|
تأمّلات في التقشف و الزهد
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7582 - 2023 / 4 / 15 - 22:23
المحور:
الادب والفن
عرّف علماء الاجتماع و الاقتصاد التقشف بأنّه : ( مصطلح يشير في علم الاقتصاد إلى السياسة الحكوميّة الرامية إلى خفض الإنفاق ، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال تقليص الخدمات العامة ، في كثير من الأحيان ، تلجأ الحكومات إلى الإجراءات التقشفية بهدف خفض العجز في الموازنة ، وغالبًا ما تترافق خطط التقشف مع زيادة الضرائب . التقشف بالمعنى العام يُقصد به صعوبة العيش وخشونته ، بسبب عدم كفاية حاجيات الإنسان و هو في الاصطلاح السياسي ، برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي ، يستهدف الحد من الإسراف من زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكيّة و تشجيع الادخار ، و العمل على مضاعفة الانتاج ، علاجاً لأزمة اقتصادية ، تمر بها البلاد .) { ويكيبيديا / الموسوعة الحرة } ... فالتقشّف ، إذن ، مصطلح اقتصادي و سياسي ، ماديّ ، براغماتي ( نفعي ) ، غرضه المنفعة العامة . بينا الزهد دافعه روحي أو دينيّ و نفسي . غايته المنفعة الخاصة . إنّ التقشّف له منطلق خارجيّ ، قد تفرضه مصاعب الحياة الاجتماعيّة و الاقتصاديّة ، و يعزّزه الخوف من الوقوع في أزمة الجوع و نقص الموارد أو شحها ، ممّا يهدّد حياة الإنسان بالفناء ، بل و ينشب عن ذلك الخوف نشوب صراعات داميّة بين الأفراد أنفسهم و بين الجماعات المتجاورة ، و قيام حرب ضروس من أجل الاستيلاء على موارد الغذاء . أمّا الزهد ، فقد عرّفه العلماء و الفقهاء ، بأنه { النظر الى الدنيا بعين الزوال ، و هو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف } و قال سفيان النووي : " الزهد في الدنيا قصر الأمل " . و يقال : رجل زهيد العين إذا كان يقنعه القليل ، و رغيب العين إذا كان لا يقنعه إلا الكثير . و زعم البعض أنّ المزهد هو الذي ليس عنده شيء من الدنيا . و هذا تعريف قاصر ، لا يعبّر عن ماهيّة الزهد ، إنّما الزاهد هو من يترفّع قناعة عمّا عنده ، أمّا الذي لا يمتلك شيئا فلا حاجة له في الزهد . و كيف يكون زاهدا مسكين و معدم و مترب ، لا يمتلك قوت يومه ؟ إذن ، فالزهد لا علاقة له بالوفرة الماديّة و الغذائيّة ، و لا علاقة مباشرة له بالفقر أو الغنى ، لأنّ مصدره و منبعه و منطلقه نفسيّ داخليّ بحت . بل هو رياضة نفسيّة يمارسها بعض الناس لغايات في أنفسهم . لقد حرّم الله على عباده الإسراف في استهلاك النعم تبذيرها ، و أمرنا بالتمتّع بها بحكمة و اعتدال . و من أهم الدوافع النفسيّة للزهد ، الإحساس بالقناعة و الإشباع و الارتواء بالنزر القليل من الحاجيات الماديّة ، بل قد تفضي القناعة مثلا إلى عدم الشعور بالجوع المادي ، ممّا ينتج عنه طمانينة نفسيّة ، و ضمور في البطن و خفّة في العقل و نمو في الذكاء و الفطنة ، و راحة في الضمير . قيل : إنّ البطنة تذهب الفطنة . و هذا حكمة في غاية الصحة . فشرّ ما يملأ المرء بطنه . و النفس راغبة إذا رغبتها *** و إن تُرد إلى القليل تقنع . فالزهد لا يعني الامتناع عن ما أحلّه الله لنا من الطيّبات امتناعا كليّا ، فهذا السلوك الامتناعي مخالف للفطرة الإنسانيّة ، و مخالف للعقيدة و الشريعة ، و هو نوع من " التطرّف المعيشي " و التضييق على النفس ، و التجاوز اللامشروع . قال تعالى : " و كُلُوا و اشْربُوا و لا تُسْرفُوا إنّه لاَ يُحبُّ المُسْرفين " { الأعراف / 31 } ، و قوله : " لا تجعل يدك مغلولة إل عنقك و لا تبسطها كل البسط " { الإسراء / 29 } ، و قوله أيضا : " إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين " { الإسراء / 27 } و قوله كذلك : " يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا كلوا من طيبات ما رَزَقناكُم و اشكُرُوا الله إنْ كنتم إياه تَعبدُون " { البقرة / 172 } يلجأ الفرد و الجماعة إلى التقشّف في زمن الأزمات ، جبرا لا اختيارا ، كأزمة الغذاء الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة ، مثل الجفاف أو تعرّض المحاصيل الزراعيّة الاستراتيجيّة إلى جائحة الجراد الأصفر ، او نتيجة الحروب الأهليّة و النزاعات البينيّة . تقوم السلطة الحاكمة ، بتقنين توزيع المواد الغذائيّة بوساطة نظام بطاقات التموين ، و تكتفي بتوزيع المواد الأساسيّة للمحافظة على استمراريّة الحياة . أما المواد المصنّفة في خانة الكماليّات ، فلا تقيم لها وزنا ، فهي خارج النظام الغذائي الاستراتيجي . و في هذه الحالة يشعر الأغنياء و المترفين و المنفقين و المسرفين و المستهلكين و الآكلين كالأنعام بتغيّر مفاجيء في حياتهم اليوميّة ، ممّا يدفعهم إلى الهجرة بحثا عن الرخاء الذي افتقدوه في بيئتهم المأزومة . أمّا الفقراء و المهمّشون ، فلا يطرأ على حياتهم أدنى تغيير ، ما عدا شعورهم بالرضا و القناعة و إيمانهم عدالة السماء . و بالمقابل ، لا تزحزح تلك الأزمات و الجوائح قيد أنملة من الحياة اليوميّة لمن اعتاد على حياة الزهد . فقد أكسبته تلك الرياضة النفسيّة و علّمته كيف يروّض نفسه - التي ألهمها الله الفجور و التقوى – في زمن العسر و اليسر معا . علّمته الحياة أن الصبر ، صبران : صبر على الموجود و صبر على المعدوم ، صبر على المكاره و صبر على المحاسن . لقد استطاع الزاهد أن يقمع شهوة اللذات ، و يقبض على زمامها بقوّة ، لئلا تنفلت ، و يوجّهها . يصبح التقشّف ضرورة اقتصاديّة و معيشيّة و اجتماعية ، في حياة الأفراد و الجماعات لحفظ النسل ، و يأخذ صفة الوازع الأخلاقي ، بشرط أن ينخرط في دواليبه جميع افراد المجتمع ، دون تميّز بين فقيرهم و غنيّهم ، و يتحوّل إلى لون من ألوان التكافل الاجتماعي ، و التعاون على البرّ و التقوى . حينها تتكوّن في المجتمع مشاعر الأخوة و التراحم و التشارك في المنافع و الأضرار ، و تقاسم أعباء الحياة في اليسر و العسر . و بين التقشّف و الزهد علاقة جدليّة ، بالمعنى الفلسفي الاقتصادي الروحي ، أيّ كلّما أدرك الفرد المعنى الحقيقي للزهد - الذي لا يعني تعذيب النفس بحرمانها من ملذّاتها و مشتهياتها التي شرعها الله لها - قال تعالى : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " { المائدة / 87 } . قاده ذلك إلى التقشّف في حياته ، دون بخل و تقتير . فإذا كان الزاهد يشعر براحة النفس و البال ، و يمارس طقوس الزهد بقناعة ، فإنّ المتقشّف لا يبلغ درجة الرضا و الحكمة و التضحيّة و الخدمة الجماعيّة ، إلاّ إذا ساهم - بفعله لا بقوله - في حفظ التوازن النفسي ، و تجسيد الاستقرار و السلم الاجتماعيين .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجهة الفلسفة الغربيّة . إلى أين ؟
-
الظاهرة الحزبيّة في البلاد العربيّة ما لها و ما عليها .
-
امرأة من زمن العمالقة
-
لماذا نكتب ؟ و ماذا نكتب ؟
-
أم الخير
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )
-
ربيع إيكوزيوميّ *
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
-
يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
-
فلسفة الوقت في حياتنا
-
أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
-
التعليم قبل الديمقراطيّة .
-
أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
-
بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
-
أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|