنا) و تعدد العلاقات .. كله مباح دون قيد من أكل و رفث في الأشياء باستمتاع دون حدود و لا حدية، و هكذا كل "لحظة" إباحة مطلقة لإسعاد هوى و نزوات الإنسان الحيوان تمحو الأخرى حتى تصلَ ساعة الفناء و حسبهم ؛ -إن وُجِدَ- إله أو ربّ ما في كل هذا الوجود فلا يمكن إلا أن يكون في صيغة أو صورة (محبّة).. -مَحَكّة- ليس فيها كراهية و لا عقاب و لا حساب : الله هو محبة للّهو و للزنا بكل فروعه و الشرب و السكر الواسع .. محبّة ل ( الرذائل) حسب توصيف من يؤمن بإله واحد و بدين توحيدي مُعيّن!. العلمانيون و أدعيائهم و موالوهم يرونها ملذاتا مشروعة و من حق البشري أن يستهلكها دون أي رادع و لا وازع فالحرام هو منع الإنسان من إشباع نزواته التي خُلقت معه !.
رُحتُ أشرحُ له حسب ( مُعتقدي) و ملّتي:
طبعاً يا حاج بوعزة و الله يقول /بل تؤثرون الحياة الدّنيا و وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ/ ألستَ من يذكر اسم ربّكَ و تُصلّي ؟!
قال نعم : .. طبعا! .. استغفر الله ! ألطيف ! كيف لا أذكر الله و لا أصلّي له !!! و هو يتابعني باهتمام شديد و أنا أشرحُ له اللبس! فقلت له ابشر يا حاج ! ابشر يا رجل ! سوف يحييكَ الله ثانيةً و ليبعثنّكَ بعثاً جميلا بحياة أبدية و بعمر الشباب ، ستكون شابا وسيما بعمر ثلاثين عاما ! .. و سَتُحاسبُ يوم إحيائك حسابا يسيرا لطيفا لطف الله ، ينزع من قلبك كل حَزن، كل غِلّ و ستذهب تنعم متمطًيا بين أهلك و أحبابك في جنتك حيث تكون ( اللحظة ) أبدية من السعادة لا تكلّ منها أبداً و لا يصيبنّك منها و فيها لا نصبٌ و لا ملل كما يحدث في الدار الأولى هذه .. ابشرْ يا "خيري".. أو تعتقد أنّكَ ستموت عابدا ذاكرا لله دون أن ترى معبودك و لا تتقاضى منه جزاء عبادتك و عملك في الدّنيا !؟.. يا عبد الله ! يا حاج بوعزة ! الله لا يكذب و لا يخلف الميعاد فهو يقول لك : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ/ و يقول لكَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ/
-كان الحاج خيري ينظر إليّ باهتمام و تعجب كبيرين و أنا أحاول تبسيط شروحي له لما ورد في الذكر الحكيم و علامات الرضا تبدو على محياه كأنه طفل صغير بشرته أو وعدته بجائزة و صدّق ذلك الوعد و وثق فيه و اطمأن إليه !
-إذن ( الآخرة) خير من الدّنيا يا ولدي ! بارك الله فيك ! الله يبشرك بالخير ! و لم يتمم جملته حتى رأيت دمعه ينساب دون وازع و هو مطأطأ الرأس و يردّد بلهجة انفراجية كبيرة :(الحمد لله ! الحمد لله !) الله يبارك فيك يا ولدي ! الله يبارك فيك و يبشرك بالخير !. لقد غلبته دموع حب الله و لطفه ..
كان ذلك الموقف زعزع كياني و أخلط قراري و أنا أرى الحاج بوعزة يتنفس الصعداء و يفهم أن (الآخرة) هي حياة خيرٌ و أبقى للمؤمنين الصّادقين مع الله ..
فهمت من سلوكه و منطقه أنه لم يكن بغير المؤمن بالبعث و بحياة أفضل و أبقى من الحياة الدّنيا ، بل لم يكن -بسبب ظروفه و مسيرته - مركّزا على تفاصيل الحياة بعد الموت.. الحاج بوعزة واحد من أولئك الذين عاشوا كادحين من أجل لقمة العيش لم ينساقوا وراء الفساد و لم يتورطوا في حياة الرذائل و المعاصي ، و لم ينشغل بالجدل اللامنتهي بدخول الجنة أو النار من عدمه … كان فقط يعتقد حقّا أن الله محبّة مُطلقة ..كل ما كان يفعله صرف عمره بالتقسيط على عياله و عبادة الله حسب معرفته لا لأنه وعده بالجنة و بحور العين و بأنهار من خمر ، بل كان الحاج بوعزة عبداً من عباد الله يعبد ربّه لأنه كان يرى بقلبه أن خالقه أحقّ بالحُبّ و بالعبادة و الربوبية و الطاعة ، فلم يساوم الله و لم يبتزّه و لم يمنّ على ربّه عبادته له .. كان يعبده بكل حب و إخلاص و لم تكن تفاصيل الحور و أنهار اللبن و الخمر و باقي الملذات تكّثّف من هوسه بالعقاب أو الجزاء !
عندما انصرفت و دخلت للبيت، تذكّرت أمراً متأخرا و بندم شديد و حسرة تبعها خجل عظيم من نفسي و ما أنسانيه إلا مرضي العصبي اللعين الذي عشّش في مؤخرة جمجمتي كوني انصرفت و نسيت دفع ثمن الشاي على حسابي الذي طلبه الحاج بوعزة لنفسه لمّا دعاني للجلوس بمكانه.. و كذلكَ أسردُ القصص الإنسانية!
*باريس الكبرى جنوبا



#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)       Lakhdar_Khelfaoui#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- *ماذا تبقّى لـ ( نوبل) و للأدب الإنساني ؟
- *سجال حر: ردّوها إن -استَعْطَيْتُم-!
- *سردية قصيرة: اِلْتَقَياَ..
- *أفكار : فوضى أشيائي الخلاّقة ! ‏Le désordre créatif de mes ...
- *صوريّة و مونولوجية!
- *من جديد سردي: *حقيبة المعطوب ! La valise de l’invalide / Th ...
- *إرهاصات صباحية من قلب الخيمة: عليكم مشرقي و انعكاسي!
- *مثقال نَحلة!
- الشاعر : *شفاكَ الله يا ( رميلي) .. ابقَ ، تعافى أرجوك، فإنن ...
- -الطاهر وطار و ظاهرة ( استعمامه)!
- *نقطة ضوء مُنَرجسة : يحِلُّ لي أحيانا الغرور و يليق بي ..أمّ ...
- *سردية واقعية : الجانكي Janky و حرّمت أحبّك .. ما تحبّنيش!
- (لصّادة!)
- *شكرا لكم -تهانيكم - بمناسبة ( عيد مِدادي) !
- *أنا حزين يا ريح رسول الله !
- *ومضة من تجربتي الإعلامية ( في القرن الماضي ) : سيّدُ العِنا ...
- *كاريكاتور سياسي من الألفية المنصرمة: (الجزائر) و تابوت الشّ ...
- *أفكار مع آية: (المعروف )
- *من تجربتي الإعلامية و الأدبية الشخصية: -شِراك-، وطني، -العر ...
- -قصاصة من مجلّد نضال فكري و ثقافي و إعلامي .


المزيد.....




- فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
- مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم ...
- هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير ...
- ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا ...
- بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات ...
- تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض ...
- “معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر ...
- ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
- أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز ...
- الأديب والكاتب دريد عوده يوقع -يسوع الأسيني: حياة المسيح الس ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - *سردية واقعية: آخرة -الحاج خَيْري-!