|
الكان في روايات عبد الرحمن منيف
نبيه القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 7626 - 2023 / 5 / 29 - 17:32
المحور:
الادب والفن
لذكرى تسعين عاما على مولد الروائي عبد الرحمن منيف يوم 29.5.1933
المكان في روايات عبد الرحمن منيف د. نبيه القاسم
يبرز المكان في روايات عبد الرحمن منيف كأجلى ما يكون، ولكنّه يتميّز بخصوصيّة نظرة منيف إليه وتعامله معه. "إنّ مفهومي للمكان مختلف عن بعض الكتّاب الآخرين. وأتصوّر أنّ القيام ببناء مكان جديد يجمع خصائص وصفات محدّدة، هو عبارة عن محاولة استشفاف للواقع العربي ملامحه الأساسيّة، بتضاريسه الحقيقيّة من دون محاولة حصر هذه التّضاريس وتلك الملامح بمدينة معيّنة ونفيها عن المدن الأخرى" (أبو صعب، ١٩٨٤). هكذا يقول عبد الرحمن منيف في حديثه، وبهذا يخلق منيف في رواياته مكانا متميّزا، يجمع بين الخصائص المُحدّدة الحقيقيّة التي قد تنطبق على كل عاصمة عربية، ممّا يجعله كاشفا للواقع العربي وفاضحا له. وإن لم يلتزم بالتحديد مدينة ما. فهو يذكر بلدة الطيبة في القسم الأول من رواية الأشجار واغتيال مرزوق ويعود ويذكرها ثانية كمسرح لأحداث رواية النهايات وهو بذكره للطيبة لم يقصد مدينة معيّنة تحمل هذا الاسم، وإنّما أخذها نموذجا لأيّ مدينة عربيّة يُمكن أن تكونها. وهو نفسه يقول في ذلك: "المدينة التي أخلقها، وأقوم بتحديد جغرافيّتها وملامحها وحتى روائحها، تُلخّص المدن الأخرى، وتُثبت أنّ الفروق بين مكان وآخر بسيطة وواهية أو حتى تكاد تكون غير موجودة. (أبوصعب، ١٩٨٤). لكنه في روايات أخرى له، نجد بعض الملامح الدّالّة على المكان، مثل في تحديده لمكان موقع الجسر في رواية حين تركنا الجسر بذكر النهر والحولة. وفي رواية سباق المسافات الطويلة يذكر بوضوح مدن بيروت وزوريخ ولندن. المكان كعنصر قائم بحدّ ذاته، منعزل عمّا يُحيط به، يكون واضح الجمود والثبات، ولا تكون له أيّة قيمة، أمّا أن يكون المكان أحد العناصر المكوّنة للنصّ الروائي، يعني أنّه لم يعد محدودا ضمن خطوطه الهندسيّة، وإنّما إصبح مُتداخلا مع باقي العناصر المهمّة كالشخصيّات والأحداث والزمن. وبمجرّد أن يُشير الرّوائي ألى مكان، يجعلنا نتوقّع حدوث عمل قام به شخص ما، فكلّ مكان يفرض وجود الشخصيّات والأحداث. وهذا التّداخل في العلاقة بين هذه العناصر المكوّنة للنصّ الروائي يؤدّي إلى وجوب حدوث التأثير المُتبادل بين الشخصيّة والمكان الذي تعيش فيه أو البيئة التي تُحيط بها. ويبدو المكان في الحالات الكثيرة كالخزّان لأفكار ومشاعر الشخصيّة، يتشكّل بتشكّلها حتى يصبح عنصرا مشاركا في السّرد، تماما كالشخصيّات في الرواية. لقد اجتهد منيف في كل رواياته الأولى أن يُحافظ على لامحدوديّة المكان. ففي رواية الأشجار واغتيال مرزوق ترتسم بلدة الطيبة موطن الياس نخلة بكل أحيائها وأشجارها ومواقعها وناسها، ولكنّها تظلّ مجهولة التحديد المكاني. ومثلها "الطيبة" بلدة عسّاف في رواية النهايات، ومثلها تلك المدينة الأوروبية التي طارد فيها بطل قصّة حبّ مجوسيّة محبوبته ليليان، وموقع الجبل والمتنزّه الذي قضى فيه أيّاما جميلة مع المجموعة التي رافقها وتعرّف فيها على ليليان المحبوبة المستحيلة. وحتى مدينة بيروت التي تحدّدت في رواية سباق المسافات الطويلة سرعان ما تنزوي، ونجد أبطال الرواية في مدينة لا اسم لها ولا هويّة يلتقي فيها أبطال القصّة، ولكنها ليست بيروت وقد تكون أقرب إلى "طهران"، خاصّة والحديث يدور حول حكومة "مصدّق" في إيران وما حدث من تطوّرات سياسيّة واستيلاء الأمريكان على المواقع التي كان الإنكليز يُشغلونها. ومنيف الذي يهتمّ أن لا يُحدّد موقع المكان ويتركه يحمل الملامح العامّة التي تنطبق على كل موقع في العالم العربي، هو نفسه يهتمّ بكلّ التّفاصيل الصغيرة والكبيرة لرسم المكان الصغير المحدّد الذي تجري فيه الأحداث. فهو يتوسّع في وصف المكان الذي يُقيم فيه بطل قصة حبّ مجوسيّة ويفصّل في وصف كل موقع. ومثل ذلك فعل في وصف بلدة الطيبة في رواية النهايات كقوله: "الطيبة بداية الصحراء، من ناحية الشرق البساتين والنبع والسوق بعد ذلك، وعند الأفق، تبدأ سلسلة الجبال. ومن ناحية الشمال والغرب تمتدّ سهول فسيحة، يتخللها بين مسافة وأخرى بعض الهضاب. وهذه السهول تُزرع بأنواع كثيرة من الحبوب. كانت تُزرع بالحنطة والشّعير والكرسنة والبرسيم وبعض أصناف البقول، وفي الأماكن القريبة من البلدة ترتفع مساكب الخضرة، قريبا من الأشجار المُثمرة. أمّا من ناحية الجنوب فكانت الأرض تشحب تدريجيّا، وتُخالطها الحجارة الكلسيّة، وتبدأ تفقر ذراعا بعد آخر حتّى تتحوّل في بداية الأفق إلى كثبان رملية، وبعد ذلك تبدأ الصحراء."(النهايات، ص ١٤). ويتوسّع منيف في وصف جمال الطيبة خلال السنة،" في المواسم الجيّدة تخضرّ الطيبة وتعبق من كلّ جهاتها، وتمتلئ بالورود والنباتات العجيبة الألوان والأشكال في بداية الربيع. حتّى الجهة الجنوبيّة التي تبدو أواخر الصيف متجهّمة قاسية، لا يعرف الانسان ولا يستطيع أن يُفسّر كيف كانت قادرة على أن تقذف من جوفها كل هذه الكنوز، وكيف كانت تشدّ أهل الطيبة في بداية الربيع لكي يذهبوا أفواجا لالتقاط الثمار العجيبة المخبوءة في بطن الأرض، وما يُخالط ذلك المهرجان من الذكريات عن أيّام كانت فيها الحياة أكثر روعة وخصبا."(النهايات، ص١٤). ويبرز تميّزها عن غيرها من القرى،" إنّ هذه البلدة تتّصف بمزايا وصفات ليست مُتاحة لكثير من القرى المجاورة. حتى الرعاة الأغراب الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى المراعي الخصبة، لا يجرؤون على الاقتراب كثيرا من مراعي الطيبة، ولا يتجاوزون حدّا مُعيّنا، لأنّهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدّة، وما قد يرتكبونه من حماقات إن اعتدى غريب على رزقهم أو حياتهم."(النهايات،ص ١٤). وبمثل هذا التوسّع التفصيلي يُسهب عبد الرحمن منيف في وصف مكان موقع الجسر، والجسر نفسه. وكان تميّزه الواضح في وصف عمليّة الصيد ومكان الصيد، إذا كان في المستنقع أو البحيرة أو الصحراء، ووصفه للسجن وغرفه وموجوداته وما يفعله بالإنسان الذي يُطرح فيه، رواية، شرق المتوسط مثل، "أتَذكّر أنّي رأيتُ البابَ يُفتح، ثم رأيتُ بقعة الدم وقد غطّت مساحة واسعة من أرض القبو. لا أعرف كيف نزلتُ الدرجات العشر. كان القبو صغيرا لدرجة أنّ ثلاثة أشخاص لا يُمكن أن يناموا فيه، أمّا الجدران والسقف، فقد كانت متقاربة لزجة، والنافذة الصغيرة، والتي تُشبه شقّا، كانت تستقبل ضوءا باهتا، ينزلق إليها من أرض الحوش. (شرق المتوسط، ص٨٥). وبعد أن يُفصّل في وصف ما جرى له مع السجّانين، والعذاب الذي لاقاه، يُتابع في وصف المكان الذي وُضِع فيه وعبور درجات القبو العشر. "بدأتُ من أولى الدرجات، كانت ضيّقة، صغيرة، لا تُتيح للإنسان أن يجلس، وكانت حوافها محطّمة في أكثر من موضع، حتّى أنّ تفكيري قادني إلى أنّ هذه الدرجات حُطّمت بشكل مقصود لكي لا ينام عليها أحد! بدأتُ بالدرجة الأولى.. كانت أكثر الدرجات ضيقا. تركتها ونزلت إلى الثانية، كان أحد جوانب الثانية مكسورا بحيث لا يُمكن الجلوس عليها أبداً، أمّا الثالثة فكانت مُريحة للغاية. جلستُ فوقها، كانت لا تتسع لي إلاّ إذا جلستُ، لو حاولتُ أن أنام يجب أن أمدّ رجلي لكي تتجاوز درجتين أو ثلاثا.. مددتُ رجلي، شعرتُ بألم في ظهري، شعرتُ بألم رأسي يزداد، تركتُ رأسي يرتاح على الدرجة العليا، استدرتُ لأنامَ على جنبي، استدرتُ إلى الناحية الثانية. كان السقف، أو الظلام يغطي كلّ شيء". (شرق المتوسط، ص ٨٧٨٦). ويرتبط المكان عند منيف في رواياته الأولى ارتباطا وثيقا بوعي الانسان واحساسه، ويعكس ما تُعانيه الشخصيّة من قلق وحسرة وخيبة ومعاناة. وهو كما يصوّره منيف نفسه، مرآة تكشف مشاعر أبطاله وأفكارهم وهواجسهم. هذه الحساسيّة القويّة لدى منيف تجاه المكان لم تمنعه، في أكثر أعماله الروائيّة الأولى، من عدم تحديد المواقع المحدّدة للأماكن التي خلقها، فكانت مواقع غير معروفة الهويّة والحدود والموقع، قد يتلمّسها القارئ في هذا البلد أو ذاك، ولكنّه لا يستطيع القطع النهائي، كما أنّه لا يستطيع أن يرسم حدودها أو يُشكّل صورة لها. وكانت بلدة الطيبة في رواية النهايات الأولى التي رسّم لها الحدود وحدّد الموقع ولكنه لم يُعطها الهويّة المميّزة، فظلّت في حدود الرمز وظلّ وصفها وتحديدها خارجيّا. فهو لم يدخل إلى شوارعها وبيوتها، وإنّما رسمها لتحمل قضيّة عامّة تهمّ كل الناس، أراد منيف طرحها ومُناقشتها. ورغم أن الرواية الواقعية تعتمد أساساً على التخصيص والتحديد والتفرّد، فإن منيف نجح في إضفاء جوّ الواقعية على بلدة الطيبة، وذلك لأنّه برسمه للطيبة وأهلها والعلاقات الحميمة التي ربطت فيما بينهم، جعل القارئ يعيش حياة الناس ويتعرّف على معالم الحياة التي لا تختلف كثيراً عن حياة القرية التي يعرفها ولا عن طبيعة الناس الذين يُعايشهم، فرغم الرمزية الشفافة التي تميّز رواية النهايات إلّا أنها لا تقلّ واقعية عن أي رواية نعرفها من الروايات الواقعية. وأسماء رواياته المختلفة تدل على مكانيتها مثل: شرق المتوسط، حين تركنا الجسر. ويتدرج في رواياته اللاحقة ليتبوأ المكان مركز البطولة في روايته مدن الملح. ونراه بتسميته لها بـ مدن الملح يتّخذ موقفا مُسبقا من هذه المدن التي أنشئت في مناطق النفط العربية مؤكّدا على أنّها مدن وقتيّة، وجدت لتؤدي غرضا محدّدا، لفترة زمنيّة محدّدة، ونهايتها محتمة مع انتهاء الحاجة لها. "ويروح يوم، ويجي الثاني، يا أبو عزيّز، وتنبني المدينة الجديدة، وكأنّه ناقصنا مدن. وتقوم مدن الملح، وترتفع وتكبر، إذا جاها الماء: فشّ، ولا كإنّها كانت!" (بادية الظلمات ص ٣٨٥). الصحراء هي المكان الحاضن لقصة مدن الملح فهي التي تتحكم بمن يسكنها، تُوجّه حياته وتفرض عليه شروطها. تكسبه صفاتها وتعطيه عاداتها. تفاجئه وتكاد تودي به ثم تشدّ بأزره وتُمنّيه بالأمل حتى إذا ما أمن جانبها عادت وخذلته ورمت به لمواجهة الصعاب والأخطار. قصّة الصحراء مع ساكنها مكرّرة: قسوة التضاريس التي لا تعرف الرحمة يتلوها أمل الينابيع التي تتفجر وتبعث الحياة والثقة بغد أجمل ثم عودة لقسوة أشد ظلما ولمصير أكثر سحقا. لذلك "يجب أن ننظر إلى الصورة المكانيّة في الرواية -أي تجسيد المكان- لا على أنّها تشكيل للأشكال والألوان فحسب، ولكن على أنّها تشكيل، يجمع مظاهر المحسوسات من أصوات وروائح وألوان وأشكال وظلال ومحسوسات... إلخ (قاسم، ١٩٨٤، ص٨٠). هذه الصحراء المتجهمة الممتدة والقاسية التي تتخللها المساحات الخضراء، والوديان العميقة التي تحاذيها الأراضي المرتفعة، والتي تخدع الجاهل لها بسرابها فتجعله يعتقد أنّه محكوم عليه بالموت في هذا المكان الذي لا مخرج منه، سرعان ما تتكشّف له عن مكان مركزي يعج بالحياة ويتشعب باتصالاته ليصل في بعضها إلى البحر الذي يشكل البوابة الكبيرة التي سترفد الصحراء وتُغيّر من نمط طبيعتها وجغرافيتها وأهلها، وببعضها الآخر تصله طرق القوافل بمواقع وأماكن عديدة تحمل أسماء واحات وقرى وبلدات ستشكل مسارح لأحداث ستجري على مسرح المكان الصحراوي الكبير. لم يتتبّع منيف في خماسية مدن الملح تفاصيل المكان المُمتد على طول وعرض الصحراء، ولم يقف عند كل موقع، وإنّما اهتمامه انحصر في التحديد الجغرافي الخارجي للمكان، لأنّ ما يهدف إليه ليس عرض قضيّة خاصّة، تهمّ مجموعة ما، في بلد ما، وإنما كانت غايته طرح القضيّة العامة التي تهمّ كل الناس وكل الوطن العربي. وقد يكون هذا ما جعل البطولة الفرديّة تنعدم وتتوزّع على العديد من الشخصيات، وحتى تنحصر في المكان المسيطر على كل الأحداث ليكون هو البطل الأساسي. حتى بدايات منيف لأجزاء خماسيّته كان يستهلها بالحديث عن المكان وأحيانا كان يختتمها أيضا بالمكان. فالجزء الأول منها التيه يبتدئ: إنّه وادي العيون..« (ص٧) ويختتم: "الطريق ما هو طريق عجرة، ولا طريق البحر، الطريق يا جماعة الخير هو اللي يأخذ الجماعة كلهم وبعدها ما يردّون"(ص ٥٨٢). والجزء الثاني الأخدود يبتدىء:"بدت موران في تلك الأيام المبكرة من فصل الربيع غارقة في الصمت والتأمل، وكأنها لا تنتظر شيئا"(ص٥)، واختتمت: "واستمرت موران تسمع، وتتوقع، وتنتظر!" (ص٦١٩). والجزء الثالث تقاسيم الليل والنهار اختتم: هذي موران، بالها طويل، تحمل وتحبل، لكنها أبدا ما تنسى، ما تستعجل.." (ص ٤٠٢)، والجزء الرابع المنبت افتتح: "هبطت الطائرة في شتوتجارت بعد رحلة طويلة، أطول ممّا توقعها السلطان"(ص ٧). واختتم: "وأغلقت بوابة القصر، واتّجه شايع السحيمي إلى الاسطبل وما أن وصل حتى بدأ يُحدّث الخيل، ويبكي..« (ص ٢٥٨). وأما الجزء الخامس بادية الظلمات فقد اختتم: "وبدأت موران تتصنت، وتتلفّت، وتترقّب... من جديد." (ص ٥٨٤). وكان عبد الرحمن منيف دقيقا في اختياره للأماكن، ويحرص أن تكون متفرّدة ومتميّزة عن كل ما عداها. "إنّه وادي العيون..." هكذا يبدأ منيف الجزء الأوّل من الخماسية التيه وكأنه يريد مباغتة القارئ بمفاجأة غير متوقعة. ويتابع: "فجأة، وسط الصحراء القاسية العنيدة، تنبثق هذه البقعة الخضراء، وكأنها انفجرت من باطن الأرض أو سقطت من السماء، فهي تختلف عن كل ما حولها، أو بالأحرى ليس بينها وبين ما حولها أيّة صلة، حتى ليحار الانسان وينبهر، فيندفع إلى التساؤل ثم العجب "كيف انفجرت المياه والخضرة في مكان مثل هذا؟" وطبيعي أن يتحول هذا المكان المتفرّد المتميّز إلى أعجوبة تنقذ من الموت "في هذه الصحراء الغادرة الملعونة"(ص ٨)، "فوادي العيون بالنسبة للقوافل شيء خارق، أعجوبة لا يصدقها من يراها لأوّل مرّة، ومن يراها لا ينساها بعد ذلك"(ص ٨)، وأن يتحوّل ليكون مركز اهتمام المسافرين ومطمح رجائهم "كم بقي لنصل إلى وادي العيونح"(ص ٨) "إذا وصلنا وادي العيون وامرحنا هناك سوف نستريح أياما قبل أن نواصل السفر"(ص ٨) "أين أنت يا وادي العيون يا جنّة الدنيا". (التيه ص ٨). والمكان عند منيف ليس ديكورا وعنصرا زائدا وإنّما مكوّنا أساسيّا للنّص الروائي، ودافعا لتحريك الأحداث وبلورة صورة الشخصيّات وكشف صفاتها وأخلاقها وسلوكها، فيتشكّل ويتضمّن معان عديدة حتى يغدو هو الهدف من وجود العمل الروائي كلّه. "فوادي العيون في سنوات الخير وغزارة المياه وامتلاء الأحواض واخضرار الزرع وظهور النباتات المختلفة يتصرّف الناس في الوادي بطريقة لا يُصدّقها المسافرون إذ يُسرف أهل الوادي في الإلحاح على المسافرين للبقاء فترة أطول، ويظهرون تعفّفا زائدا في أن يأخذوا مقابل ما يعطون، وتصطنع المناسبات لكي تجعل الكثيرين يمسكون عن الرحيل، وفي هذه السنين يتبدّى الكرم حتى يبلغ حدّ الإسراف فيستغرب المسافرون ويقولون إنّ أهل وادي العيون أقرب إلى السّفه والرّعونة وأنّهم لا يُفكّرون في الغد، ولا يتذكّرون الأيام الصعبة التي مرّت عليهم في السنين السابقة. أمّا في سنوات الجفاف، وهي أكثر السنوات، فإنّ أهل وادي العيون يتصرّفون بطريقة مختلفة، إذ يبدون أكثر حزنا، وأقرب إلى الانطواء، ويتركون المسافرين يتصرّفون بالطريقة التي تروق لهم، دون إلحاح منهم ودون إزعاج أيضا. أمّا إذا عرضت عليهم بعض السلع مقابل ما يُقدّمون من تمر وماء وخدمات أخرى، فإنّهم يتقبّلونها شاكرين، وبأقلّ الكلمات. وإذا ألحف أهل الوادي بطلب شيء فإنّهم يلحفون بأن تُوافق القافلة على أن تحمل معها بعض المسافرين الجدد، وهؤلاء يكونون قد استعدّوا منذ وقت طويل وانتظروا وقتا أطول، وبرحيلهم يشعر الوادي ببعض الرّاحة وببعض الأمل، لأنّه تخلّص من أعباء كانت تُثقله، ولأنّه، أكثر من ذلك، ينتظر آمالا سوف تأتي ذات يوم مع الذين رحلوا ولا بُدّ أن يعودوا."(التيه ص ١٠). هكذا ترتسم العلاقة المتبادلة الحميمة بين وادي العيون وأهله في موسمي الخير والجفاف. وهكذا يتبدّل الناس بتأثير ما يطرأ على الوادي. والحدرة كانت المكان الثاني الذي اختاره منيف ليركز عليه الأضواء، "الحدرة هذا المكان النائي، وكأنّه نهاية العالم لا ينتظر الناس المطر، لفرط ما خابت آمالهم، لقد أصبحوا أقرب إلى التسليم، فإذا جاء المطر في سنة من السنين فإنه لا يطول ولا يترك في الحدرة إلاّ آثارا قليلة، وفي الحدرة تهبط الظلمة مبكرة، ومع تلك الظلمة برودة قاسية تولد حالة من الانقباض، والحدرة وما تلاها، وما قبلها أيضا، ولمسيرة أيام من كل ناحية، موجودة هكذا منذ أن خلق الله الأرض." (ا لتيه ص ١٦٠١٥٩). ويقيم منيف مقارنة بين الحدرة ووادي العيون تُبرز الفرق بينهما، "الشتاء في وادي العيون كان شيئا مختلفا، فالمطر، أو انتظار المطر، يحمل فرحا من نوع نادر. والليالي، خاصة ليالي الشتاء، في وادي العيون غيرها في الحدرة."(التيه ص ١٦٠١٥٩). وكما أثّر وادي العيون على أهله وعلى القادمين إليه، هكذا أثّرت الحدرة، فانقطاع المطر والحديث عنه في أماكن أخرى، " يُسبب لهم حزنا يهجم كعدو، فلا تطول الأحاديث ولا تتنوّع، وإنّما تمتلئ بمقدار كبير من الترقّب، وكأنّ مصيبة تترصّد الحدرة، ولا بدّ أن تأتي في اللحظة التالية." (التيه، ص، ١٥٩)، وظلمة ليالي الشتاء ببرودتها القاسية "تُولّد حالة من الانقباض. ولأنّ ليالي الحدرة هكذا فإنّ الناس تعوّدوا أن يأووا إلى فراشهم مبكرين، وأن تكون أحاديثم قصيرة، ولا تأخذ ذلك التّألّق الذي يلهب الخيال ويفجّر العواطف، كما كان يحصل في وادي العيون." (التيه، ص ١٦٠). وبمراجعة سريعة للمقارنة الحادّة ما بين وادي العيون والحدرة تتكشّف الفروق الكبيرة بينهما إلى حدّ التناقض، فمنيف في حديثه عن وادي العيون ووصفه له بالجنّة، قدّمه لنا لوحة فنيّة رائعة تشد إليها بموقعه الغريب المتوسط للصحراء وبأشجار النخيل والينابيع الكثيرة التي تتخلله، ولكونه مركزا للقوافل ومكان راحتها ومنقذها من الهلاك. وهو يُدقق في مساحته وأبعاده وأنواع أشجاره والطرق إليه ومنه، وعلاقات الناس فيه، وكأنّ منيف أراد أن يجعلنا لا ننسى صورة هذه البقعة الرائعة من الصحراء وأهمية وجودها في هذا المكان بالذات بقوله: "إنّ هذا الوادي في هذا المكان من الأرض لا غنى عنه، ولو لم يكن موجودا لما كان هناك بشر أو حياة، ولما كانت هناك طريق أيضا، ولما جاءت إليه القبائل، وما كان لمتعب الهذال وقبيلة العتوم أن يعيشوا في هذا المكان من الأرض"(التيه، ص٩) وهذا يعني أنّ أيّ مساس بهذا المكان سيُغيّر مجرى الأحداث والحياة والناس، وهذا ما حدث بالفعل. فعندما تعرّض هذا الوادي للخطر بقدوم الأغراب إليه ومعهم الآلات الحديدية وبدأوا بتغيير معالم الوادي، عجز أهله عن حمايته، ولم يكن بإمكانهم غير النظر إلى ما يجري أمام ناظرهم، حيث كانت أشجاره وهي تتساقط أمام الآلات الجهنميّة "تميل وتترنّح، قبل أن تسقط، تصرخ، تستغيث، تُولول، تجن، تُنادي نداء أخيرا موجعا، حتى إذا اقتربت من الأرض هوت بتضرّع، وكأنّها تحتجّ أو تُريد أن تلتحم بالتراب من جديد، في محاولة لأن تنبثق، لأن تنفجر مرّة أخرى.«(التيه ص ١٠٥). وبتغيير معالم الوادي وتدميره اهتزّت أركان حياة أهل الوادي ومعهم حياة أهل الصحراء كلهم ففقدوا الأمان والهدوء والقناعة والحياة البسيطة الراضية وبدأت الأحداث تتوالى والمواقع تتغيّر، وكأننا بمنيف اتّخذ من وادي العيون الرّكيزة التي اعتمدها لتكون مبتدأ عمله الروائي الضخم ليرسّخ في ذهن القارئ ضخامة الحدث وعظم تأثيره، والانقلاب الكبير الذي حدث في حياة الناس وعلاقاتهم. لهذا كان المكان الثاني "الحدرة" مناقضا كليّا للمكان الأول "وادي العيون" ويوضّح بما لا يحتاج إلى دليل إلى أنّ ما كان في وادي العيون لن يكون ثانية، فحياة جديدة مختلفة هي التي تنتظر أهل الوادي وحتى أهل الصحراء كلهم. وحرّان أيضا كانت مكانا متميّزا متفرّدا تُقام "في هذا المنخفض من الأرض، حيث كانت بيوت طينيّة فقيرة، قريبا من البحر، تتشكّل الطبيعة على نحو لا تُماثله أمكنة أخرى (التيه184) ويحدّد الموقع أكثر "ففي جانب يمتدّ رأس صخري طويل داخل البحر، وفي جانب آخر يتكوّن خليج ضحل المياه شديد التعرّج، حتى إذا امتدّ إلى مسافة معيّنة انفتح البحر واتّسع، وبدل الصخور الكبيرة القاسية يصبح الشاطئ رمليا، وخلف هذا مجموعة من التلال، متفاوتة الارتفاع، وبعد ذلك تبدأ الصحراء"(التيه ص١٨٤). "في هذا المنخفض والذي يُشبه حضن الأم، وفي نقطة التقاء المياه باليابسة، وعلى مسافة كافية من البحر، لتجنّب المدّ والجزر أو غضب الطبيعة الذي يهب فجأة ودون توقّع، تكوّنت في يوم من الأيّام تلك القرية الصغيرة والتي سمّت نفسها، أو سمّاها أحد الغرباء العابرين: حرّان". (التيه ص ١٨٥). وحرّان كانت المكان الذي فاجأ مَن جاءه من قلب الصحراء، لقد "فوجئوا إلى درجة عدم التصديق: مياه...مياه لا نهاية لها، مياه على مدى البصر، إنّه البحر! البحر كالصحراء بامتداده واتّساعه، ومجرّد النظر إلى هذه الكميّة الهائلة من المياه يُصاب الانسان بالفرح والخوف معا" (التيه ص ١٧٢). وإضافة إلى تميّزها بالبحر فقد كانت "أكثر حرارة وأكثر رطوبة من الأمكنة الأخرى، وهي في الصيف الجحيم بذاته، وليلها لا يختلف عن نهارها"(التيه 185). يُشكل الانتقال إلى حرّان نهاية عهد حياة البداوة الصحراوية وبداية عهد جديد يسعى بسرعة نحو الحضارة والحياة المدنية. وإذا كان وادي العيون المكان الذي جعله منيف منطلقا للتغيير والأحداث اللاحقة، فإنّ حرّان هي المكان الذي اختاره منيف ليكون بداية التشكّل للعالم الجديد الذي يسعى لرسمه في عمله الإبداعي الضخم. وكما كان مجيء الأغراب إلى وادي العيون واقتلاع آلاتهم للأشجار وهدمها للبيوت وترحيل السكان إعلانا عن انتهاء عهد البداوة الصحراوية، كذلك كان هدم البيوت الطينية الصغيرة الفقيرة في حرّان إعلانا عن بدء عهد جديد. وكما حزن أهل الوادي على ضياع البيوت والأشجار والأرض هكذا حزن أهل حرّان، لكن الفرق أن أهل الوادي لم يساهموا في العمل التدميري لواديهم، بينما العمال العرب من أهل الوادي الذين أحضرهم ابن راشد إلى حرّان هم الذين قاموا بالعمل رغم الحزن الذي سيطر عليهم وهم يقومون بعملية الهدم "لو لم نأت نحن لوجد ابن الراشد غيرنا وقاموا بنفس العمل"(التيه ص١٧٦). هكذا يبرّر صويلح لنفسه ولغيره ما قاموا به من عمل. "فالعمل هو العمل، سواء في هدم البيوت أو باستخراج الملح أو في أيّ مجال آخر، لا فرق."(التيه، ص ١٧٦). وهذا الموقف يدل على التغيّر الذي حدث في نفسية وفكر الناس، حيث استسلموا للأمر الواقع، وأدركوا أنّ حياتهم متعلقة بإرادة الآخرين ولم يعد لهم من أمل بعد أن استسلموا لإرادة ابن راشد وباعوا جمالهم، "إنّها المرّة الأولى التي يشعر فيها الرجال أنّهم يُواجهون موقفا صعبا وخيارا حاسما، إذ يطلب منهم أن يتخلّوا عن أعزّ شيء يملكونه"(التيه، ص١٧٧). ويُسيطر المكان على كل الأحداث ويُشغل كل الجزء الأول من خماسيّة مدن الملح. فحرّان القرية المنعزلة البعيدة كانت عبارة عن كتلة من البيوت الطينيّة الواطئة، ومجموعة من التلال على يمين البيوت وعلى يسارها. ولكن بعد اختيار الأمريكان لها لتكون مدينة وميناء ومقرا للشركة بدأ هدم البيوت، ونقل السكان إلى التلال الغربية، وبدأت البواخر تصل يوميا تحمل الآلاف من الغرباء وبدأت مرحلة جديدة، وحران القرية الصغيرة قامت مكانها مدينتان: حران العرب وحران الأمريكان. حران العرب التي أقيمت من بقايا الصناديق الخشبية وألواح الزنك، إضافة إلى مجموعة من الحجارة غير المنتظمة ومواد جمعت على عجل، أما السقوف فكانت "خليطا من الزنك وأقمشة الشوادر والكرتون وبقايا الأغصان التي تخلّفت بعد قطع الأشجار"(التيه ص٢٢٦). وبدأت تُقام بعض الدكاكين أيضا. وبدأت حران العرب تتسع وتتضخم "فالأبنية الطينيّة التي تتراكم بجانب بعضها، فتسدّ الطرقات أو تجعلها ملتوية شديدة التعرج، لم تعد قادرة على استيعاب الناس، ولم يعد الناس راغبين أو قانعين أن يبقوا مثلما كانوا، فانتشرت أبنية جديدة في أمكنة عديدة ومتفرّقة، وأصبحت مثل الدمامل في اليد أو مثل الرقع في ثوب كبير قديم. والسوق الذي بدأ بثلاث دكاكين، ما لبث أن أصبح شيئا عجيبا، كانت الدكاكين الجديدة تقوم كلّ يوم. دكاكين من كل شيء ومن كلّ حجم، أبنية قويّة راسخة، وأخرى عبارة عن صناديق خشبية كبيرة تقوم في التوّ واللحظة"(التيه ص٣٦٨). أما حران الأمريكان فقد أقيمت على التلال الشرقية وحتى البحر، كنواة لمدينة كبيرة منظمة، بناها العمال العرب بإشراف الأمريكان حيث ثبّتوا الألواح الخشبية البيضاء ببراغي قوية، ثم وضعوا العوارض الحديدية فوق هذه الألواح، كما ثبّتوا الزجاج وعاكسات الشمس، وقاموا بطلائها (التيه ص ١٩٦) وقد أضاف لها الأمريكان أشياء كثيرة، أشجارا ونباتات مختلفة زرعت في أوان كبيرة وصغيرة، ودهنت البراميل باللون الأبيض، وامتلأت بالخضرة، وكذلك الشوارع التي كانت من التراب، فرش عليها سائل أسود وأصبحت شيئا مختلفا، وأضيفت أبنية للتي أقيمت وظلت البواخر تصل، والميناء يتسع والأعمال تزداد والحركة لا تتوقف. وأقيمت، إضافة لهاتين المدينتين، "مدينة ثالثة تقع بين حران العرب وحران الأمريكان، قريبا من التلال وفي مواجهة البحر، خاصة بالعمال. فقد بنيت مدينة جديدة لهم مختلفة بأبنيتها وبازدحامها بسكانها وبمعظم تفاعلاتها. مدينة بدأت صغيرة، بدأت بثلاثة بركسات كبيرة بُنيت على عجل من الخشب والصفيح، أمّا الأرض فقد فُرشت بالإسمنت (التيه271). هذه المدينة الجديدة التي بدأت بثلاثة بركسات وتضم ثلاثة وخمسين عاملا، وكانت مصدر فرح لبعض العمال، ومصدر ضيق للآخرين وربما نوعا من أنواع التغيير بالنسبة للأكثرية، أخذت تتسع وتكبر، فبعد أقل من شهر بني بركس جديد، وما كادت السنة تنقضي حتى أصبح عدد البركسات سبعة عشر. والبركس الذي كان يضم حوالي خمسة عشر رجلا في بداية الأمر، أصبح يضمّ في فترة لاحقة بين العشرين والخمسة والعشرين. (التيه274). اهتم عبد الرحمن منيف بذكر بعض الأمكنة التي تُكمل الصورة البانورامية للمكان الذي يتشكّل ويتكوّن ويتكامل، وإن كان لم يُعط لهذه الأمكنة الأهمية التي لمسناها في تركيزه على وادي العيون والحدرة وحرّان. ولكنها كانت أمكنة لها خصوصياتها وتميّزها مثل: عجرة والظهرة وروضة المَشتى والعوالي وعين نبات والحويزة. إذا كانت مدينة حرّان المكان الذي اختاره منيف ليكون بداية التشكّل للعالم الجديد الذي سعى لرسمه، كما ذكرت سابقا، فإنّ مدينة موران هي المكان المركزي الذي تتركّز فيه الأحداث وفيه تُقام الدولة ويتشكّل العالم الجديد ويستحوذ على كل أجزاء الرواية الأخرى. أوّل مرّة ذُكرت موران في مرحلة طرحها كمكان، دلّت على صحراء واسعة غارقة في الرمال والنسيان، حيث كان أمراؤها المائة يتنازعون أجزاءها كما تتنازع النسور (تقاسيم الليل والنهار9). وفي المرحلة الثانية أخذت تدل على بلدة محدّدة عندما سيطر عليها خريبط وجعلها نقطة انطلاق باتجاه الأطراف، وباتجاه التوسّع لتكون نواة دولة، فهي مدينة لا تُشبه أيّا من المدن الأخرى، تغرق في صحراء بعيدة منسيّة (الأخدود، ص20) فهي لم تبلغ المدينة وإن تجاوزت القرية،ولكنها شكّلت المركز الذي ترتبط به كل الأمكنة. إنّها مدينة عجيبة. حتى القصص التي ترويها الجدّات للصغار تمتلىء بالجن والعفاريت، وتمتلىء بالأصوات الخفية والبروق، فيحار الصغار والكبار من هذه المدينة، ويتلفتون حولهم، ويُغلّفون خوفهم وانتظارهم بالصمت. ويوم وصلها الحكيم فقد وجدها مجموعة من البيوت الطينيّة المتلاصقة، وما عدا قصر الروض، أي قصر السلطان خريبط ودار الإمارة، لا يُمكن تمييز البيوت بعضها من بعض. أحياء موران متعرجة متداخلة. الشوارع ضيّقة وتعج بالأتربة والأطفال والذباب. الأسواق تبدأ من أطراف الأحياء، ثم تتّجه وتمتد نحو الشرق والشمال، تصل إلى قرب قصر الروض من ناحية، وإلى مسافة غير بعيدة عن سوق الحلال من ناحية ثانية، والبيوت تتخلّل الدكاكين وتحتلّ جزءا كبيرا من السوق. (الأخدود26). وأخذت موران تتغيّر بسرعة، " فالشوارع العريضة التي شُقّت وسط المدينة وعلى أطرافها، ثم الأراضي التي ألحقت بقصر الغدير، والكميات الهائلة من مواد البناء التي تراكمت في الجهة الجنوبية، وتلك الأعداد الكبيرة من المهندسين والفنيين، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الخرائط والمصورات، والتي بدأت تنتقل من مكان إلى آخر، من مكتب لآخر، كل هذه الأمور تدلّ على التغيّر الذي حصل.« (الأخدود148) حتى أنّ من يزورها الآن بعد غياب سنوات عنها يُنكر أنه زار في يوم من الأيام هذا المكان، كما حدث ليونغ الذي فوجىء بما يرى، وقال: "موران وأنا أراها الآن، بعد أن زالت معظم، وربّما كل معالمها القديمة، بعد أن أعيد بناؤها من جديد، لكن ضمن ألف طراز، أصبحت شبيهة ببعض الطيور الإفريقية: مزركشة جدا لكن دون جمال. الطراز القديم إلى جانب الحديث جدا: اللبن إلى جانب الزجاج العاكس، الأندلسي إلى جانب الياباني، الهندي إلى جانب ناطحات نيويورك. أكثر من ذلك: القصر الواحد مزيج من عدة عصور، ومن عدّة أماكن. موران القائمة الآن يمكن أن تنتقل أو تزول، بعدد من السنين، وهذا العدد، إذا تفاءلت أو تشاءمت لا يتجاوز الثلاثين سنة، لأنّ كلّ شيء ليس في مكانه: الأبنية والبشر إضافة إلى الرغبة الإنسانيّة المجردة"(بادية الظلمات 283) إضافة إلى هذا التركيز على موران ككل، كمركز للدولة، فإنّ منيف اهتم أيضا بالتركيز على أماكن موزّعة في موران جرت فيها أحداث، وكان لها تأثيرها على سير هذه الأحداث والشخصيّات التي مارستها. لكن منيف اكتفى بالوصف الخارجي للأماكن. فالقصور لم نعرف عنها إلاّ الأوصاف العامّة الخارجيّة ولم يُدخلنا الراوي إلى مقصوراتها ودهاليزها وزواياها وصالوناتها طوال الجزء الثاني من الرواية الأخدود، فلم نعرف من قصر السلطان إلاّ القاعة العامّة التي يستقبل فيها السلطان زوّاره. وفي قصر النساء لم نتعرّف إلاّ على مكان الاستقبال. حتى قصر الحكيم لم نتعرّف عليه وإنّما انحصر في غرفة الحكيم حيث يجلس ليُناقش ويُفكّر ويرسم الخطوط العامّة لمؤلّفه الكبير، وغرفة النوم، والغرفة التي كان سمير قيصر ينام فيها ويُضاجع وداد زوجة الحكيم. حتى هذه الأجزاء من القصر عرفناها بشكل عام، ولم نتعرّف على تفاصيل قياساتها وشكلها وموجوداتها. وهذا صحيح أيضا بالنسبة لبيت شمران العتيبي ومقهى زيدان وحتى غرفة حمّاد في مقرّ جهاز الأمن. هذا الوصف الخارجي للأماكن، دون الدخول إلى التفاصيل والجزئيّات، وحصر المكان ساعة حدوث العمل فيه، يجعلنا نصل إلى نتيجة أنّ منيف في هذه المشاهد كان يمزج ما بين الحدث والمكان وكأنّهما واحد، فوجود الواحد لازم لوجود الثاني. نستطيع أن نتابع الراوي في وصفه المُتتابع للمكان خلال كل أجزاء الرواية. ولكنني أكتفي بهذا المقدار لأنه يدلّ على المنهج الذي اتّبعه منيف في وصفه للمكان وعلى الأهمية الكبيرة التي أولاه إيّاها.
الرامة - فلسطين
#نبيه_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية -العمى- لساراماغو والسؤال الذي يُثارُ والمُعجزة التي ن
...
-
ماركيز وغانياته الحزينات
-
-وجع لا بُدّ منه- رواية الكاتب عبد الله تايه والوجع الذي يُف
...
-
في ذكرى غسان كنفاني الرجل الذي لم يُلق الرّاية
-
إبراهيم نصر الله في -طفولتي حتى الآن- يفتتح نَهجا مُغايرا في
...
-
محمود شقير في -تلك الأزمنة- ما بين قَيْد الزّمن القابض وشبَح
...
-
رواية جوبلين بحري لدعاء زعبي وأيّة رواية نريد؟
-
رواية -زمن وضحة- لجميل السلحوت: حفر اسمه في كتاب الثقافة الف
...
-
رسالة لأفنان القاسم
-
أدونيس والمنفى الأليم وافتقاد الصديق
-
أحلام مستغانمي وكسر تابو الرجل
المزيد.....
-
“بداية الفتح” مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 38 مترجمة بالع
...
-
“صدمة جديدة للمشاهدين” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 176 مترجمة
...
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
-
بليك ليفلي تتهم زميلها في فيلم -It Ends With Us- بالتحرش وال
...
-
“الأحداث تشتعل” مسلسل حب بلا حدود الحلقة 47 مترجمة بالعربية
...
-
في ذكرى رحيله الستين.. -إيسيسكو- تحتفي بالمفكر المصري عباس ا
...
-
فنان أمريكي يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماع
...
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|