أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - عازف البُزُق














المزيد.....


عازف البُزُق


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 7600 - 2023 / 5 / 3 - 14:39
المحور: الادب والفن
    


اعتدتُ التجوّل قُبَيل الغروبِ يومياً، في الأحياء الشعبية العشوائية القريبة من مسكني لمدة ساعةٍ، تنفيذاً لتوجيهات الطبيب الذي حذّرني من احتمال إصابتي بمرض السكَّري بعد آخر تحليلٍ أجريته في المختبر وكانت النتيجة (140). وحيث إن الحيّ الذي أسكنه يفتقر إلى المنتزهات والحدائق العامة التي يمكن أن يمارس المرء فيها رياضة المشي، وصالات الأندية الرياضية، لعزوف الناس عن ارتيادها فيما لو أُشيدت، بسبب الأحوال المعيشية البائسة، لم يكن أمامي إلا خَيارٌ وحيد وهو السير في الشوارع والأزقّة التي يقلُّ فيها التلوث البصري والسمعي والهوائي.. الذي تعجُّ به المنطقة، وما تسبّبه من أمراضٍ وأخطار، فأنا لا ينقصني المزيد منها لأضيفه إلى أرشيفي المكتظ بالبلايا والمحن.
وفي إحدى جولاتي، وبينما كنت أهمُّ بالدخول إلى شارعٍ فرعي، فإذا برجل نحيف طويل القامة متوسط العمر، يمشي باتجاهي وهو يعزف على آلة البزق مبتسماً، ويغنّي بصوتٍ شجيٍّ منخفض، وقد ظهرت أسنانه الأمامية في فكّه العلوي بشكلٍ مشوّهٍ وغريب؛ فهي كبيرة ومتباعدة وبارزة خارج فمه وسط وجهه الممصوص بسمرته الداكنة، بحيث يستحيل على المرء أن يكتفي بالنظر إليه نظرةً عابرة.. تمهّلتُ مستطلعاً لأتأكّدَ من إجادته العزف، وقد شنّفتُ أذنيَّ إلى أقصى ما أستطيع مصغياً، فألفيته يعزف ببراعة. تجاوزني وانعطف إلى الشارع الرئيس، وحيث إن عشقي للموسيقى لا يضاهيه عشقٌ آخر، فقد ندمتُ لأنني لم أستوقفه لأسمع منه المزيد.
وقفتُ حائراً، فيما تعصف بأفكاري ضروب التردّد بين إهمال الحدث أو اغتنام هذه الفرصة النادرة التي قد لا تتكرّر. فجأةً، رفرفت في أعماقي فكرة بديعة حسمتْ تردّدي؛ واستولى عليّ خيارٌ واحد: «سألحق به على الفور لإشباع فضولي الذي استُثير إلى حدٍّ بعيد». انطلقتُ مهرولاً في تعقُّبِ أثره بالاتجاه الذي مضى به، مطيحاً بكل ما أملك من وقارٍ ورصانة؛ خشية أن يضيع عني إلى أن أدركته، مشيتُ بمحاذاته لاهثاً وكدت ألتصق به لأسمع موسيقاه المختلطة بصخب الشارع وهدير السيارات. التفت إليَّ والابتسامة ما زالت على محيّاه المرشوش بالتعب، فسارعتُ بالقول وعلى وجهي تحوم ابتسامة مرتبكة: «من فضلك، هل تسمح لي بتصويرك فيديو يا أخي؟» ضيّق عينيه الجاحظتين ليحدّ بصره ويتأكّد من معرفته بي، ثم أجابني على الحارك بكلمة واحدة، مبدياً استجابة موحية: «تكرم».
توقّف عن العزف وهرش فروة رأسه بأصابعه النحيلة وهو يطوف بعينيه اللتين تكادان أن تندلقا من محجريهما، باحثاً عن مكان يجلس به، ثم توجّه مباشرةً إلى أقرب عتبة بيت وجلس، كنت في هذه اللحظات قد أعددتُ هاتفي النقّال لتصويره، وطفق يعزف لحن الأغنية العراقية الشهيرة «عمّي يا بيّاع الورد» ويغنّيها بصوتٍ عذبٍ جميل.
تيارٌ من السرور عبَرَ قلبي، وأنا أنصتُ إليه، كما ينصت ناسكٌ لنبيّ، أراقب بعينٍ يقظة أداءه الباهر، والذي هو على النقيض من هزال جسده وبشاعة وجهه وثيابه الرثّة المهلهلة التي هربت ألوانها، ومداسه العتيقة التي تبدو أصابع قدميه منها وقد اكتساها التراب.
بعد أن أنهى مقطعاً من الأغنية، توقَّفَ عن العزف ونهض في عجلةٍ دون أن ينفض غبار العتبة الذي علق على مؤخرة بنطاله، مستخفّاً بكل مظاهر الأناقة والجمال، وقال لي وهو يربّتُ على كتفي والبسمة لا تغادر فمه الذي يعجز عن إغلاقه: «هذه ذكرى مني إليك». وفارقني على نحوٍ مباغت.
لحقتُ به ملهوفاً ومشيتُ إلى جانبه، وطلبتُ منه راجياً أن يتكرّم بزيارتي لاستكمال لقائنا الذي لم أرتوِ منه، فقد مرَّ الوقت بسرعة كما يمرُّ الحلم. أوضحتُ له أن بيتي قريب من المكان الذي صورته فيه.. ولا يستغرق الوصول إليه سوى دقائق قليلة. لبث شاخصاً إليّ هنيهة لا ينطق ولا يطرف، واختتمها بإيماءة تحية الوداع دون أيّ كلمة، معلناً عدم اكتراثه بدعوتي، ومضى في طريقه يستأنف عزفه وغناءه.
أحسست بخواءٍ حقيقي حينما غادر وبقيتُ وحدي، وقفتُ سارحاً أتأمّله، وأقلّبُ النظر في حاله، وأذهب المذاهب في استبطان سرّه، وهو يبتعد في طريقه على الرصيف وقد أحنى رأسه على بُزُقِه، ربما ليستمتع أكثر بسماع عزفه الذي يشوّشه ضجيج الشارع.
سيلٌ من الأسئلة شرعت تغزو دماغي وأنا أتابعه: هذا الرجل الذي تبدو على ملامحه السعادة على الرغم من فقره وتعتيره، هل تراه يحلم ويتمنى أن يكون بغير هذه الهيئة الدميمة التي يبدو عليها، والتي تدعو إلى الاشمئزاز والنفور حتى من أقرب الناس إليه؟ هل تعنيه استمرار الأزمة السورية دون حلّ؟ هل يُعاني من الانقطاع الطويل للكهرباء، أم أنه يستغل ذلك بالعزف والغناء ولا يحفل بكل وسائل التكنولوجيا الحديثة؟ هل يُعقل أن يخاطر بنفسه ويركب «قارب الموت» مع غيره من المهاجرين حتى ولو إلى جزر الواق الواق، هرباً من القهر الفاحش الذي يتأجّج في صدور غالبية أبناء الوطن؟ هل يرغب بالسكن في بيتٍ لائقٍ وتكون لديه أسرة وراتب يكفيه، أم أنه يقول لنفسه مواسياً: طالما أن90% من الشعب على شاكلتي من الحرمان، فلا يهمني أن أرتقي بظروفي عنهم؟ تُرى، هل يشتعلُ فؤاده غيظاً عندما يسمع تصريحات المسؤولين المتعجرفة وتبجّحهم بهزائمهم التي يُعِدّونها "انتصارات"؟ أم أنه إنسانٌ حرٌّ زاهدٌ قنوع لا يبالي بشيء، فبساطته تحصّنه من وجع الصحو لهذه الأسئلة المريرة؟
كان نور الشمس قُبَيل المغيب يغمر المكان بدفءٍ لذيذ، وبدت الحياة جميلة على نحوٍ لا يُصدَّق، قرّرتُ اختصار مشواري المسائي والكفّ عن مناجاة النفس، وقفلتُ عائداً نشوانَ أدندنُ ذلك اللحن الطروب الذي سحرني، وأنا أغذُّ السير نحو البيت، وأوزّع البسمات للمارّة، لأشجار الرصيف، للكلاب الشاردة، لحاويات القمامة.. وبشوقٍ عارمٍ، لأتوّج متعتي بسماع أغنية «عمّي يا بياع الورد»، ولكن هذه المرة من اللابتوب، مستخدماً شبكة النت التي ربما لم يسمع بها عازف البزق..



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مبادرة الإدارة الذاتية لحلّ الأزمة السورية
- في ذكرى عيد الجلاء، دعوة للاحتفال أيضاً بذكرى استقلال سوريا ...
- لماذا نحن متفائلون؟
- في ذكرى ميلاد عبد الله أوجلان.. قصة حقيقية لعاشِقَين ساهم ال ...
- ملامح هبّة شعبية عارمة لن تُبقي ولن تُذر
- ليست نبوءة لكنها قراءة واقعية
- قراءة عاجلة أوّلية لخبر الصلح الإيراني السعودي
- «عمّو بس طالعني وبشتغل عندك خدامة»
- سبب ارتفاع سعر الصرف في العراق
- الأسباب التي دعت الشعوب الأوربية لتبنّي العلمانية
- إذا لم نتفق الآن على مواجهة المحتل التركي، فمتى؟!
- المفتاح
- الانتحار يتحوّل إلى ظاهرة في سورية
- طرق إسعاد الشعب السوري
- متى ستفهم يا ولدي؟!
- خيانة الوطن.. أسبابها وعلاجها
- يحدث في كل الأنظمة الاستبدادية
- ذكريات رومانسية
- الكوخ
- لا مناص من توحيد الساحات..


المزيد.....




- بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر ...
- دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
- -الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
- -الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
- فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
- أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
- إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
- الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو ...
- -ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان ...
- تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال ...


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - عازف البُزُق