|
الشعراء الحرفيون في مصر المملوكية
صبري فوزي أبوحسين
الحوار المتمدن-العدد: 7615 - 2023 / 5 / 18 - 10:37
المحور:
الادب والفن
كانت مصر قوة عسكرية وثقافية بارزة في العصر العربي الوَسِيط، لا سيما في العصر المملوكي(648-923هـ)، وقد حملت مِشعل الحضارة في هذا الزمان، فكانت القاهرة عاصمة الثقافة، وملاذ المثقفين حينئذ، وكان لأهلها، من الوجهاء والعلماء، الفضل الأول في الحفاظ على مصادر الثقافة العربية التراثية من الاندثار والضياع، عقب مأساة الغزو التتري الهمجي لبغداد والعالم الإسلامي، وقد ظهر صدى هذه القوة المصرية الناعمة في فنون الأدب العربي المتنوعة، لا سيما فن الشعر، الذي ظهرت فيه مصر وبرزت مكانًا وإنسانًا، تاريخًا وحاضرًا، فكرًا ولهجةً، بجلاء وحَيَوِيَّة في أدب هذا الزمان! ولا أدل على هذه الحقيقة من متابعة ظاهرة (الشعراء المصريين الحِرَفِيِّين) في هذا العصر؛ إذ امتاز الشعر المصري فيه بنزوله من بُرجه العاجيِّ النُّخْبَوِي الرسمي إلى الواقع الشعبي الحياتي والعامِّي، عن طريق قالب إيقاعي هادئ، وبناء لغوي مباشر، يتناصُّ مع البيئة المصرية والحياة المصرية والماجريات المصرية تناصًّا حيًّا وفاعلاً وطريفًا وظريفًا وآسرًا؛ فقد حُرِم كثير من الشعراء، عصرئذ، من مجالسة السلاطين والأمراء والوجهاء بسبب عجمة أغلبهم، فلم يجدوا من يرعاهم بجوائز وهِبات وصِلات وعطايا، على النحو الذي حظي به شعراء العصور السابقة! فانتقلوا إلى كسب لقمة عيشهم عن طريق حرفة أو مهنة أو صنعة، توفر لهم قوتهم، فعبروا بموهبتهم الشعرية عن تجاربهم المُعاشة، وما فيها من معاناة وآلام، وآمال ومتع، وطموحات ومعوقات، ومشاعر ورؤى، بطريقة شعرية جمعت بين سهولة القالب العروضي والبناء للغوي، وظرافة الرؤية ووضوح الفكرة، وكثافة النص وإيجازه البليغ؛ فوجدت طبقة (الشُّعراء الحِرَفِيِّين المِصْرِيِّين)، وذاع صيت أفرادها ذيوعًا ظهر أثره في حضور أشعارهم وحكاياتهم في كتب المختارات الأدبية، وكتب التاريخ والسِّيَر والأخبار، وكتب المجالس والمسامرات والطرف والنوادر، وتحول شعرهم إلى وثيقة معبرة عن أحوال الناس سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا في هذا العصر العجيب الغريب الموَّار! والأعجب أن بعض نماذج هؤلاء الشعراء الحِرَفِيين ما زال يُستَدعى في زمننا هذا؛ لا سيما في مجال الحديث عن الأزمات وحالة المثقفين! وإن قراءة أولى في قائمة الشعراء المصريين في هذا العصر لَتُوقفنا على طبقة كبيرة من هؤلاء (الشعراء الحِرَفِيِّين الشَّعْبِيِّين)، الذين رُزقوا موهبة الشعر، مع كونهم من العوامِّ في المقام الأول، بل ربما وجدنا بعضهم عاميًّا، لا يجيد القراءة والكتابة، ومع ذلك تجد له شعرًا عربيًّا فصيحًا! وهاك حصرًا بأبرز هؤلاء المصريين الحِرَفِيِّين الذين رُزِقوا موهبة الشعر، وظهر أثر الحِرَف والصنائع والمِهَن في شعرهم أسلوبيًّا وفكريًّا: 1- أبو الحسين الجزار(601-672ه): هو جمال الدين يحيى بن عبدالعظيم, ولد بالفسطاط عام 601هـ /1205م، ونشأ فيها, وعمل بالجِزارة كأبيه وأقاربه، ولكن ظهرت عليه -وهو صغير- دلائل حب الشعر وإنشاده، فترك الجِزارة حرفة أبيه، وتكسَّب بالشعر فاتصل ببعض الحكام والوزراء والأمراء والكتَّاب ومدحهم ونال بعض عطاياهم غير الكافية إياه! وقد امتهن الجزارة لمَّا لم يجد سوقَ الأدب مربحةً، لا تكاد خُلتُه تنسدّ عن طريقه؛ مما جعله كثيرًا ما يشكو الفقر والحاجة ومُعاداة الأيام له, ولما وجد مهنة الأدب قد أورثته الخمول ولم تسد حاجته! حنَّ إلى حرفة الجِزارة عساه يجد فيها بُحبوحة العيش التي لم يوفرها له اشتغالُه بالأدب، وكتب في ذلك رائع الأشعار وماتعها... 2- ابن أبي الربيع الخياط(المتوفى سنة 672هـ/1273م): هو مجاهد بن سليمان بن مرهف التميمي، من كبار أدباء العوام، وكان معاصرًا للجزار ومنافسًا له، عاش ومات ودُفِن بالقرافة بالقاهرة، المعروفة الآن بإسطبل عنتر، وله شعر، وظرف، وأخبار، مع أهل عصره من الأدباء. 3-السراج الوراق(615-695هـ): هو أبو حفص، سراج الدين الوراق، وصفه ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة) بقوله: "شاعر مصر في عصره بلا مدافعة"، له ديوان كبير في الأدبيات شعرًا ونثرًا، في سبعة مجلدات، يسمى (لُمَع السراج)، وله نظم دُرَّة الغَوَّاص، وشرحُه. 4- محمد بن رضوان المعروف بابن الرَّعَّاد(المتوفى سنة 700هـ/ 1300م): يقول عنه الكتبي في (وفات الوفيات): «كان ابن الرعاد خياطًا بالمحلة من الغربية وله شعر لا بأس به، وكان في غاية الصيانة والترفع عن أهل الدنيا, واقتنى من صناعة الخياطة كتبًا نفيسة، وابتنى دارًا حسنة بالمحلة، ومن أشعاره ما يدل على إدراكه للاصطلاحات العروضية والنحوية وإلمامه باللغة وأساطينها»... 5– محمد بن دانيال بن يوسف الموصلي(631-710هـ): أديب فاضل، يقال له: الحكيم الكحال، ترجم له ابن حجر العسقلاني في كتابه (الدرر الكامنة), وقال عنه ابن تغري بردي: «كان كثير الدُّعابة والنوادر والرواية، وكان دُكَّانه داخل باب الفتوح من القاهرة، ومات في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة 710هـ/ 1310م، وله ديوان شعر، و له كتاب بعنوان "طيف الخيال"، جمع فيه بين الشعر والنثر الفني الحواري، يعده كثير من دارسي تاريخ فن المسرح عند العرب النواة التراثية الأولى لهذا الفن العريق... 6- نصير الدين الحمامي (609- 712هـ): هو نصير الدين أحمد بن علي المناوي، كان أديبًا كَيِّس الأخلاق، صاحب فضائل كثيرة، بالإضافة إلى عمله في خدمة الحَمَّامات، كان شاعرًا ماهرًا، وقد تناقلت كتب الأدب والتاريخ والتراجم والنقد أخباره، وأوردت أشعاره، وأثنت عليه، ووصفته بصفات تدل على شاعريته، وظرافته، وتفوقه في فن الشعر، وارتبطت أخباره بأخبار الشعراء الحِرَفِيِّين في عصره، أمثال سراج الدين الوَرَّاق، وأبي الحسين الجَزَّار، وابن دانيال، قال الكثير من الأشعار في وصف حَمَّامته، وله مشاركات في الفنون الشعرية المستحدثة، أمثال الدوبيت، والموشحات، والأزجال... 7-ابن الصَّائغ (645 - 720 هـ): هو محمد بن حسن بن سِباع بن أبي بكر الجذامي، أبو عبد الله، شمس الدين، المعروف بابن الصائغ: أديب، عالم بالعربية مصري الأصل، دمشقي المولد والوفاة. كان له حانوت بالصاغة. له (المقامة الشهابية) و (شرح ملحة الإعراب)، وقصيدة نحو ألفي بيت في (الصنائع والفنون) و (شرح مقصورة ابن دريد) مجلدان، و (مختصر كتاب ابن خروف والسيرافي على كتاب سيبويه - خ) في خزانة القرويين بفاس (الرقم 1780) و (مختصر صحاح الجوهري) يُظن أنه (الراموز في اللغة العربية - خ) ثلاثة مجلدات، و (ديوان شعر) مجلدان. 8- إبراهيم المِعْمار(ت749هـ): هو إبراهيم بن على المعمار المعروف بغلام النوري، المتوفى 749هـ/1348م، شاعر وأديب مصري مطبوع، يعد من أشهر المَوَّالين في العصر المملوكي، وله مقاطع شعرية غاية في الروعة وكان له نتاج جيد في الأزجال، وكتب الشعر في مختلف الأغراض. 9-ابن زُقاعة الخيَّاط(724-816هـ): ولد في غزة ثم انتقل إلى القاهرة وعاش ومات بها، نظم كثيرًا مما يسميه الناس شعرًا، وكان يستحضر كثيرًا من الحكايات والماجريات، وله قصيدة تائية طويلة في صفة الأرض وما احتوت عليه، قيل: إنها زادت على سبعة آلاف بيت شعري! وله رسائل في مجالات معرفية شتى! 10- علي بن سودون الجركسي القاهري(عاش في القرن التاسع الهجري): شاعر هزلي من أدباء القرن التاسع، وهو صاحب الكتاب القصصي الشعبي الماتع(نزهة النفوس ومضحك العبوس)...وهناك غير هؤلاء الشعراء الحِرَفِيِّين كثيرٌ، لكن تراثهم ما زال مخطوطًا، حبيس دور الكتب! وننتقل بعد ذلك إلى وقفة مع بعض أشعار هؤلاء الحِرَفِيِّين الظريفة المُعبِّرة، من ذلك قول أبي الحسين الجزار: لا تلمني يا سيدي شرف الديــــــــــ ـــــــن إذا ما رأيتني قَصَّابا كيف لا أشكر الجزارة ما عشـــــــــ ــــــــت حفاظًا وأرفض الآدابا وبها أضحت الكلاب تُرَجِّيـــ ــــــــني وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا فالمفارقة هنا من الأثر الفاعل لحرفة الجزارة في حياته اقتصاديًّا، في حين أن موهبة الشعر لم يكن لها هذا الأثر، فكانت تلك الصورة الجالدة والهاجية: (وبالشعر كنت أرجو الكلابا).... ولم تكن حرفة الجزارة مسعدة إياه دائمًا، بل وصف لنا معاناته فيها، بقوله: حسبي حِرافًا بحِرْفَتي حَسْبي أصبحتُ منها مُعذَّب القلبِ مُوسَّخَ الثوبِ والصحيفةِ من طولِ اكتسابي ذنبًا بلا كسْبِ أعملُ في اللحمِ للعِشاءِ ولا أنالُ منه العَشا فما ذنبي خلا فؤادي ولي فمْ وَسِخٌ كأنني في جزارتي كلْبي والجميل هنا الجناس بين(الحِراف) بمعنى المرارة والكَد والحِدَّة، و(الحِرفة) بمعنى الصنعة، و(العِشاء) و(العَشا) والتورية في لفظة(الصحيفة)، وهذا التشبيه المعبر تعبيرًا قاسيًا(كأنني في جزارتي كلْبي)! وهذا يدل على الحالة الاقتصادية الصعبة التي مرَّ بها الشعب المصري في هذا الزمان؛ حيث لا يجد الممتهن لحرفة الجِزارة لحمًا يأكله! ومن لطيف شكوى ابن دانيال قوله: يا سائلي عن حرفتي في الورى وضيعتي فيهم وإفلاسي ما حال مَنْ درهمُ إنفاقِه يـأخــذُه من أعـيـن الناس؟! وقوله: ما عاينت عيناي في عطلتي أقل من حظي ومن بختي قد بِعْتُ عبدي وحماري وقد أصبحت لا فوقي ولا تحتي ومن لطيف شعر السراج الوراق في حرفته وصناعته قوله واعظًا نفسه: وا خجلتي وصحائفي سودًا غَدَتْ وصحائفُ الأبرارِ في إشراقِ ومُوبِّخ لي في القيامةِ قائلٌ: أَ كَذَا تـكونُ صحـائـف الـوراق؟! وهكذا عبر الشعراء الحرفيون المصريون عن تلك المفارقة الثقافية المأساوية الماثلة في تدنِّي حالتهم الاقتصادية، مع علو مكانتهم الفنية، في قالب شعري نقدي جالد ساخر، ظريف، واعظ، يصل إلى أكبر قطاع من الجمهور، بلا تكلف أو إعنات!
#صبري_فوزي_أبوحسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاضرة: انتحال الشعر الجاهلي مفهوما وإشكاليات
-
مع سمو الأمير: علاء جانب، في ليلة كورونية
-
دور مهم للمستشرق تشارلز لايل في قضية الانتحال
-
فريضةُ الاستثمارِ الزِّراعي وأثرُها في الصّناعة
-
سلبيات وسائل التواصل الاجتماعي
-
حياة العرب الفكرية في ظلال العصر العثماني
-
مفهوم الدستور وتطوراته في مصر الحديثة
-
البنية السردية في رواية عذراء جاكرتا للقاص نجيب الكيلاني
-
رأي في الأدب العربي في العصرين المملوكي والعثماني
-
محفزات الإبداع في مسيرة بيرم التونسي الأدبية
-
الشاعر المجدد الإنسان عبدالمنعم عواد(1933-2010م)
-
قصيدة لقطات أندلسية
-
قراءة في شخصية نجيب الكيلاني وآثاره
-
الفاعلية العربية في الأندلس وما جاورها: مقاربة نصية حضارية
-
حِمايةُ الفُقَراءِ مِن أفضلِ الصَّدَقاتِ
-
هادفية النسيج السردية في قصة شيخ الخفر للقاص محمود تيمور (ت
...
-
الأستاذة نادية كيلاني الهادفة البليغة
-
النذير الفصيح الجامعة قراءة ذاتية في سيرة الدكتور مصطفى السو
...
-
النذير الفصيح الجامعة(2) قراءة ذاتية في سيرة الدكتور مصطفى ا
...
-
السواق الصوفي(قصة قصيرة)
المزيد.....
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|