|
الخيال ونظرية الخلق الفنى عند سليمان العطار
قحطان الفرج الله
الحوار المتمدن-العدد: 7664 - 2023 / 7 / 6 - 11:44
المحور:
الادب والفن
قحطان الفرج الله/ بغداد
- أول من تنبه للعلاقة بين الخلق الفنى والتلقى هو الراحل نصر حامد أبو زيد فى كتابة «فلسفة التأويل»، مبررًا لسليمان العطار لكى يسمح لنفسه بقراءة ابن عربى قراءة خاصة جدًا
إن دراسة الشعر بشكل عام تحتاج لذائقة، فضلًا عن المهارة النقدية وسعة الاطلاع، ولكن الشعر الصوفى، يحتاج إلى إعمال الفكر أيضًا، فالصوفية أكثر من شعراء، بل هم أصحاب طريقة ومنهج، كان الشعر أحد أدواتهم، فاللغة لدى الصوفى لغة عالية الرمزية، لها مئات المحطات والأبواب والمسالك التأويلية. إن امتزاج الفكر، والطريقة، والرؤية الوجدانية يخلق نصوصًا فى غاية البراعة والتداخل، كُتبت بلغات عدة، لعل العربية والفارسية فى صدارة تلك اللغات، كشعر ابن عربى والحلاج وابن الفارض والسهروردى، وبلغت فى الفارسية أوجها على يد فريد الدين العطار والرومى والجامى وأبو الخير الخرسانى ومحى الدين سنائى، وغيرهم الكثيرين. إن امتزاج العناصر الثلاث (الفكر، والوجدان، والطريقة) فى إناء واحد يتيح مساحة واسعة جدا للكشف والتأويل والجمال الفنى، فهو يحمل البعد الفلسفى من ناحية، ويحمل البعد الوجدانى بما يظهره من وجد وحبّ وهيام فاق فى ذلك عذاب العشاق العذريين، ويحمل أيضًا المسلك أو الطريقة التى ينتهجها المتصوف فى السير إلى المعشوق، فتتباين وتتعدد المشارب، فعشق الرومى غير عشق الحلاج، وعشق السهروردى غير عشق ابن عربي، ومع هذا وذاك لا تخلو طرق الصوفية من الإفصاح أحيانًا إذا ما فاضت الأسرار بنفسه فيعطى حين ذاك للجاحد حق التصرف بدمه، كما هو الحال مع الحلاج الذى كان يَعد نفسه أكثر من عاشق إلهى متجرد، حطم باب حجرة الحضرة الإلهية الذى حرص المتصوفة على إغلاقه بإحكام. التجرد من الذات هو الذى ساق الحلاج إلى مصلبه، ذلك الذى جاء فياضًا بنصوص تحفل بصدارة الأبعاد الثلاث. إن فكرة تجلى الله لمخلوقاته التى تقود إلى معرفته، والتى يسميها السهروردى كشوف المحبوب لحجب جماله: هى التى تكون الدافع لرغبة الحبّ «وفى طبيعة الجمال تكمن الرغبة فى الحبّ»، ومن هذا يفترض الصوفية إلغاء الاثنيينية نحو الأنا الواحدة، كما يقول الرومى «خلعت الاثنينية، ورأيت العالم واحدًا»، وبالعودة إلى النصوص وكيفية النظر إليها ففى رأيى إن طغيان أى عنصر من الثلاثة على الآخر ينتج نصوصًا ضعيفة وفقيرة من الناحية الفنية كالعديد من نصوص ابن عربى والشبلى؛ لغلبة الفكرة على الشكل الفنى، ولكنها عالية عن الحلاج وابن الفارض، وعالية فى لغات أخرى حتى بعد ترجمتها كنصوص الرومى والخيام، والغرق فى المحسنات البديعية سمة غلبت على النص الصوفى، ولكنها كلما تجردت تجرد الصوفى ازدادت جمالًا ورونقًا وأصبح لها ميزانها الخاص مثقاله العشق. قل تعالى: (تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). «المؤمنون14» ينظر ابن عربى إلى تقسيم الخلق، بين خالق عظيم مصور وخلقه هذا (مفتقر) ومحتاج دومًا إلى خالقه. وخالق آخر يكون (الخيال) أداته الأولى وهو مفتقر إلى متلقيه دومًا؛ فهو بغير جمهور (التلقى) يكون كمعزوفة فى صحراء أو كأبيات شعرٍ فى قصاصة ورق تقلبها الرياح حسب نظرية الراحل (سليمان العطار)، وبذلك يكون مدخل العطار فى الخلق هو التلقى الذى يعيد الروح للأشياء بحسب ما يحمله المتلقى من ثقافة ووعى. إن أول من تنبه لذلك هو الراحل (نصر حامد أبو زيد) فى كتابة فلسفة التأويل؛ حيث يقول: «وقد كانت هذه النظرية -فيما يبدو- مبررًا لسليمان العطار لكى يسمح لنفسه بقراءة ابن عربى قراءة (خاصة جدًا) ... تضع مفهوم الخيال عند ابن عربى فى إطار الصراع بين المناهج الدينية فى عصر ابن عربى، والمناهج الحديثة؛ حيث يستخرج من فكر ابن عربى نظرية فى الخلق الفنى عامة، والإبداع الأدبى خاصة، فيعمد إلى -عمد ووعى- استبدال كلمة (فنان) بكلمة (صوفى) عند ابن عربى، واستبدال كلمة (الفن) بالكشف الصوفى عنده»، وعلى أساس من إشارة (هنرى كوريان) لأهمية العالم الوسيط، وإشارة (سليمان العطار) لأهمية الخيال كأداة خلق معرفية عند ابن عربى فى ضوء صراع المناهج فى عصره، انطلق العطار -رغم الخلاف- إلى «محاولة تفسير فكر ابن عربى الذى يجمع بين وحدة الوجود من جانب، وثنائية العلاقة بين الذات الإلهية والإنسان من جانب آخر. إن الوقوف عند أحد الجانبين فى فكر ابن عربى يغفل الجانب الآخر، ويرى ابن عربى فى مستوى واحد من مستويات فكره ولغته»، وبالعودة إلى ما ألمحنا إليه من الفارق بين الخلق الإلهى والخلق الفنى فى نظرية العطار؛ فهو يرى أن «الخلق الإلهى مفتقر -محتاج- إلى خالقه الأول أبدًا، والخلق الفنى مفتقر إلى جمهور من الخالقين (المتلقين)، وهذا يدفعنا إلى إيضاح فكرة الغيب كتعريف للعمل الفنى، وفكرة الخلق عند المتلقى وقضية الاستعداد والقبول، وذلك بشكل أكثر تفصيلًا». من هذه الإشارة العميقة تبرز صورة من صور التفويض (إنى جاعل فى الأرض خليفة) ففي الخلق الإلهى يكون (الخلق) -كل الخلق- مفتقر إلى خالقه وهو (الله) الواحد فى معادل موضوعى لجمهور (التلقى) والوحدانية تعطى الثبات والحقيقة الواحدة المطلقة، أما فى الخلق الفنى يكون (جمهور التلقى) جمهور خالقين متعددين، يقومون بخلق بعدة صور لا حصر لها ولا عد، فى الخلق الإلهى يكون الموت النهاية، وفى النشر الحياة الأخرى، وهو خلق واحد وعود واحد لمعادل تلقى واحد هو (الله). أما فى (الخلق الفنى) فيحل (الموت) بغياب التلقى، كما مثلنا آنفا (الموسيقى فى الصحراء، الشعر فى ورقة)، وبقدر ما عند المتلقى من ذوق ومعارف وفتوح تكون الحياة؛ «فعملية الخلق الفنى (الإبداع) هى إعطاء الصورة وجودًا وذاتًا عدميين فى عين تفتقر إلى كمال الخلق بنفاذ حكم الصورة، أى بتمثلها والإحاطة بها أو تلقيها لخلقها من جديد، فالعمل الفنى (الصورة الأصل) إذا تلقيناه نخلقه/ نشكله من جديد فى صورة جديدة فى نفوسنا (المثال) لخلقها من جديد أبدًا»، وهنا يظهر تعدد خالقين مختلفين. وبذلك يكون «التلقى عملية خلق جديدة لصورة جديدة أو هى عملية تجلٍ بين هدم وبناء، وينكشف بها روح العمل الفنى المدبر ويعرف مغزاه ومعناه». وعلى الرغم من أننا أمام خلق جديد لصورة جديدة فى خيال المتلقى؛ فإن هذه الصورة لا تتجاوز ما لدى العمل الفنى (الصورة الأصل المبدعة) ومن استعداد منحه لها قبولها الذاتى كمخلوق استقل عن خالقه، وافتقر لخالق جديد فالصورة فى خلق جديد أبدًا، ولكن ذلك يتوقف على ذاتها المجهولة الغامضة المجردة، وما لهذه الذات من سمات قبول واستعداد. وبهذا تكون الصورة مفتقرة لخالقها الأول من حيث (الوجود) وليس بحق (الحياة)؛ لان حق الحياة لا يتعدد بتعدد صور تلقيها، ولكن الخالق العظيم يكون هو أول متلقٍ لما أنتج من نصوص، وأول خالق معًا.
#قحطان_الفرج_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتاب الذي لم تقرأه النساء…(تحرير المرأة)
-
رسالة مفتوحة … السيد رئيس الوزراء/ المهندس محمد شياع السودان
...
-
رسالة مفتوحة إلى/ السيد رئيس الوزراء العراقي المهندس محمد شي
...
-
رسالة مفتوحة إلى/ السيد رئيس الوزراء/ المهندس محمد شياع السو
...
-
يوسف الصائغ … (الباحث عن كلمة حبّ وقبلة)
-
الفنان علاء بشير… والدهشة خارج الألوان
-
الهوية الغاطسة ... (المثقف) العراقي...
-
الغرفة رقم (2)
-
علم اجتماع الأدب صراع المنهج والأدوات
-
علم كلام جديد، أم علم كلام سائل ؟… في فكر عبد الجبار الرفاعي
-
جسد مُحتضر، وروح متوقدة ...
-
سليمان العطار كتابٌ عظيم لم يُقرأ بعد
-
(نهدان وقميص بلا أزرار)
-
المشروع الثقافي...
-
خطة لإنقاذ العالم
-
ما بعد العزلة
-
(علي المرهج) و(تشارلس بيرس) وفردوس البراجماتية المفقود
-
البحراوي وكينونة الوعي ...
-
((اشعر بالعار لأنك من الناصرية))
-
اشعر بالعار لأنك من الناصرية
المزيد.....
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|