|
غزوة الصناديق الإسرائيلية
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7566 - 2023 / 3 / 30 - 13:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من متابعة ما يجري حالياً في الإسرائيل تتضح جلية متشابهات في الخطوط العريضة بين ما قد شهدته مصر عقب 25 يناير 2011، وتحديداً أثناء عهدة حكم التيار الإسلامي بقيادة الإخوان المسلمين. صراع على هوية الدولة بين تيارين رئيسيين متناقضين في تعريفهما لما ينبغي أن تكون عليه. لكن أبعد من ذلك، هناك اختلافات جوهرية عميقة في تفاصيل وحيثيات الحالتين المصرية بالأمس والإسرائيلية الآن. وربما بسبب هذه الاختلافات الجوهرية، سيتم في أغلب الظن حسم الصراع الجاري بصورة مختلفة جوهرياً عن سابقته المصرية، بما يرسخ ويثبت دعائم الديمقراطية الإسرائيلية أكثر من ذي قبل، ومن ثم يزيد الدولة العبرية من القوة والازدهار أكثر مما هي عليه بالفعل.
عقب ثورة شعبية، نجح التيار الإسلامي بزعامة الإخوان في إحكام قبضته على مفاصل الحكم من خلال عملية ديمقراطية اختزلها أحد زعمائهم، الداعية الشيخ محمد حسين يعقوب، في عنوان "غزوة الصناديق"، بمعنى استحواذهم على أغلبية أصوات الناخبين في صناديق الاقتراع. وهو نفس الإنجاز الذي قد حققه مؤخراً اليمين الإسرائيلي. وقتها ظن الإسلاميون، كما يظن اليمينيون الآن، أن هذه الأغلبية الانتخابية تمنحهم الشرعية ليس للحكم فحسب وإنما لإعادة بلورة الهيكل التنظيمي للدولة ذاتها، أو شخصيتها القانونية، وفقاً لتوقعات وطموحات ناخبيهم، الذين يشكلون الأغلبية في جميع الأحوال.
انتفض التيار العلماني المصري، كما ينتفض نظيره الإسرائيلي حالياً، رافضاً مشروع المساس بأسس الدولة العلمانية كما وضعها مؤسس مصر الحديثة، محمد علي، مطلع القرن التاسع عشر واستبدالها سواء بما كان قائماً قبله زمن المماليك، أو حتى بنسخة معاصرة ومعدلة مما هو قائم حالياً في جمهورية إيران الإسلامية. ولإصرار كل من التيارين الرئيسيين على موقفه ورفض التسويات، كان لا مفر من النزول إلى الشارع احتجاجاً، تماماً كما يحتج الإسرائيليون هذه الأيام.
وكما هو متوقع في جميع الحالات المماثلة، حين ينقسم شعب على ذاته بهذه الدرجة المتقاربة في موازين القوى، تصبح مهمة أجهزة حفظ الأمن وفرض النظام مستحيلة من دون سفك للدماء وهدر للمقدرات ذو عواقب وخيمة ومدمرة على الجميع في نهاية المطاف. إزاء هذا الوضع المتأزم على وشك الانفجار، كان رد الفعل من الجيش المصري وقتها مطابق تقريباً لرد فعل نظيره الإسرائيلي حالياً. لكن، من جهة أخرى، بينما أصدر الجيش المصري تحذيراً ومنح مهلة لحل أزمة يعرف مسبقاً ويقيناً أنها عميقة ومستعصية إلى حد الاستحالة على الحل السريع والسهل، في المقابل اكتفى نظيره الإسرائيلي بإصدار تحذيراً من خطورة الوضع ولم يتجرأ على تحديد مهلة لنزع فتيل الأزمة.
هذه هي الخطوط العريضة المتشابهة بين الحالتين. أبعد من ذلك، ستتضح التفاصيل الجوهرية المختلفة إلى حد بعيد. إذ رغم المتشابهات العريضة، اليمين اليهودي مختلف كثيراً عن الإسلام السياسي؛ العلمانيون المصريون مختلفون جوهرياً عن العلمانيين الإسرائيليين؛ هيكلية وفلسفة الجيش الإسرائيلي مختلفة جوهرياً عنها لدى الجيش المصري؛ الدولة العبرية ذاتها مختلفة جوهرياً عن الدولة المصرية، حيث تأسست إسرائيل كدولة علمانية ديمقراطية في حين تأسست مصر كدولة علمانية بنظام حكم مركزي شمولي ينتهي بين يدي الباشا نفسه، ثم أبنائه من بعده، ثم ورثتهم حتى اليوم.
رغم المتشابهات العريضة والمختلفات الجوهرية الدقيقة، أظن أن هناك الكثير من الدروس المحتملة التي يمكننا تعلمها والاستفادة بها في بلداننا- مصر وتونس على وجه الخصوص- مما يجري حالياً في إسرائيل، شريطة التخلي ولو مؤقتاً عن جانب من مشاعرنا الجياشة بالتكبر والتحيز والكراهية ضد هذا الذي، رغم اعتراف الأمم المتحدة، لا نزال ننعته "الكيان" الصهيوني. على سبيل المثال:
* ضرورة الخطوة إلى الوراء: ليس أصعب على صانع القرار من أن يتراجع عن قراره. لكن عندما تحتدم الأمور إلى درجة معينة، تصبح عواقب المضي قدماً أفدح بكثير من خسارته المؤكدة جراء أخذه الخطوة الصحيحة إلى الوراء. في مصر، جَبُنَ الرئيس محمد مرسي أمام خسارته المؤكدة وأصر على موقفه ولم يتخذ الخطوة الضرورية. بل زاد من تعنته عبر إنزال أنصاره من الإسلام السياسي إلى الشارع وجهاً لوجه ضد المحتجين من التيار المدني تحت قيادة جبهة الإنقاذ. وهكذا أصبح نزول الجيش ضرورة حتمية للفصل بين التيارين المتنازعين، أو ستحترق البلد فوق رؤوس الجميع. في المقابل، في الحالة الإسرائيلية وبفضل حنكته السياسية الممتدة والمجربة مقارنة ببراءة مرسي، لم يجبن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن الخطوة الضرورة في التوقيت المناسب، رغم خسارته المؤكدة. وبذلك أوصد الباب حالياً أمام نزول الجيش، وفتحه من الجهة الأخرى أمام القوى العلمانية المحتجة. ومن ثم انطلقت جولة جديدة من التفاوض والتسوية بين الخصمين أملاً في التوصل إلى توافق الحد الأدنى. وهذه بالضبط هي وظيفة "العملية السياسية" عبر نظم الحكم الديمقراطية.
* نحن نعيش في عصر علماني بامتياز: لقد تأسست الدولة الوطنية الحديثة فوق أسس علمانية صريحة، وانطلقت من أوروبا الغربية لتعم العالم أجمع في الوقت الحاضر. وإن استمرارية الطبيعة الاستبدادية والشمولية عبر العدد الأكبر من دول العالم لا ينزع عنها صفة العلمانية، بل يبرهن على كونها لم تحتضن الديمقراطية والحريات الفردية نهجاً لها. في قول آخر، لأن الدولة الوطنية الحديثة قد نشأت ولا تزال مستمرة فوق بنية تحتية علمانية خالصة، فهي لا يمكن أن تبقى أو تستمر يوماً واحداً من دون الاستعانة بخدمات جيوش جرارة من الموظفين والبيروقراطيين والخبراء وأفراد الجيش والشرطة وغيرهم أكثر في كل المجالات. بمعنى آخر، العلمانيون في أي دولة معاصرة حول العالم يستطيعون- إذا أرادوا وقدروا- أن يشلوا حركة دولهم بالكامل، لأنهم بكل بساطة المشغلون والحافظون لها، من يمسكون بمفاتيحها وشفرتها التكنوقراطية. وهذا هو بالضبط ما أراده وقدر عليه العلمانيون الإسرائيليون.
* التطرف الديني أمر واقع لن يتغير لكن ينبغي تحجيمه: الأديان حقيقة لا مهرب منها في كل الدنيا، قائمة منذ بدأت الحياة البشرية ومستمرة إلى نهايتها، لكونها تعبر عن جزء أصيل في طبيعة الإنسان النفسية ذاته. وهؤلاء على أقصى اليمين من كل دين، في كل دولة، هم أمر واقع كذلك في كل العالم، بصرف النظر إذا كانت الدولة من أعتى الديمقراطيات أو الاستبداديات، أكثرها ثراءً أو فقراً، تقدماً أو تخلفاً. وحقيقة ظهورهم إلى السطح فجأة ومحاولتهم اختطاف الدولة لجهتهم في كل من مصر وإسرائيل، لا تعني أبداً أنهم لم يكونوا موجودين. بل كانوا وسيظلون موجودين. كل ما هنالك أن ظرفاً مؤاتياً قد تهيأ لهم لسبب أو لآخر، فظنوا أنها فرصتهم قد سنحت أخيراً بعد طول صبر وتقية وتكتيك. وماذا يعني هذا؟ يعني أن الدولة الوطنية العلمانية الحديثة- الاستبدادية في الحالة المصرية والديمقراطية في الحالة الإسرائيلية- قد ظلت تحجمهم وتحبسهم في خندق يحسبون هم أنه قد ضاق عليهم ويطمحون إلى الانعتاق منه بمعتقداتهم وممارساتهم إلى الفضاء العام.
إذا كان يصح التفكير بأثر رجعي، ربما لو ارتضى الإسلاميون التراجع خطوة والجلوس مع العلمانيين المصريين لكانوا قد كسبوا خندقاً أكثر فسحة وأريحية من وضعهم الحالي، لكن دون السيطرة على الفضاء العام كما كانوا يحلمون. كذلك، في أغلب الظن أن المفاوضات الجارية حالياً بين اليمينيين والعلمانيين الإسرائيليين ستسفر عن خندق أرحب بعض الشيء للمتطرفين اليهود داخل الدولة العلمانية الإسرائيلية. وفي كل الاحتمالات، لا يمكن أبداً تصور أن يحتل المتطرفون الدينيون يوماً الفضاء العام في إسرائيل، أو أي دولة أخرى، ببساطة شديدة لأن تصميمها الأساسي لم يخصص لهم سوى جيب صغير على هامش الدولة لكي يعيشوا ويمرحوا ويتكاثروا بداخله.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا نعيش؟
-
هل كان غزو العراق كارثة أمريكية أسوأ من فيتنام؟
-
حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة 2
-
حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة
-
روافد السلوك السوفيتي .
-
إصلاح ما لا يمكن إصلاحه- الإسلام
-
روافد السلوك السوفيتي
-
ألا تكفي الحياة غاية نفسها؟
-
كذبة احترام العلمانية للأديان
-
مقاربة معرفية بين العلمانية والدين
-
عن حتمية المواجهة بين العلمانية والإسلام
-
اتحاد الديمقراطيات الشعبية العربية
-
حُقُوقِي
-
لا أمل في نصر روسي دائم
-
اللهُ لا يَتكَلم والرسولُ لم يَقُلْهُ: بَشَرِّيَةُ النص
-
حين انفجرت المسيحية من الداخل
-
الفكر في الهُراء
-
بوتين، معزولاً ومرتاباً، يتدثر بزمرة من المستشارين الغلاة
-
عن أهمية النص في الإسلام
-
لماذا لا ننتج فلسفة؟
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|