|
كلام في الليبرالية العربية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 7664 - 2023 / 7 / 6 - 11:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يوم غادرنا حسين جميل، الذي يُعدّ من الرعيل الأول للشخصيات الليبرالية الوطنية الديمقراطية العربية، استعدتُ عددًا من الأسئلة التي ظلّت تراودني على مدى أربعة عقود من الزمن: هل انقطع نسل الليبرالية العربية؟ وهل ثمة تيّار ديمقراطي عربي جديد؟ وهل هناك علاقة رحم بين الليبرالية الجديدة والتيار الليبرالي القديم (الكلاسيكي)؟ وبمعاينة تجارب جيل الروّاد التي اختفت من الخريطة السياسية العربية، بفعل الانقلابات العسكرية وهيمنة الأحزاب الشمولية على المشهد السياسي، وزحف الريف على المدينة الذي شهده العالم العربي، وتراجع التوجّه المدني في الدولة والمجتمع، يمكن القول أن الكشف عن فكر المدرسة الليبرالية العربية المعاصرة في العراق ومصر وسوريا ولبنان وبعض البلدان العربية، يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية" بالنسبة للجيل الجديد، خصوصًا بتسليط الضوء على مرحلة ازدهارها في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته. لقد اختلطت مفاهيم الليبرالية اليوم لدرجة أصبحت بعيدة عن أصولها الفكرية وأساساتها النظرية التي قامت عليها، لاسيّما بعد سبات دام عقودًا من الزمن دخلته الفكرة الليبرالية، حيث سيطر فيها الفكر الواحدي الإطلاقي والنزعات العسكرية والعنفية، وتهميش الطبقة الوسطى وإضعافها، وانحسار تيار الحداثة المدني. وأصبح الحديث عن الليبرالية أقرب إلى عمل مرذول، لاسيّما بهجران أوغياب أنصارها المخلصين، وغدت أقرب إلى التأثيم والتحريم والتجريم بسيادة نهج الإقصاء والإلغاء، وهيمنة التعصّب ووليده التطرّف والغلو، ونتاجهما العنف والإرهاب، على حساب ثقافة الحوار، والتعايش والاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعدّدية. يتفرّع السؤال عن علاقة الليبرالية بالوطنية من سؤال الليبرالية العربية وتراثها، فهل يمكن أن يكون المرء ليبراليًا دون أن يكون وطنيًا، خصوصًا في ظلّ انسياق بعض دعاة الليبرالية العربية الجدد ضدّ بلدانهم، بما فيها تأييد حصارها وفرض العقوبات عليها؟ ثم ما هي علاقة الليبرالية الكلاسيكية بالليبرالية الجديدة؟ هنا نستذكر حسين جميل نموذجًا، لأنه ترك إرثًا قانونيًا وفكريًا وسياسيًا ونقابيًا غنيًا، وكان أحد أبرز رموز ومنظّري الفكر الليبرالي الديمقراطي في العراق مع كامل الجادرجي ومحمد حديد وآخرين، وهو من حاول السير بالتعاليم النظرية والأكاديمية بربطها بالدولة العصرية بموازاة وتماس مع الواقع عبر فهمه والسعي لتغييره، فقد جمع في شخصه اختصاصات كثيرة، فهو أمين عام اتحاد المحامين العرب والباحث السياسي والدبلوماسي والوزير والمفكر الذي ربط السياسة على نحو عضوي ببُعدها الأخلاقي. وقد تميّز حسين جميل بالوطنية الصميمية والاعتدال والوسطية والتسامح في مرحلة كان الولاء الأيديولوجي لقوى دولية وإقليمية قائمًا، مثلما كان التعصّب والتطرّف سمتين تطبعان سلوك الفرقاء والمتخاصمين بمن فيهم "الأخوة الأعداء" حسب كازنتزاكس. ما يدفعنا للكلام عن الليبرالية اليوم، هو التباس مفهومها وتعويل البعض عليها بعد فشل المشاريع الشمولية، القومية الاشتراكية والاشتراكية الماركسية والإسلامية الإسلاموية، وانهيار أنظمة أوروبا الشرقية، حيث ارتفع شعار "الليبرالية هي الحل"، بعد أن كان الحل بالقومية تارة والاشتراكية تارة أخرى وبالدين في مرّة ثالثة. لكن الكلام الجديد في الليبرالية صاحبه إشكالية أساسية، خصوصًا بالتعويل على العامل الخارجي لإنجاز مهمة التغيير المنشود، تلك التي لا تخلو من تداخلات وإملاء إرادة واستتباع، في ظلّ عجز وعدم ثقة ويأس من إنضاج العامل الداخلي، في حين قامت الليبرالية الكلاسيكية على قاعدة سياسية أساسها الحريّات المدنية والسياسية، خصوصًا حريّة التعبير والاعتقاد والتنظيم والشراكة والمشاركة، وقاعدة اقتصادية أساسها الحريّات الاقتصادية، وفقًا للقاعدة الشهيرة التي راجت بعد الثورة الفرنسية (1789) "دعه يعمل.. دعه يمرّ"، أي حريّة العمل وحريّة الأسواق وحريّة انتقال البضائع. وتمكّنت الليبرالية من تحقيق منجزات تاريخية مهمة وبالتدرّج والتراكم، أبرزها إقامة أنظمة ديمقراطية وبرلمانات، واعتماد مبادئ المساواة، الأمر الذي شجّع الإنتاج العلمي والفني والأدبي، خصوصًا بوجه سطوة الفكر الخرافي والشعوذات التي امتازت بها القرون الوسطى، بتأكيد قيم العقلانية والعلم وأولوية الفرد. باختصار فإن الليبرالية تعتبر الحريّة والفردانية الباعث في حياة الإنسان، وهدفها تحقيق سعادته ورفاهه في حاضره ومستقبله. فهل ثمة رابط بين هذه الليبرالية والليبرالية الجديدة التي اتّسمت بسيادة العولمة، تلك التي أظهرت وجهها المتوحّش والسافر في بلداننا ومنطقتنا، التي عرفت احتلالات ومحاولات فرض مشاريع لا تنسجم مع قيمها وتقاليدها وتراثها، ناهيك عن تشبّث بعض دعاتها بالطائفية، فضلًا عن الولاءات الإقليمية والدولية؟ وبالعودة إلى سؤال الليبرالية الجديدة، فإن الكثير من أطروحاتها لا يربطها أية علاقة صميمية بفلسفة الليبرالية الكلاسيكية وطابعها الأخلاقي، باستثناء تركيزها على بعض الجوانب السياسية. أستطيع القول لا يستقيم الكلام في الليبرالية دون أن يكون شاملًا دستوريًا وقانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وتربويًا. فكيف يمكن التوفيق بين الليبرالية والعنف وبين الليبرالية والخرافة وبين الليبرالية والتمييز وبين الليبرالية والطائفية؟ فذلك ليس سوى قطيعة مع جوهر القيم الليبرالية، بل مواجهة لها، فما بالك بضعف المجتمع المدني وانتشار السلاح خارج القانون وضعف دور القضاء.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التباسات الهويّة
-
في -أنسنة- القانون الدولي
-
ما بعد كورونا وأوكرانيا...!
-
الأزمة بين بغداد وأربيل أصبحت معتقة.. وحق الشعب الكوردي غير
...
-
محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى (3)
-
-روح السياسة-.. والصالح العام
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
-
محطات مع عبد الإله النصراوي: في الوطن والمنفى (2)
-
طريق الديبلوماسية الاقتصادية
-
محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى (1)
-
رسالة التنوّع الثقافي
-
الأمازيغيون وثمة حقوق
-
عن معاناة الكرد الفيليين
-
بروموثيوسية مظفر النواب: الشعرية والشاعرية
-
عن تقريظ أحمد عبد المجيد لكتاب الغرفة - 46 :قراءة خارج المتن
-
العقل الديني: في نقد الناقد والمنقود
-
عن الكراهية والعنف
-
مؤلف -فقه التسامح- حاور فضل الله والبغدادي ودافع عن المسيحيي
...
-
أوكرانيا والاقتصاد -المسلّح-
-
بشتاشان -خلف الطواحين-... وثمة ذاكرة...شهادة وليست رواية (ال
...
المزيد.....
-
إسرائيل توسع عملياتها في الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية تت
...
-
-هجوم- أوروبي مضاد في وجه أطماع ترامب التوسعية
-
السجن 14 عامًا لجندي بريطاني سابق مُدان بالتجسس لصالح إيران
...
-
كيف وقع حادث اصطدام الطائرة والمروحية في واشنطن؟ - بي بي سي
...
-
حرب -لا رابح- فيها... أوروبا تتوحد سياسة ترامب الجمركية
-
الاستخبارات الروسية: -الناتو- يستعد لحملة تشويه بزيلينسكي
-
-حماس- تعلق على إمكانية عودة إسرائيل إلى الحرب في قطاع غزة
-
رسميا.. جورجيا تسحب وفدها من الجمعية البرلمانية الأوروبية
-
ملتقى سلطنة عمان للسياحة يدعو لتفعيل التأشيرة السياحية الخلي
...
-
مبادرة المشري وتكالة.. هل تضع حدا لانقسام مجلس الدولة في ليب
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|