|
رواية للفتيان جزيرة القمر طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7648 - 2023 / 6 / 20 - 11:19
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
جزيرة القمر
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سندباد
2 ـ الطبيب صالح 3 ـالأم
4 ـ المربية
5 ـ الربان
6 ـ الملكة
7 ـ زوجة الطبيب صالح
" 1 " ـــــــــــــــــــ في كلّ مرة ، يعود فيها سندباد ، من إحدى رحلاته الشاقة الخطرة ، إلى قصره في بغداد ، وحياته الهادئة فيها ، يقول في نفسه ، وكذلك لزوجته وبعض جواريه : كفى ، لن أقوم برحلة أخرى ، لقد أتعبتني هذه الرحلات ، وأريد أن أرتاح . لكن سندباد يبقى سندباد ، إذ سرعان ما أصابه كالعادة الملل والضجر ، من حياة القصور الهادئة الرتيبة ، وتاقت روحه المتوثبة إلى السفر ، والمراكب ، والبحار ، والجزر المنثورة في المياه اللامتناهية الأبعاد ، والمدن النائية الغريبة ، بل وحتى الشدائد والأخطار ، فينسى وعوده التي قطعها لنفسه وللآخرين . وهذه المرة ، ككل مرة ، لم تكد تمر سنة على عودته من رحلته الأخيرة ، إلى بلاد الصين والتبت حتى تملكه الحنين إلى الرحيل ، فراح يستعد لرحلته الجديدة ، وانحدر بما اشتراه من بضائع إلى البصرة ، ليستقل سفينة من هناك ، إلى بلد الفيلة والنمور والحكايات الجميلة .. إلى الهند ، وما يحيط بها من جزر غنية ، لم يزرها من قبل . وليلة سفره ، والمركب في الميناء ، وقد تهيأ بكل ما فيه لبدء الرحلة الجديدة ، جاءه في الخان ، الذي ينزل فيه على شط العرب ، خادم أسود البشرة ، وقال له : سيدي ، جاءت امرأة ، وقالت إنها تريد أن تراك . وفوجىء سندباد بهذا الأمر ، فهو لا يعرف امرأة في البصرة ، يمكن أن تأتيه إلى الخان في هذا الوقت من الليل ، فنظر إلى الخادم الأسود البشرة ، وتساءل قائلاً : امرأة ! فرد الخادم أسود البشرة " نعم ، يا سيدي ، امرأة . وتساءل سندباد كمن يحدث نفسه : من هي ، هذه المرأة ، وماذا تريد ؟ وردّ الخادم قائلاً : لا أدري ، يا سيدي ، لكنها تقول ، إن سيدتها امرأة عجوز معروفة في البصرة ، وقد أرسلتها إليك لأمر هام . فقال سندباد كأنما يحدث نفسه : لعل هذه السيدة العجوز تحتاجني في شيء ، أستطيع أن أقدمه لها ، لا بأس ، لا يجب أن أتأخر في مد يد المساعدة لها . ثمّ خاطب الخادم الأسود البشرة قائلاً : فلتأتِ تلك المرأة ، إنني أنتظرها . وخرج الخادم على عجل ، وسرعان ما عاد ، ومعه امرأة متوسطة العمر ، انحنت لسندباد ، وقالت له : عمت مساء ، يا سيدي . فرمقها سندباد بنظرة سريعة ، وردّ على تحيتها قائلاً : عمتِ مساء ، تفضلي . وتطلعت المرأة إليه بشيء من الرجاء ، وقالت : سيدتي امرأة عجوز ، مريضة ، أرسلتني إليك ، وهي زوجة تاجر كبير توفاه الله منذ سنوات ، وهي ليست من بغداد ، وإنما من جزيرة .. مدغشقر . ولاذ سندباد بالصمت لحظة ، فتابعت المرأة قائلة مترجية : سيدتي العجوز المريضة ، ترجوك أن تعطيها قليلاً من وقتك لأمر هام جداً . وحدق سندباد في الجارية ، وقال : لا عليك ، أهلاً ومرحباً بها ، صحيح إنني مشغول جداً ، فغداً تبدأ رحلتنا ، لكن .. فلتأتِ على الرحب والسعة . وبعينين حزينتين ، تطلعت الجارية إليه ، وقالت : سيدتي امرأة عجوز ، طريحة الفراش ، ولا تستطيع أن تغادر غرفتها ، وترجوك أن تتفضل أنت بزيارتها في القصر ، ولو لبعض الوقت . ولاذ سندباد بالصمت مفكراً ، ورمقته الجارية بنظرة حزينة ، وتابعت قائلة : أعرف أنك مشغول ، لكن سيدتي امرأة عجوز ، وقد لا تعيش طويلاً . وتنهد سندباد ، وقد حسم أمره ، وقال بصوت هادىء : حسناً ، خذيني إليها .
" 2 " ـــــــــــــــــــ أخذته الجارية إلى سيدتها العجوز ، التي تسكن قصراً ضخماً ، يطل على نهر دجلة ، تحيط به حديقة غنّاء ، مليئة بأشجار النخيل والأزهار الجميلة الفواحة . وعند باب غرفة السيدة العجوز في القصر ، استأذنت الجارية ، لتدخل على سيدتها ، وتخبرها بقدوم سندباد ، وخلال وجودها في الغرفة ، أطلت امرأة في الستينات من عمرها ، من باب إحدى الغرف ، ونظرت خلسة إلى سندباد ، وقد بدا عليها التأثر والقلق . وخرجت الجارية مسرعة من غرفة السيدة العجوز ، وخاطبت سندباد قائلة : تفضل ، يا سيدي ، إن سيدتي تنتظرك في الداخل . ودخل سندباد الغرفة ، فانسحبت الجارية إلى الخارج ، وأغلقت الباب ، وإذا هو أمام سيدة ، في أواخر الستينيات من عمرها ، تتكىء في سريرها ، على وسائد وثيرة ، وقد بدا عليها المرض والتقدم في العمر ، لكن هذا لم يخفِ ملامحها الجميلة الغابرة . ونظرت السيدة العجوز إليه ، وقالت بصوت واهن : سيد .. سندباد . وتوقف سندباد أمام سريرها ، وردّ قائلاً : نعم ، يا سيدتي ، أنا سندباد . فقالت السدة العجوز بصوتها الواهن : أهلاً ومرحباً بك في بيتي . وردّ سندباد قائلاً : أهلاً بكِ سيدتي ، لقد أرسلتِ إليّ ، أنا رهن إشارتكِ . وحاولت السيدة العجوز أن تبتسم معتذرة ، وقالت : عفواً ، أرجو أن لا أكون قد أثقلتُ عليك . فقال سندباد : لو لم تكوني بحاجة إليّ ، لما أرسلت في طلبي ، تفضلي ، إنني أصغي إليكِ . وأشارت السيدة العجوز إلى مقعد ، على مقربة من سريرها ، وقالت بصوتها الواهن : تفضل بالجلوس هنا ، أخشى أن حديثي إليك قد يطول . وجلس سندباد حيث أشارت السيدة العجوز ، ونظر إليها ، ثم قال : تفضلي ، يا سيدتي . ونظرت السيدة العجوز إليه بعينيها الجميلتين المنطفئتين ، وقالت بصوتها الواهن : قيل لي ، إنك ستقوم هذه المرة برحلة إلى الهند .. وصمتت المرأة العجوز ، فقال سندباد بصوته الهادىء الصبور : نعم ، ستكون رحلتي إلى الهند ، وربما إلى عدد من الجزرة القريبة منها أيضاً . والتمعت عينا السيدة العجوز المنطفئتين ، وقالت : هذا ما أرجوه ، وقد تمرّ في هذه الحالة بواحدة من أكبر الجزر وأجملها ، وهي .. مدغشقر .. ولاذ سندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : مدغشقر ، نعم سمعت بهذه الجزيرة الكبيرة ، وقد أمرّ بها في طريق عودتي إلى الوطن . وصمت سندباد حين رأى عيني السيدة العجوز تتنديان بالدموع ، ثم تفتح شفتيها المرتعشتين ، وتقول : أنا , يا بنيّ سندباد .. من هذه الجزيرة .. من مدغشقر .. واسمي هو ..رانا .. ولاذ سندباد بالصمت متأثراً ، وصمتت السيدة العجوز لحظة ، ثم قالت : زوجي تاجر من البصرة ، رآني هناك في أحد الأعياد ، وأحبني .. وأحببته .. وتزوجني ، وجاء بي من مدغشقر .. إلى هنا .. إلى البصرة . وصمتت المرأة العجوز ثانية ، ودموعها تسيل على خديها المتغضنين ، وتابعت قائلة بصوتها الواهن المبلل بالدموع : ابني طبيب ، رحل إلى مدغشقر ، فإذا مررت بتلك الجزيرة ، ورأيته هناك ، قل له ، إن أمك تنتظرك ، وتريد أن تراك قبل أن ترحل ، و .. ونهض سندباد ، وانحنى للسيدة العجوز ، وقال : أعدك ، يا سيدتي ، أنني سأحاول جهدي ، أن أراه في جزيرة مدغشقر ، وابلغه ما قلته لي . وتمتمت السيدة العجوز بصوت واهن : أشكرك ، يا بني ، تذهب وتعود بالسلامة . واتجه سندباد إلى الخارج ، وعند الباب سمعها تهتف بصوتها الدامع : ابني هو الطبيب .. صالح .
" 3 " ــــــــــــــــــ انتابت المربية الحيرة والقلق ، منذ أن انتبهت ، إلى تردد الجارية المتواصل والمريب ، على السيدة العجوز المريضة ، في غرفتها . وازدادت حيرتها وقلقها ، حين رأتها تخرج صباح اليوم من القصر ، ثم تعود بعد حين ، ومعها رجل غريب ، لم تره من قبل ، عرفت فيما بعد أنه .. سندباد . وأطلت من باب غرفتها ، ورأت الجارية تدخل على المرأة العجوز ، وسرعان ما تخرج ، وتدعو الرجل الغريب ، للدخول وحده إلى الغرفة ، وبقيت هي واقفة عند الباب ، حتى خرج الرجل الغريب . وتابعتها بأنظارها المتسائلة الحائرة ، وهي تتبادل الحديث مع الرجل الغريب ، وسارت به عبر ممرات القصر ، ولم تعد حتى ودعته عند الباب الخارجي . ماذا يجري ؟ ماذا يدور في القصر ؟ هذه الجارية اللعينة ، تعرف كلّ شيء ، ويجب أن تعرف منها كلّ شيء ، خاصة وأنها تشعر ، أن ما يدور له علاقة بشكل ما ، بربيبها .. الدكتور صالح . ومرت بها الجارية مسرعة ، ربما لتدخل غرفة السيدة العجوز ، فأشارت لها المربية ، وهي تقف بباب غرفتها ، وخاطبتها بصوت خافت : تعالي . وتوقفت الجارية متوجسة ، مترددة ، فأشارت لها المربية ثانية ، بصوت أقلّ خفوتاً : تعالي ، تعالي ، أريدكِ في أمر هام . وأقبلت الجارية عليها مترددة ، فأطبقت المربية بقوة على يدها ، وسحبتها إلى داخل الغرفة ، وأغلقت الباب ، فقالت الجارية خائفة : ما الأمر ، يا سيدتي ؟ وتلتها نحوها بقوة ، وقالت : هذا ما أريد أن أعرفه . ولاذت الجارية بالصمت ، لا تعرف ماذا عليها أن تقول ، فتابعت المربية قائلة : من هو هذا الرجل ، الذي أتيتِ به من الخارج ؟ ولماذا أدخلته غرفة السيدة ؟ لا تقولي لي ، لا أعرف ، فأنتِ تعرفين كلّ شيء . ولأن الجارية تعرف قوة المربية ، ومكانتها في القصر ، وماذا بإمكانها أن تفعل ، استسلمت لها ، وقالت : صدقيني ، إنني لا أعرف كلّ شيء . فقالت لها المربية : قولي لي ما تعرفينه . وقالت الجارية بصوت مستسلم : كلّ ما أعرفه ، إن هذا الرجل تاجر من بغداد اسمه سندباد ، وأنه سيذهب بتجارته إلى الهند ، وأنه قد يمرّ بجزيرة مدغشقر . وصمتت الجارية ، فقالت المربية : وبعد .. فقالت الجارية : صدقيني ، هذا كلّ ما أعرفه . وحدقت المربية فيها ، وبدا أنها تفكر بعيداً ، ثم قالت : أصدقك ، لكن أريد منكِ شيئاً .. قالت الجارية : مريني ، يا سيدتي . فحدقت المربية فيها ، وقالت : خذيني إلى سندباد . وندت شهقة عن الجارية ، حاولت أن تكتمها ، وقالت : سيدتي .. فتابعت المربية قائلة :سأنتظرك عصر اليوم . وقبل أن تتفوه الجارية بكلمة واحدة ، فتحت المربية الباب ، ودفعتها برفق إلى الخارج ، وهي تقول : اذهبي ، ولا تنسي الموعد . وحاولي العصر ، جاءتها الجارية ، وتسللت بها خلسة من القصر ، وأخذتها إلى سندباد ، في النزل الذي يطل على شط العرب . وحين وصلتا النزل ، سبقتها الجارية ، إلى غرفة سندباد ، الذي فوجىء بها ، وهو لم يكد يفيق بعد ، من لقائه غير المتوقع مع السيدة العجوز ، فقال بنبرة تساؤل : أهلاً ومرحباً ، تفضلي .. فمالت عليه الجارية ، وقالت مترددة : مربية الطبيب صالح ، عرفت بزيارتك للسيدة العجوز ، وتريد ـ بعد إذنك ـ أن تتحدث إليك . ورغم أن سندباد ، لم يرتح لهذه الزيارة ، إلا أنه قال للجارية : حسناً ، لتأتِ . وخرجت الجارية ، وأتت بالمربية ، ثم تركتها مع سندباد ، ومضت تنتظرها خارج الغرفة ، ورحب بها سندباد قائلاً : أهلاً ومرحباً بك . فاقتربت المربية من سندباد ، وقالت : عفواً للإزعاج ، هذا وقت راحتك . فقال سندباد : لا عليكِ ، تفضلي . وتابعت المربية قائلة : يهمني جداً ما دار بينك وبين السيدة العجوز حول الطبيب صالح ، فأنا في الحقيقة مربيته ، وبمثابة أمه . وحدق سندباد في المربية ، وقد لاذ بالصمت ، فقالت المربية بنبرة متوسلة : أرجوك ، الدكتور صالح أعزّ إليّ من ابني ، ولا أريد له إلا الخير . ولان سندباد بعض الشيء ، وقال للمربية : المرأة العجوز ، أمه ، طلبت مني ، إذا مررت بجزيرة مدغشقر ، والتقيت بابنها الدكتور صالح ، أن أدعوه باسمها ، إلى العودة للبصرة ، فأمه مريضة جداً ، وهي تتطلع إلى رؤيته قبل أن .. وصمت سندباد ، فقالت المربية : الطبيب صالح لم يذهب إلى مدغشقر للنزهة ، وإنما هرباً من المخاطر ، التي كان يمكن أن يتعرض لها ، بسبب رجل الدين ، الذي ناصبه العداء ، وحرض الناس عليه . وهزّ سندباد رأسه ، وقال : هذا أمر شائك حقاً . فقالت المربية : الأفضل أن لا يعود ، فرجل الدين الذي ناصبه العداء ، مازال موجوداً ، ويمكن أن يحرض عليه مرة أخرى ، ويعرضه للخطر . ونظر سندباد إليها ، وقال : لكن أمه امرأة عجوز ، وقد اشتد عليها المرض ، ويمكن أن ترحل في غضون أشهر قليلة ، وهي تريد أن تراه قبل رحيلها . ودمعت عينا المربية ، ولم تتمالك نفسها ، فقالت منفعلة : كلا ، ليس له أن يعود ، مهما كان السبب ، فحياته أغلى عندي من أي شيء . ومدّ سندباد يده ، وربت برفق على كتفها ، وقال : هذا أمر محرج ، والحقيقة ليس أمامي إلا أن أعرض عليه الأمر ، وله أن يختار ما يراه . ولاذت المربية بالصمت لحظات ، راحت خلالها تمسح دموعها ، التي سالت من عينيها المتعبتين ، ثم رفعت وجهها إليه ، وقالت : أرجوك ، حيّه عني ، وقل له ، إن مربيتك ، التي ربتك ورعتك بعينيها ، تسلم عليك ، ولا تدعو لك إلا بالخير . وربت سندباد على كتفها ثانية ، وقال لها : اطمئني ، سأنقل تحياتك وتمنياتك له ، وكذلك تحيات أمه العجوز المريضة ، وأطيب تمنياتها . واتجهت المربية إلى الخارج ، وقبل أن تذهب ، توقفت عند الباب ، وقالت لسندباد : رافقتك السلامة في رحلتك ، يا بني ، ولتعد لأهلك ومحبيك بالخير والسلامة .
" 4 " ــــــــــــــــــــ في اليوم التالي ، وحتى قبل أن تشرق الشمس ، أبحر سندباد ، على متن مركب كبير ، بصحبة العديد من تجار الموصل والبصرة وبغداد ، متوجهاً هذه المرة إلى الهند ، بلد الفقراء والأساطير والمهراجات . وطوال الطريق ، ورغم العواصف والصعوبات وأخطار القراصنة ، لم تغب عن باله ، لا المرأة العجوز ، ولا المربية الستينية ، وبقدر ما كان متعاطفاً مع المرأة العجوز ، فإنه كان يتفهم عواطف المربية . وفي الهند ، بلد الفهود والأسود والنمور والآلهة ، طاف سندباد في مدنها التي لا تحصى ، والتي تعج بالمعابد والفقراء والحواة ، وكذلك بالمهراجات بقصورهم الواسعة الجميلة ، وترفهم الذي لا حدود له . وبعد أشهر ، وقد باع سندباد معظم بضاعته ، التي جاء بها من بغداد ، شعر بالملل والتعب ، ورأى أن يعود إلى الوطن ، وقد قرر كالعادة ، أن يبقى في قصره ببغداد ، وأن لا يعاود السفر مرة أخرى ، مهما كان السبب ، رغم أن رحلته هذه حتى الآن ، ليس فيها ما يعكر صفوه ، ويعرض حياته للأخطار . لكنه أرجأ عودته إلى بغداد ، حين تذكر المرأة العجوز المريضة ، والمربية الستينية ، فقرر أن يتوجه إلى مدغشقر ، ويحاول اللقاء بالطبيب صالح ، ويتحدث إليه بما دار بينه وبين أمه المريضة من جهة ، وبينه وبين المربية من جهة أخرى . واستقل سندباد مركباً ، متجهاً إلى مدغشقر ، وخلال الطريق ، الذي لم يستغرق أياماً كثيرة ، تعرف إلى بعض الركاب ، وكان معظمهم يتحدثون العربية ، كما تعرف بالربان نفسه ، وكان من أهالي مدغشقر . وتبادل سندباد الحديث مع الركاب والربان ، فحدثوه عن مدغشقر ، وعرف منهم عنها الشيء الكثير ، وعرف أن الكثير من أهاليها عرب مسلمون ، جاء معظمهم من إمارات الخليج والجزيرة العربية . وذات ليلة دعاه الربان إلى عشاء في قمرته ، وبعد العشاء جلسا يتسامران ، ويتبادلان الحديث ، فقال الربان : أنا مثلك ، يا سندباد ، عربي مسلم ، لكن أنت من عرب العراق وأنا من عرب الجزيرة العربية . وابتسم سندباد ، وقال : هذا ما لم أكن أعرفه ، شرف لي أن أتعرف بك ، وأنت من مدغشقر . وصمت الربان لحظة ، ثم تابع قائلاً : جاء أجدادي الأوائل من الحجاز ، بعد الخلاف الدامي بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وقد أطلقوا على هذه الجزر ، التي لاذوا بها ، جزر القمر . وقال سندباد : لابد أن هذه الجزيرة ، جزيرة مدغشقر ، جميلة وغنية . وردّ الربان قائلاً : جميلة نعم ، وكان يمكن أن تكون غنية ، لكن أهلها ، العرب المسلمين وغيرهم ، يعيشون للأسف على الكفاف . وصمت الربان لحظة ، ثم نظر إلى سندباد ، وقال بنبرة تساؤل : قلما يأتي التجار إلى جزيرتنا هذه الأيام ، فأهل هذه الجزيرة ، كما قلتُ لك ، فقراء ، لا أدري ما الذي دفعك للمجيء إلى جزيرتنا .. مدغشقر . ورفع سندباد عينيه إليه ، وقال : لم أجيء للتجارة .. وابتسم الربان ، وقال : لا تقل إنك جئت للسياحة ، رغم أن جزيرتنا من أجمل الجزر في العالم . وهزّ سندباد رأسه ، وقال : ولم أجيء للسياحة أيضاً ، فقد جبت العالم ، ورأيت الكثير من الجزر الجميلة ، ولم أتصور أن تكون مدغشقر هي الأجمل . ولاذ الربان بالصمت ، وقد بدت عليه الحيرة ، فتابع سندباد قائلاً : جئت أبحث عن طبيب من البصرة ، قيل لي أنه هنا في جزيرتكم .. مدغشقر . واعتدل الربان في جلسته ، وقال متحمساً : طبيب من البصرة ؟ أظن أنني أعرفه . وتطلع سندباد إليه متحمساً ، وتساءل : تعرفه ! فردّ الربان قائلاً : نعم ، أعرفه ، واسمه الطبيب صالح . فقال سندباد بفرح : نعم ، هذا اسمه . ولاذ الربان بالصمت لحظة ، ثم قال كأنما يحدث نفسه : الجميع في مدغشقر يعرفون الطبيب صالح ، ويكفي أنه عالج ملكتنا حين مرضت ، وشفاها . ونهض سندباد ، وقال ، وقد غمره الارتياح : إذا وصلنا إلى الجزيرة ، أريدك أن تأخذني إلى الطبيب . ونهض الربان بدوره ، وقال : ليس الأمر بهذه البساطة ، يا أخي سندباد .. فقال سندباد : مهما يكن ، أريد أن توصلني إلى الدكتور صالح ، فالأمر مهم للغاية . ومدّ الربان يده إلى يد سندباد ، وشدّ عليها بقوة ، وقال : اطمئن ، إنني أستطيع أن أتحدث إلى الوزير ، وهو سيوصلنا حتماً إلى الملكة ، ويمكنك عندئذ أن تطلب منها ما تريد ، فأمر الطبيب صالح يعود إليها وحدها ، وهي تقدره تقديراً عالياً .
" 5 " ــــــــــــــــــ من بعيد ، لاحت جزيرة خضراء ، فصاح أحد الركاب فرحاً : مدغشقر .. وتوقف سندباد على سطح المركب ، الذي كان يعج بالركاب الفرحين ، وهم يتطلعون إلى الجزيرة الخضراء ، ذات الشواطىء الذهبية ، وهي تقترب منهم لحظة بعد لحظة ، وكأنها ترحب بهم بأشجارها السامقة الزاهية ، قائلة : أهلاً بكم ومرحبا في .. مدغشقر . واقترب الربان من سندباد ، الذي كان يتطلع بشغف وإعجاب إلى الجزيرة الكبيرة الخضراء ، ومال عليه ، وقال : هذه هي مدغشقر . وواصل سندباد تطلعه إليها ، وردّ قائلاً بصوت مفعم بالإعجاب : حقاً إنها جزيرة جميلة . وابتسم الربان ، وقال : وأهلها أكثر جمالاً . ونظر سندباد إليه ، فأضاف الربان قائلاً : في خلقهم ، ودماثتهم ، وكرمهم المتوارث . واقترب المركب من شاطىء مدغشقر ، ولاح رجال ونساء وأطفال على الشاطىء ، ينتظرون أن يرسو المركب ، فخاطب الربان سندباد قائلاً : حين ننزل من المركب ، سآخذك إلى نزل نظيف مريح ، وسأتركك هناك حتى ترتاح ، وخلال هذه المدة ، سأرتب لك مقابلة مع ملكة جزيرتنا المحبوبة . ومثلما وعد الربان ، أنزل سندباد في نزل نظيف مريح جميل ، قريب من شاطىء البحر ، والمهم أنه لم يكن مزدحماً بالزوار والنزلاء الأغراب . وعند منتصف النهار ، تناول سندباد طعاماً محلياً ، طيب المذاق ، ثم خرج من النزل ، وراح يتجول في الدروب والشوارع القريبة ، وكانت تعج بالناس ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، في ملابسهم المحلية الصارخة الألوان . ورغم كثرة النباتات والحيوانات والطيور وتنوعها في الجزيرة ، إلا أن سندباد لاحظ الفقر واضحاً ، على السكان ، والبيوت المتواضعة . وعند المساء ، عاد سندباد من جولته في بعض شوارع المدينة ، وتناول عشاءه في النزل ، وفضل هذه المرة أن يأكل سمكة مشوية ، وأوى إلى فراشه مبكراً ، وكان متعباً من طول السفر ، وسرعان ما استغرق في النوم ، يحلم ببغداد وقصره وجواريه . وأفاق مبكراً في اليوم التالي ، ووقف أمام نافذة غرفته ، التي تطل على حديقة النزل ، يراقب الشمس ، تصعد مبللة من أعماق البحر ، وتنشر أشعتها الذهبية الدافئة فوق الجزيرة الخضراء ، التي كانت قد استيقظت بكل ما فيها ، منذ الصباح الباكر . وما إن انتهى سندباد من تناول فطوره ، وهمّ أن يغادر النزل ، ليتجول ثانية في أنحاء المدينة ، حتى أقبل عليه الربان ، قائلاً : عمت صباحاً ، سيد سندباد . وردّ سندباد عليه بحرارة ، فهو ينتظر منه أخباراً تطمئنه ، قائلاً : أهلاً بك ، أهلاً ومرحباً . وابتسم الربان يطمئنه ، ثم قال : أرجو أن تكون مدينتنا المتواضعة ، قد أعجبتك . فقال سندباد ، وهو ينتظر منه خبراً مهما حول الوزير والملكة : إنها جميلة ، ومريحة ، رغم تواضعها وبعض مظاهر الفقر التي فيها .. وهزّ الربان رأسه ، يؤيده فيما ذهب إليه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابع سندباد قائلاً : ويبدو لي ، من بيوتها ، وأزياء بعض سكانها ، وحتى عاداتهم وتقاليدهم ، أنها قريبة من ملامح بعض المدن العربية ، وحتى بعض سكانها هنا وهناك . وردّ الربان قائلاً : لا عجب ، يا سندباد ، فإن معظم السكان الحاليين ، الذين يقيمون في مدغشقر ، جاءوا من اليمن وعمان ومسقط والجزيرة العربية 0 وصمت لحظة ، ثم قال : التقيت مساء أمس بالوزير ، وأوضحت له قضيتك ، كما رويتها لي ، فدخل إلى الملكة ، وتحدث إليها ، ويبدو أنها اهتمت كثيراً بالموضوع ، فطلبت أن تراك مساء اليوم . فقال سندباد ممتناً : أشكرك جزيل الشكر ، يا صديقي ، لقد أسديت لي خدمة كبيرة ، ولولاك لربما ما وصلت إلى الملكة بهذه السهولة . فربت الربان على ذراعه مبتسماً ، وقال : هذا واجب ، ارتح الآن في النزل ، وسآتي إليك قبيل المساء ، لآخذك إلى القصر ، حيث ستقابلك الملكة . ابتسم سندباد بامتنان وارتياح ، وقال : أشكرك جداً ، يا صديقي ، سأكون في انتظارك مساء اليوم .
" 6 " ـــــــــــــــــــ عند حوالي العصر ، حضر الربان إلى النزل ، ومضى إلى سندباد في غرفته ، وحياه قائلاً : السلام عليكم ، يا أخي سندباد . وابتسم سندباد لأسلوب تحية الربان له ، لكنه ردّ على تحيته بحماس قائلاً : وعليكم السلام ، ورحمة الله وبركاته . وابتسم الربان بدوره ، وألقى نظرة على هيئة سندباد ، وقال : يبدو أنك جاهز للمقابلة ، فلنذهب ، لابدّ أن الوزير ينتظرنا الآن . فقال سندباد : إنني جاهز فعلاً ، هيا . وأخذه الربان إلى القصر ، حيث ينتظرهما الوزير ، ولأن الوقت كان مبكراً على الموعد ، سار به الربان راجلاً ، وراحا يتبادلان الحديث حول مدغشقر ، وقبل أن يصلا إلى القصر ، قال سندباد : أرجو أن تتاح لي الفرصة ، لمقابلة الطبيب صالح قريباً . فرد الربان عليه قائلاً : قابل جلالة الملكة أولاً ، واطلب منها ما تشاء . ولاذ سندباد بالصمت ، حتى وصلا القصر ، ودلفا إلى الداخل ، وقادهما حارس كان يقف بالباب ، إلى الغرفة التي يتواجد فيها الوزير . ونهض الوزير حين دخل سندباد ومعه الربان الغرفة ، ورغم تقدم الوزير بالسن ، إلا أنه كان نشطاً موفور الصحة ، وبدت لسندباد ملامحه ، التي تنم عن أصوله الخليجية ـ العربية . وخاطب الوزير سندباد مبتسماً ، وهو يمدّ له يده : أهلاً ومرحباً بابن العم البغدادي . وصافح سندباد الوزير بحرارة ، وهو يقول : السلام عليكم سيدي الوزير . واتسعت ابتسامة الوزير ، وقال : وعليك السلام ، ورحمة الله وبركاته . وأشار لهما أن يجلسا ، وهو يقول : يبدو أننا مازلنا عرباً مسلمين ، رغم كل شيء . وجلس الربان ، وجلس سندباد إلى جانبه ، وخاطب الوزير قائلاً : هذا ما لاحظته فيما رأيته من العاصمة وأهلها ، وبدت الملامح العربية عليهم ، سواء على الأشخاص ، أو على طرز المباني والبيوت . ونهض الوزير من مكانه ، وقال لسندباد : سيبقى صديقنا الربان هنا ، سآخذك إلى الملكة ، إنها تنتظرك الآن في جناحها . ونهض سندباد ، فأخذه الوزير عبر ممرات القصر ، إلى قاعة يقف ببابها جنديان مددجان بالسلاح ، وهمس الوزير لسندباد : الملكة هنا ، سآخذك إلى الداخل ، ثم أنسحب ، لتبقى أنت وجلالة الملكة وحدكما . وهزّ سندباد رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة ، وأشار الوزير إلى أحد الحارسين ، ففتح الحارس الباب قليلاً ، ووقف جامداً ينتظر . ودخل الوزير العجوز ، ودخل في إثره سندباد ، وتطلع متردداً إلى الملكة ، وكانت تجلس على أريكة فخمة ، وبدت له جميلة ، متألقة ، رغم تقدمها في السن ، فانحنى الوزير لها ، وقال : مولاتي ، هذا التاجر سندباد ، وهو من بغداد ، عاصمة العالم . وتطلعت الملكة إلى سندباد ، وقالت : أهلاً ومرحباً بك في جزيرتنا .. مدغشقر . وانحنى سندباد للملكة قليلاً ، وقال : أهلاً بك مولاتي ، أشكرك على استقبالك الكريم لي . ونظرت الملكة إلى الوزير ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فانحنى لها على الفور ، وتراجع ببطء ، ثم خرج ، وأغلق الباب وراءه . والتفتت الملكة إلى سندباد ، وأشارت إلى مقعد قريب منها ، وقالت : تفضل ، اجلس . وجلس سندباد ، فقالت الملكة : عرفت أنك تاجر مشهور ، ومن نفس بلد طبيبنا الطيب .. صالح . فردّ سندباد قائلاً : نعم ، يا مولاتي ، وإن كان هو من البصرة ، وأنا من .. بغداد . وابتسمت الملكة ، وقالت : بغداد ، آه من منّا لم يسمع ببغداد ، إنها زهرة الدنيا ، وعاصمتها . وصمتت لحظة ، ثم قالت بصوت هادىء معبر : الطبيب صالح ، نحن نعتز به كثيراً ، إنه إنسان طيب ، وكذلك طبيب ماهر ، ويكفي أنه عالجني من مرض مستعصي ، وشفاني منه تماماً . وصمتت ثانية ، ثم تطلعت إلى سندباد ، وقالت فيما يشبه التساؤل : قيل لي ، إنك تريد أن تتحدث إليّ ، في شأن يعود للطبيب صالح . فردّ سندباد قائلاً : نعم ، يا مولاتي ، والحقيقة إن الأمر أساساً يعود إلى أمه العجوز . وهزت الملكة رأسها ، وقالت : ما أعرفه ، أن أمه التي تقول إنها عجوز ، هي من جزيرتنا .. مدغشقر . فقال سندباد : هذا صحيح ، إنها من مدغشقر ، لكنها عاشت معظم حياتها في بغداد ، إنها الآن امرأة عجوز مريضة ، وربما لن تعيش طويلاً ، وحين علمت بأني قد أمرّ بجزيرتكم ، طلبت مني أن ألتقي بابنها ، وأدعوه للعودة إليها . ولاذت الملكة بالصمت لحظة ، ثم نظرت إلى سندباد ، وقالت : يقال أنّ له مربية أيضاً . وبدت الدهشة على سندباد ، وقال : لم أتحدث إلى أحد عن .. المربية . فقالت الملكة : الطبيب صالح نفسه حدثني عنها ، وقال لي ، إنها بمثابة أمه . ولاذ سندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : في الحقيقة ، إن للمربية رأي مغاير ، فهي لا تريده أن يعود ، إنها تخاف عليه من رجل دين متنفذ ، يناصبه العداء في بغداد . وقالت الملكة : وهذا ما حدثني عنه الطبيب أيضاً . وتوقفت عن الكلام لحظة ، ثم رفعت رأسها إليه ، وقالت : أتعرف أن الطبيب صالح .. متزوج ؟ وتساءل سندباد مندهشاً : متزوج ! وأضافت الملكة قائلة : وله ثلاثة أولاد أيضاً . وقال سندباد : هذا ما لم أعرفه ، وربما لم تعرفه لا أمه ولا مربيته . وأطرقت الملكة لحظة ، ثم قالت : صالح إنسان طيب ، وطبيب بارع ، وأنا شخصياً أحتاجه في هذا العمر ، لكن الخيار له ، ولن أقف دون ما يختاره . ونهضت الملكة ، وقد بدا عليها الكدر والإرهاق فنهض سندباد بدوره ، وقال : أرجو ، يا مولاتي ، أن تسمحي لي أن أرى الطبيب صالح . فقالت الملكة بصوت متعب : لك هذا ، وقد أوعزت للوزير ، أن يعلم الطبيب صالح بمهمتك ، ويسهل لقاءك به ، ومن جهتي ، سأترك له أن يختار ما يراه مناسباً له ، رغم أنني أفضل أن يبقى بيننا . وانحنى سندباد للملكة ، وقال : أشكركم ، يا مولاتي . واتجه سندباد إلى الخرج ، فقالت له الملك بصوت خافت : رافقتك السلامة .
" 7 " ـــــــــــــــــــ ذلك اليوم ، عند حوالي المساء ، جاءه الربان إلى النزل ، وأبلغ سندباد برسالة من الوزير ، فحواها أن الطبيب صالح ، سيرسل أحدهم عند منتصف النهار ، ليدعوه إلى تناول طعام الغداء على مائدته . وبالفعل ، عند حوالي منتصف النهار ، في اليوم التالي ، جاءه خادم من خدم الطبيب صالح ، وأخذه إلى القصر الذي يقيم فيه الطبيب ، والقصر بناء جميل يقع وسط حديقة واسعة غناء . واستقبله الطبيب صالح عند باب القصر ، ومدّ يديه نحوه ، وعانقه بحرارة قائلاً : أهلاً بك ومرحباً ، آه أشم فيك رائحة البصرة وبغداد . وربت سندباد على ظهره ، وهو يعانقه ، وقال مبتسماً : بغداد والبصرة تذكرانك بخير ، وأحبتك في البصرة متشوقون إليك ، ويبلغونك تحياتهم . وأمسك الطبيب بيد سندباد ، وسار به عبر الحديقة ، إلى داخل القصر ، وهو يقول له : لنتناول الطعام الذي أعدته لك زوجتي أولاً ، ثم نجلس في الحديقة ، لتحدثني عن البصرة ومن في البصرة . وفي ردهة القصر ، أقبلت عليهما امرأة شابة ، تتألق بملابس محلية صارخة الألوان جميلة ، يتقدمها ثلاثة أطفال ، طفلة صغيرة وطفلان أكبر منها قليلاً ، فأشار الطبيب إليهم ، وقال : زوجتي وأطفالي . وانحت الزوجة الشابة قليلاً لسندباد ، وابتسمت له قائلة بلغة عربية مفككة ، وبنبرات محلية جميلة : أهلاً ومرحباً بك .. سيد سندباد . فانحنى سندباد لانحنائها له ، وقال مبتسماً : أهلاً بكِ سيدتي ، جزيرتكم مدغشقر جميلة جداً ، لكن بغدادنا وبصرتنا جميلتان أيضاً ، وأتمنى أن تريهما ، أنت والأولاد ، في يوم ما . فابتسمت الزوجة الشابة ، وقالت بنبراتها المحلية الجميلة : إن .. شاء .. الله . ثم التفتت إلى زوجها ، وقالت له بصوت خافت : تفضلا ، طعام الغداء جاهز . فالتفت الطبيب صالح إلى السندباد ، وقال مبتسماً : هيا يا أخي ، نتناول طعام الغداء ، الذي أعدته زوجتي خصيصاً لك ، وسترى أنه طعام لذيذ ، لم تذق بلذته في أية رحلة من رحلاتك حول العالم . وانحنت الزوجة الشابة لسندباد ، وهي تسحب أطفالها ، وقالت : سأذهب ، وأطعم الأطفال . وأخذ الطبيب ضيفه سندباد إلى غرفة الطعام ، وإذا المائدة التي تزينها الورود ، عامرة بأشهى مأكولات الجزيرة ، فقال الطبيب : تفضل . وجلس سندباد إلى المائدة ، وجلس الطبيب على مقربة منه ، وقال مبتسماً : كل يا صديقي ، لن تنسى هذا الطعام طول الحياة . ومدّ سندباد يده ، واقتطع جزء من سمكة مشوية ، كانت في طبق أمامه ، وتذوقها بأناة ، ثم هزّ رأسه ، وقال : هم م م م ، هذا مسكوف مدغشقر . وضحك الطبيب فرحاً ، واستغرقا في تناول الطعام ، وهما يضحكان ، ويتبادلان الحديث عن الطعام في بغداد والبصرة ومدغشقر . وبعد الغداء ، انتقلا إلى الحديقة ، وجلسا متقاربين ، وأمامهما منضدة عليها أزهار جميلة ، وأنواع مختلفة من فاكهة الجزيرة .. مدغشقر . ونظر الطبيب صالح إلى سندباد ، وقال بصوت هادىء مفعم بالحزن والانتظار : والآن حدثني ، يا سندباد ، يبدو أن أمي قد دعتك لزيارتها . فرفع سندباد عينيه إليه ، وحدق فيه ملياً ، ثم قال : نعم ، دعتني لزيارتها ، عندما علمت ، بأني سأرحل إلى الهند ، وأنني قد أزور جزيرة مدغشقر . وصمت لحظة ، ثم قال : والحقيقة ، إنها كانت طريحة الفراش ، مريضة ، وربما داخلها شعور ، بأنها لن تعيش طويلاً . وهزّ الطبيب رأسه ، وقال : أمي مريضة منذ فترة طويلة ، ولكن ما فاقم مرضها ، وجعلها تعيش قلقاً دائماً ، هو ما شجر بيني وبين رجل دين متخلف متعصب أهوج ، راح يحرض المصلين عليّ ، ويتهمني بالكفر والإلحاد ، لأني عالجت فتاة ممسوسة ، وشفيتها ، بينما عجز هو عن شفائها بأساليبه الدجلية المتخلفة . وصمت الطبيب لحظة ، ثم قال : وقد ألب هذا الرجل عليّ الجهلة والمتخلفين ، فهددوني بالقتل ، فهربت من البصرة ، ولجأت إلى الجزيرة التي ولدت فيها أمي ، وعاشت طرفاً من حياتها . وصمت لحظة ، ثم تابع قائلاً : وارتبطت بعلاقة طيبة مع ملكة هذه الجزيرة ، فمنحتني هذا القصر ، وتزوجت من قريبة لأمي ، وها قد صار لي ثلاثة أولاد منها . ونظر سندباد إليه ، وقال : لكن في البصرة ، تنتظرك أمك ، وهي امرأة مسنة ، ومريضة ، وهي تتمنى أن ترجع ، وتراك في أيامها الأخيرة . ولاذ الطبيب بالصمت ، وقد خيم عليه الحزن ، فتابع سندباد قائلاً : وللأمانة ، كان لمربيتك ، وهي تحبك بقدر حب أمك لك ، لها رأي آخر . وتطلع الطبيب إليه صامتاً ، فقال : إنها تقول ، إن الخطر على حياتك مازال موجوداً ، ومن رأيها أن تبقى هنا ، وتعيش حياتك آمناً مطمئناً . وأطرق الطبيب رأسه ، وكمن يسترجع الماضي الذي عاشه ، قال بصوت هادىء عاطفي : المربية كانت بمثابة أمي ، والحقيقة إنها هي من ربتني ، فطالما كانت أمي مريضة ، تعاني من أمر ما . ولاذ بالصمت لحظات ، ثم رفع رأسه ، ونظر إلى سندباد ، وقال : وأنت ، يا صديقي ، وقد تعاملت مع جميع الأطراف ، ما رأيك ؟ وردّ سندباد بصوت هادىء قائلاً : هذه قضية عائلة ، وربما لا يحق لي ، أن أبدي رأيي فيه ، فقد يبدو وكأنني منحازً إلى طرف من الأطراف . وقال الطبيب : أعرف أنك لست منحازاً ، ولابدّ أن لك رأيك الخاص ، ليتك تقوله لي . ونظر سندباد إليه ، وقال : في خلافك مع رجل الدين ، أنت على حق ، فالطب شيء والدين شيء آخر ، ورجل الدين هذا إنما يتاجر بالدين ، ومن حقك ، ومن واجبك ، وأنت الطبيب ، أن تمضي في طريقك ، وتدافع عنه ضد التخلف والجهل ، رغم كلّ شيء . لم يتفوه الطبيب بشيء ، وواضح أنه كان يفكر فيما قاله سندباد ، لكنه لم يشأ أن يرد عليه مباشرة ، وتلفت سندباد حوله ، وابتسم قائلاً : يبدو أن الوقت يسرقني ، وستميل الشمس قريباً للغروب .. ونهض واقفاً ، وأضاف : عليّ الآن أن أستودعك الله ، وأتمنى أن تنتهي إلى ما فيه الخير لكم جميعاّ . فردّ الطبيب قائلاً : وأنا أشكرك على تجشمك عناء السفر إلينا في مدغشقر ، وإيصالك لي مواقف أمي ومربيتي ، اللتين غبت عنهما سنين عديدة . ومدّ سندباد يده ، وشدّ بحرارة على يد الطبيب ، وقال : أستودعك الله ، فأنا سأعود قريباً إلى الهند ، وأصفي ما بقي من البضاعة التي جئت بها في رحلتي هذه ، ثم أعود إلى .. بغداد . وشدّ الطبيب على يده بحرارة ، وقال : رافقتك السلامة ، يا أخي ، تحياتي للجميع .
" 8 " ـــــــــــــــــــــــ عاد سندباد إلى الهند ، على نفس المركب ، الذي جاء به إلى مدغشقر ، ولبث أسابيع ، باع فيها ما بقي عنده من بضاعة ، جاء بها من بغداد ، واشترى بضائع مما هو رائج في المدن الهندية ، وعاد بها إلى العراق ، واستقر أخيراً في قصره في بغداد . وطوال هذه المدة ، ورغم مشاغله الكثيرة ، لم يغب عن باله الطبيب صالح ، وما يمكن أن يكون قد قرره بشأن بقائه في مدغشقر ، أو العودة إلى البصرة . وكانت التساؤلات حول ذلك ، تلح عليه دائماً .. هل اختار البقاء في مدغشقر ؟ أم قرر العودة إلى البصرة ؟ وكان يفكر ، إن للبقاء في مدغشقر ما يبرره ، الزوجة ، والأولاد ، والملكة ، و .. لكن لعودته إلى البصرة أيضاً ما يبررها ، أمه ، حياته الأولى ، عمله في محيطه ، تمسكه بآرائه ، ... ومربيته ، ولها مكانة كبيرة عنده ، تريده أن يبقى بمنأى عن مخاطر البصرة ، وربما هي محقة .. فما العمل ؟ هذه التساؤلات الملحة والمصيرية ، لم تفارقه مطلقاً ، طوال فترة بقائه في الهند ، وازدادت حدة بعد عودته إلى بغداد ، واستقراره بين أهله ومحبيه . لكن هذا لم يدفعه للسؤال عنه ، لا عندما مرّ بالبصرة ، وبقي فيها عدة أيام ، ولا عندما جاء إلى بغداد ، واستقر فيها ، ربما لم يشأ أن يقلق أمه العجوز المريضة ، وربما حاول أن يتجنب أي خبر قد يقلقه أو يحزنه ، فيما يتعلق بالطبيب أو أمه العجوز أو مربيته . وذات يوم ، وقد مرت عدة أيام على عودته من مدغشقر ، جاءته جارية من جواريه ، وهو منكب على القراءة في غرفته ، ومالت عليه ، وقالت له : مولاي .. ورفع عينيه إليها ، متسائلاً : نعم ؟ فتابعت الجارية قائلة : بالباب رجل يريد أن يراك . وتساءل سندباد ، وهو ينهض : من يكون ؟ فردت الجارية : لا أدري ، يا مولاي . وخرج سندباد إلى الحديقة ، واتجه إلى الباب الخارجي ، وفتحه بهدوء ، وإذا هو يقف وجهاً لوجه أمام الطبيب صالح ، فمدّ يديه نحوه ، وعانقه بحرارة ، وهو يهتف : الطبيب صالح ! يا أهلاً ويا مرحباً . وضحك الطبيب ، وهو يربت على ظهر سندباد ، وهو يقول : أردت أن أفاجئك ، وقد فاجأتك فعلاً ، إنني مشتاق إليك أخي سندباد . وصمت الطبيب لحظة ، ثم تابع قائلاً : عرفت صباح اليوم ، بعودتك من الهند ، وجئت أسلم عليك ، وأجلس عندك بعض الوقت . وأمسك السندباد بيد الطبيب ، وسحبه برفق إلى الداخل ، وهو يقول : بل ستبقى عندي ، ونتناول طعام الغداء معاً ، لأريك أن طعامنا لا يقل لذة عن طعم زوجتك ، التي قدمتموه لي في مدغشقر . وجلسا معاً في غرفة الضيوف ، وجلسا متقابلين ، يتبادلان أطراف الحديث ، قال سندباد للطبيب : أتعرف يا أخي ، أنني طوال هذه المدة ، منذ أن فارقاك في مدغشقر ، حتى هذا اليوم ، ما الذي ستقدم عليه ، بعد حديثي لك ، هل ستبقى في مدغشقر ؟ أم تعود إلى البصرة ؟ أم .. وقهقه الطبيب صالح ، فقال سندباد : والآن ، وأنا أراك أمامي ، أظن أنني عرفت الجواب ، وهذا يفرحني ، ويريحني جداً . ولاذ الطبيب بالصمت لحظة ، ثم قال : صدقني ، يا أخي سندباد ، إنني رغم كلّ شيء ، كنت مرتاحاً في مدغشقر ، وخاصة بعد أن تزوجت ، وصار لي ثلاثة أولاد ، وكنت أيضاً ، بعد هروبي من البصرة ، آمناً مطمئناً على حياتي ، ومن ثم على حياة زوجتي وأولادي . وصمت الطبيب بعض الوقت ، ثم تابع قائلاً : لكن أمي ، ومربيتي ، وحياتي في البصرة ، كانت تشدني دائماً بعيداً عن مدغشقر ، ثم جئت أنت ، وحديثك معي ، جعلتني أعيد النظر في حياتي ، فقررت العودة إلى العراق ، وقد ساعدتني زوجتي كثيراً في ذلك . وابتسم سندباد ، وقال متسائلاً : والملكة ؟ فرد الطبيب قائلاً : الملكة كانت عند كلمتها ، لقد تركت لي حرية الخيار ، ودعمتني في خياري . وهزّ سندباد رأسه ، وقال : رغم أنها كانت تحتاجك ، ومتمسكة بك . ونظر الطبيب إلى سندباد ، وقال : وتجنباً للمشاكل في البصرة ، ورغبة مني للتوسع في تجاربي الطبية ، وممارسة عملي بحرية ، انتقلت إلى هنا ، انتقلت بعائلتي كلها إلى بغداد .. وابتسم الطبيب ، وتابع قائلاً : سأكون على مقربة منك ، وأزورك وتزورني دائماً ، و .. ودخلت جارية ، وخاطبت سندباد قائلة : الطعام جاهز ، يا مولاي . والتفت سندباد إلى الطبيب مبتسماً ، وقال : ستأكل طعامي البغدادي هذه المرة ، وفي كلّ مرة ، ، لكني لن أتنازل عن حقي في الطعام المدغشقري ، إذ يبدو أن من يذق ذلك الطعام مرة ، لن يتخلى عن تذوقه دائماً .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال
...
-
رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
-
رواية للفتيان إله الدمار
...
-
جايا الغزالة
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان النمر طلال حسن
-
الهدنة
-
رواية للفتيان وادي الافاعي
...
-
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال
...
-
رواية للفتيان غابة الذئاب
...
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|