هشام السامعي
الحوار المتمدن-العدد: 1728 - 2006 / 11 / 8 - 11:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من ابن رشد حتى رجاء بن سلامة الخطاب الإيديولوجي ضد الخطاب المعرفي .
يشير الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في كتاب (قراءات ومراجعات في الوعي الغربي ) والذي قدم له بعد ترجمته للعربية الكاتب العربي غسان على عثمان تحديداً في الفصل المخصص من الكتاب والمعنون (الثقافة الإسلامية والفلسفة) فيما معناه : لقد عاش ابن رشد على الطرف الآخر من العالم الإسلامي الذي عاش فيه ابن سينا , لقد عاش في الأندلس، أي في الغرب الإسلامي، هذا في حين ان ابن سينا عاش في الشرق الإسلامي , وقد ولد عام 1126 في قرطبة من عائلة كريمة وكبيرة حيث كان أبوه وجده من كبار الفقهاء والقضاة , ولذلك يقال ابن رشد الجد، وابن رشد الحفيد , وقد درس ابن رشد علم الكلام والفقه أولاً قبل أن يهتم بالطب والرياضيات والفلسفة , ثم قدموه إلى الخليفة أبو يعقوب المنصور بصفته عبقرياً وقادراً على شرح مؤلفات أرسطو العويصة , وقبل الخليفة بتوظيفه رسمياً عام 1184 عندما كان عمره حوالي الستين سنة , فقد اتخذه كطبيب شخصي له وأغدق عليه نعمه وأتاح له أن يقوم بشروحاته لأرسطو , ولكن للأسف فإن هذا الخليفة مات بعد سنتين من ذلك التاريخ , وعندئذ خلفه ابنه يعقوب المنصور, وقبل أن يواصل موقف والده ابن رشد لمدة أحد عشر عاماً , وبعدئذٍ غيّر موقفه لأن الفقهاء والمتشددين في الأندلس كانوا ينظرون إلى ابن رشد والفلسفة بشكل عام نظرة ارتياب واشتباه , وقد ضغط هؤلاء المتشددون على الخليفة فاضطر إلى التخلي عن ابن رشد وحمايته وإغداق هباته عليه , ونفاه أولاً إلى قرية بعيدة من قرطبة ، ثم أبعده إلى المغرب الأقصى في المرحلة الثانية ، وكانت التهمة الأساسية الموجهة إلى ابن رشد هي انه يهتم بالفلسفة على حساب الإيمان الحقيقي , فالدين يغني عن الفلسفة في رأي الفقهاء ولا داعي لكل هذا الاهتمام الزائد بعلم يعود في أصله إلى الوثنيين من أمثال سقراط ، وأفلاطون ، وأرسطو , وبما أن ابن رشد مجَّد أرسطو كثيراً ، فقد نقموا عليه واعتبروه بمثابة الخارج عن الدين , وصدرت عندئذ فتوى تقول ( كل من يعتقد بأن العقل وحده قادر على التوصل إلى الحقيقة ، فهو كافر ومأواه جهنم وبئس المصير) وعندئذٍ قام بعضهم بجمع كل الكتب العربية التي تتحدث عن المنطق والفلسفة بما فيها كتب ابن رشد وحرقوها .
ومن حينها ظلت عقلية التنافر والتصادم والصراع قائمة بين الجماعات الدينية ( المتطرفة ) وبين الفلاسفة والمفكرين والنخب المثقفة والنظريات التي جاءت فيما بعد , كان لهذا الصراع دوره السلبي من خلال التأثير على إيديولوجية الخطاب الذي يروج له كل طرف ضد الأخر في محاولة للإنفراد بالحقيقة المطلقة وأعتبار أن ماينادي له كل طرف هو الحق ومادونه الباطل , وهذا مايلاحظ من خلال تتبع وقراءة الخطاب الفكري الذي ظل ولازال قائماً حتى وقتنا هذا , ففي الوقت الذي كانت تنادي فيه الجماعات الدينية ( المتطرفة ) إلى ضرورة إحترام النصوص الشرعية للأديان وعدم المساس بها أو توظيف نصوصها الدينية في إطار التساؤلات الفلسفية التي يبحث في إطارها الفلاسفة أو يحاولون صناعة نظرياتهم وفق حرية التفكير والإعتقاد والتي كفلتها لهم كل الشرائع السماوية , كانت الجماعات الدينية تمارس كل سلطات القمع والتسلط ضد الحركات اليسارية والليبرالية وكثير من الحركات التي ظهرت في الوطن العربي , متسترين تحت غطاء ديني وهو ماجعلهم يظنون أنه يكفل لهم التحرك بكل حرية في مساحات يحاولون أن يضفوا عليها جانب من القداسة حتى لايشعر المجتمع أنهم يمارسون أعمال غير إنسانية و بحكم أن المجتمعات تريد المحافظة على مجموعة القيم التي يتركب منها المجتمع وأهم ركيزة بحسب ذلك المفهوم هي القداسة الدينية والنصوص الدينية , في مقابل ذلك كله كان الطرف الأخر يمارس نفس الدور ولكن بطرق أخرى لعل إحداها إعتماد خطاب عقلاني يحاول من خلاله الإنقلاب الكلي على مجموعة الأفكار التي كانت ثابتة في العقل العربي والتي كانت تدافع عنها الجماعات الدينية وتوصيفها على أساس أنها أفكار رجعية لاتناسب التطور الحاصل في المجتمعات بل وتحميلها كامل المسؤولية عن التخلف الذي أصاب العقل العربي وجمدت الفكر العربي , كان ذلك كله يتم تحت غطاء عبارة عن مجموعة الأفكار والنظريات التقدمية والتي كانت من أهم مميزات خطابها أنها تنادي حرية التفكير والإعتقاد والقبول بكل المتناقضات في الثقافات , وبرغم جماليات هذا الخطاب ومشروعيته إلا أن الذي كان يمارس في الواقع يشير إلى عملية إنقلاب حتى على الخطاب الذي تنادي له هذه الحركات وهو ما أحدث فجوة كبيرة في مصداقية كل هذه الجماعات والحركات وهو ماتنبه له بعض المفكرين الذين حاولوا أن يقدموا قراءة معرفية متجاوزين الحدود التي تفرضها إيديولوجيات الحركة التي ينتمون لها , وعلى الرغم أن هذه المحاولات النقدية كانت تحدث حراك في المياه الراكدة وتعطي نتائج إيجابية إلا أنها كانت تواجه بهجوم شديد بغرض الحد منها أو التقليل من أهميتها هذا إذا لم تصنف ضمن المؤامرات التي تحاك ضد الحركة نفسها .
ومع كل هذا الحراك التنافري بين كثير من الحركات الفكرية والدينية في الوطن العربي كانت السلطات الحاكمة في الوطن العربي تستغل هذه الصراعات في توظيفها بما يتناسب مع مصالح هذه الأنظمة التي أعتمدت كثيراً على زرع الخلافات وتشجيع طرف ضد طرف أخر وبمقابل ذلك كانت تمارس كل أنواع القمع الفكري تحت غطاء الولاء الوطني وسيادة القانون وحماية الوطن وكل ما إلى ذلك من شعارات وتهم ولذلك كانت في أحيان كثيرة تحاول أن تعمل بالمثل ( مسك العصا من المنتصف ) والإعتماد على بعض الحركات في بعض الأعمال القمعية إذا ماشعرت أن توجه فكري جديد بدأ ينتقد أو يكشف كثير من الممارسات القمعية التي تمارسها سلطات الحكم ضد شعوبها , ومن هذا نجد أن أساليب القمع الفكري قد مورست من قبل كثير من سلطات القرار والحركات النظرية والفكرية والأنظمة الحاكمة .
ومع تعدد سلطات القمع في الوطن العربي كان القمع الذي تمارسه الجماعات الدينية أكثر حضوراً وأشد ضرراً من غيره لأنه محمي بقداسة دينية توظفها هذه الجماعات لكي تبرر أعمالها تلك متجاوزة بتلك الأعمال الأصول الشرعية والنصوص الدينية التي تنادي إلى ضرورة إحترام العقل البشري والإحتكام لمنهجية الحوار والإعتدال التي أعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم أثناء نشر الدعوة الإسلامية , ولذلك ظلت الإشكالية قائمة منذ عهد ابن رشد بل وربما من قبله حتى وقتنا هذا وظل الخطاب المعرفي محل شك وأرتياب في ظل تحكم الخطاب الإيولوجي في كثير من مراحل الزمن .
إن ماحدث مؤخراً للكاتبة والناقدة التونسية الدكتورة رجاء بن سلامة من قمع فكري يعد من أخطر أساليب القمع التي تمارسه السلطات والجماعات الدينية ( المتطرفة ) في كثير من البلدان العربية والإسلامية , ماحدث كان عبارة عن هجوم وحرب شعواء ضد الناقدة التونسية حتى وصل الأمر حسب معلومات بعض المواقع الإلكترونية إلى إهدار دمها ودفع كثير من طالباتها ليشهدن ضدها ونشر مواضيع تكفيرية في كثير من الصحف والمواقع الإلكترونية التونسية أقتبس منها بعض ماجاء في موضوع للكاتب التونسي محمد الرحموني في جريدة الصباح التونسية قوله : " إنه الفكر المطلق والمنطلق من كل عقال فكري أو أخلاقي يتجاهل التاريخ، ويتعامل مع الأمر بمنطق ملّة الكفر واحدة. " هكذا يتعامل المتطرفين مع كل من يأتي بأفكار لاتناسب توجهاتهم حتى وإن كانت منطقية وواقعية , وبهكذا خطاب يكون ردهم على كل المخالفين لهم متجاهلين سماحة الدين الذي يقولون أنهم يدافعون عنه , ولم تكن رجاء بن سلامة أخر من تقمعهم الجماعات الدينية فالقائمة طويلة وعبر مراحل زمنية متعددة كان الحاضر الأهم فيها هو التطرف الديني .
#هشام_السامعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟