|
عن الحرب الأهلية الباردة الدائرة في إسرائيل
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 7684 - 2023 / 7 / 26 - 11:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أخذ الانفصام المجتمعي السياسي العالمي يتعمّق في القرن الجديد مع إعادة صعود أقصى اليمين بحلّة جديدة، حيث يتظاهر بالقبول بقواعد اللعبة الانتخابية وتنقصه المظاهر العسكرية التي ميّزت التيارات الفاشية كما شهدها القرن المنصرم بين الحربين العالمتين. وقد جرى استحداث مصطلح خاص بالظاهرة الجديدة، هو النيوفاشية. هذا ومن المفارقات التاريخية العظمى أنه بعدما كان اليهود أبرز ضحايا الصعود الفاشي الأول، قبل قرن من الزمن، غدت الدولة التي استوطن فيها قسم كبير من الناجين من النازية، مسرحاً مميَّزاً لصعود النيوفاشية. وقد لعب بنيامين نتنياهو الدور الأهم في هذا الصعود، وهو ابن رجل كان عضواً نشطاً في الجناح الفاشي من الحركة الصهيونية، المعروف باسم «الصهيونية التصحيحية» والذي أسّسه فلاديمير (زئيف) جابوتينسكي (1880-1940). وإذا صحّ أن حزب الليكود، حامل إرث «الصهيونية التصحيحية» قد عرف اعتدالاً نسبياً سمح له بتولّي السلطة في إسرائيل بدءاً من عام 1977، فإنه عاد تدريجياً إلى أصله الفاشي تحت قيادة نتنياهو، لاسيما بعد عودة هذا الأخير إلى رئاسة الحكومة في عام 2009 واستمراره في هذا المنصب بلا انقطاع حتى عام 2021، وهي أطول مدة لرئيس وزراء في تاريخ الدولة الصهيونية. والحال أن رغبة نتنياهو في التمسك بمنصبه، لاسيما بعد أن تراكمت في وجهه دعاوي فساد حرص على إبطالها باحتفاظه بالكرسي، كانت عاملاً هاماً في شطحه نحو أقصى اليمين من خلال لجوئه إلى ديماغوجيا بلا حياء واستعداده إلى التحالف مع الذين زايدوا عليه من أقصى اليمين، وصولاً إلى التحالف مع من لا تتردد الصهيونية الليبرالية في نعتهم بالنازيين الجدد. هذا النموذج من شطح اليمين المتشدّد نحو أقصى اليمين النيوفاشي من خلال الديماغوجيا الانتخابية والتودّد لأقاصي اليمين المترعرعة على هامش المسرح السياسي، تلاقى مع النموذج الذي جسّده السياسي الإيطالي الراحل سيلفيو برلسكوني ليشكّلا قدوة أصابت عدواها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها في هيئة دونالد ترامب. ويحدث صعود الظاهرة النيوفاشية انشطاراً مجتمعياً بلغ أقصاه في الدولة الصهيونية، إذ اجتمعت في التصدّي للظاهرة شتى التيارات الصهيونية الليبرالية (أما اليسار الصهيوني فقد بات في خبر كان منذ أمد طويل) وقد باتت إسرائيل مسرحاً لحرب أهلية باردة يحذّر بعض المعلّقين من تحوّلها إلى حرب أهلية بكامل معنى التعبير.
أما الطريف حقاً في الحالة الإسرائيلية، فهو أن الحرب الأهلية الباردة التي تدور رحاها في ساحات كبرى المدن، إنما تترافق بتصعيد للحرب الاستعمارية العنصرية التي تخوضها الدولة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وكأن لا علاقة بين الحربين على الإطلاق. فحيث يحتجّ المتظاهرون الإسرائيليون على تفكيك حكومة نتنياهو لأعمدة الديمقراطية الإثنية الصهيونية، لم يعربوا عن أي احتجاج على الحرب القذرة التي تخوضها الحكومة ذاتها على الفلسطينيين، بل يزايدون على تحالف أقصى اليمين الحاكم في الولاء للصهيونية من خلال تظاهرهم تحت أمواج من الأعلام الإسرائيلية الزرقاء والبيضاء. وحيث يهدّد ضباط الاحتياط في شتى أسلحة الجيش الصهيوني، لاسيما منها سلاح الطيران، بالكفّ عن المشاركة في التدريبات الدورية التي تجعل من الدولة الصهيونية بصورة دائمة دولةً على أهبة خوض حرب شاملة، كادت حركات الجنود الرافضة لتنفيذ الخدمة العسكرية الإلزامية في الأراضي المحتلة سنة 1967 تغيب عن الذاكرة. والحقيقة أن الطرف الأكثر انسجاماً مع طبيعة الدولة الصهيونية بين المعسكرين السياسيين اللذين انشطر إليهما المجتمع الإسرائيلي اليوم، إنما هو الطرف الذي يقف نتنياهو على رأسه. فقد أثبت التاريخ بصورة قاطعة ما أكّد عليه في عام 1967 المؤرخ الماركسي الفرنسي يهودي الأصل مكسيم رودنسون (1915-2004) عندما شارك في الدفاع عن القضية العربية في عدد خاص عن حرب الأيام الستة أصدرته مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان يُشرف عليها الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر. كتب رودنسون آنذاك: «إن الاتجاه إلى خلق دولة يهودية خالصة، أو يهودية أساساً، في فلسطين العربية في القرن العشرين، لم يكن من شأنه إلاَّ أن يقود إلى وضع من النمط الاستعماري وإلى الإنماء (الطبيعي تمامًا من الناحية السوسيولوجية) لذهنية عنصرية، وفي التحليل الأخير إلى مواجهة عسكرية بين الجماعتين الإثنيتين». فإن النمط الاستعماري والذهنية العنصرية والمواجهة العسكرية للفلسطينيين، إنما هي الأركان الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع الإسرائيلي، وهي مكوّنات أساسية لأيديولوجيا أقصى اليمين الصهيوني بحيث إنه من الطبيعي جداً أن ينمو هذا التيار السياسي إلى حدّ تغلّبه على التيار الليبرالي وشروعه في تفكيك الأركان الثانوية التي قامت عليها الدولة الصهيونية بوصفها «دولة يهودية وديمقراطية» أي دولة قائمة على تناقض صارخ بين تعريف إثني عنصري وديمقراطية محصورة باليهود. فإن منطق الصهيونية الأساسي يقود دولتها بالضرورة إلى مفترق طريقين لا ثالث لهما: إما أن تبقى الدولة يهودية ويستمر انزلاقها إلى الفاشية المنسجمة مع طبيعتها الصهيونية، أو تتحوّل إلى دولة ديمقراطية حقاً تقرّ إقراراً كاملاً بحقوق الفلسطينيين ويتعايش فيها اليهود والعرب بمساواة تامة. أما الطريق الثالث الذي تدافع عنه التظاهرات المناهضة لنتنياهو وحكومته، فطريقٌ وهمي انهار الأساس المجتمعي الزائف الذي كان قائماً عليه وبات المدافعون عنه يسبحون ضد التيار التاريخي الجارف. لذا فإن عدداً متزايداً منهم يرحل إلى أمريكا أو أوروبا مفضِّلاً الهجرة على اعتناق البديل الحقيقي الوحيد عن النيوفاشية الصهيونية، وهذا من شأنه بالطبع أن يقوّي غلبة هذه الأخيرة.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في إخفاق المشروع الفرعوني في مصر
-
لماذا تخشى إسرائيل انهيار «السلطة الفلسطينية»؟
-
القلق الغربي من انهيار الدولة الروسية
-
بطولة جنين والخيانة العربية
-
ميلوني وسعيّد بعد برلسكوني والقذّافي
-
في الجدل حول مبعوث الأمم المتحدة في السودان
-
اردوغان بطل الذين لا بطل لهم
-
السوريون في تركيا بين نارين
-
فظائع السودان والدرس التاريخي
-
ماذا وراء الإغارة الأردنية داخل الأراضي السورية؟
-
هنيئاً لهم بتصالحهم مع بشّار الأسد!
-
حلمٌ سوداني
-
المغزى من اقتتال العسكر في السودان
-
تخبّط قيس سعيّد الاقتصادي وتبعاته
-
الثورة السودانية أمام منعطف جديد
-
قوة ديمقراطيتهم وضعف ديمقراطيتنا
-
أمريكا والصين: «فرِّق تَسُد» أم «وفِّق تَسُد»؟
-
أحلام فارقتنا وأحلام لن تفارقنا
-
من دروس المحنة التونسية
-
في المقارنة بين أفعال الصهاينة وأفعال النازيين
المزيد.....
-
بوغدانوف يبحث مع وفد من حماس المستجدات في غزة ويؤكد أهمية ال
...
-
الجدل حول شراء غرينلاند لم ينته بعد.. ورئيسة وزراء الدنمارك
...
-
بيل غيتس وصورة -الملياردير المثالي-
-
ترامب يعلق رسومه الجمركية على المكسيك -شهرا-
-
الرياض.. برنامج أمل التطوعي لدعم سوريا
-
قطاع غزة.. منطقة منكوبة إنسانيا
-
الشرع لـ-تلفزيون سوريا-: النظام كانت لديه معلومات عن التحضير
...
-
مصراتة.. سفينة مساعدات ثانية إلى غزة
-
جنوب إفريقيا تعلن عن إجراءات محتملة ردا على قرار ترامب وقف ت
...
-
مصر تصدر خرائط جديدة لقناة السويس.. ما أهميتها وتفاصيلها؟
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|