|
نظام اللامحاسبة
سعد الله مزرعاني
الحوار المتمدن-العدد: 7701 - 2023 / 8 / 12 - 11:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يشكّل موضوع الإفلات من المحاسبة (أو انعدام المحاسبة)، ركناً أساسياً من أركان نظام «الكوتا» الطائفي الذي اختارته البورجوازية اللبنانية، برعاية أجنبية، أداة لممارسة سلطتها ولإدامة تلك السلطة وصولاً إلى تأبيدها: في مواجهة حقائق التاريخ ومتغيّرات الحاضر ومتطلبات المستقبل. وكذلك، في مواجهة الإخفاقات والفشل والعجز، والانهيار الشامل الذي يتواصل، قاتلاً ومدمّراً، منذ حوالي 4 سنوات إلى اليوم. من أجل خدمة هذا النظام، وبين أمور أساسية أُخرى، انبثقت عدة التبرير والتعبئة الإيديولوجية و«الثقافية»، وحتى المفاهيمية.
جرى التركيز على مقولة أن «لبنان طائفي»: كان كذلك وسيبقى على هذا النحو حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً! لقد ظل هذا «الجوهر اللبناني» ثابتاً، رغم الصراعات والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية والاحتلالات المتعددة، وطبعاً رغم تبدّل التوازنات التي نجمت عن عوامل وأسباب داخلية أو خارجية، في الحقول كافة: السياسية والاقتصادية والأمنية، وحتى الجغرافية والديموغرافية. فهذه جميعاً تمّ توظيفها، بالتفاهم أو بالتواطؤ، ودائماً بالإصرار والمثابرة، وبالإجراءات المكرَّسة في القوانين أو في الأعراف، للمعادلة المذكورة آنفاً: نظام الكوتا الطائفية هو وحده الذي يستجيب لـ«طبيعة» لبنان ولإدارة السلطة والعلاقات والتوازنات فيه: في بعديها الداخلي والخارجي!
النظام أصبح، إذاً، الثابتة الأساسية في الدولة اللبنانية. بل هو أصبح والكيان اللبناني نفسه، وجهين لـ«الصيغة الفريدة» التي لا تضاهيها صيغة على وجه الأرض! بذلك بات النظام فوق الدستور والقوانين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السطة المنبثقة عنه التي أصبحت ثالثة الأثافي في نشوء وتفوق «المعجزة اللبنانية»! كان لا بدّ لمجموعة التفاهمات المنطلقة من «الكوتا» الطائفية، أن تتكرّس وتترسّخ تباعاً. ومن ذلك أن تتعمّم وتشمل الميادين والمستويات كافة. وهكذا تبلورت «المنظومة» في صيغها المفاهيمية والفكرية والسياسية والاقتصادية والفنية والرياضية والتربوية والإعلامية. ولقد تجسّدت بشكل عنيد وصلب في «دولة عميقة» تؤمّن الفعالية والاستمرارية، وتتربَّص بكل محاولة للتغيير أو للتشكيك: أي للنيل من «الصيغة» العجيبة ومن أدواتها التنفيذية! كان نصيب عدم المحاسبة أو الإفلات من العقاب بوصفهما ركناً أساسياً في النظام، كما أسلفنا، مهماً لجهة التوجهات والإجراءات في التشريع وفي الممارسة (العُرف)، أو في صيغ من الترغيب والترهيب، أو من التحوُّط والتمييع والإجهاض... تباعاً، ودائماً، بمواكبة ورعاية خارجية، تبلور ظهور دويلات ضمن الدولة وعلى حساب فعاليتها ووظيفتها. المؤسسات الدينية التي برز دور بعضها مبكراً، كانت عاملاً تكاملياً مهماً في دعم وتبرير النظام، وفي ترسيخه. وهي باتت قوة أساسية، حتى بموجب القانون، في السياسة والإدارة والتشريع والتربية ومجمل البنية الفوقية عموماً.
في الصميم من كل ذلك كان يتأكد، باطّراد، دور وتأثير العصبيات الطائفية والمذهبية التي ظل استنفارها السلاح الأمضى، المجرَّب والفعَّال، في إعادة الأمور إلى «نصابها» (!) إذا ما فرضت التطورات أو الأزمات الداخلية، أو الرياح الخارجية، مساراً طارئاً من خارج ما هو مقرر أو مقدَّر. أمّا الإدارة، فقد سُخِّرت بالكامل في خدمة «المنظومة» وأركانها الأساسيين على وجه الخصوص. وكذلك الأمر بالنسبة إلى القضاء والأمن والأجهزة العسكرية جميعها. ولقد بُذل، في هذا السياق، جهد كبير، كانت الطائفية والتمذهب سلاحه الأساسي، لتعطيل دور وتأثير صيغ النشاط والتجمع والتنظيم والتمثيل الحديثة، بعد أن تعاظم حضورها وتأثيرها: الأحزاب والاتحادات والروابط والنقابات العمالية والتعليمية والطالبية واتحاداتها المهنية، وكذلك على مستوى نقابات الإعلاميين واتحادات الطلاب والشباب ولجان حقوق المرأة وصولاً إلى صيغ تجمُّع المغتربين في العالم وقاراته. وتم، أيضاً، استخدام القمع والصرف والسجن و«التفريخ» والتزييف. الثنائي رفيق الحريري الشهيد، ونبيه بري الشاهد و«الأستاذ» الدائم، لعبا الدور الأساسي بإشراف الراعي السوري (ما بعد «الطائف»)، لاستيعاب وتعطيل وقمع صيغ الاحتجاج والاعتراض والمطالبة، ولو تطلّب الأمر استخدام الضغوط والإغراءات وفتح السجون أمام متمرّدين! في السياق نفسه تمّ الإجهاز على مؤسسات الرقابة ذات المنشأ الشهابي منعاً لفرص تقدّم الأكفياء على الأزلام والتابعين للمتحاصصين بمنفعة وولاء وعصبية. وهكذا تعطّلت بشكل شبه كامل مؤسسات الرقابة ومجلس الخدمة ومجالس التفتيش لتصدر لوائح الموظفين المحظوظين من «مصيلح» و«المختارة» و«قريطم»، ولاحقاً من «معراب» و«ميرنا الشالوحي». وليجري تعميم اعتماد القيد الطائفي ليس في الفئة الأولى أو ما يعادلها بحسب المادة 95، بل في كل الفئات والأسلاك والمراحل: في مخالفة فاضحة للدستور، وإمعاناً في تعطيل إصلاحاته المتواصل منذ إقرار وثيقة الطائف عام 1990 حتى الآن!
إنّ إلحاق كل مراكز النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي والقضائي و و... بمنظومة التحاصص قد وجّه الضربة القاضية إلى الدستور والقانون، وإلى الأساسي من شروط بناء دولة قانون ومؤسسات، ومعها كل أنواع المساءلة التي كان حضورها يتضاءل بتبلور وتعاظم دور «المنظومة» وبترسّخها. في بداية الستينيات كانت حملة «تطهير» تمّ بموجبها إقصاء عدد من كبار الموظفين، بينهم، كمثال، الراحل السيد زكي مزبودي. مزبودي ترشّح إلى الانتخابات على اللائحة البيروتية الأبرز برئاسة الزعيم الراحل صائب سلام، ونجح في دخول الندوة البرلمانية دون أي عائق! كذلك، لم يحاسب السنيورة رغم إدانته واتهامه وكان وزير دولة للشؤون المالية في حكومة الحريري الأب. لقد استمر وأصبح رئيساً للحكومة بعد اغتيال الحريري! قبله الرئيس أمين الجميل لم يُساءل بشأن ما اعتمده من تقليد بفرض 20% على كل الصفقات. لقد تكرّس الفساد وتغلغل جزءاً رئيسياً في بنية المحاصصة. وهو اقترن دائماً بالحماية المدنية والدينية. نتيجة ذلك بتنا أمام معادلة أن المتهم هو الخصم وهو الحكم، وأن «حاميها حراميها» وأن النهب والفساد محميان بقوة نظام ومنظومة المحاصصة على حساب الدستور والقانون ومصالح البلاد والناس أجمعين! مسيرة الحاكم رياض سلامة وصولاً إلى «حفلة» وداعه الاستفزازية، والتي نظّمها ممثّلو «المنظومة» في المصرف المركزي وخارجه، كل ذلك يشكّل تجسيداً رمزياً للإصرار على حماية الارتكاب والفساد، وعلى المضي فيه في الوقت نفسه: يا ملايين اللبنانيين المتضررين في لبنان والمهجر، بلّطوا البحر!
كتب المؤرّخ د. أسامة المقدسي في كتابه القَيّم الصادر عن «دار الآداب» بعنوان «ثقافة الطائفية» ص9: «من المؤكد أن من بين العوامل الحاسمة في تطور الحكم الطائفي (في العراق كما في لبنان منذ القرن 19)، ذلك التدخل المفرط الذي تمارسه القوى الغربية التي تقرأ الشرق قراءة استشراقية وطائفية ومغرضة». وكتب الرئيس سليم الحص، صاحب الخبرة الطويلة في السلطة والمعارضة، في مقدّمة كتابه «نحن...والطائفية»: «نحن من الذين يعتبرون الطائفية آفة لبنان المركزية... وهي كثيراً ما تشكل حاجزاً دون المحاسبة والمساءلة... فلا غرابة في القول، والحال هذه، أن الطائفية حصن الفساد والإفساد في المجتمع»!
#سعد_الله_مزرعاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيادة في بازار الفئوية والارتهان
-
خلل وتجاهل وعِبر
-
بين سيئ وأسوأ
-
أسباب وآفاق التحولات السعودية
-
فتى الكتائب... مغامراً!
-
عشرينية الاحتلال الأميركي: تغيير الوسائل وثبات الأهداف
-
واشنطن... لمحات من مسار الهيمنة!
-
أزمة الحريري وأزمة لبنان
-
وفي الليلة الظلماء...
-
أين المعارضة وأيّ معارضة!
-
الدولة الطائفية الهشّة
-
المعارضة الوطنيّة: إعادة تأسيس
-
الإمعان في تشويه «الطائف»
-
معارك ما بعد الترسيم
-
رؤساء لبنان
-
تحوّلات جوهريّة
-
مقاومة «جمول» وشيءٌ من الصراحة!
-
ألم يحن الوقت بعد؟!
-
الانفعالات والأزمات
-
الإصلاح السياسي مدخل كل إصلاح حقيقي
المزيد.....
-
اصطدمتا وسقطتا في نهر شبه متجمد.. تفاصيل ما جرى لطائرة ركاب
...
-
أول تعليق من العاهل السعودي وولي العهد على تنصيب أحمد الشرع
...
-
بعد تأجيله.. مسؤول مصري يكشف لـCNN موعد الإفراج عن فلسطينيين
...
-
السويد: إطلاق نار يقتل سلوان موميكا اللاجئ العراقي الذي احرق
...
-
حاولت إسرائيل اغتياله مرارا وسيطلق سراحه اليوم.. من هو زكريا
...
-
مستشار ترامب: نرحب بحلول أفضل من مصر والأردن إذا رفضتا استقب
...
-
الديوان الأميري القطري يكشف ما دار في لقاء الشيخ تميم بن حمد
...
-
الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية في الضفة الغربية ويق
...
-
بعد ساعات من تعيينه رئيسا لسوريا.. أحمد الشرع يستقبل أمير قط
...
-
نتانياهو يندد بـ-مشاهد صادمة- خلال إطلاق سراح الرهائن في غزة
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|