|
مشروع الأنوار من وجهة نظر تزفتان تودوروف
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7601 - 2023 / 5 / 4 - 06:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في أواخر القرن التامن عشر تطرق إيمانويل كانط لنفس الموضوع في جيز بلغ مداه تقريبا عشرين صفحة وكان قد اختار له عنوانا على صيغة سؤال: "ما الأنوار؟". في القرن العشرين عمل ستيفان بيوبيطا على نقل هذا النص الكانطي من الألمانية إلى الفرنسية. ثم جاء ميشال فوكو ليدلي بدلوه في هذا الموصوع مخصصا له حوالي 12 صفحة ومحتفظا بنفس العنوان الذي ابتدعه كانط. نشرت مساهمة فوكو مجلة Magazine littéraire في العدد 207 الصادر في ماي 1983. وقد شكل هذا النص الفوكوي مقتطفا من الدرس الذي ألقاه صاحبه ب Collège de France بتاريخ 05 يناير 1983، وقد تمت إعادة نشره في الجزء الثاني من كتاب Dits et écrits الصادر عن دار النشر غاليمار سنة 2001. أخيرا، جاء دور تزفتان تودوروف ليضيف حلفة أخرى في هذه السلسلة الذهبية الخاصة بفلسفة الأنوار، وذلك في حيز أصغر بكثير من الحيز الذي سوّده كانط. والجدير بالذكر أن نص تودوروف مقتطف من كتاب له بعنوان L esprit des lumières. يبدأ تودوروف مساهمته بأنه من الصعب التعبير بدقة عن ماهية مشروع الأنوار لسببين "أولهما، أن عصر الأنوار هو عصر تتويج، وتلخيص، وتركيب وليس عصر تجديد راديكالي. ذلك أم أمهات الأفكار في هذا العصر لا تجد أصلها في القرن الثامن عشر، وحتى عندما لا تنحدر من العصر القديم، فهي تحمل بصمات القرون الوسطى السحيقة، وعصر النهضة والعصر الكلاسيكي." أما السبب الثاني فقج تمثل في "كون الفكر الأنواري يحمله عدد هائل من الأفراد، عوض أن يشعروا بالتوافق في ما بينهم، دخلوا في مناقشات حادة وعنيفة، من بلد إلى بلد أو حتى داخل البلد الواحد." هنا، وجد الفيلسوف في الزمن الذي يفصلنا عن أولئك "عاملا مساعدا لنا في عملية الفرز والغربلة: فخلافاتهم القديمة أثمرت مدارس فكرية لا زالت معاركها محتدمة إلى يومنا هذا." من ذلك يخلص تودوروف إلى أن عصر الأنوار كان "عصر سجال أكثر منه عصر توافق وإجماع". ورغم أنه يجد نفسه في هذا العصر أما تعدد مخيف، غير أنه يقر بأنه من السهل التعرف على "وجود ما يمكن تسميته بمشروع الأنوار". في مفتتح حديثه عن هذا المشروع يخبرنا الكاتب أن هناك ثلاث أفكار كبرى تقوم بإغنائه عبر مقتضياته العديدة، وهي: الاستقلالية، الغائية الإنسانية لأعمالنا، والكونية. إنّ استقلالية ثورة الأنوار قد أحدثت انقلاباً في حياة الفرد وحياة المجتمع، أو في تمثل الفرد لنفسه وللمجتمع معاً، "فلم يعد إنسان الأنوار ذلك الشخص الحامل لصورة مجردة ومثالية، بل ذلك الكائن الواقعي بكلّ اختلافاته وتناقضاته. فلم يعد يُتصور كعقل مجرّد وكروح خالصة، إنّه جسد وروح، أهواء وعقل، شهوانية وتفكر". ويترتب عن الاستقلالية القبول بالاختلاف والتعدد والتنوع والاعتراف بالمغاير والمخالف. فالاستقلالية تعددية تقود إلى تقويض كلّ سلطة مطلقة ورفض كلّ إيديولوجية تسعى إلى الهيمنة على المجالين الفردي والجماعي. من مظاهر الانقلاب الذي أحدثه إنسان الأنوار معرفياً وأخلاقياً وقانونياً "عملية الفصل بين الزمني والروحي". بفعل هذه العملية صارت كلّ قطاعات المجتمع تميل إلى العلمنة la laïcité دون أن يمسّ ذلك ضمان حرية المعتقد والحفاظ على إيمان الأفراد. كما صارت المدرسة فضاء عمومياً مفتوحاً لنشر ثقافة الأنوار وترسيخ قيم الاستقلالية والحرية، وامتدت هذه الروح إلى باقي الفضاءات والقطاعات كالفن والصحافة والإعلام والاقتصاد. ولكي لا تنحرف الاستقلالية عن مقاصدها، فإنّ تودوروف يشدّد على أنّ استقلالية الأنوار لا تعني إلغاء كلّ الحدود أو هدم كلّ القوانين. فهي تفرض وجود مشترك إنساني وأخلاقي وقانوني، يوجّه سلوكات الأفراد والجماعات، ويجعل من الإنسان محوراً مركزياً لكلّ تشريع. والنتيجة الطبيعية لمثل هذا التصور هي أن يجعل تودوروف من غائية الأفعال الإنسانية منطلقاً مرجعياً وفكرة مؤسسة لمشروع الأنوار. وعلى هذا الأساس يعتبر فكر الأنوار مذهباً إنسياً humanisme أو يقوم على مركزية الإنسان. شكّلت غائية الأفعال الإنسانية الأداة الأولى للحدّ من حرية الأفراد والجماعات، فهي التي توجه استقلاليتهم وتضبط تحررهم. كما مثل الإقرار بأنّ جميع الكائنات تملك حقوقاً لا يمكن التصرف فيها الأداة الثانية لذلك التوجيه والضبط. من ثمّ يجب ضمان الحقوق الطبيعية لكافة الناس بالنظر إليهم ككائنات بشرية، فلكلّ إنسان الحق في الحياة وفي صيانة حرمته الجسدية. وتتصف كلّ هذه الحقوق بالكونية التي تفيد أنّ أساس كلّ الحقوق المنسوبة للأفراد هو الانتماء إلى الجنس البشري. بمعنى الاعتراف بالكرامة التي يجب أن يتمتع بها الجنس البشري بالتساوي. ويظهر مفعول فكرة الكونية في التقعيد للمساواة أمام القانون وصياغة المطلقات النظرية لفكرة الحقوق العالمية للإنسان والإيمان بالتعددية والتنوع في إطار الوحدة الإنسانية الجامعة. يتضح ممّا سبق أنّ تودوروف يلخص مشروع الأنوار في ثلاث أفكار كبرى تترابط فيما بينها: الاستقلالية، وغائية الأفعال الإنسانية، والكونية، والتي بموجبها يعتبر الأنوار مشروعاً إنسياً. وهذه المرتكزات هي ما يشكل إرث الأنوار الذي يفيد في حلّ معضلات الحاضر. كما أنّ فكر الأنوار يتميز بالسير في اتجاهين: يشتغل بالسلب ويعمل على التحرر من القيم المفروضة من الخارج، ويشتغل بالإيجاب ويعمل على بناء قيم جديدة يختارها الإنسان بنفسه. بيد أنّ ذلك لا يعني مطلقاً أنّ الوجود البشري الفردي والجماعي يمكنه أن يستغني عن كلّ أنواع التقاليد وعن كلّ إرث يصله من الأجيال السابقة، ويعود السبب لكون إمكانية التفكير لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن الأفكار والآراء السابقة.
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بنسليمان: المجلس الجهوي لحزب الشمعة يتضامن مع يوسف بنصباحية
...
-
مقارنة فلسفية بين المعتقدات والمعارف
-
فلسفةرتشارد رورتي وموقعها في الفكرالأمريكي
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء السادس و
...
-
بيان جماهيري من المكتب السياسي للحزب الشيوعى السودانى
-
أي مستقبل للحلم المغاربي؟
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء الخامس)
-
انخراط المغرب في الرأسمالية المتوحشة ضرب التضامن الاجتماعي ف
...
-
الاجواء والظروف الحالية التي يمر في ظلها الاحتفال بعيد الشغل
...
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء الرابع)
-
إشكالية الأنا والأخر في -رواية السيد إبراهيم وأزهار القرآن-
...
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء الثالث)
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء الثاني)
-
في السجال بين ديكارت وهوبز حول الانفعالات
-
فلسفة رتشارد رورتي وموقعها في الفكر الأمريكي (الجزء الأول)
-
هيئات سياسية ومدنية ونقابية تتضامن مع سكان دوار الجديد أمحيج
...
-
هل حميد المهدوي صحافي كما يصف نفسه؟
-
محللون وخبراء يتوقعون حربا مطولة في السودان مع تهديد بالتدخل
-
قراءة في كتاب -التواصل والتنازع: مناظرة هابرماس وليوتار- لغا
...
-
قراءة نقدية لاطروحة محمد بلفقيه الداعية لاستبدال العلوم الان
...
المزيد.....
-
اصطدمتا وسقطتا في نهر شبه متجمد.. تفاصيل ما جرى لطائرة ركاب
...
-
أول تعليق من العاهل السعودي وولي العهد على تنصيب أحمد الشرع
...
-
بعد تأجيله.. مسؤول مصري يكشف لـCNN موعد الإفراج عن فلسطينيين
...
-
السويد: إطلاق نار يقتل سلوان موميكا اللاجئ العراقي الذي احرق
...
-
حاولت إسرائيل اغتياله مرارا وسيطلق سراحه اليوم.. من هو زكريا
...
-
مستشار ترامب: نرحب بحلول أفضل من مصر والأردن إذا رفضتا استقب
...
-
الديوان الأميري القطري يكشف ما دار في لقاء الشيخ تميم بن حمد
...
-
الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية في الضفة الغربية ويق
...
-
بعد ساعات من تعيينه رئيسا لسوريا.. أحمد الشرع يستقبل أمير قط
...
-
نتانياهو يندد بـ-مشاهد صادمة- خلال إطلاق سراح الرهائن في غزة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|