|
راوية .. ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 7630 - 2023 / 6 / 2 - 09:36
المحور:
الادب والفن
كان النهار قائظاً عابساً .. عندما برزت من أحد البيوت سيدة متَّشحة بالسواد .. تغطي وجهها بخمار أسود شفاف ، وهي تنظر خلسةً حولها .. أسرعت الخطى تتلوى بين أزقة الحي المغبرة .. اندفعت في سيرها محاذيةً الجدران لتتقي أشعة الشمس الحارقة ، ثم دلفت بخطوات خفيفة الى بيتها . قذفت بنعليها بمجرد دخولها ، وبحركة رشيقة من أصابعها رفعت خمارها ، وخلعت عباءتها ، وسوّت شعرها براحتيها . كان جبينها يتصبب عرقاً ، وشوه الاعياء وجهها الشاحب الجميل .. خطت مسرعة نحو الحمام .. شمّرت عن كمّيها ، وهي شاردة الذهن ، ثم أغرقت بالماء وجهها ، ونحرها ، ونهديها ، وتحت ابطيها ، وبين فخذيها كأنها كانت تتطهر من عرق الرجل الذي التهمها قبل قليل ، ثم سوّت طيّات ثوبها الذي أصابه البلل ، وعندما دغدغتها برودة الماء ، سرت قشعريرة منعشة كالنسيم في جسدها ، ففارقها التعب على الفور ، واستردت نشاطها وحيويتها .. ! تناهى الى سمعها صوت زوجها كئيباً خالياً من الحياة كأنه قادم من بعيد : — راوية .. ! أين أنتِ .. يا الله .. ؟ آه .. راوية ( يسعل بشدة ) .. أين ذهبت هذه المرأة .. ؟ خطت نحو الغرفة الراقد فيها زوجها ، وهي تتحسس في طريقها سروالها الداخلي ، وتسوي من وضعه على مؤخرتها وفخذيها ، ثم انساب صوتها الناعم يردد : — جاية .. جاية .. وقفت منتصبة بقامتها الطويلة عند باب الغرفة .. شخصت ببصرها الى زوجها في برود ، وهي تطرف بارتباك ، وتُعابث ظفيرتها بعصبية .. يغمرها شعور بالرثاء لهذا الرجل .. يعاجلها دون أن تمهله الحاجة سؤالها عن غيابها الطويل : — أسرعي ( بالمبولة ) يا بنت الحلال .. أكاد أعملها على نفسي .. ! أسرعت الى الحمام .. يلاحقها صوته متسائلا : — أين كنتِ كل هذه المدة .. ؟ رفعت ثوبها عند دخولها الحمام كأنها تعبر بركة ، وحينما أقتربت من المبولة .. بصقت ، وسدت أنفها في تقزز ، ثم التقطتها بأطراف أصابعها في تأفف ، وعادت بها مسرعة .. قالت بصوت متهدج ، وهي تضع المبولة في مكانها من جسده : — ذهبتُ بالغسيل الى بيت ( أم حازم الغسالة ) ، فقد تراكم في الحمام حتى أصبحت رائحته العطنة لا تطاق . وجّه الشيخ السبعيني اليها نظرات ذابلة منكسرة ، ثم انهمك في تدبير حاجته الطبيعية .. أنه يشعر بما تشعر به زوجته الشابة في أعماقها من عذاب ، وفراغ موحش .. ! رفعت المبولة بفضلاتها الى أعلى ، وهي تتجنب النظر اليها ، وانطلقت بها الى الحمام .. بذلت جهداً لتتجنب الغثيان من شدة الرائحة الصادمة .. ثم رجعت الى زوجها .. نظفته ، وغيرت ثيابه ، ورتبت فراشه .. ! استدارت عائدةً الى غرفتها .. هوت على السرير ، ودفنت رأسها في الوسادة .. اهتز جسدها في صمت .. اشتدت عليها ظلمة المكان رغم تراقص الانوار فوقها .. استدعت ذكرياتها وسط سيل لا ينقطع من الدموع ، وبكت حياتها التي تضيع في جريها الدؤوب بين المبولة والحمام .. ! نشأت ( راوية ) في أسرة فقيرة ممزقة ، فالاب لاهٍ غير مكترث بالحياة العائلية التي يقول بأنه لم يُخلق لها ، والأم هزيلة دائمة التبرم والشكوى ، وكانت راوية .. أيقونة جميلة يافعة متفتحة كبرعم واعد .. ولما تبلغ من العمر أربعة عشر ربيعاً حينما زوجوها من ميسور عجوز ، ولم يمضي العام الأول حتى أصبحت أماً لطفل جميل .. أحبه والداه بشغف ، وتعلقا به في جنون .. ومضى العام الأول سعيداً رائعاً كأجمل ما يكون ، لكن الاقدار لم تمهل الطفل طويلاً ، فقد مرض ، واشتد عليه المرض .. بدء يهزل ويضمر ، وينازع البقاء بما تبقى له من قوى واهنة ، وجاء ذلك اليوم الذي بدأت فيه الحياة بالتسلل رويدا ، وفي لحظة سكون .. تلاشى آخر شعاع في روحه ، كما يتلاشى الطيف العابر عند الاستيقاظ .. ومرت السنين ، والاب يرزح تحت وطأة أمراض لم تتركه حتى أرقدته عاجزاً أشبه بجثة . أما راوية ، فكانت تزداد نضجاً ، وجمالا على جمالها .. تعذبها الرغبة ، وتفتك بأعصابها الحاجة ، وحدث ذات يوم ، وهي في زيارة الى بيت أم حازم الغسالة أن صادفت ابنها حازم ، فتركت عيناها تلتقيان بعينيه ، وهو شاب طويل القامة حلو الملامح .. معتد بنفسه كديك .. لكنه فاجأها عندما اعترض سبيلها بجسارة : — لا تتعابث معي أرجوك ، فأنا متزوجة .. ! — أتسمين هذه الجثة المتعفنة زوجاً .. ؟ — لا تكن أحمقاً ، وأصرف نظرك عني ، ودعني وشأني .. — لا تكابري .. أريدك مثلما تريديني .. — ماذا عسى أمك تظن عندما تشاهدنا الآن .. ؟ — ماذا عساها تظن .. ؟ سيسرها ذلك بالطبع ، فنحن نليق لبعضنا .. احمر وجهها ، واختنقت أنفاسها ، وهي تتطلع اليه من تحت حاجبيها ، ثم تنهدت وقالت : — لا تراهن على ذلك كثيراً ، يا مجنون .. ! وحاولت المرور لكنه حشر نفسه في طريقها .. رفعت رأسها ، فالتقت عيناه بمتاهات عينيها السوداوين .. جذبها اليه محاولاً تقبيلها لكنها دفعته بقوة ، وألقت برأسها الى الوراء ، فقال بصوت مرتعش راغب : — ستكونين لي وحدي .. وحدي .. ! ثم تركها مبهورة الانفاس .. وغادر البيت .. ومنذ ذلك اليوم ، والفتى يشغل ذهنها .. لا يفارقه .. تتحرق شوقاً اليه ، ولم تعد تعرف النوم إلا لماماً ، وكلما حاولت ابعاده عن تفكيرها تجد نفسها تنغمس فيه أكثر .. حتى صارت تتلمس الاعذار أو بدونها لتزور بيت أم حازم لتُسعد برؤيته ، والحديث معه .. ويوما بعد آخر تنامت مشاعرها حتى نضجت .. شعرت بأنها تعيش قصة حب مجنونة لم تظفر بها إلا متأخرة .. لم تعدم ايجاد المبررات لاقناع نفسها ، وضميرها ، فهي جميلة ، ولا تزال في ريعان شبابها .. لكنها ليست أكثر من جارية تخدم زوجاً مسناً .. مشلولاً ، وعديم النفع .. عاجزاً عن الإتيان بأبسط واجباته الزوجية .. تيقنت بأن مصيرها مع حازم ، فمع من ستعيش اذا لم تعيش مع من ملك عليها زمام قلبها .. ؟ ثم أخذا يقضيان السويعات المسروقة من عمرهما يجمعان فيها خيوط غرامهما الملتهب ، ويرتبان بحذر في غمرة النشوة المحرمة .. لأيامهما القادمة معاً .. !!
( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دردشة على عَتبة الدار .. ! ( قصة قصيرة )
-
الطلاق الصامت .. ! ( قصة قصيرة )
-
لقاء بعد طول غياب .. ! ( قصة قصيرة )
-
استفاقة متأخرة .. ! ( قصة قصيرة )
-
زوجة منزوعة الدسم .. ! ( قصة قصيرة )
-
حكايتي مع الخدامة .. ! ( قصة قصيرة )
-
ثمن الاندماج في الحياة الأمريكية .. ! ( قصة قصيرة )
-
إختفاء فاطمة .. ! ( قصة قصيرة )
-
الماضي يُطل من جديد … ! ( قصة قصيرة )
-
عطر الخيانة .. ! ( قصة قصيرة )
-
ذكرى بلا تاريخ .. ! ( قصة قصيرة )
-
مصادفة غريبة .. ! (قصة قصيرة )
-
الموت البطئ .. ! ( قصة قصيرة )
-
رستم .. ! ( قصة قصيرة )
-
بعيد عن العين بعيد عن القلب … ! ( قصة قصيرة )
-
سجين داخل أسوار الحياة … ! (قصة قصيرة )
-
الخوض في أرض موحلة .. ! ( قصة قصيرة )
-
تنهدات زوج تعيس … ! ( قصة قصيرة )
-
جِراح لا تزال تنزف .. ! ( قصة قصيرة )
-
هذيان في براغ .. الجزء الثاني .. ( قصة قصيرة )
المزيد.....
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|