|
رواية للفتيان غابة الذئاب طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7599 - 2023 / 5 / 2 - 00:47
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
غابة الذئاب
طلال حسن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملك
2 ـ الأميرة بيلاسونو
3 ـ المربية
4 ـ الحطاب
5 ـ ابن الحطاب ايليشو
6ـ الصياد
7ـ الحارس
8 ـ الوصيفة
" 1 " ـــــــــــــــــــ
لم يتعلق الملك بأحد ، ولا حتى بأمه أوأبيه أو زوجته ، كما تعلق بطفلته الأميرة بيلاسونو ، وكلما تقدمت بها الأيام والأسابيع والأشهر ، تعلق بها أكثر ، حتى لا يكاد يفارقها النهار بطوله . وها هي الأميرة بيلاسونو ، تبلغ الخامسة من عمرها ، ويتفتح جمالها كما تتفتح الوردة النادرة ، شعر بلون الحنة ، وعينان واسعتان بخضرة الحقول ، وبشرة رقيقة بلون الحنطة المعافاة . وهذا مما زاد تعلق الملك بها من جهة ، وخوفه غير الطبيعي عليها من جهة أخرى ، وأكثر ما كان يخيفه هو المستقبل ، وجهله بهذا المستقبل ، وهذا ما لا يطيقه ، ويريد أن يطلع عليه ويعرفه . ورغم أن الأميرة بيلاسونو مازالت طفلة ، في الخامسة من عمرها ، لكن هذا لم يطمئنه ، فالأطفال يكبرون يوماً بعد يوم ، ويصيروا شباباً تتدفق في دمائهم دماء الحياة ، ، ويتطلعون إلى الآخر ، وهو يريد أن يرى المستقبل ، وخاصة مستقبل ابنته الأميرة بيلاسونو ، وبمن ستتزوج ، مهما كلفه الأمر . وتحدث الملك ، أكثر من مرة ، إلى مربية الأميرة ، عن رغبته هذه ، فقالت له ذات يوم : مولاي ، أعرف امرأة عجوز منجمة ، ترى المستقبل . فقال الملك : أريدها في الحال . وفي الحال ، وتلبية لأمر الملك ، ذهبت المربية برفقة حارسين ، في عربة ملكية ، إلى بيت المنجمة العجوز ، الذي يقع في طرف المدينة . وطرقت المربية باب بيت المنجمة العجوز ، وانتظرت الردّ دون جدوى ، وطرقت الباب ثانية ، ومن غرفة معتمة داخل البيت ، خرجت المنجمة ، وفتحت الباب ، وقالت : خذوني إلى الملك . ونظرت المربية إلى الحارسين ، وكانا مذهولين أكثر منها ، وقالت : هيا إلى القصر . وركبت المنجمة العربة الملكية ، وجلست المربية إلى جانبها ، وسارت العربة نحو القصر ، يرافقها الحارسان ، سيراً على الأقدام . وحين وصلوا القصر ، أخذتها المربية إلى الملك ، ووقفت إلى جانها ، وقالت : مولاي ، المنجمة . وحدق الملك مندهشاً في المنجمة العجوز ، ثم نظر إلى المربية ، وقال : هذه المنجمة لا ترى . وهزت المنجمة العجوز رأسها ، فقالت المربية : بل ترى جيداً ، يا مولاي ، ولكن ليس بعينيها ، وهذا ما يميزها عن الآخرين . وهمهم الملك مفكراً ، ثم قال للمربية ، وهو يحدق في المنجمة العجوز : دعينا وحدنا . وانحنت المربية ، وقالت : أمر مولاي . ثم غادرت الغرفة ، فقال الملك للمنجمة ، : أيتها المنجمة ، أرسلت في طلبك .. وقالت المنجمة العجوز : من أجل الأميرة . وفغر الملك فاه ، ثم قال : يا للعجب ، إنني لم أحدث أحداً في هذا الأمر عدا المربية . فقالت المنجمة العجوز : إنني لا أسمع أحداً ، إنني أرى المستقبل ، وهذا ما تريده ، يا مولاي . وصمت الملك برهة ، راح يتأمل خلالها المنجمة العجوز ، فقالت بنفاد صبر : إنني أسمعك ، يا مولاي ، تفضل ، اسمعني ما تريد . وقال الملك : أريدك أن تعرفي ، أيتها المنجمة ، إن أحداً لا يهمني في هذا العالم سوى ابنتي . وقالت المنجمة العجوز : الحق معك ، فهي ابنتك الوحيدة ، وهي جميلة جداً . ونظر إليها الملك مندهشاً ، وقال : لكنك لم تريها ، بل ولا تستطيعين أن تري أي شيء . وابتسمت المنجمة العجوز ، وقالت : لقد قالت لك المربية ، إنني لا أرى بعينيّ . وتنهد الملك متمتماً : آه . وقالت المنجمة العجوز : إنها ، كما أراها لآن ، صورة من أمها الراحلة . وصمتت لحظة ، ثم قالت : المسكينة ، أمها الطيبة ، لقد رحلت مبكرة , وتركت لك الأميرة طفلة . وقاطعها الملك قائلاً : دعينا من هذا ، أريد أن أرى مستقبل ابنتي . وصمتت المنجمة برهة ، ثم قالت وكأن صوتها ، آت من بعيد : هاهي الأميرة ، إنني أراها ، كما لو كان في الحلم ، شابة ، نضرة ، كما لو كانت وردة تتفتح في مطلع الربيع ، تنتظر فارس الأحلام . ومال الملك عليها ، وقال : أريدها أن تتزوج من أمير شاب ، ذكي ، قويّ ، ووسيم . فقالت المنجمة العجوز : ستتزوج من شاب ذكيّ ، قويّ ، شجاع ، ووسيم .. وصمتت المنجمة العجوز ، فقال الملك : و أمير.. وهزت المنجمة العجوز رأسها ، وقالت : لا ، من ستتزوجه الأميرة ليس أميراً . وقال الملك بحدة : لكني أريه أميراً . فقالت المنجمة العجوز : وهذا ما لا تريده الأقدار . وصمت الملك ، والغضب يغلي في داخله ، فقالت المنجمة العجوز : ستتزوج الأميرة من ابن حطاب. وصرخ الملك : كلا .. ثم قال : وأفضل أن تأكلني الذئاب . وتابعت المنجمة قائلة : وهو الآن طفل ، في عمر الأميرة ، بل ولدا في يوم واحد ، وفي ساعة واحدة ، ولدت ابنتك في القصر الملكي ، وولد هو في كوخ صغير متواضع ، وهو يعيش الآن مع أبيه ، في نفس الكوخ ، وسط الغابة المحاذية للجبل .
" 2 " ــــــــــــــــــ
بعد منتصف النهار ، من نفس اليوم ، ذهب الملك ، بصحبة حارسه ، الذي يعتمد عليه في المهمات الخاصة ، إلى وسط الغابة ، وعثر على كوخ الحطاب ، الذي يكاد يختفي بين أجمة من الأشجار . وترجل الملك عن حصانه ، وكذلك فعل الحارس ، وتقدم الملك من الكوخ ، وطرق الباب ، وفتح الحطاب باب الكوخ ، وما إن رأى الملك ، حتى فغر فاه على سعته ، دون أن يتفوه بكلمة . وحدق الملك فيه ، وقال : أيها الحطاب .. وانحنى الحطاب ، وقال : مولاي . وقال الملك : يبدو أنك تعرفني . فأجاب الحطاب : طبعاً ، يا مولاي ، ومن لا يعرفك ، أنت جلالة الملك . ونظر الملك إلى داخل الكوخ ، باحثاً عما جاء من أجله ، وقال : لم تدعني للدخول . وتنحى الحطاب محرجاً ، وقال : تفضل ، تفضل يا مولاي . ودخل الملك الكوخ ، ووقف الحطاب على مقربة منه ، وقال بصوت مضطرب : كوخي فقير ، ومتواضع جداً ، لا يليق بك ، يا مولاي . ولم يلتفت الملك إليه ، فقد كانت عيناه تتفحصان ضالته ، التي جاء من أجلها ، حقاً وكما قالت المنجمة ، طفل في عمر ابنته الأميرة . وأشار الحطاب إلى الطفل ، وقال : هذا طفلي ايليشو ، يا مولاي ، ونحن نعيش وحدنا في هذا الكوخ ، بعد أن ماتت أمه منذ ثلاث سنوات . يا للعجب ، هذا ما ينطبق على الأميرة بالضبط ، ولو أن الأميرة لا تعيش في كوخ بائس كهذا ، وإنما في قصر ملكي كبير ، يعج بالخدم والحراس . وقال الملك ، وعيناه مازالتا على ايليشو : من المؤسف أن يعيش طفلك في مثل هذا الكوخ . فقال الحطاب : هذه حياتنا ، يا مولاي ، وقد تعودنا عليها ، فأنا حطاب بسيط . والتفت الملك إليه ، وقال : لا ، لن أدعكما في هذا الفقر ، سآخذ الطفل ، وأربيه في القصر ، أما أنت .. ورغم خوف الحطاب من الملك ، إلا أنه نظر إليه ، وقال : لا ، لا يا مولاي . وقال الملك : سأدفع لك ما تريده من مال . وهزّ الحطاب رأسه خائفاً متردداً ، فقال الملك : يمكنك بهذا المال ، أن تتزوج ، ومن يدري فقد ترزق بدل هذا الطفل بأطفال عديدين . ومرة أخرى ، هزّ الحطاب رأسه ، وتمتم : لا .. لا .. إنه طفلي .. ولا أستطيع أن أبيعه . وخرج الملك من الكوخ ، وصفق الباب وراءه ، ثم امتطى حصانه ، وقال للحارس : اتبعني . وعلى الفور ، امتطى الحارس حصانه هو الآخر ، ومضى في أثر الملك . وفي الكوخ ، أخذ الحطاب طفله بين ذراعيه ، وراح يقبله بعينين دامعتين ، وهو يقول : سامحني ، يا طفلي العزيز ، سامحني ، ربما كان الملك سيسعدك أكثر مني ، لكني لا أستطيع أن أبيعك ، لا أستطيع . وتوقف الملك ، بعد أن غاب كوخ الحطاب ، الذي يكاد يختفي في أجمة من الأشجار ، وتوقف الحارس على مقربة منه ، فقال الملك ، أيها الحارس . فقال الحارس : مولاي . وتابع الملك قائلاً : في كوخ الحطاب ذاك ، طفل في الخامسة من عمره .. وصمت الملك ، وبقي الحارس صامتاً ينتظر ، فقال الملك : أريد أن تختطفه سراً .. وقال الحارس : أمر مولاي . وقال الملك : وتلقيه في النهر . ولاذ الحارس بالصمت ، فقال الملك ، وهو ينطلق بحصانه : سأنتظرك هذه الليلة في القصر ، وأنتظر منك أن تخبرني بتنفيذك لهذا الأمر . وفي أول الليل ، أقبل الحارس على الملك ، وكان في انتظاره على أحرّ من الجمر ، وانحنى أمامه ، وقال : مولاي ، لقد نفذت ما أمرتني به . وقال الملك فرحاً : اختطفته وألقيته في النهر ؟ فقال الحارس : إن السمك يتعشى به الليلة .
" 3 " ــــــــــــــــــــ
أوى الملك إلى فراشه ، قبيل منتصف الليل ، بعد أن رأى طفلته الصغيرة بيلاسونو ، تنام مرتاحة في سريرها ، ومربيتها تجلس إلى جانبها . ونام تلك الليل مرتاح البال ، فالطفل الذي تحدثت عنه المنجمة ، ابن الحطاب ايليشو ، وقالت إنه سيتزوج الأميرة ، صار الليلة طعاماً للأسماك . وفي اليوم التالي ، أفاق الملك مرتاحاً ، وتناول فطوره ، ثم أرسل في طلب الحارس ، وجاءه الحارس على الفور ، وانحنى أمامه ، وقال : مولاي . فقال الملك : اذهب إلى المنجمة ، واتني بها . وانحنى الحارس للملك ، وقال : أمر مولاي . وذهب الحارس إلى المنجمة العجوز ، وبعد قليل جاءته طفلته الصغيرة الأميرة بيلاسونو ، ومعها مربيتها ، وأسرعت الطفلة بيلاسونو ، وارتمت في أحضان أبيها ، وهي تهتف : بابا .. باب . وانحنت المربية للملك ، وقالت : طاب صباحك ، يا مولاي . وعانق الملك طفلته ، الأميرة بيلاسونو ، وقال : حبيبتي تريد شيئاً . وقالت المربية : تريد أن تذهب إلى الغابة . وابعد الملك طفلته ، وقال : لا ، أنت مازلتِ صغيرة ، والغابة خطرة . ونظر إلى المربية ، وكأنما يؤنبها ، وقال : خذيها إلى حدائق القصر ، وهي كالغابة . عبست الأميرة الصغيرة بيلاسونو ، وأشاحت عن الملك ، ومضت مبتعدة باتجاه الخارج ، وهي تقول : كلا ، سأعود إلى غرفتي . ونهض الملك ، وناداها بصوت مهادن ، يريد استرضاءها : بنيتي . لكنها مضت إلى الخارج ، دون أن تلتفت إلى أبيها الملك ، وأسرعت المربية في أثرها ، محاولة أن تلحق بها ، وتهدئتها دون جدوى . وهزّ الملك رأسه ، وراح يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً ، الأميرة الصغيرة بيلاسونو شديدة العناد ، كأنها صخرة صلبة ، رغم صغرها ، هكذا كانت أمها ، ولم ترضخ له تماماً حتى رحلت . وجاء الحارس ، ومعه المنجمة العجوز ، وتقدم بها إلى الملك ، وانحنى أمامه ، وقال : مولاي ، ها هي .. المنجمة . ونظر الملك إلى المنجمة ، وقال للحارس : اذهب أنت ، وانتظر في الخارج . وانحنى الحارس للملك ، وقال : أمر مولاي . وخرج الحارس من الغرفة ، وأغلق الباب ، فقالت المنجمة العجوز : جلالة الملك ، أرسلت في طلبي ، وها أنا أمامك ، رهن إشارتك . وقال الملك بنبرة الفرح المنتصر : ما رأيته ، أيتها المنجمة ، وليس من خلال عينيك ، كما تقولين ، لم يكن هو الحقيقة . وقالت المنجمة العجوز : أنا لا أقول إلا ما أراه ، وما قلته هو الحقيقة . وقال الملك بشيء من السخرية : حسن ، حدثيني عن ما ترينه الآن . ولاذت المنجمة العجوز بالصمت لحظة ، ثم قالت : لقد حدثتك عما رأيته ، وما زلت أرى ما ما رأيته في البداية ، لم يتغير منه أي شيء . وقال الملك : ربما ما رأيته في البداية كان صحيحاً ، لكن الأمر تغير الآن . وصمت الملك لحظة ، ثم قال بصوت الواثق المطمئن : ذاك الطفل صار طعاماً للأسماك . ولاذت المنجمة بالصمت ثانية ، وكأنما تنظر في أعماقها ، ثم قالت : أنت تتحدث عن الطفل والأسماك ، ها هو الطفل ، إنني أره الآن ، وهو يجلس في كوخ ، ليس كوخ أبيه ، وهو يأكل سمكة مشوية . وصاح الملك منفعلاً : مستحيل . فقالت المنجمة العجوز : هذا ما أراه ، يا مولاي ، ولك أن تصدقني ، أو لا تصدقني . ونظر الملك إلها ، وقال : أتقولين إن ابن الحطاب ما زال حياً ؟ وهزت المنجمة العجوز رأسها ، وقال : هذا ما أراه الآن ، وما أراه هو الحقيقة . وتراجع الملك قليلاً ، وصاح : أيها الحارس . وعلى الفور ، أقبل الحارس ، وانحنى أمام الملك ، وقال متردداً : مولاي . وحدج الملك الحارس بنظرة غاضبة ، وقال : الويل لك إذا كان ما قلته غير صحيح . وفغر الحارس فاه ، دون أن يعرف بالضبط ، عما يقصده الملك ، وقال : مولاي . فقاطعه الملك غاضباً : خذ هذه المنجمة العجوز ، وعد بها إلى بيتها . ومدّ الحارس يده ، وأمسك يد المنجمة العجوز ، وقال : تعالي معي ، أيتها المنجمة . وخرج الحارس بالمنجمة العجوز من الغرفة ، وأغلق الباب وراءه ، وظل الملك وحده ، تتأكله الحيرة والغضب .
" 4 " ــــــــــــــــــــ
لم يكن الحارس كاذباً ، عندما قال للملك ، بأنه اختطف الطفل من كوخ الحطاب ، وأنه ألقاه في النهر ، ليكون طعاماً للأسماك . ومن جهتها ، كانت المنجمة العجوز كاذبة ، بل صادقة ، عندما قالت للملك ، بأنها ترى ، ليس بعينيها طبعاً ، أن الطفل ابن الحطاب ايليشو ، لم يصر طعاماً للأسماك ، فها هو يجلس في كوخ مع صياد سمك ، ويأكل معه سمكة مشوية . ووقع الملك في حيرة . من يصدق ؟ يصدق الحارس ؟ أم يصدق المنجمة العجوز ؟ لابد أن أحدهما كاذب . إنه يعرف أن حارسه مخلص للغاية ، ودقيق في تنفيذ ما يُكلف به ، ولا يحيد قيد أنملة عما يُؤمر به ، ولهذا فإنه يغدق عليه الهبات والعطايا . والمنجمة العجوز ، لم يعرف عنها الكذب ، ثم لماذا تكذب ؟ لعل هذه اللعينة كاذبة ، أم أن الحارس .. ؟ وظل الملك يقلب الأمور هكذا ، لعله يصل إلى نتيجة ، يطمئن إليها ، لكن دون جدوى ، حتى أغفى ، في ساعة متأخرة من الليل . وعلى الرغم من هذا ، استيقظ الملك مبكراً ، وقبل أن يفكر في تناول طعام الإفطار ، بل وحتى قبل أن يتفقد طفلته ، الأميرة الصغيرة بيلاسونو ، ويطمئن عليها ، استدعى الحارس . وعلى الفور ، جاء الحارس ، وكان خائفاً مضطرباً ، وانحنى أمام الملك ، وقال بصوت مرتعش : طاب صباحك ، يا مولاي . وحدق الملك فيه بعينين ثابتتين ناريتين ، وقال : اسمع أيها الحارس .. وقال الحارس بصوت مضطرب ، وكأنما استشعر الخطر الذي يحيق به : اقسم لك ، يا مولاي ، أنني اختطفت الطفل ، وألقيته في .. وأسكته الملك بإشارة من يده ، وقال : إنني أصدقك ، فأنت تعرف ، أنك لو كذبت عليّ مرة واحدة ، فإنني لن أبقيك لحظة واحدة على سطح الأرض ، وسأرسلك فوراً إلى العالم الأسفل . وطامن الحارس رأسه ، وقال : أعرف ، يا مولاي ، أعرف ، وهذا حق ، وأنا عبد من عبيدك ، افعل بي ما تشاء . وتابع الملك قائلاً : لكني لا أستطيع أن أكذب المنجمة العجوز ، إنها تقول أن الطفل حيّ ، وهو موجود في كوخ صياد سمك ، يقع قريباً من النهر وصمت لحظة ، ثم قال من بين أسنانه : أيها الحارس ، أريد أن أطمئن . واعتدل الحارس ، وقد اطمأن قليلاً على رأسه ، وقال : اطمئن ، يا مولاي ، مرني وستراني كما عهدتني ، سيفاً قاطعاً في يدك . قال الملك : اذهب إلى النهر ، حيث ألقيت طفل الحطاب ، وابحث هناك عن كوخ الصياد . وهز الحارس رأسه ، وتمتم بارتياح واطمئنان : أمرك ، يا مولاي . وتابع الملك قائلاً : وإذا وجدت الكوخ ، راقبه جيداً ، بل ادخله في غياب الصياد ، فإذا لم تجد الطفل ، فعد بسرعة ، وأخبرني بالأمر . وانحنى الحارس ، متأهباً لتنفيذ الأمر ، وقال : أمرك ، يا مولاي . فقال الملك بشيء من الحدة : مهلاً ، مهلاً ، لم أنتهِ من كلامي بعد . فأحنى الحارس رأسه مضطرباً ، وقال : عفواً ، يا مولاي ، عفواً ، عفواً . وقال الملك : ولكن إذا رأيت الطفل ، وهذا أمر مستبعد ، فاخطفه ، ولا ترمه في النهر هذه المرة . وطامن الحارس رأسه ثانية ، لكنه لم يتحرك هذه المرة لتنفيذ الأمر ، بل قال : أمرك ، يا مولاي . وتابع الملك ثانية : بل خذه على حصانك بعيداً ، والقه في غابة الذئاب . والتمعت عينا الحارس ، وقال : غابة الذئاب ، أعرفها ، يا مولاي ، أعرفها . وقال الملك : خذه إلى وسط تلك الغابة ، ولا يهم أن تأكلك تلك الذئاب ، فالمهم عندي أن تخلصني تلك الذئاب من كابوسي الدائم .. طفل الحطاب . ولاذ الحارس بالصمت ، منتظراً الأوامر ، فقال الملك من بين أسنانه : اذهب ولا تعد إلا بعد أن تكون قد نفذت ما أمرتك به . فانحنى الحارس ، وقال : أمرك ، يا مولاي . وخرج الحارس من الغرفة ، وأغلق الباب ، وتنهد الملك ، إنه لم يرتح تماماً ، فهو يريد أن يتأكد ، وبأسرع وقت ممكن . أين الحقيقة ؟ الحارس ، هل كذب عليه ؟ أم أن المنجمة العجوز كانت الكاذبة ؟ والطفل نفسه ، هل صار حقاً طعاماً للأسماك ؟ أم أنه كان فعلاً ، وهذا أمر مستحيل ، يأكل سمكة مشوية في كوخ صياد السمك ؟ ومن حق الملك أن يحتار ، فمن أين له أن يعلم ، أن صياد السمك ، رأى الحارس يلقي طفلاً صغيراً في النهر ، وكان يصيد السمك وسط النهر بقاربه ، فأسرع إلى الطفل ، وأنقذه من الغرق ، وأخذه إلى كوخه ، ثم شوى سمكة كبيرة ، ووضعها أمامه ، وقال له : كل يا صغيري ، يبدو أنك جائع .
" 5 " ــــــــــــــــــــ
قصد الحارس ، في نفس اليوم ، موضع النهر ، الذي ألقى فيه الطفل ابن الحطاب ايليشو ، ليكون طعاماً للأسماك ، وبذلك يتخلص منه الملك ، وينام مطمئناً مرتاح البال ، وتسلل إلى محيط الموضع ، وبحث عن كوخ الصياد ، حتى وجده . وكمن بين الأحراش الكثيفة ، على مقربة من الكوخ ، وراحت عيناه المدربتان ، تجوسان بين الكوخ وما جاوره من أحراش ، حتى وصلتا إلى النهر . ومن بعيد ، وفي وسط النهر ، لمح الحارس الصياد في قاربه ، مستغرقاً في رمي شباكه في النهر ، ليصطاد ما يتيسر له من السمك . ونهض الحارس بهدوء ، وتلفت حوله بحذر شديد ، وتسلل إلى الكوخ ، وكله ثقة بأنه لن يجد الطفل ، ابن الحطاب ايليشو وكيف يمكن أن يجده ، وقد ألقاه بنفسه في النهر ، وصار طعاماً للأسماك ؟ وتوقف على مقربة من الكوخ ، وتلفت حوله بحذر أشد ، وأنصت جيداً ، وخمن أن صياد السمك هذا ، يعيش وحده في الكوخ ، إذ لم يرَ أثراً لزوجة أو أولاد أو أي شخص آخر . ودفع الحارس باب الكوخ ، وفوجىء بما لم يكن يتوقعه ، نعم ، الطفل ابن الحطاب ايليشو نفسه ، الذي ألقاه البارحة في النهر ، يغط نائماً في فراش الصياد ، يا للعجب ، أهذا أمر ممكن ؟ جنّ جنون الحارس ، ولم يعرف كيف حدث ذلك ، وأنى له أن يعرف ، أن صياد السمك ، هو من أنقذ طفل الحطاب ، وجاء به إلى كوخه ؟ ومهما يكن من أمر ، فالطفل موجود ، لم تأكله أسماك النهر ، ولابد والحال هذه من تنفيذ أوامر الملك ، وإلا فالويل له ، إن الملك سيرسله على الفور ، وبدون تردد ، إلى العالم الأسفل . وأفاق الطفل ، وفتح عينيه ، وحين رأى الحارس ، يمدّ يديه الضخمتين نحوه ،هبّ مذعوراً ، وصاح بأعلى صوته : بابا .. بابا . فرفعه الحارس من الفراش ، وكمم فمه بإحدى يديه ، وقال : لا تخف ، سآخذك إلى بابا . وخرج الحارس من كوخ الصياد ، حاملاً الطفل بين ذراعيه ، وانطلق مسرعاً إلى الموضع ، الذي ربط فيه الحصان ، وهو يتلفت حوله ، وسرعان ما امتطى الحصان ، والطفل بين ذراعيه ، وانطلق هذه المرة مسرعا نحو .. غابة الذئاب . وعند منتصف النهار ، عاد الصياد فرحاً إلى كوخه ، وهو يحمل ما اصطاده من سمك ، وصاح من الباحة : ايليشو ، تعال لقد اصطدت لك سمكاً ، سأشوي لك بعضه ، فأنت على ما يبدو تحب السمك . لم يأته ردّ ، ومن أين يأتيه الرد ، والطفل ليس في الكوخ ، بل بين يدي الحارس ، الذي كان ينطلق على جواده نحو .. غابة الذئاب . أيعقل أن الطفل مازال نائماً ؟ من يدري ، واندفع الصياد إلى داخل الكوخ ، وإذا الفراش خال ، وتلفت حوله وقلبه يخفق قلقاً ، لا أثر للطفل ، وألقى السمك جانباً ، وخرج من الكوخ ، وبحث عن الطفل في كلّ مكان ، دون جدوى . وفي القصر ، كان الملك ينتظر . تناول فطوره شارداً ، حتى إنه لم يعرف ماذا تناول ، وراح يتجول في غرف القصر وقاعاته وممراته ، على غير هدى ، يريد أن تمرّ الساعات سريعة ، ويعود الحارس بخبر مفرح ، لكن لا الساعات تريد أن تمرّ سريعاً ، ولا عاد الحارس . وبعد منتصف النهار ، جاءه أحد الطباخين ، وقال : مولاي ، المائدة جاهزة . وقال الملك ، دون أن ينظر إليه : مازال الوقت مبكراً على الغداء . فقال الطباخ : عفو مولاي ، هذا هو موعد غدائك المعتاد كلّ يوم . فصاح به الملك غاضباً : اذهب أيها الأحمق ، لا أريد غداء هذا اليوم . وانحنى الطباخ للملك خائفاً ، وقال بصوت مضطرب : كما تشاء ، يا مولاي . وخرج الطباخ من الغرفة ، وأغلق الباب وراءه ، ولم يهدأ الملك ، حتى عندما نظر من النافذة ، رأى الأميرة ، تلعب في الحديقة مع المربية ، وطبعاً لن يهدأ ، حتى يأتيه الحارس بالخبر اليقين . ولكن .. أين الحارس الآن ؟
" 6 " ــــــــــــــــــــ
لاحت الغابة للفارس من بعيد ، ومن بعيد تناهى إليه عواء قطيع من الذئاب ، كأن عاصفة تقبل راكضة من بعيد ، وتوشك أن تجتاح كلّ من تجده ، وكلّ ما تجده ، في طريقها . وشدّ الفارس أعنة حصانه ، فتوقف الحصان ، وهو يكاد يتهاوى من التعب ، وراح يتلفت حوله بحذر ، الغابة والذئاب من أمامه ، ومن ورائه الملك والعالم الأسفل ، فأين المفرّ ؟ وتقدم الفارس على حصانه ، والطفل بين ذراعيه ، حتى وصل الأشجار الأولى من الغابة ، ورغم العتمة المتزايدة ، وعاصفة عواء الذئاب ، التي يتردد صداها في كلّ مكان ، تقدم نحو الليل والمجهول ، خطوة بعد خطوة .. بعد خطوة . وتوقف الفارس على حصانه ، وتلفت حوله ، والخوف يغزو أعماقه ، ويهصر قلبه ، فالأشجار وكأنها عمالقة مخيفة ، وعاصفة العواء ، تقترب كلها شيئاً فشيئاً منه ، وتكاد تطبق عليه ، من جميع الجهات ، وتكتم أنفاسه ، وتجهز عليه . وشفت العتمة ، وتوضحت الأشياء بعض الشيء ، حين أطلّ القمر من أعلى الأشجار العملاقة ، وفجأة حلّ صمت ، صمت تام مريب ، ترى أين اختفت عاصفة عواء ذئاب الليل ؟ وترجل الفارس عن حصانه متوجساً ، وأنزل الطفل معه ، ووضعه على الأرض ، وتلفت حوله ، والصمت المريب يكاد يخنقه . هنا سيترك الطفل ، ابن الحطاب ايليشو ، ويتركه لمصيره ، ولابد أن الذئاب ستعثر عليه ، عاجلاً أو آجلاً ، وتقوم بما أراده الملك . وتناول حبلاً من خرج على الحصان ، لابد أن يربط الطفل إلى شجرة قريبة ، كي لا يلحق به ، ويسبب له اشكالاً آخر مع الملك ، ولن يرحمه هذه المرة ، وسيرسله مباشرة إلى العالم الأسفل . وأوقف الطفل إلى الشجرة ، والحبل بين يديه ، وقال بصوت يخنقه الخوف : ابقَ هنا ، سيأتي أبوك بعد قليل ، ويأخذك إلى كوخكم . وتطلع الطفل إليه بعينين بريئتين ، لكن لا أثر فيهما للخوف ، وقبل أن يلف الفارس الحبل حوله ، لمح ما يشبه المشاعل الصغيرة تنبثق من العتمة ، وتزحف نحوه ، دون أن تحدث أي صوت . وشهق متراجعاً ، والمشاعل تلتف حوله ، وتضيق عليه الخناق ، فقال بصوت مضطرب يرتعش من الخوف : يا ويلي ، الذئاب . وكادت المشاعل ، المنبثقة من عيون الذئاب ، تطبق عليه ، حين شق الليل والصمت صوت ثاقب آمر يصيح : أيها الذئاب ، توقفوا . وتوقفت الذئاب على مسافة من الفارس والطفل والحصان ، وتقدمت عبر صفوف الذئاب ، دبة ضخمة ، وهي تنظر إلى الطفل ، وتقول : صغيري ، ها أنت أخيراً ، أين كنت ؟ وتقدم أحد الذئاب ، وربما كان قائدها ، واعترض متردداً : أيتها الدبة ، هذا ليس صغيرك . وتقدمت الدبة ، ونحت الفارس بشيء من الخشونة ، واقتربت من الطفل ، وقالت : بل طفلي ، لقد فقدته منذ أيام ، وها أنا أعثر عليه . وقال الذئب : إنه صغير إنسان ، وليس صغير دب ، فكيف يكون صغيرك ؟ وحدقت الدبة فيه مهددة ، وقالت : أنت أعمى ، إنه صغيري ، وها هو قد عاد إليّ . وانتهز الفارس الفرصة ، فوثب فوق حصانه ، وانطلق يشق به الليل والغابة ، لعله ينجو بحياته ، فقالت الدبة : الطفل طفلي ، وهو لي وحدي . ثم أشارت إلى الفارس الهارب ، وأضافت قائلة : أما الفارس وحصانه ، فهما لكم ، انطقوا في أثرهم ، ولكم أن تفعلوا بهما ما تشاءا . وعلى الفور ، هبت عاصفة الذئاب ، وانطلقت في أثر الفارس وحصانه ، لعلها تحظى بوجبة دسمة ، لم تتح لها ما يماثلها ، منذ فترة طويلة . والتفتت الدبة إلى الطفل ، وأخذته بين ذراعيها ، وقالت : الجو بارد هنا ، يا صغيري ، تعال معي إلى الكهف ، وتناول بعض الطعام ، واخلد إلى النوم .
" 7 " ـــــــــــــــــ
على أحرّ من الجمر ، انتظر الملك عودة الفارس ، ليبشره بنهاية ايليشو ابن الحطاب ، ليهدأ باله ، ويطمئن على مستقبل ابنته الأميرة بيلاسونو . ولن يهدأ للملك بال ، ولن يطمئن ، ويعيش مرتاحاً بعض الشيء ، ما دام الطفل ، ايليشو ابن الحطاب ، في مكان ما ، على قيد الحياة . لم يعد الفارس في اليوم التالي . لا بأس في ذلك ، فالمسافة طويلة ، بين القصر وغابة الذئاب ، والمهمة نفسها ليست هينة ، لا بأس ، فليصبر بعض الوقت . لابد أنه سيأتي في اليوم الذي يليه هذا أكيد ، ، وانتظر الملك ، لكن الفارس لم يأتِ في ذلك اليوم ، ولا في الأيام التي تلته . يا للعجب ، ماذا يجري ؟ الويل للحارس إذا .. وراح القلق يتفاقم في أعماق الملك ويقرض صبه شيئاً فشيئاً ، ، ومرّ أسبوع ، ومرت عشرة أيام ، وخمسة عشر يوماً ، حتى نفد صبر الملك ، لابد أن شيئاً غير متوقع قد حدث ، ما العمل ؟ وصاح الملك نافد الصبر : أيها الحارس ؟ وعلى الفور ، دخل الحارس ـ طبعاً لم يكن هذا الحارس هو الذي ذهب إلى غابة الذئاب ـ وانحنى أمام الملك ، وقال : مولاي . فقال الملك : اذهب ، في الحال ، وأتني بتلك المنجمة العجوز ؟ وفغر الحارس فاه ، وتلفت حوله ، وقال : الآن ! وقال الملك من بين أسنانه : الآن . فقال الحارس خائفاً متردداً : مولاي .. نحن في منتصف الليل . وصاح الملك فيه غاضباً : أيها الأحمق ، اذهب في الحال ، واتني بالمنجمة العجوز وإلا أرسلتك فوراً إلى العالم الأسفل . وفي الحال ، تراجع الحارس مذعوراً ، وهو يتمتم : أمر مولاي .. أمر مولاي . ومضى الحارس ، ومعه حارس آخر ، يحمل مشعلاً في يده ، ورغم أن الليل قد انتصف ، وأن المنجمة كانت مستغرقة في النوم ، كأي إنسان سويّ في المملكة ، إلا أن الحارسان راحا يركضان عبر أزقة المدينة المظلمة ، حتى وصلا بيت المنجمة العجوز . وقف الحارس الأول أمام بيتها ، ومدّ يده ،وطرق على الباب . لم تفق المنجمة إلا بعد أن طرق الباب مرة أخرى ، واعتدلت في فراشها ، أهي واهمة أم أنّ .. ، وطرق الباب مرة أخرى ، فنهضت متحاملة على نفسها ، وفتحت الباب ، وقالت : نعم . فمال الحارس الأول عليها ، وقال : أيتها المنجمة ، جلالة الملك يريدك .. في الحال . وهزت المنجمة العجوز رأسها ، وقالت : انتظرا لحظة ، الجو بارد ، سأرتدي معطفي ، وأعود إليكما . ودخلت المنجمة العجوز ، فقال الحارس الثاني ، حامل المشعل : عجباً ، لم أنطق بكلمة واحدة ، فكيف عرفت بوجودي ؟ فردّ الحارس قائلاً : لا عجب ، إنها المنجمة . وعادت المنجمة العجوز ، وقد ارتدت معطفها ، وقالت : هيا ، خذاني إلى الملك . وأخذ الحارسان المنجمة العجوز إلى القصر ، ودخل الحارس الأول بها على الملك ، وانحنى أمامه ، وقال : مولاي ، هذه هي المنجمة . فأشار الملك له أن يخرج ، وهو يحدق في المنجمة العجوز ، وخرج الحارس ، وأغلق الباب وراءه ، فتململت المنجمة العجوز ، وقالت : نعم ، يا مولاي ، ها أنا أمامك ، في منتصف الليل . وقال الملك : أريد أن أنام مرتاحاً . وقالت المنجمة العجوز : مولاي ، أتريدني أن أقول الحقيقة أم أكذب عليك . وقال الملك من بين أسنانه : أريد أن أرتاح . وقالت المنجمة العجوز : ما أراه ، يا مولاي ، لم يرحك ، وأخشى أن لا يريحك . واقترب الملك منها ، وفحّ في وجهها كما تفح الأفعى الجائعة في وجه طائر : الطفل ايليشو ، ابن الحطاب والحارس ، قولي لي أين هما الآن ؟ وتنهدت المنجمة العجوز ، وقالت : نسيت الحصان المسكين ، يا مولاي . وتساءل الملك : الحصان ! فقالت المنجمة العجوز : الحصان الذي امتطاه الحارس ، حين مضى لتنفيذ مهمته . وقال الملك من بين أسنانه : دعيني من الحصان الآن ، أريد الطفل والحارس . وصمتت المنجمة برهة ، كتم الملك خلالها أنفاسه منتظراً .. ثم قالت المنجمة : الحارس والحصان توزعتهما الذئاب .. وهما يدوران الآن نتفاً في أمعائهم . وتنهد الملك بشيء من الارتياح ، وقال : لابد أن الطفل ، ابن الحطاب اللعين ايليشو يدور معهم ، في تلك الأمعاء ، أليس كذلك ؟ فردت المنجمة العجوز : لا ، يا مولاي ؟ وشهق الملك :لا ! وقالت المنجمة العجوز : لا ، إنه ليس مع الفارس والحصان . وتساءل الملك ، وقلبه يكاد يتوقف : ليس معهما في .. وصاح : أين هو إذن ؟ فردت المنجمة العجوز قائلة : مولاي ، ها هو الطفل ايليشو ، ابن الحطاب ، إنني أره يغط في نوم عميق ، في أحضان .. الدبة .
" 8 " ــــــــــــــــــــ
ضاق العالم ، على سهته ، بالملك ، فهاهي الأيام والأسابيع والأشهر تمرّ ، وابنته الأميرة تكبر ، وتزدادا إزهاراً وتألقاً ، وتفوح منها عطور الشباب ، ويحوم حوله الفراش والنحل . ويجن الملك غيظاً وغضباً ، ولا يقرّ له قرار ، ويلعن المنجمة العجوز ، بل ويلعن الأقدار نفسها ، أكلّ هذا الجمال ، ابنته الأميرة بيلاسونو ، تكون لابن الحطاب ، تباً للعالم ، والويل له . لابد من الفتك بايليشو ، ابن الحطاب ، مهما كان الثمن ، ومهما كانت النتائج وإلا فإن بنوءة المنجمة العجوز تحققت ، وهذا ما لا يطيقه . وأرسل الملك أشرس الشقاة إلى غابة الذئاب ، لعلهم يصلون إلى الطفل ايليشو ، ابن الحطاب ، ويفتكون به ، ويشفون غليله منه ، ولكن هيهات . ويذهب الحراس ، ويغيبون ، ويطول غيابهم ، وكلما استدعى الملك المنجمة العجوز ، وسألها عن مصيرهم قالت له : إنني أراهم الآن ، ليس بعينيّ طبعاً ، يدورون نتفاً في أمعاء الذئاب . وأشار له وزيره مرة قائلاً : مولاي ، احرق الغابة ، احرقها وسترتاح . والتمعت عينا الملك ، وقال : أحرق الغابة ! فتابع الوزير قائلاً : نع ، أحرقها ، فتحترق الذئاب والدبة ، وكذلك يحترق ايليشو ، ابن الحطاب . إنها فكرة جهنمية ، هذا ما قاله الملك في نفسه ، وعلى الفور ، أرسل عدة شقاة ، انتهوا جميعهم إلى أمعاء الذئاب ، عدا شقي واحد أسعفه الحظ في إشعال عدة أشجار متفرقة ، تقع في مدخل الغابة . ومن سوء حظ هذا الشقي ، ومن سوء حظ الملك بالذات ، أن النار لم تدم طويلاً ، ولم تمتد ألسنتها إلى الأشجار القريبة ، فقد رأتها الغيوم من بعيد ، وهي كما نعرف صديقة الأشجار ، فأسرعت إليها ، وأغرقتها بوابل من مياه الأمطار ، حتى أطفأتها . والآن ما العمل ؟ لابد من المنجمة ، وهل بقي له " عمل " غيرها ؟ وتهز المنجمة رأسها ، وتقول له ، ما تقوله دائماً : أنا منجمة ، يا مولاي ، أرى فقط ، وأقول ما أراه ، لا أكثر ولا أقل . ورغم أن المنجمة العجوز ، لم تستطع أن تقدم له شيئاً يذكر ، يساعده على التخلص من ابن الحطاب ، إلا أنه ازداد تمسكاً بها ، والتحدث إليها . وكان يدعوها إليه ، في فترات متقاربة ، ولا يهمه أن يكون ذلك صباحاً ، أو عند منتصف النهار ، بل وحتى بعد منتصف الليل . وتردد عليه ما يثير غيظه وغضبه ، من أن ابن الحطاب ينمو ويكبر ، محاطاً بالذئاب ، التي تحيطه برعايتها وكأنه واحد منها ، أما الدبة فإنها تحبه ، وترعاه كما لو كانت أمه . ولحاجته المستمرة للمنجمة العجوز ، اقترح عليها الملك أن تترك بيتها الخرب ، وتأتي لتعيش قريباً منه ، في غرفة داخل القصر ، معززة مكرمة . وتهز المنجمة العجوز رأسها ، وتقول : لا ، لا يا مولاي ، لا أريد إلا بيتي . واقترح الملك عليها ، كبديل للعيش معه في القصر ، قائلاً : سأبني لك قصراً صغراً ، جميلاً ، قريباً من قصري الملكي . ومرة أخرى ، هزت المنجمة العجوز رأسها ، وقالت : لا يا مولاي ، بيتي ولا أريد غيره . وهكذا بقيت المنجمة العجوز في بيتها ، لكن الملك بقي على اتصاله بها ، يطلب منها باستمرار ، أن تحدثه عن ايليشو ابن الحطاب ، فتعيد عليه ما تقوله دائماً ، من أنه ينمو ويكبر ، وكأنه يترعرع بين أمه الدبة ، وأعمامه وأخواله من الذئاب . وبين فترة وأخرى ، كان الملك يسأل المنجمة العجوز متوجساً ، عن ابنته الأميرة ، وبمن ستتزوج . وتجيبه المنجمة العجوز دائماً : ما رأيته في البداية ، يا مولاي ، ما زلت أراه . وينتفض الملك ، كلّ مرة ، غيظاً وغضباً ، ويصيح : تباً لهذه الرؤية ، مستحيل ، لن تتزوج الأميرة إلا من أمير ، ابن ملك ، له مكانته . ودائماً ما كانت المنجمة العجوز ، تلوذ بالصمت ، وما أن ينتهي الملك من صياحه ، حتى تستأذن منه ، وتمضي عائدة إلى بيتها . وخلال هذه المدة ، لفت نظر الأميرة ، وهي تنمو وتكبر ، وتتقدم مزدهرة إلى الشباب ، اهتمام أبيها بالمنجمة العجوز ، وترددها المستمر عليه ، فأخذت تتسقط الأخبار من مربيتها خاصة ، وحين نما إليها أن الأمر يتعلق بشاب ، وسيم ، شجاع ، وقوي ، ازداد اهتمامها بالأمر ، حتى قررت ذات يوم ، أن تلتقي بالمنجمة العجوز ، ومما زاد من اهتمامها هذا ، ما بلغها عن المنجمة العجوز ، من أنها مريضة جداً ، وأنها قد لا تعيش طويلاً . وذات ليلة ، والمربية تساعدها على التهيؤ للنوم ، قالت الأميرة : علمت أن المنجمة العجوز مريضة جداً . فقالت المربية : إنها امرأة عجوز ، ربما تجاوزت الثمانين من عمرها . وقالت الأميرة : أريد أن أزورها . بدا الخوف على المربية ، وقالت : مولاتي . فقالت الأميرة بإصرار : سأزورها .. ولاذت المربية بالصمت ، فقالت الأميرة ، وهي تتمدد في فراشها : غداً سنزورها . وطامنت المربية رأسها ، وقالت : أمر مولاتي .
" 9 " ـــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، وقبيل المساء بقليل ، أخذت المربية الأميرة بيلاسونو سراً إلى بيت المنجمة العجوز ، وتوقفتا على مقربة من البيت ، وتلفتت المربية حولها ، ثم تقدمت من الباب وطرقته عدة طرقات . ووقفتا تنتظران ، وطال انتظارهما ، فقالت الأميرة : اطرقيه مرة أخرى . وطرقت المربية الباب ثانية ، وبشكل أقوى ، ومن الداخل ، جاءهما هذه المرة ، صوت المنجمة العجوز : ادخلا ، الباب مفتوح . ونظرت الأميرة بيلاسونو مندهشة إلى المربية ، وتساءلت : ترى كيف عرفت إننا اثنتان ؟ فقالت المربية : إنها المنجمة ، يا مولاتي . ودفعت الباب ، فانفتح قليلاً ، والتفتت المربية إلى الأميرة ، وقالت : تفضلي ، يا مولاتي . ودخلت الأميرة بيلاسونو، ودخلت المربية في إثرها ، وأغلقت الباب ، وجاءهما صوت المنجمة من الغرفة المظلمة : تعالا ، إنني هنا . وتقدمت الأميرة بيلاسونو مترددة ، والمربية تسير على مقربة منها ، ووقفت بباب الغرفة ، فقالت المنجمة العجوز : أهلاً بالأميرة . وصمتت لحظة ، وكأنها تلتقط أنفاسها ، ثم قالت : عفواً ، لم أخرج لاستقبالك ، فأنا كما ترين ، مريضة . ورمقت الأميرة بيلاسونو المربية بنظرة خاطفة ، ثم قالت للمنجمة العجوز : أتمنى لك الشفاء العاجل ، يا سيدتي . وتطلعت المنجمة العجوز إليها ، وكأنها تتأملها ، وقالت : ما أجملك أيتها الأميرة ، أنت الآن زهرة ريانة متفتحة ، تحوم حولها الفراشات والنحل والزنابير . وقالت الأميرة مترددة : سيدتي ، جئت أزوركِ أولاً ، فقد علمت أنك مريضة .. فقالت المنجمة العجوز : أشكركِ . وتابعت الأميرة بيلاسونو قائلة : ثم إنني أردت أن أسألك عن .. وقبل أن تتم الأميرة بيلاسونو كلامها ، فقالت المنجمة العجوز : أعرف عمّ تريدين أن تسأليني ، يا أميرتي الأميرة . وأشارت بيدها الهزيلة ، وتابعت قائلة : تعالي اجلسي قبالتي ، ولتبقَ مربيتك عند الباب . ونظرت الأميرة إلى المربية ، فتراجعت هذه صامتة ، ووقفت عند الباب ، وجلست الأميرة قبالة المنجمة العجوز ، فقالت الأخيرة : انتظرتك منذ فترة ، فأنا مريضة ، وأردت أن أراك ، قبل أن يوافيني الأجل ، وأرحل عن هذا العالم . ونظرت الأميرة إليها متأثرة ، وقالت : اطمئني ، سأرسل لك طبيب القصر ، ليعالجك . وابتسمت المنجمة العجوز ، وقالت : لم يعد ينفعني أي طبيب ، أشكرك . وصمتت لحظة ، ثم قالت : اسمعيني ، يا أميرتي ، منذ فترة طويلة ، وكنتِ ما تزالين طفلة ، ربما في حوالي الخامسة من عمركِ ، استدعاني أبيك الملك ، وطلب مني أن أنظر في أيامك القادمة ، وهذا ما فعلته ، وأخبرته وقتها بما رأيت . وصمتت المنجمة العجوز ثانية ، ثم قالت : ثار أبوك الملك ، وغضب مني ، لكني قلت له ، إنني أقول ما أراه ، ولن أقول ما لا أراه . وقالت الأميرة بيلاسونو : لقد سمعت نتفاً مما رأيته ، ليتك تخبريني بحقيقة ما رأيته بالضبط . وصمتت المنجمة العجوز لحظة ، ثم قالت : ما رأيته ، وما زلت أراه ، أن في حياتك شاباً وسيماً ، قوياً ، شجاعاً ، لم تريه من قبل ، ولم يرك حتى الآن ، وهو ابن حطاب ، يعيش الآن في الغابة ، مع دبة ، وسط الذئاب ، هذا الشاب وسيكون زوجك . وصمتت المنجمة العجوز ، وهي تلهث ، وتكاد تتهاوى على الفراش ، فمالت المربية على الأميرة بيلاسونو ، وقالت : مولاتي . لم تلتفت الأميرة إلى المربية ، وانحنت على المنجمة العجوز ، وقالت : سيدتي ، أنت متعبة ، ليتك تتمددين في فراشك ، لعلك ترتاحين . وتمددت المنجمة العجوز في فراشها ، وقالت بصوت واهن متعب : إنني مرتاحة الآن ، فقد جئتِ يا بيلاسونو كما تمنيت ، وأخبرتك بما رأيته حولك وأراه ، وأصارحك ، أن هذا هو أجمل وأنبل ما رأيته في حياتي ، أتمنى لكما حياة سعيدة . وأغمضت المنجمة العجوز عينيها ، وبدا وكأنها تغفو ، و تستغرق في النوم ، فنهضت الأميرة بيلاسونو ، وخرجت من الغرفة ، وهي تشير للمربية أن تتبعها ، وسرعان ما خرجتا من بيت المنجمة العجوز ، ومضتا عائدتين إلى القصر .
" 10 " ـــــــــــــــــــ
ماتت المنجمة العجوز . وحزنت عليها الأميرة ، رغم إنها لم ترها ، في حياتها ، إلا مرة واحدة . وحزنت عليها المربية ، ليس لحزن الأميرة فقط ، بل لأنها في داخلها ، كانت تكن لها الإعجاب والمحبة ، دون أن تعرف لماذا . أما الملك ، فقد صدم لموتها ، وكيف لا يصدم ، وقد انتهى ، وإلى النهاية ، مصدره الوحيد لمعرفة أحوال عدوه الأول .. ايليشو ابن الحطاب ؟ وتفاقم يوماً بعد يوم ، خوف الملك وقلقه ، فالأميرة تكبر وتتفتح وتزداد جمالاً وجاذبية ، ولابد من تزويجها ، قبل أن تتحقق نبوءة المنجمة العجوز . لكن كيف ؟ هذا هو السؤال . وجاءه ما تراءى له ، أنه هو الحل السحري ، فقد وصلته دعوة من ملك المملكة المجاورة ، التي تقع خلف غابة الذئاب ، ولهذا الملك العجوز سبعة أولاد ، الواحد أفضل من الآخر ، ولابد أن أحدهم يمكن أن يكون زوجاً لابنته الأميرة بيلاسونو . وعلى الفور ، لبى الملك الدعوة ، وانطلق إلى المملكة المجاورة ، التي تقع خلف غابة الذئاب ، يرافقه أكثر من عشرين فارساً ، محملاّ بالهدايا الثمينة . ولم يسلك الملك ومرافقوه الفرسان طريق غابة الذئاب ، وإلا لكانوا جميعهم ، ومعهم خيولهم طبعاً ، طعاماّ سائغاً للذئاب ، بل سلكوا طريقاً ، يلتف حول الغابة ، صحيح أن هذا الطريق طويل بعض الشيء ، لكنه آمن ، قلما يصله ذئب واحد ، اللهم إلا ايليشو ابن الحطاب ، وهو كما نعرف ليس ذئباً ، وأن كان يعيش بين الذئاب . وفي ذلك اليوم ، ولعلها صدفة ، أو ربما هذا ما رسمه القدر ، تسلل ابن الحطاب من الغابة ، بدون علم الدبة والذئاب ، إلى خارج الغابة ، وهذا ما كان يفعله بين حين وآخر ، يراقب فيه ، عن بعد ، وبحذر شديد ، الحطابين والصيادين والمسافرين ، ويرى بينهم فتيات ونساء وحتى أطفال صغار ، وهذا ما كان يفرحه ، ويدغدغ رغبة دفينة في أعماقه ، إلى عالم البشر ، الذي لا يذكر منه إلا القليل . ومن بعيد رأى مجموعة من الفرسان مقبلين ، وفي مقدمتهم شيخ يرتدي ملابس فاخرة ، وبدل أن يبتعد عن طريق القادمين كالعادة ، ظلّ واقفاً على جانب الطريق ، ينظر إليهم ، وخاصة إلى الشيخ ، الذي جذبه إليه حصانه الأبيض المتواثب ، وملابسه الفاخرة المزركشة ، التي لم يرَ ما يشبهها من قبل . ورآه الشيخ ، وهو طبعاً الملك نفسه ، فتوقف مندهشاً ، وتوقف خلفه فرسانه ، الذين يزيدون عن العشرين ، وتطلع ملياً إليه ، ثم تساءل : ترى من يكون هذا الشاب الغريب الهيئة ؟ وتقدم قائد الحرس خطوات ، وقال للملك : لا نعرف ، يا مولاي ، لكن يبدو أنه شاب مسالم . وأشار الملك لابن الغابة ، أن تعال . وتلفت ابن الغابة حوله ، فأشار الملك له ثانية ، وقال بصوت مرتفع بعض الشيء : أيها الشاب ، تعال ، لا تخف . وبدل أن يهرب ايليشو ابن الحطاب ، وهذا ما كان يفعله غالباً ، اقترب من الملك ، وتوقف على مقربة منه ، وحدق الملك فيه ملياً ، وقال بنبرة طيبة : أتعرفني أيها الشاب ؟ وهز ابن الحطاب رأسه بمعنى : نعم . فقال الملك ، وهو مازال يحدق فيه : هذا ما خمنته . وصمت الملك برهة ، ثم قال : يبدو أنك لست من المدينة ، أو القرى القريبة منها . ومرة أخرى ، هزّ ابن الحطاب رأسه ، لكن هذه المرة بمعنى : نعم . وسأله الملك : من أين أنت إذن ؟ فأشار ابن الحطاب إلى الغابة ، وقال بلغة أقرب إلى لغة الأطفال : من هنا . ونظر الملك إلى الغابة البعيدة بعض الشيء ، وقال : هذا مستحيل ، فتلك الغابة تعج بالذئاب الشرسة المفترسة ، ولا يمكن أن يسلم إنسان مثلك من فتكها . فقال ابن الحطاب : إنها لا تؤذيني ، فأنا أعيش معها منذ طفولتي . والتمعت عينا الملك ، لكنه تمالك نفسه ، ثم قال : لابد أن أحدهم كان يحميك في البداية . فهز ابن الحطاب رأسه ، وقال : نعم ، الدبة كانت تحميني ، ومازالت ، وهي أمي . وتخايلت ابتسامة مسمومة على شفتي الملك ، وقال في نفسه : " آه ، إنه ابن الحطاب ، حانت النهاية إذن ، وسأبطل نبوءة المنجمة العجوز . ومال الملك على ابن الحطاب ، وقال : اسمع ، يا بنيّ ، أنا ملك هذه المملكة ، وأنت ستكون ضيفي ، لكني سأغيب عن المملكة بضعة أيام ، سأعطيك رسالة إلى وزيري ، ليقوم بالواجب تجاهك حتى أعود . ولاذ ابن الغابة بالصمت ، لا يعرف بالضبط ماذا يقول أو يفعل ، فقال الملك : هذا شرف لا يحظى به إلا القلة في مملكتي ، وأنت واحد من هذه القلة . ابتسم ابن الحطاب فرحاً ، وقال : أشكرك ، لكني لا أعرف الطريق . واعتدل الملك فوق حصانه ، وقد بدا الارتياح على محياه ، وقال : اطمئن ، لن أدعك تذهب وحدك ، بل سيأخذك إلى الوزير في قصري ، أحد حراسي الشجعان . وصمت لحظة ، ثم قال ، وقد اختفت ابتسامته هذه المرة : بعد أن أزودك برسالة مني ، تسلمه إلى الوزير ، ما إن تصل القصر ، لكي يقوم بالواجب .
" 11 " ـــــــــــــــــــــ
قبيل المغرب بقليل ، وصل الحارس وابن الحطاب القصر ، ومعهما رسالة الملك ، إلى وزيره ، وليس فيها سوى كلمة واحدة . ووقع نظر الأميرة بيلاسونو عليهما ، وكانت تجلس في الحديقة مع مربيتها ، وعلى الفور ، جذب ابن الحطاب نظرها ، فتسمرت عيناها في وجهه ، وحاولت أن تتذكر أين رأته ، دون جدوى . ودون أن ترفع الأميرة بيلاسونو نظرها عن ابن الحطاب ، قالت للمربية : أيتها المربية ، أسرعي ، ونادي هذا الحارس والشاب الذي يرافقه . ونظرت المربية إلى الحارس وابن الحطاب ، وقالت : أمر مولاتي . ومضت المربية إلى الحارس وايليشو ابن الحطاب ، وتحدثت إليهما ، وسرعان ما أقبل ثلاثتهم على الأميرة بيلاسونو ، وانحنى الفارس أمامها ، وقال : طاب مساؤك ، يا مولاتي . ونظرت الأميرة بيلاسونو إلى ابن الحطاب ، وقالت للحارس : ماذا معك ؟ فردّ الحارس قائلاً : رسالة من جلالة الملك ، إلى الوزير ، يا مولاتي . ومدت الأميرة يدها ، وقالت : أرني إياها . وقال الحارس متردداً : إنها للوزير ، يا مولاتي . وحدجته الأميرة بنظرة قاسية ، فقدم لها الحارس الرسالة ، وهو يقول : عفواً مولاتي ، تفضلي . وأخذت الأميرة الرسالة ، وأشارت للمربية والحارس أن يبتعدا ، فابتعدا على الفور ، ووقفا جانباً ، وبقيت الأميرة وحدها مع ايليشو ابن الحطاب ، ورسالة الملك إلى الوزير ، في يدها . ونظرت الأميرة إلى ابن الحطاب ، ثم قالت : يبدو لي أنني رأيتك ، ربما أكثر من مرة ، لكن أين ؟ هذا ما أتمنى أن أعرفه . وتطلع ايليشو ابن الحطاب إليها ، وقال : أنا أيضاً رأيتكِ ، مرات عديدة . وتطلعت الأميرة بيلاسونو إليه متسائلة ، فتابع قائلاً : قرب النبع ، وسط غابة الذئاب ، على ضوء القمر . وفكرت الأميرة ملياً ، ثم قالت : لكني لم أذهب يوماً إلى غابة الذئاب . ونظر إليها ابن الحطاب ، وقال مبتسماً : لعلي رأيتك في الحلم ، كما رأيتني . وهزت الأميرة رأسها ، نعم إنه هو ، الشاب نفسه ، الذي حدثتها عنه المنجمة العجوز ، لقد رأته فعلاً ، وكما قال ، في الحلم . ونظرت الأميرة بيلاسونو إلى الرسالة ، فقال ابن الحطاب : رآني الملك ، خارج غابة الذئاب ، وتحدثت إليه ، دون أن أعرفه ، فأعطى الحارس هذه الرسالة ، وأمره أن يقدمني مع الرسالة إلى الوزير . وفتحت الأميرة الرسالة ، إنها من أبيها الملك فعلاً ، وهو يأمر الوزير فيها ، على طريقه ، بكلمة واحدة هي " زجه " أي زجه في السجن . وهزت الأميرة رأسها ، ثم قالت لايليشو ابن الحطاب ، وهي تمضي إلى داخل القصر : انتظرني هنا لحظة ، سأعود حالاً . ودخلت الأميرة القصر ، على عجل ، ثم مضت إلى غرفتها ، وأضافت إلى كلمة الرسالة حرفاً واحداً ، ثم أسرعت عائدة إلى ايليشو ابن الحطاب ، وأشارت للمربية والحارس ، أن تعالا . وجاءت المربية ، والحارس في إثرها ، وقدمت الأميرة الرسالة ملفوفة إلى الحارس ، وقالت : الوزير في الداخل ، خذ الرسالة وكذلك هذا الشاب ، وقدمهما ، كما أمرك الملك ، إلى الوزير . وأخذ الفارس الرسالة ، وانحنى للأميرة ، وقال : أمر مولاتي . ثم التفت إلى ايليشو ابن الحطاب ، وقال بصوت خافت :هيا نذهب إلى الوزير . وذهب الحارس ، ومعه ابن الحطاب ، إلى داخل القصر ، وكما توقعت الأميرة ، أقبل الوزير مسرعاً بعد قليل ، يتبعه الحارس وايليشو ابن الحطاب ، فأشارت لمربيتها ، وقالت : ادخلي القصر . وعلى الفور ، ودون أن تنبس بكلمة ، مضت المربية إلى داخل القصر ، واقترب الوزير مضطرباً من الأميرة ، وقال : مولاتي . وحدقت الأميرة فيه ، وقالت : أراك مضطرباً ، تمالك نفسك ، وأخبرني ما الأمر ؟ فمدّ الوزير يده بالرسالة إلى الأميرة ، وقال : أرجوكِ ، يا مولاتي ، اقرئي هذه الرسالة . وقالت الأميرة ، وهي ما تزال تحدق فيه : يبدو إنك نسيت القراءة ، اقرأها أنت . فقال الوزير ، ويده مازالت ممدودة بالرسالة : أرجوكِ ، يا مولاتي ، اقرئيها بنفسكِ . وأخذت الأميرة الرسالة من يده ، وفتحتها ، ثم قالت : إنها من أبي .. الملك . وقال الوزير : أعرف ، يا مولاتي ، أعرف . وقالت الأميرة : وما أمرك فيها واضح . ولاذ الوزير بالصمت ، وقد اتسعت عيناه ، فنظرت الأميرة إليه ، وقالت : أنت تعرف أين ذهب أبي الملك ولماذا . وهز الوزير رأسه ، دون أن يجرؤ على التفوه بكلمة واحدة ، فقالت الأميرة : أمرك الملك في رسالته قائلاً .. زوجه . واتسعت عينا الوزير أكثر ، فتابعت الأميرة قائلة : وهذا الشاب ، هو ما أرسله أبي إليك مع الرسالة . وصمتت لحظة ، ثم قالت للوزير بنبرة حادة : يبدو أنك شخت ، وبدأ ذكاؤك يخونك . وتمتم الوزير : مولاتي . فقاطعته الأميرة ، وقالت بحزم ، وهي تشير إلى نفسها : زوجه ، أيها الأحمق ، زوجه .
" 12 " ــــــــــــــــــــــ
قفل الملك عائداً إلى مملكته ، بعد أن قضّى بضعة أيام ، في ضيافة ملك المملكة المجاورة ، وطوال هذه المدة ، كان يفكر في الأساس بمصير ايليشو ، ابن الحطاب ، وكيف نفذ الوزير الأمر ، الذي أرسله في رسالة مع أحد الحراس . ورغم ذلك ، فقد كانت رحلة الملك موفقة ، فقد اتفق تقريباً ، مع الملك الذي ضيفه ، أن يعطي ابنته بيلاسونو لأصغر أبناء الملك ، وكان في عمر الأميرة تقريباً ، شريطة أن توافق على الزواج منه . وقد حاول الملك ، أن يقنع نفسه ، قبل أن يقنع ابنته الأميرة بيلاسونو ، بأن هذا الأمير مناسب لها ، صحيح إنه ليس في وسامة الأميرة ، وصحيح أيضاً أنه يبدو متوسط الذكاء ، لكن ، ومهما كان الأمر ، فإنه أمير ، وهذا أمر له أهميته . وصل الملك ، إلى القصر ، وكلّ همه أن يطمئن ، إلى أن الوزير نفذ أمره ، الذي كتبه له في رسالته ، لقد قال له " زجه " ويريد أن يراه قد زجه في السجن فعلاً ، ليتخلص منه فيما بعد ، ويمهد الطريق لمجيء ملك المملكة المجاورة ، ومعه ابنه الصغير ، الأمير المرشح للزواج من الأميرة بيلاسونو . وما إن علم الوزير بمجيء الملك ، حتى أسرع لاستقباله ، وهو قلق متوجس خائف ، وانحنى أمامه قالاً : حمداً للآلهة على سلامتك ، يا مولاي . وحدق الملك فيه ، وقال : أرسلت لك رسالة مع الحارس ، ومعه ايليشو . فقال الوزير : نعم ، يا مولاي ، وصلا ، الرسالة ، وكذلك ايليشو . وقال الملك ، وهو مازال يحدق فيه : المهم أن تكون قد نفذت ما أمرتك به . فقال الوزير : طبعاً ، طبعاً يا مولاي ، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك .. وتنهد الملك ببعض الارتياح ، وقال : حسن ، هذا عهدي بك ، وسأكافئك ، فأنت تستحق المكافأة ، فما فعلته هو حلم من أحلامي .
فقال الوزير ، وهو ينحني للملك ، وإن لم يشعر تماماً بالاطمئنان : عفواً ، يا مولاي ، فأنا خادمك المطيع ، وسأبقى كذلك حتى النهاية . وابتسم الملك له بارتياح ، وقال بصوت فرح : أين هو الآن ؟ ايليشو . فقال الوزير بصوت متردد ، فيه بعض الخوف : في مخدع الأميرة ، يا مولاي . وصرخ الملك : ماذا ! وفي تردد وخوف ، أجاب الوزير بصوت لا يكاد يسمع : في مخدع الأميرة .. وصمت لحظة أمام نظرات الملك النارية ، ثم قال : لقد نفذت ما أرتني به في الرسالة .. وصاح الملك بمنتهى الغضب والانفعال : أيها الأحمق ، أنا أمرتك ب .. وتراجع الوزير مرتعباً ، وهو يقول : اسمح لي أن آتي بالرسالة ، التي أرسلتها لي مع الحارس . ودون أن ينتظر جواباً من الملك ، أسرع إلى مكتبه ، وعاد راكضاً ، وقدم الرسالة إلى الملك ، وقال : هذه هي الرسالة التي أرسلتها لي ، يا مولاي . وفتح الملك الرسالة ، وقرأ ما فيها ، فمال الوزير نحوه ، وقال : الأمر واضح ، يا مولاي . ولاذ الملك بالصمت ، فقال الوزير : قلت لي زوجه ، ، وقالت الأميرة ، أبي يقصد زوجه بي ، فزوجتهما في الحال ، وعمّ الفرح المدينة كلها ، وأقيمت الأفراح والولائم سبعة أيام . ورمى الملك الرسالة ، ووقف جامداً للحظة ، ثم اتجه إلى خارج القصر ، فلحق الوزير به ، وقال : مولاي ، إلى أين ؟ وجمد الوزير مصعوقاً ، حين ردّ الملك قائلاً ، دون أن يتوقف : إلى .. غابة الذئاب .
22 / 8 / 2012
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
-
رواية للفتيان الصحن الطائر
المزيد.....
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|