|
التباسات الهويّة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 7657 - 2023 / 6 / 29 - 22:47
المحور:
الادب والفن
الهويّة "شكل من أشكال المقاومة شرط ألّا تتحوّل إلى غيتو يدخل فيه الإنسان ويتخندق"، يعود هذا النص إلى عبد الوهاب المسيري الذي كان يفرّق بين التمسّك بالهويّة والخصوصية وبين الانغلاق والانعزالية، فالأولى شرط وجود، في حين أن الثانية انكفاء على الذات وتقوقع. وبين الانفتاح على الآخر أو الانغلاق على الذات، ثمة من يدعو إلى قطع العلاقة بالماضي وبالتراث باسم العولمة، بهدف الدخول إلى عالم الحداثة، الذي لم يعد معه مبرّرًا للتشبّث بالهويّة، وحسب رأيه فذلك هو السبيل إلى التقدّم والتنمية واللحاق بالعالم المتمدّن، ولعمري إن ذلك ليس سوى اغتراب عن الذات وفقدان الخصوصية، بل الذهاب "طوعًا" لقبول الاستتباع، وهو ما أسماه المفكّر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار". وفي ظلّ العولمة اليوم لا يمكن لأيّة هويّة أن تعيش في قمقم أو شرنقة بمعزل عن الهويّات الاخرى تأثّرًا وتأثيرًا، والعبرة، ماذا تأخذ أو تترك؟ وكيف تُضيف أو تحذف؟ وبماذا تشترك أو تختلف؟ وأين الوصل والفصل بين الحفاظ على السمات العامة للخصوصية دون الانعزال، وبين التفاعل مع الكونية والشمولية دون الذوبان؟ وإذا كان ثمة حضارة صينية وهندية ويونانية، فثمة حضارة عربية وإسلامية، وهي التي ينبغي أن تأخذ مكانها اليوم في الحضارة الإنسانية، تلك التي أنجبتها البشرية، وخصوصًا الغرب منذ الثورة الصناعية في أوروبا وتأسيسًا على حضارات سبقتها. وكثيرًا ما طرحت هذا السؤال على نفسي: هل الهويّة ناجزة ونهائية وسرمدية ومغلقة، أم أنها غير كاملة وليست تمامية وهي مفتوحة وقابلة للتطوّر وتتفاعل مع غيرها؟ فالهويّة موضوع جدل وربما صراع فكري وسياسي وديني وثقافي واجتماعي وتاريخي ونفسي، احتدم بشكل خاص بعد تصدّع الكتلة الاشتراكية وانهيارها في أواخر الثمانينيات، وقد تعرّضت بعض الكيانات الكبرى إلى التآكل، وانسلخت أممًا وشعوبًا عن بعضها، كانت متحّدة لدرجة حسبناها متآخيةً، وإذا بها تُظهر معاناة فائقة ظلّت مطمورة تحت ركام الأيديولوجيا. وأميل شخصيًا إلى تقسيم الهويّات إلى فرعية وكلية بدلًا من هويّات كبرى وأخرى صغرى أو تابعة ومتبوعة أو عليا ودنيا أو قويّة وضعيفة، والمصطلح الأكثر انطباقًا على ذلك هو "التنوّع الثقافي"، خصوصًا وأن غالبية المجتمعات متعدّدة الثقافات. والفرق بين هويّة وأخرى هو ما يشعر به الفرد أو مجموعة سكانية أو شعب أو مجتمع بالمشتركات التي تجمعه مع الآخر. ويعتبر إميل معلوف الهويّة إحدى الكلمات المضلّلة، وأحيانًا تعني نقيضها بصورة خبيثة، ويقصد بذلك نظرتنا هي التي غالبًا ما تصنّف الآخرين ضمن انتماءات ضيقة... وهي التي تحرّرهم من هذه الانتماءات. ومثل هذا الشعور تحكمه عوامل مختلفة أشرنا إليها، بعضها منفتح ويقبل التفاعل مع الهويّات الأخرى، في حين أن هناك شعورًا مغايرًا لهويّة أخرى منكفئة على نفسها ومرتابة من الآخر، بل تغلق الأبواب والنوافذ لكي لا تستنشق هواءً آخر، حتى ولو كان نقيًا، ولا فرق في ذلك هنا بين ديني وعلماني، فكلاهما أحيانًا يستخدم ذات الأدوات التكفيرية والاتهامية ضدّ الآخر؛ أمّا الوجه الثاني لهذه العملية فهو التغريب، الذي يريد قطع حبل السرّة مع أية خصوصية. الجامع بين الهويّات المنغلقة هو ادّعاء امتلاك الحقيقة، وأفضلية الإيمان الخاص، فما بالك حين يكون وهمًا أو زيفًا، لذلك تراه يبرّر لنفسه ارتكاب المعاصي وإلغاء الآخر بزعم أن غايته شريفة وهل توجد غاية شريفة من دون وسيلة شريفة؟ فالوسيلة من شرف الغاية، وبما أن الوسائل ملموسة وراهنة، فهي المحك الحقيقي لصدق الغايات، في حين أن الغاية غير منظورة وبعيدة، ولا يمكن الاستدلال عليها إلّا بوسائل نبيلة وإنسانية، لأن طريق الوصول إلى الغايات ربما يوازي الغايات ذاتها. ثمة أوهام عديدة صاحبتنا لسنوات طويلة بخصوص الهويّة، فقد اعتقدنا أن مسألة الهويّة حُلّت في الدول الصناعية المتقدّمة بالانفتاح والحريّة والمواطنة والاعتراف بالآخر، وإذا بنا نكتشف أنها أكثر تعقيدًا في العديد من هذه الدول، ففي إسبانيا لا تزال قضيتي كاتالونيا والباسك مشتبكة، وكذلك في كندا (إقليم كيبك) وإيرلندا وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، أما موضوع الوالنيين والفلامانيين في بلجيكا، فقد تصل المسألة إلى الانفصال. مثلما اعتقدنا أن الدول الاشتراكية السابقة حلّت مسألة القوميّات والهويّات الخاصة، وإذا بنا نكتشف الحقيقة المرّة، أن الهويّات الخاصة تمّ تذويبها بالقوّة، وأن الحديث عن التآخي القومي هو مجرّد دعاية خارجية ذات بعد أيديولوجي باسم "الأممية". وكان الاعتقاد السائد أن مشكلة الهويّات حكرًا على العالم الثالث، وإذا بالتجربتين الهندية والماليزية تسيران بالطريق الصحيح على الرغم من التنوّع الثقافي الهائل الديني والقومي واللغوي والسلالي. ربما الفارق الحضاري بيننا وبين الدول المتقدمة في إشكالية الهويّة هو أن الحل لدينا يتّجه إلى العنف والحسم العسكري، في حين أنها تلجأ لحلّ هذا الصراع إلى الدستور والقانون والحوار، فحوار 100 سنة ولا حرب ساعة كما يُقال.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في -أنسنة- القانون الدولي
-
ما بعد كورونا وأوكرانيا...!
-
الأزمة بين بغداد وأربيل أصبحت معتقة.. وحق الشعب الكوردي غير
...
-
محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى (3)
-
-روح السياسة-.. والصالح العام
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
-
محطات مع عبد الإله النصراوي: في الوطن والمنفى (2)
-
طريق الديبلوماسية الاقتصادية
-
محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى (1)
-
رسالة التنوّع الثقافي
-
الأمازيغيون وثمة حقوق
-
عن معاناة الكرد الفيليين
-
بروموثيوسية مظفر النواب: الشعرية والشاعرية
-
عن تقريظ أحمد عبد المجيد لكتاب الغرفة - 46 :قراءة خارج المتن
-
العقل الديني: في نقد الناقد والمنقود
-
عن الكراهية والعنف
-
مؤلف -فقه التسامح- حاور فضل الله والبغدادي ودافع عن المسيحيي
...
-
أوكرانيا والاقتصاد -المسلّح-
-
بشتاشان -خلف الطواحين-... وثمة ذاكرة...شهادة وليست رواية (ال
...
-
شتاشان -خلف الطواحين- ... وثمة ذاكرة... شهادة وليست رواية (ا
...
المزيد.....
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|