أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شوقية عروق منصور - ما زلنا في مغارة 5 حزيران














المزيد.....

ما زلنا في مغارة 5 حزيران


شوقية عروق منصور

الحوار المتمدن-العدد: 7633 - 2023 / 6 / 5 - 17:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دائماً أقول للذين حولي : ليتني أستطيع الإفلات من شبكة الذاكرة ، هناك المئات من الصور العالقة بين خيوط الشبكة ، تحاول التخلص لكن الخيوط تشدها ، وتبني حولها أعشاباً خضراء سرعان ما تتحول الصور الى اعشاش يابسة ، ترقد طيورها على بيض التفاصيل ، حتى تفرخ و أسمع أصوات الفراخ الهاربة ذات الزغب الملون .
ثقب الذاكرة يتسع هذه الأيام ، تخرج منه الصور المترنحة ذات الرائحة الباردة كالتي تلف الجثث المرمية على أرصفة النسيان ، بحجم الريح التي تقتلع أشجار الخوف ، كان الخوف يحفر السراديب تحت تراب حارتنا ، كنت أراه يحدق في وجوه الرجال الذين فوجئوا بأن الحرب بين العرب واليهود على الأبواب ، وذلك في العام 67.
غرفة الاستقبال في بيتنا مفتوحة على وجوه الرجال الذين أصابهم الاشتعال من قداحة الأخبار ، القداحة التي تنام في جوف الراديو المحاطة بجدران من الخشب اللامع ، وحين يشتعل الصوت مع التهديد ، و سباق التصريحات السياسية ، يتردد الصدى بصراخ صامت ، لقد ذاق الرجال طعم الحرب والهرب من قراهم المهجرة – أبي من قرية المجيدل - ، ذاقوا الخوف الكامن وراء نشرات الأخبار الغامضة ، التي تحمل الأغنيات الحماسية والآيات القرآنية والبيانات العسكرية .
كانت امي تدخل وتخرج بهدوء تراقب تقاسيم وجه أبي وأخوالي ووجوه الجيران الذين ينتظرون العبارات الطالعة من إذاعة " صوت العرب " .
"وقعت الحرب " صرخ جارنا ، بهذه الصرخة اختصر كل قوارب النجاة التي كانوا يحلمون بقدومها ، وبعد هدوء من نثر غبار الحيرة ، كان قرارهم تنظيف المغارة المليئة بالأوساخ في بيت جارتنا ام سليمان حتى يختبىء فيها الأطفال والنساء حتى لا تصيبهم نيران الحرب .
أول مرة اكتشف أن عندنا في الحارة مغارة ، فهي لم تظهر ابداً حيث تقع وراء بيت جارتنا أم سليمان ، خيالي أخذ يمتد الى واقع طفولتي "مغارة علي بابا افتح يا سمسم " ، لكن المغارة التي ظهرت من وراء بيت أم سليمان كانت واسعة ، شاسعة، الداخل اليها عليه أن يحني قامته لأن سقفها واطي ، لذلك كان اختيارنا نحن الأطفال الدخول اليها وتنظيفها من الداخل . بجد واجتهاد وسرعة خارقة ، أخذنا نرمي محتويات المغارة ، براميل زيت صدئة قديمة ، فارغة ، بقايا ملابس مهلهلة ، ممزقة ، لفت نظري أكواماً من الكتب ، لكن جارنا أصر أن أرمي الكتب خارجاً ، قائلاً ( بدنا أكبر قدر من المكان حتى يتخبوا أولاد الحارة ) ، تبين بعد ذلك أن الكتب هي جزء من مكتبة الشاعر مطلق عبد الخالق ، حيث قامت عائلته بوضعها في المغارة حفاظاً عليها قبل رحيلهم عام 1948 .
عدة ساعات ونحن الأطفال ننظف المغارة ، والنساء في الخارج يجمعن الأوساخ ورميها بعيداً بما فيها الكتب ، لا مجال الآن لمعرفة قيمة الكتب وأهميتها .
من بين طبقات الظلام بدأت تظهر مساحة المغارة ، وبدأت النسوة بحمل السجاجيد والفرشات واللحف وادخالها في بطن المغارة التي تغيرت تضاريسها .
تلك الليلة نمنا في المغارة ، أذكر كنا أكثر من عشرين شخصا ، أطفالاً ونساءً ، حشرونا كالسردين فوق بعضنا البعض ، وقد تبين لنا أن المغارة تعاني من البرودة والجدران مسننة ، كأن الزمن قد قام بسن صلابة صخرها ، فكلما تحركنا كانت يغرز الصخر في ظهورنا ، أذكر أنني بكيت بصمت ، لم أستطع التذمر ، فتقاسيم وجه أمي تنذر بأن هناك شيئاً مخيفاً قادماً في الطريق ، وعلي أن أقبل الموجود دون اعتراض.
لا أحد يكلم الأطفال ، والكبار يتكلمون بالألغاز .. أسمع كلمة الحرب ، فأتخيلها دماً وذبحاً وجوعاً وفقدان أمي وأخوتي ، متأثرة من حكايات جدتي وأمي التي كانت تحكي لنا قصص الهجيج عام 1948 ، لذلك بقيت ملتصقة بحضن أمي التي طلبت مني عدة مرات الابتعاد عنها لأنها لا تطيق الآن احداً .
في النهار نخرج الى الحارة ، نرجع الى البيت ، الجميع في حالة صمت ، يلتصقون بالراديو – كأن على رؤوسهم الطير.. بعد ذلك تأكدت أن هذه العبارة كانت تنطبق عليهم آنذاك - في احدى المرات رأيت أبي يبكي ، لأول مرة أرى الدموع في عيون الرجال ، يرجمون بعضهم بنظرات الغضب ، ويكسرون الصمت بالآهات ولف السجائر واشعالها بسرعة الواحدة تلو الأخرى .
من شدة الغضب ضرب احدهم الراديو وشتم وصرخ وخرج من الغرفة ، ارتجفت وتجمد الدم في عروقي ، لا احد لحقه او اهتم لغضبه فجميعهم كانوا مثله .
سنوات طويلة حضنتها الذاكرة وكلما حلت ذكرى 5 حزيران انطلقت صورة المغارة التي كانت شاهدة على خوفنا من الحرب -أعترف ما زالت تسكن خوفي الطفولي -.
اختفت المغارة تحت أصابع العمران ، لم يعد لها أثراً ، ورغم غيابها عن جغرافية الحارة ، أتذكرها كلما مررت من جانبها ، أتخيلها مفتوحة تستقبل خوفنا ، عندها اضحك بحزن على تلك الأيام .
نكسة 67 ، كانت طعنة نجلاء في الظهر لخصها أبي قائلاً : كنا قبل النكسة لما اليهود يحكوا معنا نسخر منهم ونقول لهم ( بكره ناصر والجيوش العربية بتيجي وبتشوفوا ... لكن بعد النكسة صرنا نهرب من قدامهم ، نسمع الشتائم والمسبات في دينينا .. يعايروننا وين ناصر تبعكم ؟؟ نصمت ونسكت .. لا نجيب ) .
عشت جرح 5 حزيران عام 1967 ، وبقي نزيف خيبة الأمل على امتداد السنوات ، حيث مات الرجال الذين كانوا يستمعون الى الراديو تلك الأيام ، ينتظرون البيانات العسكرية ، وأصبحوا خبراء في تحليل أصوات المذيعين ، من نبرات التفاؤل والتشاؤم يعرفون كيف تجري الأمور في ساحة الحرب .
مع كل ذكرى 5 حزيران أشعر أنني ما زلت أعيش في المغارة ، كبرت ولم تكبر المغارة ، ما زال صخرها المسنن يغرز في وجعي الممتد حتى اليوم .



#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يريدون تحويل دمنا إلى غبار
- صدور الطبعة الثانية من كتاب - مذكرات معلم - للكاتب تميم منصو ...
- يتباهون بسلخ جلودنا
- مشروع شهيد
- لماذا أكتب ؟
- الفلسطيني وفأر حوارة قلع الجزرة
- بين الصبر والصبر حقولاً من الصبر
- أم كلثوم صلعاء في متحف الجماجم
- اليوم العالمي للمرأة يقع في برج النفاق
- أم الشهيد كعامود النار وليست امرأة شاذة يا محافظ نابلس
- العربي باطما كاتب الالم
- الطالبة نيرة واعترافات الضابط الاسرائيلي
- القوي عايب برقية إلى روح شيرين أبو عاقلة
- كانت الجزائر تنام على كتف الاستقلال
- تتحدث فتاة النابالم فترد عليها المرأة الفلسطينية
- سلوى الفلسطينية في مهب الريح في الخليل
- في ذكرى النكبة
- يوم استقلالهم يوم نكبتنا
- عندما تكون - عهدية - المرأة البحرانية عمياء صماء
- وجه امرأة على طابع بريد


المزيد.....




- الخارجية الأمريكية توافق على بيع صواريخ -ستينغر- بقيمة 825 م ...
- إعلام غربي: أوديسا قد تصبح أرضا روسية وأمريكا لن تمانع
- رئيس مجلس النواب الأردني: العبث بأمن الوطن يعد جريمة وخيانة ...
- هيئة بحرية بريطانية تبلع عن تعرض إحدى السفن لحادث اقتراب مشب ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن إحباط محاولة لتهريب أسلحة من مصر إلى إ ...
- المتحدث باسم الخارجية القطرية يؤكد أهمية العلاقات مع روسيا و ...
- ترامب: لا يعجبنا تأثير الصين على إدارة قناة بنما
- وزير الداخلية السوري يستقبل رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي
- الرئيس السوري يزور الدوحة ويجري مباحثات مع الشيخ تميم بن حمد ...
- إسرائيل تقلص قوات الاحتياط بالجبهات و100 ألف يوقعون عرائض لو ...


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شوقية عروق منصور - ما زلنا في مغارة 5 حزيران