|
رواية للفتيان عينان في الماء طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7587 - 2023 / 4 / 20 - 00:40
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
عينان في الماء
طلال حسن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نسر الحرب العراف ـ شيخ القبيلة
2 ـ عينان في الماء حفيدته
3 ـ القوس الجميل ابن أخيه
4 ـ الطائر الأزرق صديق القوس الجميل
5 ـ عجل الجاموس الجريح ـ الغريب
6 ـ الحكيم العجوز
7 ـ فأر المسك
8 ـ مربي الخيول العجوز
" 1 " ــــــــــــــــــ مع نهوض الشمس من وراء الأفق ، بدأت الحياة تنهض شيئاً فشيئاً في المخيم ، الذي يتكون من حوالي " 100 " كوخ ، والذي يطل على النهر ، وحوله تمتد أشجار الغابة ، إلى مسافات بعيدة ، تبدو بلا نهاية . ومن كوخ مميز وسط المخيم ، خرج العراف الشيخ " نسر الحرب " ، ورأى بعينيه اللامعتين ، الشبيهتين بعيني صبي في مقتبل العمر ، الحياة تدب في دروب المخيم ، شباباً ورجالاً يتجه بعضهم إلى الغابة لصيد الأرانب والغزلان ، وبعضهم الآخر يتجه إلى النهر لصيد الأسماك وطيور الماء المختلفة . ورفع رأسه الذي يشبه قمة جبل ، يعتمر قبعة من الثلج ، وحلقت عيناه كنسرين فتيين ، فوق الأشجار وقمم الجبال ، وغابات الماضي بغيومها وزهورها وأشواكها ، وأغاني السلام وصيحات الحروب ، و .. وهزّ رأسه المثلج ، هذا خطأ من أخطاء الإله نابا ، لو لم يوجد الحروب ، لكنا نعيش أحراراً سعداء ، في غابة السلام الدائم .. آه . وأفاق الشيخ " نسر الحرب " ، على صوت حفيدته " عينان في الماء " تقترب منه ، وتخاطبه قائلة : جدي . والتفت الشيخ " نسر الحرب " إليها ، وقد أشرقت أساريره ، آه هذه ال .. " عينان في الماء " ، إنها تشبه جدتها " زهرة الجبل " ، لقد رحلت مبكرة ، لكنها عادت إليه بحفيدته " عينان في الماء " وآه من هذه " العينان " . ومدت " عينان في الماء " يدها الصبية ، وهزت يده الشائخة برفق ، وقالت : أفق ، يا جدي ، لقد أشرقت الشمس . وضحك الشيخ " نسر الحرب " ، وقال : كيف لا أفيق ، وإلى جانبي " عينان في الماء " ترشان بشلال من الجمال العطر ؟ وابتسمت " عينان في الماء " ابتسامة فرحة ، وقالت : آه منك ، يا جدي ، أنت دائماً في الماضي ، أفق.. طعام الفطور جاهز ، وضحك الشيخ " نسر الحرب " ، وهو يدخل مع حفيدته " عينان في الماء " إلى الكوخ ، وقال : طعام الماضي لذيذ جداً . وهزت " عينان في الماء " رأسها ، وقالت : طبعاً ، لأنك في الماضي ، كنت تأكل من طعام أعدته جدتي " زهرة الجبل " . وجلس الشيخ " نسر الحرب " إلى السفرة ، وجلست " عينان في الماء " قبالته ، وقال : والآن الطعام لذيذ جداً ، لأنه من صنع يديكِ . ونظرت " عينان في الماء " إليه مبتسمة ، وقد بدأ يأكل ، وقالت : يقولون ، يا جدي ، أنني أشبه جدتي الراحلة كثيراً . وحدق الشيخ " نسر الحرب " فيها ملياً ، ثمّ قال : هذا صحيح ، يا صغيرتي ، أنتِ تشبهينها في أشياء كثيرة ، وخاصة في عينيكِ . وقبل أن ينتهيا من تناول طعام الإفطار ، رفعت " عينان في الماء " رأسها ، إلى جدها الشيخ " نسر الحرب ، وقالت : جدي .. وردّ الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : قولي ، يا زهرتي ، فقولكِ عندي أمر . وتوقفت " عينان في الماء " ، عن تناول طعام الإفطار ، وقالت : القوس الجميلة ، وصديقه الذي لا يفارقه " الطائر الأزرق " يتدربان على ركوب الخيل منذ عدة أيام . ورمقها الشيخ " نسر الحرب " بنظرة سريعة ، وهو مازال يتناول الطعام ، ثم قال : إنهما ، يا صغيرتي ، صبيان . وردت " عينان في الماء " تحاججه قائلة : وأنا صبية ، لا فرق . وغالب الشيخ " نسر الحرب " ابتسامته ، وقال : إنهما يتدربا للصيد و.. والحرب . وقالت " عينان في الماء " بشيء من الانفعال : تباً للحرب ، أنت تكره الحرب ، يا جدي . وتوقف الشيخ " نسر الحرب " عن تناول طعام الإفطار ، وقال : لكن الصيد لابدّ منه ، فنحن نعيش أساساً على الصيد . وصمت فترة ليست قصيرة ، ثم قال بصوت متعب : والحرب نفسها شرّ ، يا صغيرتي ، وأنا أكره هذا الشرّ ، لكن لابدّ من الاستعداد لها ، فقد تُفرض علينا في أية لحظة . وصمت الشيخ " نسر الحرب " ، فتطلعت " عينان في الماء " " إليه ، وقالت : أنا يمكن أن أكون بارعة في الصيد ، هذا ما قلته أنت ، يا جدي . لم يردّ الشيخ " نسر الحرب " عليها بشيء ، ونهض عن السفرة ، وجلس في مكانه ، ثم تناول غليونه ، وملأه بالتبغ ، وأشعله ، وراح يدخن صامتاً ، وعيناه الساطعتان ، يغشاهما الدخان ، وأخيراً ، وضع الغليون جانباً ، وقال : صغيرتي " عينان في الماء " .. ونظرت إليه عينان في الماء " ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع قائلاً : ستكونين بارعة في ركوب الخيل ، سأدعو مربي الخيل العجوز ، ليدربك على الركوب منذ الغد . وأشرق وجه " عينان في الماء " بالفرح ، وقالت بحماس : عرفت أنكَ ستوافق ، يا جدي ، ألف شكر ، وسأكون عند حسن ظنكَ . وفتر حماسها بعض الشيء ، حين تابع الشيخ " نسر الحرب " قائلاً ، ودون أن ينظر إليها : تعرفين حصاني ، إنه حصان هادىء وعاقل ، سترتاحين منه ، وسأطمئن عليكِ .
" 2 " ـــــــــــــــــــ في اليوم التالي ، عند الضحى ، وبعد أن تناولا طعام الإفطار ، قال الشيخ " نسر الحرب " ، لحفيدته " عينان في الماء " : صغيرتي ، مربي الخيل العجوز ، ينتظركِ الآن في الساحة الخلفية وراء الكوخ . ورمقته " عينان في الماء " بزاوية عينيها الداكنتين ، وقالت : الأدق ، يا جدي ، أن تقول ، إن الحصان العجوز ينتظرني . ومدّ الشيخ " نسر الحرب " يده ، ورفع وجهها الفتيّ الجميل ، وقال : هذه هي البداية ، يا صغيرتي ، لا تنسي أنكِ .. وقاطعته " عينان في الماء " قائلة : لا تنسَ ، يا جدي ، أنني " عينان في الماء " ولن أكون أقل من ذلك ، مهما كانت الظروف . ولاذ الشيخ " نسر الحرب " بالصمت مبتسماً ، وقالت " عينان في الماء : سأذهب ، وأبدأ خطوتي الأولى ، وسأصل إلى ما أريده . وضحك الشيخ " نسر الحرب " ، وهو يتابعها بعينيه اللامعتين ، وقال : أنتِ ، يا صغيرتي ، عينان في الماء " التي أريدها . وخرجت " عينان في الماء " من الكوخ ، ومضت إلى الساحة الخلفية ، حيث رأت مربي الخيل العجوز ، يقف إلى جانب الحصان العجوز، وراحت تدور حولهما ، تحدق في الحصان العجوز مرة ، ومرة في مربي الخيول العجوز . وتوقفت أخيراً أمامهما ، وحدقت في مربي الخيل ، وأشارت إلى الحصان العجوز ، وتساءلت : أهذا ما ستعلمني عليه ركوب الخيل ؟ فردّ مربي الخيل العجوز قائلاً : هذا هو حصان الشيخ " نسر الحرب " . فقالت " عينان في الماء " : كان حصانه . فقال مربي الخيول : وسيبقى ، لقد امتطاه في الحرب وفي السلام . وحدقت " عينان في الماء " فيه ملياً ، ثمّ قالت : لا أظن أنكَ تعلمت ركوب الخيل ، على حصان كهذا الحصان العجوز . ولاذ مربي الخيل بالصمت لحظة ، ثم قال : في البداية ، ركبتُ عصا ، ثم حصاناً خشبياً ، صنعته لي جدتي ، وكانت امرأة ماهرة . وصمت مربي الخيول العجوز ، فقالت " عينان في الماء " : ثمّ .. ؟ وتابع مربي الخيول العجوز قائلاً : ثم صرتُ من أشهر الفرسان في قبيلتي ، والآن .. وقد هرمت .. ها أنا أمامك .. أعلمكِ . وأشار إلى الحصان العجوز ، وقال : البداية . وتقدمت " عينان في الماء " من الحصان العجوز ، وتوقفت أمامه مترددة حائرة ، وكأنما تتساءل ، كيف يمكن أن أعتلي هذا الجبل المتداعي ؟ ومدّ مربي الخيول كلتا يديه ، وشبك أصابعه العشرة ، وقال لها : ضعي قدمك فوق كفيّ المتشابكتين ، وسأساعدكِ . ووضعت " عينان في الماء " قدمها فوق كفي مربي الخيول المتشابكتين ، ورفعها بهدوء حتى اعتلت صهوة الحصان العجوز ، ثم قدم لها زمام الحصان ، وقال لها : أمسكي هذا الزمام ، وسأسير بالحصان ببطء ، و .. وستكونين فارسة . وبعد أيام ، فوجىء " القوس الجميل " و " الطائر الأزرق " ، وهما يسيران على حصانيهما ، في أول الغابة ، عند منتصف النهار تقريباً ، ب " عينان في الماء " تسير على صهوة حصان عجوز ، ومربي الخيول العجوز يسير إلى جانبها . وشدت" عينان في الماء " عنان الحصان العجوز ، وأوقفته ، ثم نظرت إليهما ، وهتفت قائلة بصوت مرح : طاب صباحكما . ورمقها الطائر الأزرق " بنظرة سريعة ، وقد احمرّ وجهه ، وردّ قائلاً بصوت خافت مرتبك : طاب .. طاب صباحكِ . وكتم " القوس الجميل " ضحكته ، وتساءل قائلاً : ما هذا يا " عينان في الماء " ؟ وحثت " عينان في الماء " حصانها العجوز ، فتقدم ببطء من الحصانين اللذين يعتليهما " القوس الجميل " و " الطائر الأزرق " ثم سحبت العنان ، وتوقفت بالحصان على مقربة منهما ، وقالت : منذ أيام وأنا أتدرب على ركوب الخيل ، حتى صرت فارسة من فرسان القبيلة . ولاذ " الطائر الأزرق " بالصمت ، وإن بدت السعادة على ملامحه ، ربما لمجرد وجود " عينان في الماء " على مقربة منه ، وابتسم لها " القوس الجميل " ، دون أن يطلق من قوس تعليقاته الضاحكة أي تعليق . ومالت " عينان في الماء " ، من فوق حصانها العجوز ، على " القوس الجميل " ، وقالت متحدية : إذا كنتما فارسين من فرسان القبيلة ، كما تتصوران ، سابقاني هنا غداً ، وستريان بأم أعينكما ، من منّا الفارس الحقيقي . ومرة أخرى لاذ " الطائر الأزرق " بالصمت ، وقلبه يخفق في صدره فرحاً ، بينما ردّ عليها " القوس الجميل " قائلاً ، وهو يشير بعينيه إلى حصانها العجوز : عفواً ، يا " عينان في الماء " ، إنني لا أسابق كبار السن . وشدت " عينان في الماء " العنان بغضب ، واستدارت بحصانها العجوز ، ومضت تسير مبتعدة ، ومربي الخيول يهرول في أثرها ، وهي تقول : ليكن في علمك ، إن هذا الحصان تاريخ ، إنه حصان " نسر الحرب " . وحين ابتعدت " عينان في الماء " ، التفت " الطائر الأزرق " ، وقال " للقوس الجميل " : ليتك راعيت " عينان في الماء " عندما تكلمت معها عن حصانها العجوز . ونظر " القوس الجميل " إليه مبتسماً ، وقال : وليتك رأيتكَ أيها " الطائر الأزرق " عندما تكلمت إليها ، لقد صرت " الطائر الأحمر " .
" 3 " ـــــــــــــــــــ في أول الليل ، دخل " القوس الجميل " على الشيخ " نسر الحرب " ، ورآه يملأ غليونه بالتبغ ، فحياه قائلاً : طاب مساؤكَ ، يا عمي . ووضع " نسر الحرب " غليونه جانباً ، ونظر إلى " القوس الجميل " ، وقال : أهلاً ومرحباً ، أراك وحدك الليلة ، تعال واجلس قرب الموقد . وجلس " القوس الجميل " على مقربة من الموقد ، الذي كانت تشتعل فيه النيران ، وقال : أردت أن أحييك ، وأرى " عينان في الماء " . ورمقه " نسر الحرب " بنظرة سريعة ، تشيع فيها ابتسامة طفيفة ، وقال : لقد رأيتها صباح اليوم في الغابة ، وكانت على حصانها ، ومعها مدربها مربي الخيول . وحدق " القوس الجميل " فيه ، لابدّ أن " عينان في الماء " قد حدثته بما جرى بينهم ، وابتسم " نسر الحرب " ، وقال : قالت لي ، أنها تحدتك أنت وصديقك " الطائر الأزرق " . وحاول " القوس الجميل " أن يبتسم ، لكنه قال : " عينان في الماء " بنت . وضحك " نسر الحرب " ضحكته اللطيفة اللينة ، فنهض " القوس الجميل " ، وقال : إنني أريد أن أراها الآن . ومدّ " نسر الحرب " يده إلى غليونه ، وراح يملأه بالتبغ ، وهو يقول : إنها في غرفتها ، اذهب إليها الآن ، قبل أن تخلد إلى النوم . وخرج " القوس الجميل " من غرفة الشيخ " نسر الحرب " ، وذهب إلى غرفة " عينان في الماء " ، وطرق الباب ، فجاءه الرد : من بالباب ؟ فردّ " القوس الجميل " : أنا .. وعلى الفور ، فتح الباب ، وأطلت " عينان في الماء " ، ونظر " القوس الجميل " إليها ، وقال متردداً : طاب مساؤكِ . فابتسمت " عينان في الماء " له ، وقالت : أهلاً ومرحباً ، تفضل . وتنحت " عينان في الماء " قليلاً ، ودخل " القوس الجميل " ، وهو يقول ، وقد شاع في صوته شيء من الاطمئنان : أخشى أنك تريدين أن تخلدي إلى النوم ، يا " عينان في الماء " . فأغلقت " عينان في الماء " الباب ، وردت قائلة : لا ، الوقت مبكر ، اجلس . وجلس " القوس الجميل " ، وانتظر أن تقول " عينان في الماء " شيئاً ، لكنها بقيت صامتة ، فنظر إليها ، وقال : " عينان في الماء " .. وحدقت " عينان في الماء " فيه ، وقالت : نعم . وتابع " القوس الجميل " قائلاً : غداً ، عند الضحى ، سأتجول في الغابة ، أنا و " الطائر الأزرق " على حصانينا ، تعالي معنا على حصانك . وتساءلت " عينان في الماء " ، دون أن تبتسم : على حصاني .. العجوز . فردّ " القوس الجميل " قائلاً : حصان عمي ، الشيخ " نسر الحرب " . ولاذت " عينان في الماء " بالصمت ، والابتسامة ترفرف على شفتيها ، ثم قالت : يبدو أنك ظننت إنني غضبت من كلماتك عن حصاني . وابتسم " القوس الجميل " ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت " عينان في الماء " قائلة : ربما غضبت للحظة ، هذه حقيقة ، لكن .. مهما يكن ، تعالا غداً ، وسأذهب معكما إلى الغابة . وخرج " القوس الجميل " من غرفة " عينان في الماء " ، وبدل أن يمضي إلى الكوخ ، ويخلد إلى النوم ، عرج على الشيخ " نسر الحرب " ، وإذا هو ما يزال يجلس في مكانه قرب الموقد ، وفي فمه غليونه المشتعل . واعتدل " نسر الحرب " ، ووضع غليونه جانباً ، حين دخل " القوس الجميل " ، وقال له : تعال واجلس معي قليلاً ، يا " القوس الجميل " . وجلس " القوس الجميل " إلى جانب " نسر الحرب " ، وقد لمح الابتسامة ترفرف على شفتيه ، وقال رداً على ابتسامته : لقد رأيتها .. واتسعت ابتسامة الشيخ " نسر الحرب " ، وقال : لابد أنك ارتحت الآن . ورمقه " القوس الجميل " بنظرة سريعة ، وقال : لقد تحدثت إليك ، عندما عادت من الغابة ، يا عمي " نسر الحرب " . وردّ الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : لا ، لم تتحدث إليّ بالتفصيل ، لكنها كانت متأثرة بعض الشيء ، وخمنت أن هناك شيئاً بينكما . وابتسم " القوس الجميل " ، وقال : لقد مازحتها ، وربما أفرطت بعض الشيء ، حول حصانها العجوز ، الذي كانت تمتطيه صباح اليوم . ورمقه " نسر الحرب " بنظرة سريعة ، وقال : ذلك الحصان ، كان حصاني العجوز . واتسعت ابتسامة " القوس الجميل " وقال : أعرف ، يا عمي ، أعرف ذلك . ونهض " القوس الجميل " من مكانه ، قرب الشيخ " نسر الحرب " ، وتابع قائلاً بلهجة مطمئنة : كلّ شيء على ما يرام ، يا عمي ، وغداً سنتجول في الغابة على الخيول ، أنا وصديقي " الطائر الأزرق " ومعنا " عينان في الماء " . ونهض " نسر الحرب " بدوره ، وحدق في " القوس الجميل " ، وقال : " عينان في الماء " فتاة رقيقة ، وحساسة ، على غير ما تبدو ، فترفق بها يا " القوس الجميل " . وابتسم " القوس الجميل ، وقال : اطمئن ، يا عمي " نسر الحرب " وسأدربها فيما بعد بنفسي ، على ركوب الخيل ، حتى أجعل منها فارسة . ثم استدار ، ومضى نحى الخارج ، وهو يقول : تصبح على خير ، يا عمي . فردّ الشيخ " نسر الحرب " ، وهو يعود إلى مكانه : تصبح على خير .
" 4 " ــــــــــــــــــــ ثلاثتهم راحوا يتوغلون في الغابة ، عند ضحى اليوم التالي ، " الطائر الأزرق " على حصانه ، صامت لا يتكلم ، ولا يكاد يتلفت حوله ، و " القوس الجميل " يغرد على حصانه ، مقلداً البلبل على إيقاع الدقات الثابتة لطائر نقار الخشب ، ووسطهم ، على حصانها العجوز ، كانت تسير بهدوء ، وثقة ، " عينان في الماء " . ولاحظت " عينان في الماء " ، أن " القوس الجميل " و " الطائر الأزرق " ، كانا يشدان لجامي حصانيهما الفتيين ، لتتوازن خطاهما النشيطة ، مع خطى حصانها العجوز ، وابتسمت في سرها ، فهذا الأمر ، لابدّ أنه واحدة من توازنات " القوس الجميل " لإرضائها هذا اليوم ، وتعويضها عما حدث يوم أمس . وتوقف " القوس الجميل " عن التغريد كالبلبل ، والتفت إلى " عينان في الماء " ، وقال لها بصوت هادىء : لو تعرفين ، يا " عينان في الماء " ، كم أنتِ محظوظة اليوم . ورفعت " عينان في الماء " ، رأسها المكلل بهالة من الشعر الأسود البراق ، وقالت : ما أعرفه ، يا " القوس الجميل " أنكما أنتما المحظوظان . ورمقها " الطائر الأزرق " بنظرة خاطفة ، لكنه لم يعلق بكلمة واحدة ، ونظر إليها " القوس الجميل " ، وتساءل : ولماذا ، في رأيكِ ، نحن محظوظان ، يا " عينان في الماء ؟ والتفتت إليه " عينان في الماء " ، وتساءلت قائلة : أجبني أولاً ، يا " القوس الجميل " لماذا أنا محضوضة اليوم في رأيكَ ؟ وبنفس الصوت الهادىء ، أجاب " القوس الجميل " : أنت محظوظة ، لأنك أنت من تمتطين اليوم ، حصان عمي الشيخ " نسر الحرب " . ورمقها " الطائر الأزرق " بنظرة خاطفة ، وقال كأنما يحدث نفسه : هذا حق . وهزت " عينان في الماء " رأسها ، المكلل بهالة من الشعر الأسود البراق ، وقالت : نعم ، أنت محق ، أنا محظوظة .. وصمتت لحظة ، ثم قالت بشيء من التفاخر : وأنتما محظوظان ، لأنكما تتجولان في الغابة .. معي .. أنا " عينان في الماء " . وهبط فوقهم ستار من الصمت ، ولم يعد يُسمع في ذلك المكان من الغابة ، سوى وقع حوافر الجياد الثلاثة ، وخيل " للعينان في الماء " ، أن الطائر الأزرق " ، أطال النظر إليها ، ربما أكثر مما كان يفعل سابقاً ، فالتفتت إليه ، وعلى الفور ، هرب بعينيه منها ، وقد تحول ـ كما يقول " القوس الجميل " ـ من طائر أزرق إلى طائر أحمر . وفجأة شدّ " القوس الجميل " عنان حصانه وأوقفه ، وفي اللحظة نفسها ، مدّ يده إلى " عينان في الماء " ، وهو يقول لها بصوت خافت : " عينان في الماء " ، توقفي . وتوقفت " عينان في الماء " ، وقلبها يخفق بشدة ، ومعها توقف بحصانه " الطائر الأزرق " ، وهو يتلفت حوله ، ويصيخ السمع . وتساءلت " عينان في الماء " بصوت خافت ، لا يكاد يُسمع : ما الأمر ؟ وردّ " القوس الجميل " بصوت خافت متوجس ، وهو ما زال يتلفت ، ويصيخ السمع : أصغي جيداً ، يبدو أن هناك من يراقبنا . ورمق " الطائر الأزرق " " القوسَ الجميل " بنظرة سريعة ، وقال بصوت خافت : نعم ، هناك من يتبعنا ، وربما يتربص بنا ، وهو على ما يبدو ، ليس من مخيمنا . وعلى حين غرة ، جفلت الخيول الثلاثة ، وكادت تُسقط من يعتليها ، حين ارتفعت أصوت كائن شرس متوحش ، يندفع مسرعاً بين الأحراش ، وسرعان ما ارتفعت صرخة رجل جريح، وصوت جسد ينسحق بقوة على الأرض . وساد الهدوء ، ولم يعد يُسمع غير أنفاس الخيول الثلاثة المنفعلة ، وصوت أنين رجل متوجع ، آتٍ من بين الأحراش القريبة . وتبادل الثلاثة النظرات القلقة المتوجسة ، وإن كانت " عينان في الماء " تحاول أن تكتم مخاوفها ، وهي فوق حصانها العجوز ، ونظر " القوس الجميل " إليها ، وقال بصوت مرتعش : لا تخافي ، يا " عينان في الماء " ، نحن معكِ . ولكز " الطائر الأزرق " حصانه برفق ، وسار به ببطء وحذر نحو الأحراش ، التي يصدر الأنين المتوجع منها ، وهو يقول بصوت أراده أن يكون هادئاً : ابقيا هنا ، سأذهب وأرَ ما الأمر . وهمّ " القوس الجميل " أن يلكز حصانه ، ويتبع " الطائر الأزرق " وهو يقول : تمهل ، لا تذهب وحدك ، سآتي معك . والتفت " الطائر الأزرق " إليه ، دون أن يتوقف ، وقال : كلا ، ابقَ مع " عينان في الماء " ، لا تتركها وحدها . ودخل " الطائر الأزرق " إلى الأحراش الكثيفة ، وسرعان ما توقف ، وراح يحاول السيطرة على حصانه ، الذي جفل ، وراح يتواثب ويقف على قائمتيه الخلفيتين ، وأخيراً سيطر عليه ، والتفت إلى " القوس الجميل " ، وأشار له بيده ، وقال : تعال انظر . وأسرع " القوس الجميل " على حصانه ، وتبعته " عينان في الماء " ، ومن فوق حصانيهما ، رأيا شاباً أكبر منهم بعدة أعوام ، منطرحاً على الأرض المعشبة ، وقد أثخن بالجراح . وحدق " الطائر الأزرق " فيه غاضباً ، وقال : إنه من الأعداء ، وربما كان يتربص بنا . وقفز عن حصانه ، واستل مديته ، وهمَ بطعن الجريح ، فقفز " القوس الجميل " عن حصانه ، وأمسك يده ، وهو يقول : كلا ، يا " الطائر الأزرق " لا تقتله ، حتى لو كان من الأعداء ، إنه جريح ، لنأخذه إلى عمي الشيخ " نسر الحرب " ، وله أن يقرر مصيره بنفسه .
" 5 " ـــــــــــــــــــ تناهى ضجيج ولغط ، من الخارج إلى الشيخ " نسر الحرب " ، وهو يجلس قرب الموقد ، يدخن غليونه الأول ، وقبل أن ينهض ، دخل عليه " فأر المسك " لاهثاً ، وقال : أيها الشيخ .. ووضع الشيخ " نسر الحرب " غليونه جانباً ، ونهض بهدوء ، وتساءل : ما الأمر ؟ فردّ " فأر المسك " ، وهو ما زال يلهث : جاء من الغابة على الخيل ، " القوس الجميل " و " عينان في الماء " و " الطائر الأزرق " ، ومعهم شاب جريح ، لا يبدو أنه من قومنا . وعلى الفور ، خرج الشيخ " نسر الحرب " من الكوخ ، ووقف على مقربة من المدخل ، ورأى " القوس الجميل " و " عينان في الماء " و " الطائر الأزرق " على خيولهم ، ولاحظ أن " القوس الجميل " يمسك بعنان حصان ، يعتليه شاب جريح ، وقد انحنى بجسده الجريح على عنق الحصان ، وحولهم عدد من سكان المخيم . وتوقف الجميع أمام الشيخ " نسر الحرب " ، فتقدم خطوات ، ثم خاطب الأهلين ، الذين تجمعوا قريباً من الجريح : هيا ، لا أريد أن يبقى أحد هنا ، عودوا إلى أكواخكم . وتراجع الأهلون مبتعدين ، وإن ظلت عيونهم الفضولية تتابع ما يجري ، وترجل كلّ من " القوس الجميل " و " عينان في الماء " و " الطائر الأزرق " عن خيولهم ، ونظر الشيخ " نسر الحرب " إلى الشاب الجريح ، الذي ظلّ فوق حصانه ، وتساءل : ماذا جرى ؟ أخبروني . وأشار " القوس الجميل " إلى الجريح ، وقال : كنا نتجول في الغابة ، ورأيناه ملقى على الأرض ، يكاد يلفظ أنفاسه . واقتربت " عينان في الماء " من الشيخ " نسر الحرب " ، وقالت : يبدو أن خنزيراً ضخماً قد هاجمه ، وكاد يقضي عليه . ومال " الطائر الأزرق " على الشيخ " نسر الحرب " ، وقال له بصوت خافت : إنه من قبيلة الأعداء ، وربما أراد شراً بنا ، قبل أن يفاجئه الخنزير البري ، فلنتخلص منه . ويبدو أن " عينان في الماء " سمعت بعض ما قاله " الطائر الأزرق " ، فاقتربت من الشيخ " نسر الحرب " ، وقالت : جدي ، هذا الشاب جريح ، وحتى لو كان من قبيلة الأعداء حقاً ، فعلينا أن نرعاه ، ونعالج جراحه وإلا مات . واقترب الشيخ " نسر الحرب " من الشاب الجريح ، الذي مازال على حصانه ، وحدق فيه ملياً ، ثم قال له : ما اسمكَ ؟ ورمق الشاب الجريح ، الشيخ " نسر الحرب " ، بنظرة سريعة خابية ، وقال بصوت واهن : اسمي .. " عجل الجاموس " . وحدق الشيخ " نسر الحرب " فيه ، وقال : أيها الشاب ، أنت جريح ، وجراحك على ما يبدو خطيرة ، كن صادقاً معي .. وانتظر الشيخ " نسر الحرب " أن يرد الشاب الجريح بكلمة ، لكن دون جدوى ، فتابع قائلاً : من أين أنت ؟ تكلم . وظل الشاب الجريح معتصماً بالصمت ، فقال الشيخ " نسر الحرب " : أنت جريح ، ولن يؤذيك أحد ، أريد الحقيقة منك . وتأوه الجريح متألماً ، وقال بصوت واهن ، وهو يتهاوى على الأرض : أنا من قبيلة .. ومال " الطائر الأزرق " على الشيخ " نسر الحرب " ، وقال بصوت خافت " أرأيت ، قبيلة أشرس أعدائنا . لم يلتفت الشيخ " نسر الحرب " إليه ، وخاطب " القوس الجميل " قائلاً : احملوا الجريح ، إنه إنسان ، وبحاجة إلى مساعدة ، وضعوه مؤقتاً في غرفة " عينان في الماء" . وعلى الفور ، تعاون " فأر المسك " و " القوس الجميل " و " الطائر الأزرق " على حمل الشاب الجريح " عجل الجاموس " ، وذهبوا به إلى غرفة " عينان في الماء " . وأشار الشيخ " نسر الحرب " ، إلى رجلين من أعوانه ، وقال لهما : تعالا .. واقتربا منه مسرعين ، فخاطبهما قائلاً : اذهبا ، وقفا في غرفة الجريح ، احرساه ، وراقباه كي لا يفرّ دون علمنا. وهزا رأسيهما أن نعم ، ثم أسرعا إلى غرفة " عينان في الماء " حيث وضع الشاب الجريح ، ووقفا قريباً من الباب . وعاد " القوس الجميل " ، ومعه " عينان في الماء " و" الطائر الأرق " ، و" فأر المسك ، وقال للشيخ " نسر الحرب : وضعنا الجريح في " غرفة عينان في الماء " كما طلبت . ومالت " عينان في الماء " على الشيخ " نسر الحرب "، وقالت : جدي ، إن جراحه عميقة ، وبحاجة إلى علاج . فهتف الشيخ " نسر الحرب " : فأر المسك .. وتقدم " فأر المسك " منه ، وقال : نعم . فتابع الشيخ " نسر الحرب قائلاً " : اذهب إلى الحكيم ، وجئني به بسرعة ، هيا انطلق . وانطلق " فأر المسك " ، وهو يقول : في الحال . والتفت الشيخ " نسر الحرب " إلى " القوس الجميل " ، وقال له : إذا جاء الحكيم ، خذه أنت و " الطائر الأزرق " إلى الشاب الجريح ، ليعاينه ، ويعالج جراحه . وصمت لحظة ، ثم قال ، وهو يتجه إلى غرفته : عندما ينتهي الحكيم ، جيؤوني به ، أريد أن أراه ، وأطمئن منه على هذا الشاب الجريح . ولحق " الطائر الأزرق " بالشيخ " نسر الحرب " وقال بصوت خافت : لي رجاء ، يا شيخي .. وتوقف الشيخ " نسر الحرب " ، والتفت إليه ، وقال : تفضل . وتابع " الطائر الأزرق قائلاً " أريد أن أبقى إلى جانب هذا " عجل الجاموس " . ولاذ الشيخ " نسر الحرب " بالصمت ، فتابع " الطائر الأزرق " قائلاً : لا أريد أن أخالفك ، لكني لست مطمئناً إليه . ونظر الشيخ " نسر الحرب " إليه ، وقال قبل أن يمضي إلى غرفته : حسناً ، ابقَ إلى جواره ، ولكن لا تحاول أن تؤذيه .
" 6 " ــــــــــــــــــ عند حوالي العصر ، دخل " القوس الجميل " و" الطائر الأزرق " ، ومعهما دخل الحكيم العجوز ، على الشيخ " نسر الحرب ، الذي نهض من مكانه قرب الموقد ، ورحب بالحكيم قائلاً : أهلاً ومرحباً بحكيمنا العزيز . واقترب الحكيم العجوز منه ، وقال : أهلاً بك شيخنا " نسر الحرب " . وأشار الشيخ " نسر الحرب " للحكيم أن يجلس على مقربة منه ، فجلس الحكيم حيث أشار له الشيخ ، وابتسم قائلاً : أشم رائحة تبغ . وجلس الشيخ " نسر الحرب " ، وأشار للقوس الجميل " و " الطائر الأزرق " بالجلوس ، فجلسا معاً ، وردّ على الحكيم العجوز قائلاً : إنها مناسبة ، لندخن سوية غليوناً من التبغ . وضحك الحكيم العجوز ، بفم شبه أدرد ، وقال : إنني مشتاق لأدخن غليوناً معك . وملأ الشيخ " نسر الحرب " غليونه بالتبغ المعطر ، وأشعله بعود ملتهب من الموقد ، ثم سحب نفساً طويلاً منه ، ونفث من منخريه دخاناً كثيفاً ، وهو يقول : حدثني عن جريحنا الغريب الشاب ، أرجو أن لا تكون جراحه خطيرة . وقدم الغليون للحكيم العجوز ، وهو يقول : تفضل ، يا عزيزي ، دخن . وأخذ الحكيم العجوز الغليون ، ووضع مبسمه في فمه ، وهو يقول : أصارحك يا " نسر الحرب " ، إن جراحه عميقة وخطيرة ، ولو لم يكن شاباً قوي البنيان ، لكان الخنزير قد أزهق روحه . وسحب نفساً طويلاً ، ثم نفث الدخان ، وأعاد الغليون إلى الشيخ " نسر الحرب " ، وتابع قائلاً : لكني سأعالجه ، وأظن أني سأشفيه . وسحب الشيخ " نسر الحرب " نفساً آخر من الغليون ، وأعاده إلى الحكيم العجوز ، وهو ينفث الدخان ويقول : هذا ما أرجوه ، وأريده منك ، أيها الحكيم العجوز ، فهو كما تعرف ضيفي ، ويجب أن أعيده إلى قومه سالماً . وسحب الحكيم العجوز نفساً آخر ، ونفث الدخان ، ثم تحامل على نفسه ونهض ، وهو يقول : لدي مريض ، وعليّ أن أعوده . ونهض الشيخ " نسر الحرب " بدوره ، وهو يقول : أيها الحكيم ، لا تنسَ جريحنا . واتجه الحكيم العجوز إلى الخارج ، وهو يردّ قائلاً : سأشفيه من أجلك ، رغم أنه من قبيلة الأعداء ، ولك أن تتخذ ما تراه مناسباً بشأنه . وردّ الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : لنشفه أولاً ، ثمّ ننظر في أمره ، رافقتك السلامة . وعاد الشيخ " نسر الحرب " للجلوس في مكانه ، ثمّ نظر إلى " القوس الجميل " ، وقال له : لابدّ أن هذا الجريح جائع الآن ، قدموا له شيئاً من الطعام ، فلا فائدة من العلاج بدون طعام . وردّ " القوس الجميل " قائلاً بشيء من الاحتجاج : لقد أعدت " عينان في الماء " بعض الطعام ، وقدمته له بنفسها . وبدا على " الطائر الأزرق " بعض الانزعاج ، ونهض من مكانه ، وخاطب الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : عن إذنك ، سأذهب إلى الغرفة ، التي فيها هذا الجريح الغريب . فنظر إليه الشيخ " نسر الحرب " ، وقال بلهجة تحذير : اذهب ، يا بنيّ ، وأرجو أن تلتزم بما طلبته منك . وقبل أن يخرج " الطائر الأزرق " هزّ رأسه موافقاً ، وقال : نعم . ونظر الشيخ " نسر الحرب " إلى " القوس الجميل " ، وقال : يبدو أن صديقك " الطائر الأزرق " متحمس لما يتخذه من رأي وقرار . " وردّ " القوس الجميل " قائلاً : " الطائر الأزرق " صديق وفيّ مخلص ، وأرى أن بعض ما يراه ، بخصوص الجريح ، فيه شيء من الصحة . ولاذ الشيخ " نسر الحرب " بالصمت ، فتابع " القوس الجميل " قائلاً : لا يجب أن ننسى ، أن هذا الجريح شاب ، غريب ، من قبيلة الأعداء . وردّ الشيخ " نسر الحرب " عليه بقوله : لكن هذا يجب أن لا ينسينا ، يا " القوس الجميل " ، أنه جريح ، وأنه جرح على أرضنا . ونظر " القوس الجميل " إلى " الشيخ " نسر الحرب " وتساءل بلهجة موحية : إنني أتساءل ، ترى ماذا كان يفعل على أرضنا ؟ ولاذ الشيخ " نسر الخرب " بالصمت ، وصمت معه " القوس الجميل " ، عندما أقبلت " عينان في الماء " ، وخاطبت الشيخ " نسر الحرب " قائلة : لم أعرف ، يا جدي ، ما قاله الحكيم العجوز عن ذلك الشاب الجريح . لم يجب الشيخ " نسر الحرب " ، فنظرت " عينان في الماء " إلى " القوس الجميل " فأجابها قائلاً : اطمئني ، يا " عينان في الماء " قال الحكيم العجوز ، إن الجريح سيشفى . ونهض " القوس الجميل " ، واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : لابدّ أن أذهب الآن إلى الكوخ ، إن أمي تنتظرني على أحرّ من الجمر . وتابعته " عينان في الماء " بناظريها حتى خرج ، ثم نظرت إلى الشيخ " نسر الحرب " ، وقالت : ماذا يجري ، يا جدي ؟ وهزّ الشيخ " نسر الحرب " رأسه ، الذي تكلله الثلوج ، وقال : دعينا مما يجري ، تعالي اجلسي إلى جانبي ، ودعيني أرتح قليلاً .
" 7 " ـــــــــــــــــــ انتظر " القوس الجميل " ، أن يمرّ به كالعادة " الطائر الأزرق " ، ليذهبا معاً ككل يوم ، إلى الشيخ " نسر الحرب " فيحييانه ، ويريا إذا كان بحاجة إليهما ، في أمر من الأمور . لكن الشمس ارتفعت في السماء ، ولم يأته " الطائر الأزرق " ، ترى .. ماذا جرى ؟ وليتأكد من حقيقة الأمر ، ذهب إليه في كوخه ، لعله تأخر لسبب من الأسباب القاهرة . وطرق " القوس الجميل " الباب ، وهتف كما يفعل عند كلّ زيارة : " الطائر الأزرق " . وفتح الباب ، وبدل " الطائر الأزرق " ، أطلت أمه العجوز ، ونظرت إليه ، وقالت : أهلاً ومرحباً بنيّ " القوس الجميل " ، تفضل . وردّ " القوس الجميل " عليها قائلاً : أشكركِ ، أرجو أن تنادي لي " الطائر الأزرق " . ونظرت الأم إليه مندهشة ، وقالت : ظننتُ أنك تعرف أين هو ، يا " القوس الجميل " . ولاذ " القوس الجميل " بالصمت مفكراً ، فتابعت الأم قائلة : جاءني مساء البارحة ، وقال لي بأنه سينام عند الشيخ " نسر الحرب " ، ولم يأتِ حتى الآن ، لا أعرف لماذا . ومدّ " القوس الجميل " يده ، وربت على كتفها ، وقال : اطمئني ، سأذهب الآن إلى الشيخ " نسر الحرب " ، وسأراه هناك . وسار " القوس الجميل " مبتعداً ، فهتفت الأم به قائلة : بني " القوس الجميل " ، أخبره أن يأتي للغداء ، وتعال أنت معه . ولوح " القوس الجميل " لها ، دون أن يتوقف ، وقال : سأخبره ، اطمئني ، ولابدّ أن يأتي اليوم ليراك ، إذا لم يكن مشغولاً . وذهب " القوس الجميل " إلى كوخ الشيخ " نسر الحرب " ، وعند مدخل الكوخ ، رأى الرجلين اللذين أوكل لهما الشيخ " نسر الحرب " ، مهمة مرافقة الجريح ، وحراسته ، فاقترب منهما ، وخاطبهما قائلاً " : أراكما تقفان هنا بالباب ، وليس في داخل غرفة الجريح . فردّ الأول قائلاً : كنّا في الغرفة ، لكن " الطائر الأزرق " طلب منّا أن نخرج ، ونقف هنا . وقال الثاني مواصلاً كلام الأول : وخرجنا بناء على طلبه ، ووقفنا هنا بالباب . وهزّ " القوس الجميل " رأسه ، ثم قال : ابقيا هنا ، وراقبا هذا الجريح الغريب جيداً . ودخل " القوس الجميل " على الشيخ " نسر الحرب " ، ورآه يجلس متكئاً قرب الموقد ، يدخن غليونه مفكراً ، فحياه قائلاً : طاب صباحك ، يا عمي " نسر الحرب " . ونفث الشيخ " نسر الحرب " الدخان ، واعتدل في جلسته مبتسماً ، وقال : أهلاً بنيّ .. وصمت لحظة ، ثم تابع قائلاً : الحكيم العجوز كان قبل قليل عند الجريح الغريب ، وعاين جراحه من جديد ، وبدل ضماداته ، وقال إنه أفضل ، وتعجب من سرعة استجابته للعلاج . وسحب الشيخ " نسر الحرب " نفساً جديداً من غليونه ، ثم نفث دخانه ، وقال : لعل الطعام الذي تقدمه له " عينان في الماء " يفعل فعل السحر في جراحه ، ويشفيها بسرعة . وتلفت " القوس الجميل " حوله ، ثم قال : إنني لا أرى " عينان في الماء " ، لابد أنها مشغول في إعداد الطعام للجريح الغريب . وابتسم الشيخ " نسر الحرب " ، وقال : من يدري ، لو كنت مكانه لبقيت أطول فترة ممكنة ، إن هذا الطعام لن يجده في أي مكان آخر . ونظر " القوس الجميل " إليه ، وقال : أريد أن أراه ، هذا الجريح المدلل . وابتسم الشيخ " نسر الحرب " ، وقال : اذهب إليه ، وربما ستجد " الطائر الأزرق " معه في الغرفة ، لا يكاد يفارقه . ومضى " القوس الجميل " إلى غرفة " عينان في الماء " ، ودخل فيها دون أن يطرق الباب ، وإذا الجريح الغريب متمدد في فراشه ، وقد بدا في صحة جيدة ، ونهض " الطائر الأزرق " ، وكان يجلس قبالة الجريح الغريب ، وقال : أهلاً ومرحباً ب " القوس الجميل " . وردّ القوس الجميل " ، وهو يحدق في الجريح الغريب " أهلاً بك " الطائر الأزرق " ، مررت عليك في البيت ، ولم أجدكَ . وردّ " الطائر الأزرق " ، وهو يحدق في الجريح الغريب : لم أذهب البارحة إلى الكوخ ، لقد بقيت هنا ، ويبدو أنني سأبقى إلى فترة طويلة . ورفع " عجل الجاموس " رأسه ، ونظر إلى " الطائر الأزرق ، وقال : يمكنك أن تذهب ، وترتاح في كوخكم ، لن أهرب من هذه الغرفة ، فأنا مرتاح جداً ، ويعجبني طعام " عينان في الماء " . وحدق " الطائر الأزرق " فيه ، وقال وهو يكبح غضبه : لو تعرف ، يا " عجل الجاموس " ، كم أتمنى أن أراك تهرب . ونظر " عجل الجاموس " إليه ، وقال : أعرف . وربما أراد " القوس الجميل " أن يصرف " الطائر الأزرق " عن مواصلة الجدل مع " عجل الجاموس " ، فالتفت إليه ، قال : الطائر الأزرق .. فردّ " الطائر الأزرق " قائلاً : نعم . وقال " القوس الجميل " : طلبت مني أمك ، أن أخبرك بأنها تنتظرك اليوم على الغداء . ورمق " الطائر الأزرق " الجريح الغريب بنظرة خاطفة ، وقال : سأبقى اليوم هنا . فاستدار " القوس الجميل " ومضى نحو الخارج ، وهو يقول : آه منك يا " الطائر الأزرق " ، لقد حرمتني من غداء لذيذ ، إلى اللقاء . فرد " الطائر الأزرق قائلاً " : رافقتك السلامة .
" 8 " ــــــــــــــــــ تناهى إلى " الطائر الأزرق " ، وهو جالس في الغرفة ، يراقب " عجل الجاموس " ، والمساء يقترب بخطواته المشربة بالدماء ، وقع أقدام خفيفة ، تقترب من الغرفة ، عرفها في الحال ، إنها " عينان في الماء " . وبزاوية عينيه ، لمح " عجل الجاموس " تبرق عيناه المتلصصتان ، لقد بدا عليه ، أنه عرف بأنها " عينان في الماء " ، فأسرع إلى باب الغرفة ، وفتحه بسرعة ، نعم إنها هي " عينان في الماء " ، تحمل طبقاً فيه طعام ، فاعترضها قائلاً : أهلاً ومرحباً " عينان في الماء " . وتوقفت " عينان في الماء " مبتسمة ، وطبق الطعام في يدها ، وقالت : تبدو متعباً ، يا " الطائر الأزرق " ، عليك أن ترتاح قليلاً . وحدق " الطائر الأزرق " في طبق الطعام ، فقالت " عينان في الماء " : هذا طعام الجريح الغريب ، لقد حان وقت العشاء . فمدّ " الطائر الأزرق " يده إلى طبق الطعام ، وقال بشيء من الرجاء : أعطيني طبق الطعام ، وسأقدمه للجريح الغريب بدلاً منكِ . وابتسمت " عينان في الماء " ، وقالت : لا يا " الطائر الأزرق " ، لقد أعددت هذا الطعام للجريح الغريب ، وسأقدمه له بنفسي . وحدق " الطائر الأزرق " فيها ، وقال : صدقيني ، يا " عينان في الماء " هذا الجريح الغريب ، لا يستحق منكِ كلّ هذا الجهد . وحدقت " عينان في الماء " فيه لحظة ، وقد غابت ابتسامتها ، ثم استأنفت سيرها ، وطبق الطعام في يدها ، وهي تقول : إنني لا أفهمك أحياناً ، يا " الطائر الأزرق " ، دعني أمرّ . ومرت " عينان في الماء " به ، دون أن يتنحى عن الطريق ، ودلفت إلى الغرفة ، وعلى الفور ، لحق بها " الطائر الأزرق " ، وما إن وقعت عينا " عجل الجاموس " عليها ، حتى اعتدل في فراشه ، فقالت له محيية : طاب مساؤك . وحدق " عجل الجاموس " إليها ، وعيناه تبرقان ، وردّ قائلاً : طاب مساؤكِ ، إنني أتعبكِ يا .. وقاطعه " الطائر الأزرق " ، بشيء من الضيق ، وقال له : كل طعامك ، ولا تطل الكلام . وهزّت " عينان في الماء رأسها ، المكلل بشعر أسود لامع ، وقالت بصوت هادىء : اسمي .. " عينان في الماء " . ومدّ " عجل الجاموس " يده إلى الطبق ، وراح يأكل مما فيه من الطعام ، وهو يقول مبتسماً : اسم جميل جداً ، هذا الاسم لا يطلق في قبيلتي إلا على الفتيات الجميلات كالقمر . وابتسمت " عينان في الماء " ، وقالت : أشكرك ، هذا لطف منكَ . ورمق " عجل الجاموس " بزاوية عينيه " الطائر الأزرق " ، وهو يواصل تناول الطعام من الطبق ، فمال الأخير على " عينان في الماء " وقال : اذهبي أنتِ ، وسآتيك بالطبق . وبدل أن ترد " عينان في الماء " على " الطائر الأزرق " ، نظرت إلى " عجل الجاموس ، وقالت له : بعد أن تفرغ من تناول الطعام ، سيأتي جدي الشيخ " نسر السماء " ليراك ، ويتحدث إليك ، إذا لم تكن متعباً . وازدرد " عجل الجاموس " ما تبقى من الطعام ، وأعاد الطبق ل " عينان في الماء " ، وقال وهو يحدق فيها : أشكرك ، طعام لذيذ . وأخذت " عينان في الماء " الطبق الفارغ ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : أنت مستعد إذن ، سيأتي جدي بعد قليل . وخرجت " عينان في الماء " من الغرفة ، وقد رافقها " الطائر الأزرق " حتى الباب ، ثمّ التفتَ إلى " عجل الجاموس " ، وقال له : كن متحفظاً في كلامك ، عندما تتكلم مع " عينان في الماء " ، إنني أحذرك للمرة الأخيرة . ولاذ " عجل الجاموس " بالصمت ، ثمّ قال بصوت هادىء : لا أظن أنك يمكن أن تحبني ، يوما ما يا " الطائر الأزرق " . فحدق " الطائر الأزرق " فيه ، ثم قال : وهل المفروض أنّ عليّ أنْ أحبك يوما ما ؟ فأطرق " عجل الجاموس " رأسه ، وقال : لا تنس ، أنا ضيف الشيخ " نسر الحرب " . وهمّ " الطائر الأزرق " أن يردّ عليه ، عندما دفع الباب بهدوء ، ودخل الشيخ " نسر الحرب " ، وقال : طاب مساؤكما . وتنحى " الطائر الأزرق " قليلاً ، وقال " بصوت حاول أن يكون هادئاً : طاب مساؤك . وحدق " عجل الجاموس " فيه ، وقال بصوت يصطنع الهدوء : أشكرك ، على طيب ضيافتك ، واهتمامك بصحتي . وحدق الشيخ " نسر الحرب " فيه ، وقال : هذا واجب ، أنت جريح على أرضنا .. وصمت قليلاً ، ثمّ أضاف قائلاً : أنت تتحسن بسرعة ، والحكيم العجوز يقول ، إنك ستتماثل للشفاء خلال أيام قلائل . ولاذ " عجل الجاموس " بالصمت برهة ، وقد بدا عليه الفرح ، وقال : آه حصاني ، لم يكد يفارقني عندما كنت في مخيمنا ، إنني مشتاق إليه . وابتسم الشيخ " نسر الحرب " ، وقال بصوته الهادىء : لا عليك ، حصانك موجود مع حصننا ، ولك أن تأخذه ، وتتجول به ، في محيط المخيم ، أو قرب النهر ، متى ما تتحسن صحتك ، وتقوى على ركوب الخيل . ورمق " عجل الجاموس " بنظرة سريعة " الطائر الأزرق " ، وخاطب الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : لكني قد أهرب إلى قومي . فردّ الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : لست مسجوناً عندنا لتهرب ، أنت حر .
" 9 " ـــــــــــــــــــ كما توقع الحكيم العجوز ، وكما تمنى الشيخ " نسر الحرب " ، وهذا ما تمناه أيضاً ، ولأسباب وأهداف مختلفة ، " القوس الجميل " ، و " الطائر الأزرق " ، بدأ " عجل الجاموس " يتعافى ، وبسرعة لم يتوقعها أحد ، حتى أوشك أن يشفى تماماً ، ويعود إلى ما كان عليه ، قبل أن يداهمه في الغابة الخنزير البريّ الشرس . وعلى هذا الأساس ، طلب الشيخ " نسر الحرب " ، من الرجلين اللذين أوكل إليهما ، أن يقوما بحراسة الجريح الغريب " عجل الجاموس " ، أن يتركا مكانيهما ، ويعودا إلى حياتهما الطبيعية . كما طلب من " الطائر الأزرق " ، الذي بقي طوال هذه المدة ، ملازماً للجريح الغريب " عجل الجاموس " ، دون أن يفارقه لحظة واحدة ، أن يتحلل من مهمته هذه ، ويعود إلى كوخه ، وهذا ما كان أمراً صعباً عليه . لكن الشيخ " نسر الحرب " في الوقت نفسه ، طلب من " القوس الجميل " ، أن يبقى قريباً من " الطائر الأزرق " ، ليخفف من توتره ، ويمنعه من الاعتداء على " عجل الجاموس " ، وإلحاق الأذى به ، لأي سبب من الأسباب. ولم ينسَ ، في النهاية ، أن يدعو إليه " فأر المسك " ، الذي جاءه على الفور ، وقال له : سيدي ، أرسلت في طلبي . ورفع الشيخ " نسر الحرب " إليه عيناه البراقتان ، وقال له : أعرف أن عينيك لا تغفيان .. ومال " فأر المسك " عليه ، وقال : وخاصة عمن تريدني أن لا تفارقه عيناي . فتابع الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : الجريح ، الغريب ، " عجل الجاموس " ، لا أريد هذه الأيام أن يغيب عن عينيك . فقال " فأر المسك " : لن يغيب ، وسأوافيك بما ترى عيناي كلّ يوم . ومدّ الشيخ " نسر الحرب " يده إلى غليونه ، وراح يملأه بالتبغ المعطر ، وخاطب " فأر المسك " قائلاً : انتظر ما تراه ، اذهب . وأشعل الشيخ " نسر الحرب " غليونه ، بعود مشتعل أخذه من الموقد ، وراح يدخن ، ومن خلال الدخان الكثيف ، رأى " عينان في الماء " ، تدخل عليه مبتسمة ، فاعتدل في جلسته ، وقال : " عينان في الماء " ، أهلاً ومرحباً .. وحيته " عينان في الماء " مبتسمة ، وقالت : طاب صباحك ، يا جدي " نسر الحرب " . وتابع الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : تعالي ، واجلسي إلى جانبي . وجاست " عينان في الماء " إلى جانبه ، والغليون في يده ، فمالت عليه مبتسمة ، وقالت : دعني أدخن معك ، ولو قليلاً ، يا جدي . ونفث الشيخ " نسر الحرب " دخان غليونه ، وردّ عليها قائلاً بصوته الهادىء : لا داعي لأن تدخني معي ، اطلبي ما تشائين . فمالت " عينان في الماء " عليه ثانية ، وقالت بنبرة موحية : حصانك العجوز ، يا جدي ، مشتاق للتجول قليلاً في الغابة . فسحب الشيخ " نسر الحرب " نفساً طويلاً من غليونه ، وقال وهو ينفث الدخان : أعرف ، يا " عينان في الماء ، لكن ليس الآن . ولاذت " عينان في الماء " ، ونظرت إليه متسائلة ، فتابع قائلاً : بعد عدة أيام . ونهضت " عينان في الماء " ، وأطلت عليه مبتسمة ، وقالت : هذا وعد . فقال الشيخ " نسر الحرب " : وأنا عند وعدي . وهمت " عينان في الماء " بالخروج ، وهي تقول : بهذه المناسبة ، سأعد أطيب وجبة طعام . وخاطبها الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : " عينان في الماء " .. وتوقفت " عينان في الماء " : وردت قائلة : نعم ، يا جدي ، مرني . وتابع الشيخ " عينان في الماء " قائلاً : دعي " فأر المسك " ، منذ اليوم ، يأخذ الطعام إلى " عجل الجاموس " بدلاً منكِ . ولاذت " عينان في الماء " بالصمت ، وقد اختفت ابتسامتها ، فتابع الشيخ " نسر الحرب " قائلاً بصوته الهادىء : لم يعد الغريب جريحاً ، لقد شفيت جراحه تقريباً . وخرجت " عينان في الماء " ، وبقي الشيخ " نسر الحرب " وحده ، فمدّ يده إلى غليونه ، وراح يدخن ، وغاب في الدخان الكثيف . ويوماً بعد يوم ، كان الشيخ " نسر الحرب " يرى بعيني " فأر المسك " ، تحركات " عجل الجاموس " ، فرآه وهو يطوف يوماً حول المخيم ، ويوماً يتحدث إلى بعض الشيوخ ، ويوماً يسير على حصانه على شاطىء النهر .. وذات يوم ، قال الشيخ " نسر الحرب " " لفأر المسك " : أريد أن يأتيني " عجل الجاموس ، في مساء الغد " . وفي مساء الغد ، أتى " عجل المسك " ، والشيخ " نسر الحرب " يملأ غليونه بالتبغ المعطر ، فحياه قائلاً : طاب مساؤك . وردّ عليه الشيخ " نسر الحرب " ، وهو يشعل الغليون : أهلاً بك ، تفضل اجلس . وجلس " عجل الجاموس " ، والشيخ " نسر الحرب " يدخن غليونه ، وحدق فيه ملياً ، ثم قال : لا شك أنك الآن في صحة وعافية تامة . فقال " عجل الجاموس " : والفضل يعود لك بالذات ، أيها الشيخ الكريم . وتابع الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : لابد أن أهلك قلقون عليك الآن . فهزّ " عجل الجاموس " رأسه ، وقال : نعم ، أنت محق ، وعليّ أن أرحل في أقرب فرصة . ونهض " عجل الجاموس " ، فرفع الشيخ " نسر الحرب ، عينيه البراقتين إليه ، وقال له : هذا حق ، رافقتك السلامة . واستدار " عجل الجاموس " ، وغادر الغرفة ، وأغلق الباب وراءه ، وعاد الشيخ " نسر الحرب " إلى غليونه ، وراح يدخن ، ومن جديد ، راح يغيب في الدخان الكثيف.
" 10 " ـــــــــــــــــــــــ أقبل " فأر المسك " مسرعاً ، على الشيخ " نسر الحرب " ، حوالي منتصف النهار ، وصاح بصوت يبلله القلق والخوف : أيها الشيخ .. ووضع الشيخ " نسر الحرب " غليونه جانباً ، وقد تنهّشه القلق ، وحدق في " فأر المسك " ، وتساءل بصوت بدأ يفقد هدوءه : ما الأمر ؟ وبدل أن يجيب " فأر المسك " ، الشيخ " نسر الحرب " ، صاح ، وهو مازال يلهث قائلاً : " عينان في الماء " .. وهبّ الشيخ " نسر الحرب " من مكانه ، وتساءل خائفاً : " عينان في الماء ! ما لها ؟ تكلم .. وتساءل " فأر المسك " : أهي هنا ؟ فهزّ الشيخ " نسر الحرب " رأسه أن لا ، فقال " فأر المسك " ، وهو يكاد يتأتىء : أخشى أأأنها .. في الغابة .. على حصانها .. ومدّ الشيخ " نسر الحرب " كلتا يديه ، وأطبق على ذراعي " فأر المسك " ، وقال : وماذا يعني ؟ إنها طالما ذهبت إلى الغابة . ولاذ بالصمت لحظة ، ثم تابع كلامه قائلاً : ما أعرفه ، أنها مع مربي الخيول العجوز ، تتدرب في الغابة على ركوب الخيل . وبدا الجزع على " فأر المسك " ، وتأوه متألماً منهاراً ، وتمتم : آه ، يا للويل . وصاح الشيخ " نسر الحرب " بصوت متشنج : ما الأمر ؟ تكلم . فردّ " فأر المسك " قائلاً : عجل الجاموس .. وتمتم الشيخ " نسر الحرب " عجل الجاموس " !
فتابع " فأر المسك " قائلاً : رأيته على حصانه ، يتوغل في الغابة ، وقد بدا على ملامحه ، وكأنه ينوي نية غير طيبة . وتلفت الشيخ " نسر الحرب " ، وكأنه يبحث عمن ينجده ، وهنا أقبل " القوس الجميل " ، فصاح الشيخ " نسر الحرب " كمن يطلب النجدة : " القوس الجميل " .. وأسرع " القوس الجميل " إليه ، وتساءل بلهفة قائلاً : ما الأمر ، يا عمي ؟ ولم يتمالك " فأر المسك " نفسه ، فردّ قائلاً ، قبل أن يتكلم الشيخ " نسر الحرب " : " عينان في الماء " ، أيها " القوس الجميل " .. وصاح " القوس الجميل " : ما بها ؟ فردّ الشيخ " نسر الحرب " قائلاً : إنها في الغابة ، تتدرب على ركوب الخيل ، ومعها مربي الخيل العجوز ، وشوهد " عجل الجاموس " على حصانه هناك ، ويُخشى أن يتعرض لها . ومن غير أن يتفوه " القوس الجميل " بكلمة واحدة ، استدار بسرعة ، وانطلق مهرولاً نحو إلى الاصطبل ، فصاح الشيخ " نسر الحرب " : أين صديقك ، " الطائر الأزرق " ؟ خذه معك . فردّ " القوس الجميل " ، دون أن يتوقف : مررتُ عليه في الكوخ ، فلم أجده ، وتقول أمه ، أنه خرج على حصانه منذ الصباح . ودفع الشيخ " نسر الحرب " " فأر المسك " ، وقال له : أسرع خلف " القوس الجميل " ، واذهب معه إلى الغابة ، واجلبا " عينان في الماء " . وانطلق " فأر المسك مسرعاً ، في إثر " القوس الجميل " ، وهو يصيح : مهلاً ، انتظرني ، سآتي معك إلى الغابة . ومن مكانه قرب مدخل الكوخ ، رأى الشيخ " نسر الحرب " " القوس الجميل " و " فأر المسك " ، ينطلقان على حصانيهما نحو الغابة . وفي الغابة ، كان " الطائر الأزرق ، يتخفى وراء شجرة ضخمة ، بعد أن ترجل عن حصانه ، وأخفاه وسط أجمة قريبة ، وراح يراقب متوجساً " عينان في الماء " ، وهي على حصانها العجوز ، الذي راح يركض بها خبباً ، وسط فسحة بين الأشجار العالية ، ومربي الخيول العجوز يتابعها بعينيه الشائختين ، ويشجعها بكلمات حلوة محبة . ورآها تمرّ بمربي الخيول ، وهي على حصانها ، وهتفت به ضاحكةً : انظر إليّ جيداً ، ماذا ستقول لجدي " نسر الحرب " هذا اليوم ؟ وردّ مربي الخيول عليها ، بصوته الشائخ المبحوح : سأقول له ، أيها الشيخ " نسر الحرب ، إن حفيدتك " عينان في الماء " صارت فارسة ، وهي تستحق حصاناً فتياً ، وليس هذا الحصان ، الذي أكل الزمان عليه وشرب . وهتفت " عينان في الماء " ، وهي تشدّ عنان حصانها العجوز ، ثم تترجل : هذه شهادة منك ، أعتز بها أشد الاعتزاز . ومن بين الأشجار ، رأى " الطائر الجميل " فجأة ، " عجل الجاموس " يندفع على حصانه ، نحو " عينان في الماء " ، وما إن اقترب منها ، حتى رفعها بيديه ، ووضعها أمامه على الحصان ، وهو يصيح : عينان في الماء " ، أنت سبيتي ، وسآخذك إلى قومي ، وستكونين لي . وحاول مربي الخيول العجوز اعتراض" عجل الجاموس " ، لكنه صدمه بحصانه المندفع القوي ، وألقاه مدمى على الأرض . وعلى الفور ، أسرع " الطائر الأزرق " إلى حصانه ، واعتلاه بقفزة واحدة ، وانطلق به كالسهم ، في إثر حصان " عجل الجاموس " . واقترب " الطائر الأزرق " بحصانه ، من حصان " عجل الجاموس " وصاح بأعلى صوته : أيها اللعين ، يا ناكر الجميل ، أوقف حصانك ، وأترك " عينان في الماء " ، وإلا لحقت بك ، ومزقتك بخنجري . والتفت " عجل الجاموس " ، وهو على حصانه ، و" عينان في الماء " بين يديه ، وقبل أن يرد على " الطائر الأزرق " لمح " القوس الجميل " و " فأر المسك " ، يعدوان على حصانيهما في إثره ، لا خلاص إذن ، إنهم الآن ثلاثة . وأبطأ " عجل الجاموس " حصانه ، وأفلت " عينان في الماء " من بين يديه ، وقال لها بنبرات خائفة : انزلي ، انزلي بسرعة ، لا أريدكِ . وألقت " عينان في الماء " نفسها من فوق حصان " عجل الجاموس " ، وحاولت أن تتماسك ، لكنها لم تستطع ، فتهاوت منطرحة على الأرض . وأسرع " الطائر الأزرق " إليها ، وترجل عن حصانه ، وأنهضها عن الأرض ، بينما انطلق " عجل الجاموس " بحصانه بسرعة الريح ، وسرعان ما غاب عن الأنظار . ونفضت " عينان في الماء " الغبار عن ملابسها ، ثم رفعت عينيها إلى " الطائر الأزرق " ، وقالت له : أشكرك ، لولاك لمتّ في الأسر . وأقبل " القوس الجميل " و " فأر المسك " مسرعين على حصانيهما ، وترجلا بسرعة ، وأسرعا إلى " عينان في الماء " ، وقال " القوس الجميل " وهو يلهث : أرجو أنك بخير يا " عينان في الماء " . فردت " عينان في الماء " قائلة : نعم ، إنني بخير كما ترى ، والفضل يعود إلى " الطائر الأزرق " ، لقد أنقذني من هذا الشرير . وقال " فأر المسك " ، وهو يلهث : لنلحق به ، هذا المجرم ، وننزل به القصاص العادل . فردت " عينان في الماء " قائلة : لا .. لا .. لقد أكرمناه ، وثبت أنه لا يستحق ما قدمناه له ، ليذهب إلى قومه ، ولنعد نحن إلى المخيم . ونظرت إلى " الطائر الأزرق " وقالت : أركب حصانك ، وسأركب أنا وراءك . وركب " الطائر الأزرق " حصانه ، وسار في اثر حصاني " القوس الجميل " ، و " فأر المسك " ، " وعينان في الماء تركب وراءه ، وقد احتضنته بذراعيها الدافئين ، ووضعت رأسها ، الذي يكلله شعرها الأسود اللامع ، على ظهره . 9 / 10 / 2021
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
-
رواية للفتيان الصحن الطائر
-
رواية للفتيان اشوميا الز
...
-
رواية للفتيان نداء الانوناكي
-
رواية للفتيان نانوك
-
شبح غابة اتوري رواية للفتيان
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|