أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - لبيب سلطان - الغزو الاميركي للعراق ـ1















المزيد.....


الغزو الاميركي للعراق ـ1


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 7568 - 2023 / 4 / 1 - 16:48
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


يقوم المحللون الاميركان والغربيين والعرب هذه الايام وبمناسبة الذكرى العشرين بطرح عشرات الدراسات والمئات من المقالات للغزوالذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003 ، والذي ادى للاطاحة المباشرة بالنظام الصدامي الديكتاتوري في العراق. وقام كتابنا المؤدلجون العرب بالنهل منها ترجمة او اقتباسا وطرحها على القراء . ان الباحثين الغربيين ، والاميركان خصوصا، يقيمون هذا الغزو وفق مصالحهم، وهم يقومون بها كالعادة ، خصوصا في تقييم نجاح او فشل سياسات حكوماتهم . ويقومون بالتحليل وفق منظورين احدهما الربح والخسارة يتقويم الجدوى في استخدام اموال دافعي الضرائب في تحقيق الاهداف المرسومة ،وهل حققت الجدوى المطلوبة. ويقيم الثاني التقييم وفق المنظور الاستراتيجي لتحديد عوامل النجاح او الفشل لاستخلاص نتائج تفيدهم مستقبلا من تجاربهم. وهناك ايضا طرحا ايديولوحيا هو اقل صدى وقراء له من الاولين، ويقوم على نقد مؤدلج وموقف مسبق يساري او يميني كل منهم خاضع لمقولاته ومنه ينفر الجمهور منهم. ولكن في جميعها يكون الطرح والتقييم واضحا ،فهو يتم لمخاطبة العقل الغربي وتنمية قدراته ومعرفته ووفق مصالحهم القومية اوالسياسية اولا ، وأقلها الايديولوجية كونها لاتجد لها سوقا في مجتمع مشبع بالليبرالية والطرح الموضوعي الحر.ونجد من يترجم منها للقارئ العربي كل على اهوائه . وما ينشر من عشرات المقالات المترجمة ،نجد ايضا تلك التي يطرحها المؤدلجون العرب ،القوميون خاصة، وهم المدافعين عن النظام الصدامي كونهم يعتبرونه نظاما قوميا مناضلا ضد الصهيونية ، واخرين متمركسين سوفياتيا لا هم لهم سوى سب الامبريالية والاميركية بالذات كمهمة مقدسة لتحرير العالم من الامبريالية، باعتبارهم انها الداء والسبب في كل ماحدث في اوطاننا ، وهي تتطابق فيها مع طروحات السلفية الاسلاموية والميليشياوية الايرانية ، ان الامبريالية الاميركية هي سبب تخلفنا، وهي سبب الفساد، وتخلف الخدمات ، وحتى انعدام الكهرباء. نعم نجد عشرات المقالات لكل هؤلاء المؤدلجين منىالكتاب، ولا نجد ولو بحثا واحدا يطرح قراءة هذا الغزو وتقييمه من وجهة نظر مصالحنا الوطنية، هل اضرنا واين وكيف؟ ، وهل افادنا واين وكيف ؟ وتمنيت لو رايت باحثا عراقيا او عربيا تعلم من الغربيين بطرح الامور من وجهة نظر مصالحنا الوطنية فعلا،كما يطرحها ويقيمها الاميركان مثلا من وجهة نظر مصالحهم الوطنية ، وليس وفق تمرير وتبرير مقولاتهم المؤدلجة حتى في اختيار مقالات يترجموها للقارئ العربي ، فجل ا يسعون اليه دعم ادعائاتهم المؤدلجة ، كأنما يقولوا للقارئ انظر هذا مايقوله الباحثون الامريكان ، وشهد شاهد من اهلها، ومن نفس جامعاتهم ومراكز بحوثهم ،اقرؤوه ومنها تجد كيف اننا محقون في سب وشتم الامبريالية الاميركية . الفرق هنا ان الاميركي يطرح بحوثه وتحليلاته وفق المصالح القومية الاميركية ، وبها فهم يجتهدون ومنها ينقدون اي فشل خاص بسياسة جكوماتهم لمصالح دولهم. وكم تمنيت لو تم نفس الامر مع كتابنا العرب فهم لاينطلقون الا من معاداة الامبريالية والطرح يقوم على اساسه والباقي هى ارقام ومقالات مما ينشره الباحثون الغربيون والاميركان لاقامة الدليل ومن بيتهم . انها الايدولوجيا السلفية الفكرية وفق المقولة الجاهزة والموقف المسبق، ومنه فلا احد يجد في طروحاتهم اية قراءة وطنية موضوعية تقييم وفق مصالحنا مستخدمة حقائق واقعنا والمصلحة الوطنية خارج المقولة المؤدلجة التي قالت لهم : ان سب الامبريالية هو موقف وطني ومصلحة وطنية ، وهذه مقولة كاذبة وسخيفة بحد ذاتها ، فلا السب والشتم للامبريالية ينفعنا في فهم مصالحنا ولا نسب فشلنا ( او فشولاتنا المتكررة ) الى الامبريالية هو ينفعنا ايضا كون الفشل مرتبط بنا اساسا سواء عادينا او صالحنا الامبريالية . ان طلب الموضوعية من كاتب او سياسي مؤدلج هو كأنك تطالب الاعمى بالقراءة ، فالادلجة في العالم العربي طغت على العقل وقراءة الواقع وماتقول به المصلحة الوطنية ، وهناك عشرات الامثلة ليست اخرها ماسمعته مرة في لقاء كان مع احد الماركسيين " انهم ضد الاستثمار الخاص ومع استثمار الدولة في القطاع العام كون الاول سينمي الطبقة البرجوازية والرأسمالية المحلية الجشعة التي ستتحالف مع الامبريالية العالمية ضد مصالح شعبنا" وكما ترون هنا المقولة فوق المصلحة والواقع. والا كيف نفسر مثلا انه لو اراد مستثمر ان يقيم مصنع ادوية لانتاجها ،بدلا من استيرادها ، ان نعتبره انه سيتامر امبرياليا ، فالمصلحة الاولى عند اخينا الماركسي هو محاربة الرأسمال اولا وليست تنمية الاقتصاد ، وهو يعلم بلا شك يعلم ان تفشي الفساد والرشوة في الدولة سيضيف لها مكانا اضافيا في الفساد عندما يطرح ان تصنعه الدولة ، وعند السلفية الاسلاموية مبدأ مماثل يسمونه " أقل الشرين ضررا " وهو ربما يفضل فساد مؤسسة عامة خير من مستثمر خاص يستغل الطبقة العاملة ويخلق برجوازي يتحالف مع الامبريالية . ومنه ينتهي حالنا ان نستورد الحبوب والادوية. وعليه فمقالتي هذه معنونة للجمهور والمثقف الغير مؤدلج للخوض في حوار موضوعي مفيد ، اما المؤدلج المهرج الذي لاهم له سوى سب اميركا والامبريالية ،ان ينتقل لمقالة اخرى تتناسب مع ذوقه ورغباته ، لاني سوف لن اقوم بسب الامبريالية وارجاع فشلنا اليها ، بل اعتبرها واقعا قائما بمصالحه ،كما نحن وشعوبنا واقعا قائما ولنا مصالحنا ، كما واني لا ارجع سبب الفشل في بلداننا اليها بل الينا ،نحن انفسنا،وليس كما تقول مقولاتكم المؤدلجة انها الامبريالية . نحنمن يتحمل المسؤولية عن اوضاعنا ،و لا لوضعها على شماعة خضرة "الامبريالية" ومنه فمفقالتي في تقييم الغزو الاميركي تقوم على وجهة نظر مصالحنا ومسؤولياتنا، كما تقوم مقالاتهم على مصالحهم ومسؤولياتهم، وليس بما تمليه الايديولوجيا عليكم من تحليلات لاثبات مقولات سياسيات مسبقات وجاهزات ميتات سقيمات سأم الناس منها، لاعلاقة لها لا بالواقع ولا الوقائع ولا المصالح الوطنية،بل لصالح تمريرمقولات مؤدلجة اغلبها يرجع لمئة عام ،واصبحت صدأة ، فهي ستالينيةلسوفياتية المنشأ ، دعائية المحتوى ، ولكنها لاتزال تعشعش في عقولكم ، كونها حبيسها.
سأتناول موضوع الغزو وسيكون في ثلاثة فصول ، كل منها يغطي مساحة تساعد في فهم الاخرى ، وطرحي يقوم على تقييم المصالح ، مصالحنا نحن ، ومصالحهم هم ، كما يقوم طرحهم وفق تقييمهم لمصالحهم في الصحف ونشرات مراكز البحوث الغربية ،فطرحهم يمثل همومهم ومصالحهم ، وطرحي يمثل همومي ومصالحنا ، ولا اجد غير ذلك يستحق العناء. وسابدأه من طرحي لفهم الامبريالية لفهم مصالحها لفرز مصالحنا ايضا، فكلانا كائن وقائم موضوعي، ولكل مصالحه ، وهناك حيثما تلتقي كما وهناك حيث تختلف.
1. فهم الامبريالية والغزوات الامبريالية
اجد اهمية في فهم "الامبريالية " كمصطلح لم يجري تعريبه او ترجمته لليوم، وهو مهم قبل الدخول مباشرة في تناول الغزو الاميركي للعراق عام 2003 وذلك لانه يؤسس لفهم هذا الغزو نفسه.
ان مصطلح الامبريالية ، لو قمت بترجمته للعربية لاستخدمت " هي المصالح الامبراطورية العابرة للحدود القومية" ، فلها نفس معنى الامبريالية ،وفي فهمنا العربي اصبح ملاصقا لاميركا فقط ، فيكفي ان تقول الامبريالية العالمية ليفهم منه انها الامريكية، وهو صحيح كونها اكبر دولة عظمى ولها مصالح في كل العالم ، كما هو صحيح لاطلاقه على كافة الامبراطوريات ، وعلى مدى التاريخ . وربما الفرق الذي نلمسه اليوم عن الامس هو ان الدول الكبرى اليوم لايحكمها امبراطورا كالسابق، كالذي كان في روما، او خليفة للمسلمين ، او سلطانا عند العثمانيين ، او قيصرا كما في النمسا وروسيا، جميعها كانت دولا امبريالية وذات نفوذ وامتداد جغرافي ومصالح واسعة خارج حدودها، ومنها فهي دولا امبريالية جميعها ، كما اميركا م وبريطانيا وفرنسا وحتى الاتحاد السوفياتي سابقا، جميعها وفق هذا المفهوم هي دولا امبريالية بانظمة حديثة اصبح يحكمها اما رئيسا منتخبا ديمقراطيا ، اوديكتاتورا منصبا، ولكن من ناحية النفوذ والمصالح جميعها امبريالية ، اي انها تسعى لتوسيع مصالحها من خلال فرض نفوذها خارج حدودها، ولممارسة النفوذ وكسب المصالح وسائل عديدة منها ، غزو عسكري ، استعمار استيطاني ، مساعدات اقتصادية ، كما مارسته الامبرياليات الغربية ، او من خلال غزو فكري ايديولوجي ، اومساعدات اقتصادية وعسكرية او تدخل عسكري مباشر ( كما مارسه السوفيت ). والامثلة والوقائع تدعم ان كل الدول العظمى في الواقع هي دول امبريالية لها مصالح تحاول تحقيقها خارج حدودها، وكل ما تدعيه او تقوم به نابع من مصالحها لتوسيع نفوذها ودون تمييزبين الامبرياليات امريكية او سوفياتية او اسلامية خيرة.

وبلاشك ان الغزوات والحروب التي شنتها الدول الامبريالية محكومة جميعها بمصالحها الامبراطورية دون استثناء . فلا يمكن اعتبار الغزو الاميركي لفيتنام عام 1962 ولافغانستان 2001 ولا الغزو السوفياتي لفنلندا عام 1939 او لافغانستان عام 1979، الا غزواتا امبريالية كونها قامت على مصالح هذه الدول. ومثلهما اتت غزوة نابليون لمصر او غزو بريطانيا للصين والهند، وقبلهما الغزوات الرومانية ، والفتوحات الاسلامية والحروب العثمانية، وقفت وراءها مصالح امبراطورية. ان غزو العراق عام 2003 لايختلف عنها اطلاقا، كما هو غزو بوتين لاوكرانيا اليوم ،الغزو لتوسيع النفوذ ومصالح الدول الامبريالية.

ولكني اجد ضرورة اضافة نقطة اخرى لا يغطيها مصطلح الغزوات والحروب الامبريالية ، وهي مسألة تقييم هذه الحروب من وجهة نظر مصالح الشعوب المغزية ، وليست فقط المصالح الواضحة للدول الغازة . هل جميعها كانت كوارث على الشعوب؟ ام جاءت لبعضها بمنافع؟ ويمكن اقامة تقييم لذلك ، وبالطبع ان هذا التقييم لايغير لا من اهداف ولا مصالح الدول الامبريالية الغازية، كما لايغيير المصطلح نفسه، فالغزوات الامبريالية دوما وقفت ورائها مصالح امبراطورية. ولكن دعنا نفحص ان كانت للشعوب اية فوائد منها ايضا.
تاريخيا سنجد ان حالات الغزو جاءت اغلبها كوارث ونهبا وتدميرا، وفي العصور الحديثة نجد حالات جاءت بفوائد معينة للشعوب المغزية . ويمكن فرز بعض الظواهر التي تساهم في تقييم هذه الغزوات الامبريالية والفوائد التي اتت بها عند دراستها ، التي اثرت في نتائجها ضررا ام نفعا، ومن هذه الظواهر مثلا تحديد طبيعة الغزو ( هل هو غزو استعماري استيطاني، او غزوا مؤقتا لسنوات قليلة للحصول على منطقة نفوذ ) . وهناك ايضا عاملا اخر يأخذ بعين الاعتبار حضارة الدولة الغازية لمعرفة الاثار الحضارية التي تتركها في المجتمعات المغزية ( قارن مثلا اثار ونتائج حضارة المغول عند استيلاء هولاكو على بغداد عام 1258 م ، مع اثار ونتائج حضارة الانكليز عند فتح بغداد عام 2017 ) . وعامل اخر له علاقة بصراع القوى الامبريالية نفسها عندما تدورعلى ارض الشعوب المغزية ( مثل الصراع بين فرنسا وبريطانيا في غزو نابليون لمصر ) ، وربما هناك ظواهر وعوامل اخرى غيرها ساهمت في التاثير على نتائج الغزوات: كوارث وتدمير وسلب ونهب ، او فوائد ومعارف من اهمها التاثيرات الحضارية او الفوائد الاقتصادية او الثقافية التي جنتها الشعوب من الغزوات.
ساستعرض بعض النتائج من خلال ثلاثة امثلة لغزوات اعتقد شخصيا انها اتت بفوائد على منطقتنا العربية ، وكذلك امثلة من خارجها ، ولن اتناول جانب غزوات الكوارث لانها اما معروفة ، واما ان الكوارث هي تتحدث عن نفسها ، كالحرب الفيتنامية والحرب الاستعمارية ضد الشعب الجزائري مثلا. فالامثلة التي اسوقها تثبت ان ليست جميع الغزوات الامبريالية اتت بكوارث، بل جلب بعضها منافع ، ومعرفة ظروف واسباب حصول منافع او كوارث، فهو يساعدنا في فهم وتقييم غزو اميركا للعراق عام 2003 .
لنأخذ اولها ، غزو نابليون لمصر والذي استمر اكثر من ثلاثة سنوات ( 1798- 1801) هل يمكن اعتباره كارثة حلت بمصر ، كما هي كارثة احتلال هولاكو لبغداد؟ ام انه افاد مصر. ان سبب الغزو هو لمصلحة فرنسية امبريالية لقطع طرق الهند عن غريمتها الامبريالية بريطانيا لاجل اضعافها، ولكن بنفس الوقت ، جلب نابليون معه لمصر المعارف وقيم الثورة الفرنسية واساليب الادارة والتنظيم المتحضرة والتي رآها المصريون وتأثروا بها عميقا بعد مغادرته مصر، ومنها يرجع اغلب المؤرخين انها شكلت اساسا لصعود محمد علي الكبير ومنها استمد رؤيته في اعادة بناء مصر دولة حديثة ، وتقويتها وصولا لانفصالها عن الامبراطوية العثمانية. انه غزو امبريالي غير استيطاني مؤقت واتى من دولة متحضرة قامت به للحصول على نفوذ لمجابهة دولة امبريالية اخرى ، ولكنن اتى بفوائد جمة للشعب المصري. ويمكن الى حد ما استخلاص نتيجة ان الغزو المؤقت من دولة متحضرة يمكن ان يأتي بنتائج نافعة للشعب المغزي ، ليس بصفة اطلاقية ،بل لاثبات انه ربما بغزو مؤقت للنفوذ وبتوافر التحضر لامبريالية غازية ان تجلب معها فوائد، والمثال اعلاه يثبت ذلك.

المثال الثاني هو احتلال الانكليز للعراق عام 1917 الذي استمر ثمان سنوات لعام 1925 وهي السنة التي سن بها دستوره الاول واقامة دولته الملكية والتي هي الافضل لحد اليوم، وربما يقول بعضهم انه استمر 15 عاما لحين استقلال العراق رسميا عام 1932 ، وكلاهما يبقى غزوا مؤقتا . ولكن ومن هذا الغزو جنى العراقيون الكثير مما يصعب حتى الحلم به حتى بعشر سنوات قبله تحت السيطرة العثمانية، منها تأسيس العراق الحديث دولة مستقلة ، ووضع دستور شبه علماني وشبه ليبرالي لنظام ملكي مقيد بدستور، انشاء جيش وطني وحدودا دولية معترف بها ، ونشرالتعليم خارج الملالي وبناء المدارس وانشاء اولى الجامعات، واقامة اولى البنى التحتية لدولة عصرية مثل الكهرباء والطرق والجسور والسكك الحديدية ، واقامة نظم الادارة والمالية والقانون، اي عمليا ساهم الغزو الانكليزي باقامة دولة عصرية في العراق استمرت في النمو المستمر خلال ثلاثين عاما حتى سقوط النظام الملكي بانقلاب عسكري، ومنه ولليوم لم يستعد العراق عافيته وهو اليوم مهمش وضعيف ولايقارن حتى مع عام 1958عام اسقاط دولته الملكية.
ماذا جنى الانكليز من الغزو ؟ لو سألت اي باحث بريطاني سيجيبك منطقة نفوذ استمرت ثلاثين عاما، ولو سالت باحثا عربيا موضوعيا سيجيبك نفس الاحابة ، ولو سالت باحثا مؤدلجا، يمينا او يسارا يجيبك انه استعمارا تم لمصالح امبريالية تم التخلص منه نهائيا بثورة تموز 1958، وهل كانت هناك فوائد للعراقيين منه ؟ . لا اعتقد سيجرأ احدهم على الخوض في هذا المضمار كون المعطيات والوقائع لاتخدم مواقفه المؤدلجة ضد الامبريالية ، فهي لن تصمد امامها، فهو عنده مثل "سؤال الترك" في الامتحانات العامة ، عندما يرى الوقائع امامه تدحض مقولاته، خاصة مقولة ان "الامبريالية دوما ضد مصالح الشعوب" ، ولكن هذا امامنا مثالا يثبت انها ليست دوما ، بل هناك ظروفا عندما تلتقي مصالح الشعوب ومصالح الامبريالية تجني الشعوب منه فوائد، والمثال اعلاه خير دليل على ذلك .ومنه ايضا يتبين الفرق بين منهج العلمانية المتحرر من المقولة، وطرح منهج الادلجة الذي تقوده المقولة المؤدلجة اعلاه. ويمكن قراءة مئات المقالات المؤدلجة سوفياتيا حول نضال الشعب العراقي ضد الاستعمار البريطاني للعراق ولكن اشك ان ايا منها سيصمد امام الموضوعية وامام عظم الفوائد التي جناها العراقيون منه .
يمكننا من دراسة غزو بريطانيا للعراق ان نخرج بنفس الاستناج لاحتلال نابليون لمصر ، ان غزوا مؤقتا لامبريالية متحضرة يمكن ان يجلب فوائد للشعوب، خصوصا عند تلاقي المصالح.

المثال الثالث يأتي ومن نفس العراق، ومن نفس الغزو الاميركي له عام 2003 ، وهو صلب موضوع مقالتي، ولكن ساطرحه في هذا الجزء بشكل مختصر لأرجع واتناوله بالتفصيل لاحقا. هل قام الغزو لمصالح امبريالية اميركية ؟ نعم. هل هو غزو استيطاني ؟ كلا ،فهو مؤقت واستمر ثمانية سنوات فقط. هل هو غزو لغرض تقوية النفوذ الاميركي في المنطقة ؟ نعم . هل جاء لظروف تلاقي بين مصالح الشعب العراقي ومصالح اميركا ؟ نعم ، هل حققت اهدافها ؟ كلا . هذا مايجمع عليه الرأي العام الامريكي ، ومعهم اغلب المحللين الاميركان يمينا ويسارا واقرأ يوميا مقالات وبحوثا حتى الحمى بعددها ، معظمها تدرسه وفق رؤية الربح والخسارة ، وهل استحق دفع خمسة الاف قتيل و30 الف جريح وتريليون دولار ،وماذا كسبت الولايات المتحدة ، لاشيئ . واخرون يدرسونه بمنهج استراتيجي لتجنب الوقوع بنفس الخطأ مستقبلا، وبعضهم، اقلية ، تتناوله من منهج مؤدلج مماثل لمنهج مؤدلجينا العرب، ومع كل هؤلاء اقلية قليلة جدا من الباحثين الاميركان طرحت ارائها بشكل شجاع يستند على تحديدا على مصالح جناها العراقيون منها اقامة نظام ديمقراطي مثلا، وهذه طبعا لاتشكل نقطة قوة ، فلو امكن فعلا اقامة نظاما ديمقراطيا ناجحا وتمكنت اميركا من الحصول على منطقة نفوذ ، لما رايت هذه المقالات ،بل رايتهم يقيمون سبب نجاحه، ولتقبلوا خسائرهم ، و قل اعتراضهم ، ولكن بفشل النظام القائم في العراق بعد الغزو ، اتفقوا انها كانت مغامرة فاشلة ، وهو امر مفهوم. وهو ليس همنا نحن العراقيين في التخلص من الديكتاتورية والنظام الصدامي . وساكرس الجزء القادم لمناقشة الموضوع من وجهة نظر مصالحنا، ومصالحهم ، واسباب فشله اميركيا وعراقيا،وهل جنى الشعب العراقي اية فوائد ؟ نعم ، وسأطرح هذه الفوائد، وهل امكن للعراقيين الحصول عليها لولا الغزو؟ وهل كان الفشل جزئيا ام كليا، وماهي مواطئه واسبابه، هذا ماسأتناوله في مقال منفصل.
ولكني اريد عودة لتكملة مناقشتي لتقييم الغزوات الامبريالية ، سأطرح نماذج اخرى خارج منطقتنا العربية مواصلة لتحليل الغزوات ومعرفة الظروف التي اتت بفوائد لصالح الشعوب المغزية ، فهي ستساعدنا اكثر في فهم ودراسة وتحليل وتقييم الغزو الاميركي للعراق عام 2003 ، ومعرفة اسباب فشله ، او قلة نجاحاته في العراق مقارنة مع نجاحه في دول اخرى، واقصد بالنجاح هنا من ناحية تقييم الفوائد التي جنتها الشعوب التي قامت اميركا بغزوها.
لناخذ نموذج غزو اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث انتصر الاميركان في الحرب وهو ما يبرر كل خسائرهم، ومنه لم يتسائل احدا عنها، أي ليس كما في غزو العراق او فيتنام اوافغانستان. كلا البلدان ومنذ عام 1945 اصبحا مناطق نفوذ للاميركان واحتلالا مباشرا لهما، وبعد خمس سنوات اي قرابة عام 1950 تم وضع دستور واقامة نظما ديمقراطية للحكم فيهما ومنه برز بلدان ذو نظم دمقراطية علمانية وليبرالية قامتا على انقاض دولا قومية تعصبية فاشية ونازية ، وفي العشرة سنوات التي تلتها ، اي بحلول عام 1960 تحولا الى اكثر دول العالم تطورا اقتصاديا ، وما زالا لليوم هكذا ثالث ورابع اقتصاد في العالم، ولا زالا حليفين لاميركا. ويرجعه الكثيرون انهم استفادوا من الحماية العسكرية للاميركان ، فكلاهما كان يصرف 99 % من موارده على التنمية و 1 %بالمئة فقط او اقل منها على الجيش ، ومنه جاء الاعمار السريع لما بعد الحرب، ومن بعده في الاستثمارات في ماكنة النمو الاقتصادي الصاروخي الذي حدث فيهما ( ومنه يعتبر معظم الاميركان اليوم انه حان الوقت لرفع هذه التكلفة الباهضة عنهم) .ولكي اوجز فاميركا جلبت لهما الاستقرار لحين اقرار دساتير واقامة نظما وحياة سياسية ديمقراطية مستقرة ، وجلبت لهما الحماية العسكرية ، ووفرت الظروف لتوجيه الاستثمارات الى الاقتصاد والتنمية، ومقابلها كسبت مناطق نفوذ، واصبح البلدان حلفاء لها، وعداها استفاد الجانبان من تطوير علاقات اقتصادية ذات منفعة متبادلة،ولم تقم اميركا بنهب خيراتهما ، بل بالعكس قدمت مشروع مارشال وضخت المليارات لاعادة الاعمار واحياء اقتصادهما ودفعه للامام، ولا تجد ربما اليوم مدينة اميركية دون شركات يابانية تعمل فيها ، ومثلها شركات المانية او اوربية ، فهي اكبر سوق لها ،وهي تعامل كالشركات الاميركية. ان الاميركان تصوروا قبل غزو العراق ان تجاربهم في اليابان والمانيا سيمكن تطبيقها بنجاح في العراق ايضا، خاصة وان كلا اليابان والمانيا كانت فيها نظما ديكتاتورية عدوانية وقائمة على فكر قومي مستبد كالنظام الصدامي، فهي نفس التجربة ، ولكنها لم تكن.
اردت ان اضيف سببا وشقا هاما اخر لنجاح اميركل في هذين البلدين ،وهو سبب داخلي وليس اميركي اطلاقا، احدده بقوة الشعور الوطني والوعي الوطني الفردي والعام بالمصلحة الذاتية والوطنية ، والقابلية على فهم وهضم الدرس من تجارب الايديولوجيات الكارثية التي حلت على مجتمعاتهم وكان نبذهم لها عن وعي ، امريكا دعمتهم اقتصاديا ولكنها لم تفرض عليهم حزبا او قائدا او ايديولوجية معينة عليهم بالقوة ، بل هم من قام بذلك وعيا بمصالحهم الوطنية. ومراجعة بسيطة مثلا لنشأة المانيا الاتحادية وكيفية وضع دستورها ودور المستشار اديناور في انبعاثها، يوضح دور المصالح الوطنية التي اجتمع السكان عليها ،وهي ترجمة لوعيهم بمصالحهم بعد الديكتاتورية ، ومنه التفافهم حول الديمقراطية والليبرالية كبديل للنظم القومية الايديولوجية الكارثية. ودراسة كوريا الجنوبية تشير لنفس المعطيات والنتائج، واعتقد ان قارئنا العربي يستحق تحليل هذه التحارب وفهمها ،وخاصة الكورية ، وربما ساقوم مستقبلا بذلك. ولكني ساستخدم المثال اعلاه وعوامله ومعطياته في طرحي لتقييم الوضع العراقي بعد الاحتلال واوضح الفرق في التجربة والوعي بالمصالح هو الذي اسهم في افشالها.
هناك امثلة اخرى حدث فيها ان بلدا امبرياليا استعماريا ،مثل بريطانيا ، خرج من مستمعراته سلميا ودون حروب اهلية ، وترك بعده دولا ناشئة استطاعت من النهوض والتطور كالهند والامارات العربية المتحدة والكويت مثلا، وهي تكررتقريبا نفس ماحدث في العراق بداية القرن الماضي عند تأسيس الملكية فيه. غادرت بريطانيا هذه الدول الثلاثة وتركت ورائها دولا مستقلة، وحكما مستقرا ونظم متأثرة بالنموذج البريطاني لتطوير الحكم والاقتصاد ونظم الادارة ، ونجحت.
وهناك ولغرض المقارنة ايضا ، نجد نماذج استعمارية لم تغادر سلميا ، بل غادرت بعد قيام حروبا تحررية دامية مع المستعمر، الفرنسي مثلا، كما في الثورة الجزائرية او حروب التحرر الانغولية اوفي الموزمبيق والكثير غيرها ، وبعد مغادرة المستعمر مقهورا استقلت هذه البلدان ، ولكنها لم تر تطور نظم حكمها واقتصادها ، فقامت فيها نظم الديكتاتورية قادتها نخب ثورية لاتميز بين الثورية زمن المستعمر ، وبين الافادة من ثقافة ونظم وحضارة المستعمر لخوض معارك البناء السلمي الديمقراطي والاقتصادي ، وتنظيم دولهم وانظمة حكمهم لتسمح بتطوير نظم الديمقراطية والحريات وتطوير الاقتصاد ، وهذه ربما نجدها ايضا في اغلب البلدان التي حدثت فيها انقلابات عسكرية مثل مصر وسوريا والعراق ، وكان يسميها الاتحاد السوفياتي سابقا " ونظم التحرر الوطني ( اعتقد تسميتها الاصح نظم التخريب الوطني ) وقعت جميعها تحت نفوذه، ولم نشهد منها مثالا واحدا ناجحا بينها ادى لنهوضها واستقرارها وتطورها الديمقراطي والاقتصادي، عكس ما تركته بريطانيا في العراق والهند، وماتركته اميركا في كوريا والمانيا واليابان.
اخلص من اعلاه ان تحليل الغزوات الامبريالية لم تأت دوما بكوارث ولم تأت دوما تأتي بخير مبين للشعوب، بل تأتي نتائجها وفقا لظروف موضوعية حاولت تشخيصها وفق التجارب التي قمت بذكرها اعلاه، والخصها انه يمكن عندما تتلاقى مصالح دولة امبريالية مع مصالح شعب ان تحصل فوائد لهذا الشعب. ومنه سانطلق في الجزء القادم لتحليل الغزو الاميركي للعراق عام 2003 بشكل اكثر تفصيلا وعلى ضوء نتائج هذا الفصل.
د. لبيب سلطان
31/03/ 2023



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في رحيل الاخ الصديق ابراهيم الحريري
- نحو خلق ثقافةعربية علمانية جديدة متحررة -2
- نحو خلق ثقافة عربية علمانية جديدة متحررة من العقائدية
- فهم الله وألدين والعلمانية اولى خطوات الاصلاح العلماني العرب ...
- العوامل الدولية في اخماد انتفاضة اذار 1991 الخالدةـ وفق دفات ...
- فهم الله اولى خطوات الاصلاح العلماني العربي-1
- باخموت ..المدينة الصغيرة التي دخلت التاريخ
- قراءات في مستقبل حرب بوتين على اوكرانيا -2
- قراءات في فهم حرب بوتين على اوكرانيا -1
- العلمانية النظرية وزيف العلمانية العربية -2
- العلمانية النظرية وزيف العلمانية العربية -1
- من ذاكرة طفل عن فاجعة 8 شباط 1963
- بحث في نجاح النظم الملكية وفشل الجمهورية في العالم العربي
- فهم حضارة الغرب لمواجهة الاصوليات الشعبوية ـ3
- فهم حضارة الغرب لمجابهة الاصوليات الشعبوية -2
- فهم حضارة الغرب لمجابهة الأصوليات الشعبوية-1
- الحرب الروسية الاوكرانية من منظور أوسع-3
- الحرب الروسية الاوكرانية من منظور أوسع-2
- الحرب الروسية الاوكرانية من منظور أوسع مما معلن-1
- الأدلجة كأهم اسباب التخلف في العالم العربي


المزيد.....




- فيديو يُظهر اللحظات الأولى بعد اقتحام رجل بسيارته مركزا تجار ...
- دبي.. علاقة رومانسية لسائح مراهق مع فتاة قاصر تنتهي بحكم سجن ...
- لماذا فكرت بريطانيا في قطع النيل عن مصر؟
- لارا ترامب تسحب ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا
- قضية الإغلاق الحكومي كشفت الانقسام الحاد بين الديمقراطيين وا ...
- التمويل الغربي لأوكرانيا بلغ 238.5 مليار دولار خلال ثلاث سنو ...
- Vivo تروّج لهاتف بأفضل الكاميرات والتقنيات
- اكتشاف كائنات حية -مجنونة- في أفواه وأمعاء البشر!
- طراد أمريكي يسقط مقاتلة أمريكية عن طريق الخطأ فوق البحر الأح ...
- إيلون ماسك بعد توزيره.. مهمة مستحيلة وشبهة -تضارب مصالح-


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - لبيب سلطان - الغزو الاميركي للعراق ـ1