|
مذكراتي عن مهزلة الاستفتاء الرئاسي 1995
ميادة العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 7747 - 2023 / 9 / 27 - 14:17
المحور:
كتابات ساخرة
ماكتبته من ذكرياتي لوَلَدَيَّ الإثنين bakr و Arounn سَأسْرُدُ لكما ذكرياتي مع ذلك اليوم القبيح بكل أحداثه، وأرجو أن تَتَحَمَّلا سَردِيَ الممل هذا لكي أترك لكما الحق في الحكم على ماتسمعانه من حقبة تأريخية مرَّ بها هذا البلد الجريح وشَهِدَتْ أحداثها والدتكما.... أظن أنني كنت الوحيدة التي أضربت عن الذهاب في ذلك اليوم المشؤوم لغرض الإدلاء بصوتي للقائد الضرورة!! حينها كنت قد أتممت عامي العشرين وواجب علي المشاركة في تلك المهزلة، استيقظت صباحاً فلم أجد ما أتناوله من قطعة خبز أو قطعة سكر لأُحَلِّي بها مرارة الشاي الذي باتَ طعمُهُ أَمَرّ من الحنظلِ في إبريق الشاي من تكرار غليانه.. أنا وعائلتي والبغدادية الأصيلة الكبيرة التي كان أفرادها من أصحاب الشهادات والوظائف في الدوائر الحكومية الموقرة، ويعتمدون في معيشتهم على رواتب الدولة التي لم تكن تتجاوز الثلاثة آلاف دينار في ذلك الوقت، وكان شقيقي الأكبر آنذاك ضابطاََ برتبة مقدم في الجيش العراقي الباسل، لم يكن بالكاد يملك ثمن أجرة سيارة "التاتا" أو "الريم" المهترئة التي يستقلها ليصل إلى وحدته العسكرية بعد أن أدلى بصوته وصوَّت بـ"نعم" قبلنا في وحدته العسكرية، في التصويت الخاص بالجيش الذي سبق تصويت المدنيين!! ووالدتي التي كانت مقعدة ولاتقوى على الحركة، قد نفد علاجها واختفى من الصيدليات آنذاك بحجة تعاطي بعض الشباب المُدمن لهذا الدواء كبديل للمخدرات!! كانت في حال يُرثى لها ولا تقوى حتى على الوقوف أو المشي.. في خِضَّمِ معاناة ذلك اليوم وماسَبَقَتها من مُعاناةٍ أخرى، ووسط أصوات التَمَلُّقِ والتمجيد التي كانت تحثنا على الخروج للمشاركة في تلك المسرحية السَمِجَةِ لانتخاب مرشحٍ واحد دون منافس.. وبعد أن حَضَرَتْ إحدى المسؤولات الحزبيات في اليوم الذي سَبَقَه إلى مدرستنا لتنصحنا بخطاب تفوحُ منه رائحة التهديد البعثية النتِنة وهي تصرخ وتردد بصوتها المُلعلع: إن كَتَبْتُنَّ في ورقةِ التصويت "لا" للقائد الضرورة، معناها انكُن قد انتخبتُن امريكا!! فهل ستُصَوِتْنَ لأمريكا أم لصدام؟! فصرخت جميع من في القاعة (طبعا لصدام)!! :فصرخت تلك المرأة البعثية حتى النخاع : (ننتخبه كل العمررر.... ) وضربت بكفِ يدها التي زَيَّنَتْ خُنْصُرها بخاتمٍ من الماس في وقتٍ مريرٍ بائسٍ باعت فيه الماجدة العراقية كل ماتملك من حُلِيّ ومصوغات لتُطعم اطفالها!! ضربت بكف يدها المزينة بالماس على المنصة الخشبية التي كانت تعتليها ولازالت تردد: ننتخبه كل العمررر.... كل العمرررر وعادت لتُكمل وتسمعنا خِطْبَتها الرنانة تلك. وأصوات إذاعات الراديو و التلفاز الأرضيةِ التي لم يكن مسموح لنا بمشاهدة غيرها، كانت تصدح بأناشيد تنعق بها أصوات دخيلة على الفن (من نتاجات مايسمى بتلفزيون الشباب الذي أفسد ذوق جيل بأكمله)، تتَمَلَّقُ وتحثُّ على التصويت لقائدهم الضرورة (صلوات على النبي... صدام غيرك مانبي) ... ضِقْتُ ذَرعاً من ذلك اليوم قبل قدومه وقررت عند أول إشراقة لصبيحته أن أُعلن إضرابي عن الإدلاء بصوتي لذلك الأعرابي "الضرورة" الذي أوصل بلادي وعائلتي لهذا الحال بعنترياته ووقاحته.. ذهب والدي وشقيقي الثاني وباقي شقيقاتي وصوَّتوا كَرْهاً بـ "نعم"... أما أنا... فقد امتنعتُ عن مرافقتهم وسط توسلات والدتي التي كانت تخشى أن يقتحم أفراد من حزب البعث (ممن كانوا قد صدَّعوا رؤوسنا بشعارات التقدمية والرجعية، وبأن من سَيُدلي بنعم للقائد الضرورة فهو تقدُّمي ومن يمتنع عن التصويت سينتمي حتماً للرجعية في قوانينهم البائسة!! ولم نكن نلمس من شعارات التقدمية والرجعية الرنانة تلك، سوى أنهم قد طبقوها على أنفسهم فأصبحوا "من ذوي البطون التقدمية والمؤخرات الرجعية"... من كثرة نهبهم لأموال الإشتراكات الحزبية التي كانوا ينتزعونها من المواطنين عنوة كل شهر....) كانت والدتي في ذلك اليوم تخشى اقتحامهم لمنزلنا لغرض إلقاء القبض عليّ لتخلفي عن المشاركة في الانتخابات... لقد ارتديت ملابس الخروج القديمة والأنيقة والتي لم أكن أملك سواها، والتي جاهدتُ من أجلِ حمايتها من التلف أو البيع بأبخس الأثمان من أجل لقمة تكفينا لوجبة واحدة!!! ارتديتها وصففت شعري وظهرت بأبهى حُلَّتي وجلستُ بكل أناقة انتظر لحظة القبض عليّ أنا ووالدتي التي تخلفت عن الذهاب معي أيضا على كرسيها المتحرك وبقيت تتوسل إلي لمساعدتها على الذهاب... تخيلت للحظة بأني سأصبح بطلة يذكرها التأريخ ولو بكلمة أو سطر واحد.. ولكن وبعد طول انتظار.. حضر والدي ومعه رجل من معارفه ومن أصدقاء طفولته. كان رجلا خلوقا لا تشوبه شائبة سوى انتماءه لذلك الحزب البائس!! لقد كان عضوا فعالا في حزب البعث!! ظننت أنه سَيُلقي القبض عليّ لكنه دخل مع والدي إلى منزلنا بهدوء وسلّم علينا أنا ووالدتي بكل احترام!! فأشار والدي بيده إلى وضع والدتي وجلوسها على الكرسي المتحرك وقال له: -انظر... انظر أمامك إلى هذه المرأة العاجزة عن الحركة والتي لا تقوى على الذهاب لغرض التصويت!! (شوف... شوف گدامك المره عاجزه عن الحركه ومابيها حيل تروح تنتخب!!) ثم التفت إلي وأشار نحوي وقال: - وهذه أيضا إبنتي الصغيرة التي حدثتك عنها... انظر كيف تأنقت واستعدت للذهاب للتصويت مع والدتها!! لكنها آثرت البقاء في المنزل بعد أن تدهورت حال والدتها الصحيَّة وتطوعت للبقاء معها... ( وهاي هم بنتي اللي گلتلك عليها مبدله ومتحضره بس ظلت گاعده يم أمها لأن أمها تخربطت....) فنظر إلينا الرجل نظرات مشفقة وقال لوالدي: أحضر هوية الأحوال المدنية الخاصة بهما و تعال آني وياك نكتب نعم ونصوّت بمكانهن وأمرنا لله!!! كِدتُ أنتفضُ من مكاني وأخبره بأن صحة والدتي لم تتدهور بل هي متدهورة منذ سنين بسبب ظروف البلاد المؤلمة من حروب عبثية وحصار اقتصادي أثر على تدهور صحتها تماما.. وبأني رفضت اصطحاب والدتي بكُرسِيّها المتحرك متعمدة وبإرادتي ولست معذورة في شئ، وكدت أنهض وآخذ بيده وأجره إلى المطبخ الخاوي من كل شئ، حيث الثلاجة الفارغة و الفطور الذي لم يعد إلى الآن، رغم تجاوز الوقت ما بعد الظهيرة!! لعدم توفره وتوفر المال لشراءه.... وأريه غرفنا التي خوت من الأثاث الذي قمنا ببيعه بأبخس الأثمان حتى بتنا نسمع صدى أصواتنا في تلك الغُرَف يرتد إلينا حين نتحدث وكأننا قد شددنا الرِحال لننوي مغادرة هذا المنزل الكئيب!!! فكيف لي أن أصوّت بنعم وأنا أعيش بهذا الوضع المُزر!!! أفتِني في أمري أيها العم... فهل يستحق قائدكم الضرورة هذا التصويت له بنعم وقد خلى منزلٌ من منازل رعيته من كل أساسيات الحياة بسبب سياساته غير المدروسة!! لكنني فجأة توقفت... وطأطأت رأسي إلى أسفل السافلين... واعتراني شعور غريب ممزوج بالخجل تارة، وبالخوف على عرضي وسمعتي وعلى عائلتي وبالذات والدتي وشقيقي الأكبر الذي ضحى بكل شئ من أجلنا تارةً أخرى!!! أعترف بأن حالة من الضعف والجبن كانت قد انتابتني فجأة وشعرت بالشفقة من نظرات والدي ووالدتي التي كانت تتوسل إلي أن لا أتهور أمامه وأفصح له عن الحقيقة، فاكتفيتُ بالسكوت والنظر بخجل نحو الأرض حتى خروج ذلك الرجل بصُحبَةِ والدي. وهما يحملان هوية الإحوال المدنية الخاصة بنا أنا ووالدتي ليقوما بتزوير صوتي وصوت والدتي بـ"نعم" ...مجروحة...
#ميادة_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|