|
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7564 - 2023 / 3 / 28 - 11:47
المحور:
الادب والفن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اهاتاني الفتاة
2 ـ سامو الفتى
3 ـ الأم أم سامو
4 ـ النسر طائر الرعد
" 1 " ـــــــــــــــــــ
منذ صغره ، والجبل الأبيض ، الذي تجثو بيوت القرية عند سفحه ، يذهل سامو ويجذبه إليه ، كما لو كان قوة سحرية لا تقاوم . وكلما خلت السماء من الضباب أو الغيوم ، تبدو قمة الجبل ، التي يعلوها الثلج صيفاً وشتاء ، تلوح له من بعيد ، ويتراءى له وكأنها تناديه بصوت هامس ، ساحر كالأنسام : تعال .. تعال ..تعال . وعبثاً حذرته أمه من الجبل ، وقمته البيضاء ، والنداء الساحر ، فقد كان ، ولسبب لا يدريه ، يزداد قلقاً ، وتوقاً للاستجابة للنداء الآسر . لم يعرف في البداية ، سرّ خوف أمه ، وقلقها من تعلقه الدائم بالجبل وقمته البيضاء ، وإن سمع هنا وهناك ، ما يشبه الخرافات عن هذا الجبل ، وقمته البيضاء ، التي لا يفارقها الثلج ، لا في الصيف ولا في الشتاء ، ولا في أي فصل آخر من فصول السنة . حتى كانت ليلة .. ليلة مقمرة ، وقف فيها سامو بين أشجار حديقة بيتهم الصغيرة ، يتطلع كالعادة إلى الجبل الملفع بالضباب والغموض ، وقمته البيضاء ، التي يلمع ثلجها تحت أشعة القمر الفضية . ورغم استغراقه في أحلامه ، انتبه إلى أمه تقترب منه ، فقال دون أن يلتفت إليها : ماما . وتوقفت أمه على مقربة منه ، وقالت : بني ، نحن في أوائل الربيع ، والطقس بارد الليلة . وقال سامو متابعاً أفكاره : أنظري ، يا ماما . واستطردت أمه قائلة : لقد أشعلت النار في الموقد ، تعال إلى الداخل ، أخشى أن تمرض . وقال سامو ، دون أن يحول عينيه المسحورتين عن القمة البيضاء ، المكللة بالثلج : آه ، يا ماما ، ما أدفأ تلك القمة ، التي تلمع تحت أشعة القمر . واقتربت منه أمه ، وقالت وكأنها تريد إيقاظه من أحلامه : إي دفء هذا ، يا بنيّ ، إن الثلج لا يذوب في تلك القمة لا صيفاً ولا شتاء . وقال سامو دون أن يلتفت إليها : تلك القمة الدافئة ، يا ماما ، تناديني ، وتقول لي تعال . وصمت لحظة ، وأمه تحملق فيه مصدومة ، ثم قال بصوت مسحور : ولابد أن أستجيب قريباً لندائها ، مهما كلفني الأمر . وردت أمه ، وهي تجهش في البكاء : لا ، لا يا بنيّ ، لن تكرر ما فعله أبوك . والتفت إليها مذهولاً ، وتساءل قائلاً : أبي ! ماذا فعل ؟ ماذا فعل أبي ؟ وتراجعت الأم باكية ، ومضت إلى الداخل ، وهي تقول من بين دموعها : لا .. لا .. لا . ولبث في مكانه مذهولاً ، لقد تناهى إليه نتفاً عن أبيه ، وعلاقته بالجبل ، وطائر الرعد ، و .. لكنه لم يعرف الحقيقة أبداً ، وهذا ما يجب أن يعرفه الآن ، ومن أمه بالذات . وأسرع إلى الداخل ، وإذا أمه تتشاغل بإعداد طعام العشاء ، والقنديل الخافت يضيء عينيها الغائمتين بالدمع ، فاقترب منها ، وقال : ماما . سمعها تنشج باكية ، فربت عل كتفها ، وقال : أريد أن أعرف الحقيقة . كفت الأم عن النشيج ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فقال : الجبل .. وأبي .. و .. وتراجعت الأم قليلاً ، وقاطعته قائلة : بنيّ ، هذا الجبل ملعون ، لا يسلم من يحاول ارتقاءه ، فلا تقربه ، لا تقربه أبداً . ونظر سامو إليها ، وقال : ماما .. واستمرت الأم في كلامها قائلة : أنا لا أريد أن أفقدك ، يا بنيّ ، كما فقدت أباك . وقال : أريد الحقيقة ، يا ماما . ومرة ثانية استمرت الأم قائلة : أنت ابني الوحيد ، وليس لي في هذه الحياة غيرك . وقاطعها قائلاً : ماما ، حدثيني عن أبي . وصمتت الأم لحظة ، ونظرت إليه بعينين تغرقهما الدموع ، وقالت بصوت مختنق : أبوك .. ذهب إلى الجبل .. . وتطلع سامو إليها ، وتساءل : الجبل ، كما تقولين ، تنين خطر ، فلماذا ذهب أبي إليه ؟ ومسحت الأم دموعها بأناملها المرتعشة ، وقالت : طفلة من القرية ، اختطفها طائر الرعد ، كانت وحيدة أمها ، ولم يجرؤ أحد من رجال القرية ، أن يطارده إلى وكره في أعلى الجبل ، ورغم تحذير الجميع ، وتوسلي به ، أخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى إلى الجبل . وصمتت لحظة ، ثم استدارت عنه ، وقالت بصوت باك : ولم يعد حتى الآن .
" 2 " ــــــــــــــــــــ
كما أن الأم لم تستطع ، قبل سنوات عديدة ، منع زوجها من التوجه إلى أعلى الجبل ، فإنها لم تستطع ، ورغم دموعها وتوسلاتها ، منع سامو من السير على طريق أبيه ، والتوجه إلى أعلى الجبل . ورأته من خلال دموعها ، وقد أخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى مبتعداً ، حتى غاب في الأحراش ، التي تغطي سفح الجبل ذي القمة الثلجية البيضاء . وبدل أن تدخل البيت ، بعد أن اختفى سامو ، جثت منهارة على الأرض ، وراحت تنوس باكية بصمت ، فلسنوات طويلة كانت تنتظر زوجها ، الذي ذهب إلى الجبل ، ولم يعد ، ولن يعود ، فأمامها الآن ما هو أسوأ .. أن تنتظر وحيدها سامو . وشدّ سامو قبضته الفتية على قوسه ، وهو يصعد السفح بخطوات قوية ، متجهاً نحو الأعلى ، ورفع رأسه ، فلاحت له القمة ، المغطاة بالثلج ، تلمع تحت أشعة الشمس ، وبدا وكأنها تناديه ، متحدية هذه المرة : تعال .. تعال .. تعال . وصعد سامو بهمة .. صعد .. وصعد .. وسيظل يصعد ، حتى يحقق ما عزم عليه ، ولن تردعه عن عزمه ، أية صعوبة يمكن أن يواجهها ، وهو في طريقه إلى القمة المكللة بالثلوج صيفاً وشتاء . لقد صعد أبوه الجبل ، لعله ينقذ تلك الطفل من براثن طائر الرعد ، أما هو ، فإنه يصعد ، رغم توسلات أمه ودموعها ، لا لينقذ الطفلة ، التي لا يعرف عنها وعن مصيرها أي شيء ، وإنما ليعرف مصير أبيه ، ولينتقم من طائر الرعد ، مهما كلف الأمر . لقد كان طفلاً صغيراً ، عندما سمع من أمه ، ومن الآخرين ، أن طائر الرعد ، الذي قلما يغادر وكره ، قرب القمة الثلجية البيضاء ، انقض على طفلة ، كانت تلهو أمام باب بيتهم ، واختطفها ، وطار بها ، عائداً إلى القمة البيضاء ، التي تغطيها الثلوج على الدوام . وجنت أم الطفلة ، وراحت تصرخ وتصرخ ، وهي ترى طائر الرعد ، يمسك بمخالبه القوية طفلتها ، ويبتعد طائراً ، صوب القمة الثلجية البيضاء البعيدة . وراحت الأم تركض هنا وهناك ، وتصرخ في الجميع : طفلتي .. أنقذوا طفلتي .. أنقذوها . ورغم حزن الجميع ، وغضبهم الشديد لما حدث ، لكن أحداً لم يستطع أن يفعل شيئاً ، لا للأم المنكوبة ، ولا للطفلة ، التي اختطفها طائر الرعد ، وطار بها بعيداً ، نحو القمة البيضاء ، التي لا يغيب الثلج عنها ، لا في الشتاء ولا في الصيف . وبعد أيام ، لم يعد الأب يحتمل صرخات تلك الأم ، وهي تجوب القرية ليل نهار ، وتصرخ : طفلتي .. أريد طفلتي .. أليس في القرية رجال .. أريد طفلتي . فأخذ قوسه وجعبة سهامه ، ومضى صوب القمة الثلجية البيضاء ، لعله ينقذ الطفلة ، لكن لا الأب عاد ، ولا عُرف أي شيء عن الطفلة ، وما هو مصيرها . ولسنين عديدة ، وهذا ما يذكره سامو جيداً ، ظلت أم الطفلة تجوب أزقة القرية ، بملابسها الرثه ، وشعرها الأشعث ، وهي تتحدث عن طفلتها .. : بيضاء كالثلج .. وعينان زرقاوان كسماء الصيف .. وكأشعة الشمس الذهبية ، كان شعرها .
" 3 " ـــــــــــــــــــ
عند غروب الشمس ، رأى سامو، وقد أنهكه التعب ، أن يخلد إلى الراحة ، ويقضي ليلته في مكان دافىء آمن ، يستعيد فيه بعض قواه ونشاطه . وأوى إلى جذع شجرة جوز عملاقة ، تطل على واد عميق من جهة ، ومن الجهة الأخرى تحرسها ، صخرة ضخمة عصية على التسلق ، من أي كائن مهما كان ، وثوى في منخفض أسفل الشجرة ، والتف بردائه الدافىء ، واستسلم لنوم عميق . وفي منامه ، تراءت له أمه ، تنظر إليه من بعيد ، دامعة العينين ، وتدعوه بإشارات من يديها ، أن لا يصعد إلى قمة الجبل ، وأن يعود إليها . وتململ سامو في منامه ، كأنه يريد أن يبعد عنه أمه ، التي جاءته في المنام ، وتريد أن تحول بينه وبين رغبته الملحة في الاستجابة لنداء ذلك الجبل . ابتعدت أمه ، بل اختفت تماماً ، وكاد يهب من مكانه ، عندما لمح على ضوء القمر ـ أهو في المنام ؟ ـ لمح شبح فتى ـ أم إنها فتاة ؟ ـ يطل عليه من أعلى الصخرة ، التي تحرس شجرة الجوز العملاقة . وفتح عينيه على سعتهما ، وتطلع جيداً إلى أعلى الصخرة ، لكنه لم يرَ شيئاً فوقها ، سوى أشعة القمر الفضية ، فأغمض عينيه ثانية ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق . وقبل شروق الشمس ، أفاق سامو ، وكأن أحدهم أيقظه ، وإذا فتاة في عمره ـ أهي فتاة الحلم ؟ ـ تطل عليه من أعلى الصخرة ، وقد تهدل حول وجهها الناصع البياض ، شعر في لون أشعة الشمس . يا لله ، إنها فتاة الحلم نفسها ، لكن هل ما رآه ، على ضوء القمر ، في أعلى الصخرة ، ليلة البارحة ، حلم ؟ مجرد حلم ؟ من يدري ، مهما يكن ، فإن الفتاة تكاد تكون هي نفسها ، عينان زرقاوان ، وبشرة كالثلج ، وشعر بلون أشعة الشمس . ونهض سامو في هدوء ، وعيناه تجوسان في بحر عينيها الأزرق ، ثم قال : طاب صباحك . لم ترد الفتاة ، وبدا شيء من الدهشة والفضول في عينيها ، فقال سامو : من أنت ؟ ومرة ثانية لم ترد الفتاة ، فأشار لها قائلاً : تعالي ، انزلي إلى هنا . تراجعت الفتاة قليلاً ، دون أن ترفع عينيه عنه ، فتقدم من الصخرة ، وقال : تعالي ، لا تخافي . وهنا انسحبت الفتاة بسرعة ، واختفت وراء الصخرة ، وأسرع سامو ، ودار من وراء الصخرة ، لعله يلحق بها ، ويتحدث إليها ، ليعرف من هي ، وما الذي جاء بها إلى هذا المكان المنعزل الخطر ؟ وحين التف وراء الصخرة ، رآها تركض على البعد ، تتسلق صخور الجبل ، وكأنها وعلة جبلية متمرسة على الحياة في هذه المنطقة . وصاح سامو ، وهو يركض متعثراً في أثرها : مهلاً أيتها الفتاة ، توقفي . لم تتوقف الفتاة ، حتى ارتقت صخرة ضخمة بعيدة عنه ، ثم التفتت تنظر إليه ، وكأنه كائن جاء من السماء ، تراه ربما لأول مرة في حياتها . واقترب سامو من الصخرة الضخمة ، التي وقفت فوقها الفتاة ، وتوقف على مبعدة منها ، خشية أن تجفل كوعلة من وعول الجبل ، وتلوذ بالفرار . ورفع سامو رأسه إليها ، وقال بصوت هادىء يطمئنها : لا تخافي ، تعالي . لم تتحرك الفتاة من مكانها ، فتابع سامو قائلاً : أنا سامو ، ما اسمك أنت ِ ؟ وظلت الفتاة تتطلع إليه ، دون أن تجيبه ، فتابع سامو قائلاً : أنا من تلك القرية .. وأشار بيده إلى أسفل الجبل ، وقال : أعيش في بيت صغير مع أمي . وصمت قليلاً ، لعلها تتكلم ، لكنها ظلت صامتة ، فتساءل سامو : وأنتِ ، ما اسمك ؟ ولأول مرة ، منذ أن رآها فوق الصخرة الضخمة ، سمع صوتها ، طفولياً رقيقاً عذباً تقول : اهاتاني . واتسعت عينا سامو متمتماً : اهاتاني ! وهزت الفتاة رأسها ، فقال سامو : اهاتاني ، تعالي نتحدث ، أريد أن أعرفك أكثر . ولبثت اهاتاني في مكانها برهة ، وبدل أن تنزل من على الصخرة ، استدارت ، ومضت مسرعة ، حتى توارت بين الصخور .
" 4 " ـــــــــــــــــــ
من عين ماء ، تنبثق من بين الصخور ، رأى سامر وعلاً صغيراً ، ربما لم يُفطم بعد ، يمد شفتيه ، ويرشف الماء ، بشفتين مترددتين حذرتين وكأنه يقرب العين للمرة الأولى في حياته . وكما لو أنه مازال طفلاً صغيراً ، ابتسم سامر ، وهو يتأمل الوعل الصغير ، وتمنى لو يحضنه ، ويضمها إلى صدره ، كما كان يفعل في طفولته ، عندما اشترت له أمه مرة حملاً صغيراً . وتقدم سامر من الوعل الصغير ، بخطوات هادئة حذرة ، لئلا يجفل ، ويلوذ بالفرار ، وما إن اقترب منه ، وأخذه بين ذراعيه ، حتى برزت اهاتاني من بين الصخور ، وهي تصيح : دعه .. دعه . وأقبلت الوعلة الأم مسرعة ، وراحت تحوم حول سامو والوعل الصغير واهاتاني ، وهي تمأميء غاضبة مرعوبة : ماع .. ماع .. ماع . وانقضت اهاتاني على سامو ، وانتزعت الوعل الصغير من بين ذراعيه ، وهي تقول بصوتها الطفولي الغاضب : دعه لأمه .. دعه .. دعه . وأطلقت اهاتاني الوعل الصغير ، فأسرع إلى أمه ممأمئاً ، فتشممته أمه متلفتة ، ثم دفعته أمامها ، ومضيا معاً ، يتقافزان بين الصخور بسهولة ويسر . ووقفت اهاتاني حذرة ، تحدق في سامو ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال سامو محاولاً طمأنتها : إنني أحب الحيوانات الصغيرة ، ولم يكن في نيتي أن أوذيه . وظلت اهاتاني صامتة ، فتلفت سامو حوله ، وقال : لا أظن أنك وحدك هنا ، فهذا المكان ، كما ترين ، بعيد عن القرى ، وشديد الخطورة على فتاة مثلك . ومرة ثانية ، ظلت اهاتاني ملتزمة بالصمت ، وتقدم سامو منها خطوة ، وقال : أخبريني من أين أنت ، لعلي أستطيع أن أساعدك . وهمت اهاتاني بالهرب ، لكن سامو مدّ يده بسرعة ، وأطبق على ساعدها ، فانتفضت اهاتاني ، وصرخت مذعورة : دعني .. دعني . لم يدعها سامو ، وظل مطبقاً على ساعدها الغض ، وقال : اهدئي ، يا اهاتاني ، لن أوذيك ، أريد أن تحدثيني عن نفسك ، فقد تكونين من قرية أعرفها . لكن اهاتاني لم تهدأ ، وراحت تحاول جاهدة ، أن تسحب ساعدها من قبضته القوية ، دون جدوى ، وهي تصيح : دعني .. دعني . وهنا .. من مكان ما .. من أعالي السماء ، ارتفع صوت ثاقب غاضب كالرعد ، فتلفتت اهاتاني مترددة ، وقالت بصوت طفولي مضطرب : طائر .. الرعد . وقبل أن يرفع سامو رأسه إلى مصدر الصوت المرعب ، ويعرف حقيقة ما يجري حوله ، أحس بظل قاتم كالليل ينقض عليه ، ورغم ما بذلته اهاتاني من جهد لحمايته ، إلا أن الرعد ، طعنه في كتفه . وصرخ سامو متوجعاً ، وتهاوى على الأرض ، فانقض عليه طائر الرعد ثانية ، مسدداً منقاره القاتل إلى صدره ، لكن اهاتاني ، وبسرعة البرق ، ارتمت فوق سامو ، فحاد طائر البرق عنهما ، وهو يصرخ غاضباً ، ويرتفع مرعداً إلى أعالي السماء . وتململ سامو ، تحت اهاتاني محرجاً ، فقالت اهاتاني بصوتها الطفولي : لا تتحرك ، ابقَ في مكانك ، وإلا هاجمك طائر الرعد ، وقتلك . ولبث سامو ساكناً في مكانه ، واهاتاني مرتمية فوقه تحميه ، بينما طائر الرعد يحوم حولهما ، يتحين الفرصة ، لينقض على سامو ، ويفتك به . ويبدو أن صبر طائر الرعد قد نفد ، ولم تتح له اهاتاني فرصة للفتك بسامو ، فأطلق صرخة غاضبة مرعبة ، وارتفع مرعداً إلى أعالي السماء ، ثم توارى بين الصخور القريبة من القمة البيضاء ، التي تغطيها الثلوج صيفاً وشتاء . ونظر سامو إلى اهاتاني ، التي كانت ما تزال منطرحة فوقه ، وقال محرجاً : اهاتاني . ونهضت اهاتاني واقفة ، ثم مدت يدها إليه ، وقالت : هيا ، ابتعد طائر الرعد ، انهض . وأمسك سامو يدها ، فسحبته اهاتاني برفق ، حتى وقف على قدميه ، وقال : أشكرك ، لولاك لقتلني هذا الطائر المتوحش . ونظرت اهاتاني إلى كتفه الذي ينز دماً ، فقالت : أنت تنزف ، لابد من معالجة الجرح . وحاول سامو أن يتماسك ، لكنه كاد يتهاوى ، فأسرعت اهاتاني ، وأسندته ، وقالت : أنت جريح ومتعب ، تعال معي ، الكهف قريب . وسارت اهاتاني مسندة سامو ، متجهة به نحو الكهف ، فتساءلت قائلة : ماذا قلت اسمك ؟ فقال سامو مبتسماً : اسمي .. سامو .
" 5 " ـــــــــــــــــــ
صعدت اهاتاني بسامو نحو الكهف ، مسندة إياه بعض الطريق ، لكنه لاحظ معاناتها ، فتحامل على نفسه ، وواصل الصعود إلى جانبها حتى الكهف . وأرقدته على فراشها بهدوء ، وساعدته على نزع بعض ثيابه ، حتى ظهر الجرح في كتفه ، وقد نزف منه بعض الدم ، فجاءت بقطعة قماش مبللة ، وراحت تمسح الجرح وتنظفه ، وهي تقول : أنت محظوظ ، فطائر الرعد لم يصبك إصابة كبيرة . وبعد أن نظفت الجرح ، ساعدت سامو على ارتداء ثيابه التي نزعها ، وقالت : اطمئن ، الجرح ليس عميقاً ، ستشفى خلال أيام . واعتدل سامو قليلاً ، وقال بصوت متعب : أشكرك ، يا اهاتاني . وقالت اهاتاني ، وهي تسوي الفراش حوله ، وقالت : عفواً ، هذا لا شيء . ونظر سامو إليها ملياً ، ثم قال : أخبريني .. وقاطعته اهاتاني بصوتها الطفولي الرقيق : لن أخبرك بشيء الآن . وقال سامو : وسأخبرك أنا .. ومرة ثانية قاطعته قائلة : ولا تخبرني .. وهمّ سامو أن يتكلم ، فسارعت إلى القول : أنت متعب ، وجائع ، كلْ وارتح ، أولاً ، ثم .. وتلفت سامو حوله في الكهف ، وكأنه لا يصدق أن في هذا الكهف ما يمكن أن يأكله ، فابتسمت اهاتاني ، وقالت : لدي حليب طازج ، من صديقاتي وعلات الجبل ، اشرب شيئاً منه ، واخلد إلى الراحة . وجاءته اهاتاني بشيء من الحليب بقدح صغير ، وقدمته له ، وقالت : تفضل ، اشربه . وأخذ سامو القدح ، بيدين مرتعشتين ، وشرب عدة جرعات ، ثم قال : حليب لذيذ . وابتسمت اهاتاني ، وقالت : لدي المزيد ، اشرب قدر ما تشاء ، فصديقاتي الوعلات ، اللاتي أرعاهن ويرعينني ، لا يبخلن عليّ بالحليب . وشرب سامر جرعة أخرى ، ثم قال : في طفولتي ، ببيتنا في القرية ، كان لديّ عنزة .. وقاطعته اهاتاني ، مشيرة له أن يسكت ، وقالت : دع طفولتك الآن ، نم قليلاً وارتح ، وستحدثني ربما ليلاً ، أو يوم غد ، عن كلّ شيء بالتفصيل . وهمّ سامو أن يردّ عليها ، وإذا طائر الرعد ، يرعد بصوته الثاقب الغاضب في الخارج ، على مسافة ليست بعيدة عن الكهف . وتمتم سامو خائفاً ، وقد اتسعت عيناه : يا إلهي ، طائر الرعد المتوحش . ورمقته اهاتاني بنظرة سريعة ، ثم تطلعت إلى الخارج ، عبر مدخل الكهف ، وقالت : لا تخف ، طائر الرعد لا يدخل الكهف ، ثم إنه لن يؤذيك مادمت معي . ونظر سامو أليها ، وقال : هذا أمر غريب . فابتسمت اهاتاني ، وقالت : سأوضحه لك فيما بعد . واتجهت اهاتاني إلى خارج الكهف ، فاعتدل سامو وهتف بها بصوت خائف : لا تخرجي ، يا اهاتاني ، هذا الطائر المتوحش قد يؤذيك . وتوقفت اهاتاني ، والتفتت إليه ، وقالت : لن يؤذيني ، فهو الذي رعاني كلّ هذه المدة . ولاذ سامو بالصمت مندهشاً ، فقالت اهاتاني ، وهي تخرج من الكهف : تمدد ونم ريثما أعود . لم يتمدد سامو ، وطبعاً لم ينم ، وكيف يمكن أن يتمدد أو ينام لحظة واحدة ، واهاتاني في الخارج ، تحت رحمة طائر الرعد ؟ ومرة أخرى ، راحت دوامة الأسئلة تدور في أعماقه ، ما حقيقة اهاتاني هذه ؟ من أين جاءت ؟ وكيف عاشت وتعيش وحدها ، في هذا الكهف الغريب ، وفي منطقة منعزلة كهذه مليئة بالمخاطر ؟ طال غياب اهاتاني خارج الكهف ، واستمرت دوامة الأسئلة تدور في أعماق سامو ، وخلال بحثه ألا مجدي عن الأجوبة الممكنة ، مال سامو شيئاً فشيئاً حتى تمدد في الفراش ، ورغم إرادته استغرق في نوم عميق .
" 6 " ـــــــــــــــــــــ
استيقظ سامو ، وقد خيم الظلام ، فرأى اهاتاني تجلس غافية ، إلى جانب الفراش ، وشعرها الذهبي يغطي صفحة من وجهها . وكأنما نبهها استيقاظه من غفوتها ، فاعتدلت محرجة ، مبتسمة ، وقالت : لقد نمتَ نوماً عميقاً . واعتدل سامو في الفراش ، وقال معتذراً : عفواً ، لقد أخذت فراشك . وهمّ أن ينهض ، وهو يتابع قائلاً : تعالي إلى فراشك ، يا اهاتاني ، وارتاحي . وقالت اهاتاني بصوتها الطفولي : ابقَ في مكانك ، يا سامو ، لن أنام في هذا الوقت . وابتسمت اهاتاني له ، وقالت : لابدّ أنك جائع الآن . وابتسم سامو بدوره ، وقال : لا أستطيع أن أشرب الحليب مرة أخرى هذه الليلة . فقالت اهاتاني ، وهي تكتم ضحكتها : لن تشرب الحليب ، بل ستأكل بطة مشوية . ونظر سامو إليها مستفسراً ، فقالت اهاتاني : جاءني بها كالعادة .. طائر الرعد . وتطلعت إلى مدخل الكهف ، الذي يضيئه ضوء القمر ، وقالت : الليلة دافئة ومقمرة ، تعال نجلس بعض الوقت في مدخل الكهف . وتطلع سامو إلى الخارج ، وقال متردداً : لو نبقى هنا أفضل ، فأنا أخشى .. ونهضت اهاتاني ، وقالت مبتسمة : لا تخشَ شيئاً ، فطائر الرعد ينام الآن في عشه . ونهض سامو بدوره ، وقال : لنرجىء إذن تناول بطتك المشوية . وسارت اهاتاني إلى مدخل الكهف ، وقالت : هذا رأيي أيضاً ، فالليل مازال في أوله . ولحق سامو بها ، وقال : هذا أفضل ، فقد حان وقت الحديث ، والحقيقة . وجلست اهاتاني في مدخل الكهف صامتة ، وجلس سامو إلى جانبها صامتاً ، والقمر يتطلع إليهما من أعالي السماء ، وربما ينتظر حديثهما . وتطلع سامو إليها ملياً ، على ضوء القمر ، ثم قال : اهاتاني . وعلى ضوء القمر ، نظرت إليه اهاتاني ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال بصوت أقرب إلى الحلم : طوال سنوات ، وأنا أتطلع من قريتي ، إلى هذا الجبل ، وقمته التي لا يفارقها الثلج أبداً .. وصمت لحظة ، ثم وبنفس الصوت الأقرب إلى الحلم ، تابع سامو قائلاً : يتناهى إليّ نداء ، لا أعرف من أين يأتي ، يهيب بي .. تعال .. تعال . وابتسمت اهاتاني ، وقالت بصوتها الطفولي : من يدري ، ربما كنت أنا من يهتف لك . ولاذ سامو بالصمت برهة ، وعيناه تجوبان أطراف الجبل ، التي تضيؤها أشعة القمر ، ثم قال : لقد سبقني أبي إلى مجاهل هذا الجبل ، وكنت ما أزال طفلاً . ونظرت إليه اهاتاني ، وقالت بصوتها الطفولي : هذا الجبل ، يجذب أحياناً ، أناساً لهم خصوصيتهم ، ولابد أن أباك واحد منهم . وهزّ سامو رأسه ، ثم قال : لا ، لم يكن أبي من هذا النوع من الناس ، فقد جاء يبحث عن طفلة ، اختطفها نسر ضخم ، كانوا يسمونه في قريتنا ، كما تسميه أنت ، طائر الرعد . ونظرت إليه اهاتاني صامتة مترقبة ، وقلبها يخفق بشدة ، فحدق سامو فيها ، وقال : الذين يتذكرونها ، قبل أن يختطفها طائر البرق ، ومنهم أمي ، كانوا يقولون ، إنها طفلة بيضاء كالثلج ، وعيناها زرقاوان كسماء الصيف ، وشعر كأنه أشعة الشمس . ونهضت اهاتاني ، وقالت بصوت مرتعش ، تبلله الدموع : لابد أنهم يذكرون أمها أيضاً .. وصمتت مغالبة دموعها ، فنهض سامو ، ووقف على مقربة منها ، وقال : يقال أنها كانت تعبدها ، فهي ابنتها الوحيدة ، وكان زوجها قد اختطفه البحر ، وحين جاء طائر الرعد ، واختطف طفلتها ، جن جنونها ، وراحت تدور في القرية ليل نهار ، تصيح .. أريد طفلتي .. أريد طفلتي .. وصمت سامو لحظة ، ثم قال : لم يحتمل أبي بكاءها وصياحها المجروح ، فأخذ قوسه وجعبة سهامه ، وصعد إلى الجبل ، ومنذ ذلك اليوم لم يره أحد . والتفتت اهاتاني إليه ، وحدقت فيه بعينين تغرقهما الدموع ، وقالت : سامو .. أنا تلك الطفلة . وأخذها سامو بين ذراعيه ، وقال : هذا ما خمنته ، يا اهاتاني ، منذ أن رأيتك لأول مرة ، تطلين عليّ من فوق تلك الصخرة .
" 7 " ــــــــــــــــــــ
تمدد سامو في فراش اهاتاني ، هذا ما أصرت عليه اهاتاني ، وتمددت هي على فرش بسيطة ، على مسافة أمتار منه . لم تنم اهاتاني ، رغم أنها أغمضت عينيها ، في عتمة الكهف ، وكذلك سامو ، فقد أغمض عينيه ، لكنه لم ينم ، رغم العتمة وتقدم الليل . والبطة المشوية ، التي هيأتها اهاتاني للعشاء ، ظلت في إنائها ، لم يلمسها أحد منهما ، رغم أن كليهما ، ربما كانا جائعين . قالت اهاتاني لسامو ، قبل أن تأوي إلى فراشها وتتهيأ للنوم ، لعلها ترتاح قليلاً : سأعد لك البطة ، يجب أن تأكل ، فالحليب لم يشبعك . فقال سامو ، وهو يتمدد في الفراش : لست جائعاً ، كلي أنت إذا أردت . ولم تكن اهاتاني تريد أن تأكل أي شيء ، فتمددت في فراشها ، وأغمضت عينيها ، لكنها لم تنم ، وكيف يمكن أن تنام ، وكلّ تلك الذكريات ، تدوّم في أعماقها ؟ سمعته يتقلب مرات في فراشه ، وسمعها تتقلب في فراشها ، وبدا لكل واحد منهما ، أن الآخر لم ينم ، فتطلعت اهتاني إليه في العتمة ، وقالت : سامو .. ولاذ سامو بالصمت لحظة ، ثم قال : يبدو أنك لم تنامي حتى الآن . وصمت لحظة ، ثم قال : أنتِ متعبة ، يا اهاتاني ، الأفضل أن تنامي . وبصوتها الطفولي ، القادم ربما من أعماقها ، قالت اهاتاني : إنني أسمع أمي ، تجوب القرية ، وتصرخ باكية .. اهاتاني .. اهاتاني . وقال سامو ، وكأن صوته يأتي من نفس الأعماق : خرج أبي وقتها للبحث عنك ، رغم أن الجميع حذروه ، وقالوا له ، لا تذهب ، إنه طائر الرعد . واعتدلت اهاتاني في فراشها ، وقالت : لم يؤذني طائر الرعد هذا ، رغم أنه اختطفني من أمي ، بل رعاني وكأني فرخ صغير من فراخه . واعتدل سامو في فراشه ، وراح ينصت إليها ، دون أن تبدر منه نأمة واحدة ، واستطردت اهاتاني قائلة : جاء بي إلى هذا المكان ، ووفر لي ما يمكن أن يسد رمقي من الطعام ، ومع الأيام صادقت هنا الطيور والأرانب والوعول ، وتعلمت في البداية أن أرضع مع صغار الوعول ، حتى كبرت بعض الشيء . وصمتت اهاتاني لحظة ، ثم قالت : لم أنقطع تماماً عن الناس ، فقد كان يأتي إلى الجبل هذا ، بين الحين والآخر ، أناس عديدون ، كنت أتلصص عليهم ، وأسمع أحاديثهم وأفهمها ، وكانت تذكرني بأحاديث أمي والأطفال الذين عرفتهم ، قبل أن يختطفني طائر الرعد ويطير بي إلى هنا . وابتسمت اهاتاني ، وقالت : وتعلمت منهم أيضاً ، كيف أشعل النار ، وأعد بعض الطعام ، بل وسرقت منهم بعض الأواني والفرش . ومرة أخرى صمتت ، ثم قالت : لم ينتبه أحد منهم إليّ على الأغلب ، فقد كنت شديدة الحذر ، إلا صياد عجوز ، لمحني أتلصص عليه ، فناداني ، هربت دون أن أردّ عليه ، فلحق بي وكأنه شاب مليء بالعزم والحيوية ، وهو يتقافز خلفي فوق الصخور ، وكاد يمسك بي ، لو لم يظهر الطائر الرعد في أعالي السماء ، وينقض عيه كالبرق ، ويصيبه إصابات ، ربما كانت قاتلة . وصمتت اهاتاني لحظة ، وتطلعت إلى سامو عبر عتمة الكهف ، وقالت بصوتها الطفولي : وأخيراً .. جئت أنت .. يا سامو . وتنهد سامو ، وقال ، وهو يتطلع إليها عبر عتمة الكهف : جاء بي إلى هذا المكان ، ذلك الهاتف ، وكأني في أعماقي ، ودون أن أدري ، جئت أبحث عما أراد أبي أن يبحث عنه ، في هذا الجبل ، وإذا كان أبي لم يجدك ، فها أنا قد وجدتك يا .. اهاتاني . صمت سامو ، وصمتت اهاتاني ، وسرعان ما استغرق سامو في النوم ، أما اهاتاني فلم تنم مباشرة ، فقد كانت تسمع أمها ، وهي تدور في القرية باكية ، وتصيح بصوت المجروح : اهاتاني .. اهاتاني ..
" 8 " ــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، حاول سامو ، وكذلك اهاتاني ، أن يتجنبا الحديث ، عما دار بينهما ، منذ لقائهما عند شجرة الجوز ، حتى ليلة أمس . وبعد أن تناولا الفطور ، وهو كالعادة حليب وعلة من الوعلات ، دون أن يتبادلا أي حديث تقريباً ، أخذت اهاتاني .. سامو .. إلى جولة خارج الكهف . أخذته أولاً إلى شجرة الجوز ، التي تحرسها الصخرة الضخمة ، حيث وقع نظره عليها حقيقة لأول مرة ، بعد أن تراءى له ، أنه رآها في المنام . ثم أخذته إلى عين الماء ، التي ينبثق ماؤها من بين الصخور ، وتوقفا هناك صامتين ، يتأملان الماء الرقراق ، وهو يتسلل بين الصخور ، وينحدر بسرعة متزايدة نحو الأسفل . والتفتت اهاتاني إلى سامو ، وقالت بصوتها الطفولي الرقراق : سامو .. ونظر سامو إليها ، فقالت مشيرة إلى العين : تذوق هذا الماء . وابتسم سامو ، وقال : لقد رأيت الوعل الصغير يشرب منه ، قبل أن تنقضّي عليّ . ولعل اهاتاني لم تفهم ما يقصده سامو بالضبط ، فقالت : إنه ماء بارد عذب . وقال سامو : آه لو كنتُ وعلاً . وابتسمت اهاتاني ، يبدو أنها فهمت ما يقصده هذه المرة ، أو ربما ظنت ذلك ، فانحنت على ماء العين ، وغرفت منه براحتيها ، ثم تقدمت من سامو ، وقالت : الآن تستطيع أن تشرب . ودسّ سامو شفتيه في الماء المترجرج بين راحتيها ، وراح يرشف منه في تمهل ، حتى أتى عليه ، فرفع رأسه ، وقال : لذيذ جداً . وابتسمت اهاتاني ، فقال سامو : يبدو أنني لن أرتوي من هذا الماء . ونظرت إليه اهاتاني ، وقالت : لا عليك ، يا سامو ، سأسقيك حتى ترتوي . وهمت اهاتاني أن تنحني على ماء النبع ثانية ، لتغرف براحتيها بعض الماء ، فمدّ يده ، وأمسك ساعدها ، وقال : لا تحاولي ، لن أرتوي . وتراجع سامو خائفاً ، حين لمح ظلاً يحوّم حولهما ، ورفع رأسه وإذا طائر الرعد يحوم في الأعالي ، وفي عينيه تتوهج جمرة من الغضب . ورفعت اهاتاني رأسها ، وحين رأت طائر الرعد قالت : اطمئن ، يا سامو ، لن يهاجمك بعد اليوم . وبالفعل ، حام طائر الرعد فوقهما عدة مرات ، ثم انطلق صاعداً ، نحو الصخور العالية ، القريبة من القمة المكللة بالثلج صيفاً وشتاء ، وهو يطلق صوته الرعد ، وغاب بين شعابها . وبعد منتصف النهار ، عادا إلى الكهف صامتين ، وقد تجنب كلّ منهما من جهته ، الحديث عما دار بينهما ، منذ لقائهما الأول ، عند شجرة الجوز . وعند باب الكهف ، تناهى إليهما صوت طائر الرعد مرة أخرى ، يصيح بصوته الثاقب ، فتوقف سامو ، ورفع عينيه ، ورأى الطائر يحوم في الأعالي ، وهو يصيح بين حين وآخر ، فقال : لقد عاد طائر الرعد . ونظرت اهاتاني إلى الطائر ، وقالت بصوتها الطفولي : إنه غاضب ومهموم . ونظر سامو إليها ، وقال : ألا يكفه أنه خطفك ، وأنت طفلة صغيرة : وقالت اهاتاني : إنه يحبني . ونظر سامو إليها ، فقالت بصوت طفولي حزين : وأنا أيضاً أحبه . وحام طائر الرعد فوقهما صامتاً ، ثم هبط من أعالي السماء ، وحط في هدوء على صخرة عالية ، تقف بشموخ على مسافة من الكهف . وهمّ سامو أن يدخل الكهف ، وهو يقول : تعالي ، يا اهاتاني ، لندخل ونرتاح قليلاً . ونظرت اهاتاني إلى طائر الرعد ، الذي كان يتطلع إليها ، وقالت : إنه يناديني . فتوقف سامو ، وقال : اهاتاني .. واتجهت اهاتاني نحو طائر الرعد ، دون أن تلتفت إليه ، وقالت : أدخل الكهف أنت ، سأرى طائر الرعد ، وأعود بعد قليل .
" 9 " ـــــــــــــــــــــ
قبيل المساء ، والشمس تميل إلى الغروب ، رأته يجلس ساهماً ، مهموماً ، عند باب الكهف ، فجلست إلى جانبه ، وهمهمت متسائلة : هم م م م ؟ فنظر سامو إلها ، وقال : أمي . قالت اهاتاني مازحة : اذهب إليها . وقال سامو : ستهمهم لي مستفسرة هم م م م ؟ ونظرت إليه مستفهمة ، فقال سامو : لن أكذب عليها .. سأقول لها .. اهاتاني . فقالت اهاتاني : لابد من حلّ . ونظر سامو إليها ، وقال : ساعديني . ورفعت اهاتاني كتفيها ، وقالت : الأمر لك . فقال سامو : لا أستطيع أن آتي بأمي إلى هنا ، فهي امرأة عجوز متعبة .. ونظرت اهاتاني إلى طائر الرعد ، الجاثم على الصخرة المرتفعة ، وقالت : وأنا لا أستطيع أن آخذ طائر الرعد ، وأنزل به إلى القرية . والتفت سامو إليها ، وقال : تعالي معي وحدك ، فطائر الرعد ولد وعاش حياته هنا . وهزت اهاتاني رأسها ، ثم قالت ، وهي تنظر إلى طائر الرعد : أخذني .. ورعاني .. وعشتُ إلى جانبه .. كلّ هذه السنين . ونظر سامو إليها ، وقال : اهاتاني .. وتطلعت اهاتاني إليه حائرة ، فقال : لابد من حل ، وفي أسرع وقت ممكن . وأطرقت اهاتاني رأسها ، دون أن تحير بكلمة ، فنهض سامو ، ومضى إلى داخل الكهف ، وهو يقول : إنني متعب ، سأنام . ولبثت اهاتاني جامدة في مكانها ، وانبثقت الدموع من عينيه ، كما تنبثق المياه من أعماق الأرض ، حاولت جهدها أن تحبسه ، دون جدوى . ونهضت من مكانها ، وبدل أن تدخل الكهف ، وتمضي إلى سامو ، نظرت إلى طائر الرعد ، الجاثم فوق الصخرة المرتفعة ، ومضت إليه . ونظر طائر الرعد إلى اهاتاني ، بعيني منطفئتين ، ورآها ـ على غير عادتها ـ مهمومة حائرة ، والدموع تغرق عينيها . وتسلقت اهاتاني الصخرة المرتفعة ، بخطوات مترددة متعبة ، وتقدمت مطرقة الرأس من طائر الرعد ، وتوقفت على مقربة منه ، ورفعت عينيها الغارقتين بالدموع إليه ، دون أن تنطق بكلمة واحدة . وحدق طائر الرعد فيها ، بعيني حزينتين منطفئتين ، ثم فتح جناحيه الهائلين ، وطار مبتعداً ، وبدل أن يتجه إلى عشه ، كالعادة في مثل هذا الوقت من النهار ، أرتفع عالياً .. عالياً .. عالياً .. ولم يتوقف عند الصخور العالية ، بل حلق حتى القمة ، التي لا يغيب الثلج عنها طول أيام العام ، واختفى وراءها ، كما تختفي الشمس الغاربة وراء الأفق البعيد . وتلفتت اهاتاني حولها ، لا تدري ماذا تفعل ، وفجأة وجدت نفسها تنزل عن الصخرة المرتفعة ، وتتجه راكضة نحو الكهف ، وهي تصيح بصوت باك : سامو .. سامو .. سامو . وهبّ سامو من فراشه ، حين تناهى إليه من الخارج ، صوت اهاتاني الباكي ، وأسرع إلى خارج الكهف ، ليرى ما الأمر . وأقبلت عليه اهاتاني راكضة باكية ، فمدّ يديه إليها ، وأمسك يديها المرتجفتين ، وقال : اهدئي ، يا اهاتاني ، اهدئي ، وأخبريني عما جرى . فقالت اهاتاني باكية : طائر الرعد . وتساءل سامو ، وهو يحاول أن يهدئها ، ويكفكف دموعها : اهدئي ، يا اهاتاني ، اهدئي يا عزيزتي ، وقولي لي ، ما الأمر . وقالت اهاتاني ، وهي تشهق مغالبة دموعها : ذهب .. طائر الرعد .. ذهب ولن يعود . وقال سامو ، وهو يأخذها باتجاه الكهف : تعالي ارتاحي في الداخل .. تعالي . وسارت اهاتاني إلى جانبه ، ودخلت الكهف معه ، وقالت من بين دموعها : لن يعود .. لن يعود .
" 10 " ـــــــــــــــــــــــ
استيقظ سامو ، في اليوم التالي ، قبل شروق الشمس ، وما إن فتح عينيه ، حتى عرف أن اهاتاني ، ليست في فراشها ، وخفق قلبه خوفاً ، ترى أين مضت هذه المجنونة ، في مثل هذا الوقت ؟ وهبّ من مكانه ، ومضى مسرعاً إلى الخارج ، ووقف على مقربة من باب الكهف ، وراح يتلفت حوله ، لعله يعثر على أثر لاهاتاني ، لكن دون جدوى . وركض في هذا الاتجاه ، وركض في ذلك الاتجاه ، وهو يتلفت حوله ، وعيناه تركضان في كلّ الاتجاهات ، ويصيح بأعلى صوته : اهاتاني .. اهاتاني . لم يسمع سامو رداً على صيحاته ، لكنه سرعان ما توقف ، وقد كفّ عن الصياح ، فقد رأى اهاتاني ، تقبل متعثرة ، وعيناها الزرقاوان غارقتان بالدموع . وأسرع سامو إليها ، وقال : اهاتانو ، الوقت مبكر ، لقد قلقت عليك . وردت اهاتاني ، وهي تغالب بكاءها : سامو ، لقد اختفى طائر البرق . فقال سامو بصوت مطمئن : لا عليك ، إنه يستيقظ مبكراً ، كما تعلمين ، ولابد أنه مضى يبحث عن طعام له هنا أو هناك . وهزت اهاتاني رأسها ، وقالت : لا ، لا ، لقد مضى ، إنه حتى لم ينم في عشه . وأمسك سامو يدها ، وقال : تعالي ارتاحي قليلاً في الكهف ، وإذا لم يعد إلى عشه بعد شروق الشمس ، فسنبحث عنه أنا وأنت حتى نجده . وبعد شروق الشمس مباشرة ، انطلقت اهاتاني برفقة سامو ، وبحثا عن طائر الرعد في كل مكان ، دون جدوى ، وعند غروب الشمس ، عادا متعبين منهارين إلى الكهف . وتمددت في فراشها ، وكما أن سامو لم ينم ، فإن اهتاني لم تنم أيضاً ، وسمعها تنشج بصوت خافت ، وتتمتم من بين دموعها : لن يعود .. لن يعود . وفي اليوم التالي ، وقبل شروق الشمس ، ذهبا معاً إلى العش ، لكنه كما كان في الأمس خالياً بارد ، هذه الليلة لم يبت طائر الرعد في عشه ، وتلفتت اهاتاني حولها ، تبث عنه بعينيه الغارقتين بالدموع ، وتساءلت بصوت مختنق ، وكأنها تحدث نفسها : ترى أين مضى ؟ وطوال النهار ، أعادا البحث عن طائر الرعد ، في كلّ مكان ، لكن دون جدوى ، ومع الغروب عادا مرة أخرى إلى الكهف ، وتناولا طعامهما صامتين ، ثم أوى كلّ منهما إلى فراشه . في صباح اليوم التالي ، أفاق سامو ، وقد بدأت أشعة الشمس ، تتسلل إلى مدخل الكهف ، واعتدل في فراشه ، عندما رأى اهاتاني جالسة في فراشها ، وعيناها الزرقاوين ، تحدقان في الفراغ . وتنهد سامو ، وقال : رأيت أمي في المنام . ونظرت اهاتاني إليه صامتة ، فأضاف قائلاً : إنها امرأة مسنة ، وأخشى أن تكون مريضة . ونهضت اهاتاني ، ووقفت بباب الكهف ، فنهض سامو ، ووقف إلى جانبها ، وقال : لابدّ أن أذهب ، لا أريد أن أتركها وحيدة ، في أيامها الأخيرة . وصمت سامو ، وانتظر أن تعلق اهاتاني بشيء ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فاستدار على مضض ، ومضى في طريقه نحو القرية . وتراءت له أمه ، كما رآها في المنام ، ليلة البارحة ، تمدّ إليه يديها الشائختين المرتعشتين ، وتناديه بصوتها الدامع : بنيّ سامو .. تعال .. تعال .. تعال . لقد قالت له مراراً ، كلما رأته يتطلع إلى الجبل الأبيض ، بقمته التي لا يغيب الثلج عنها ، لا في الشتاء ولا في الصيف : سامو ، إنني لا أريد أن أفقدك ، كما فقدت أباك ، سأموت إذا غبت عني فترة طويلة . وتوقف سامو ، قبيل منتصف النهار ، كأنما سمع صوتاً طفولياً يأتيه من الأعالي ، وتلفت حوله ، لكنه لم يرَ أحداً ، وتراءت له أمه ثانية ، تمد إليه يديها الشائختين المرتعشتين ، وتناديه بصوتها الدامع : بنيّ سامو .. تعال .. تعال .. تعال . وبدل أن يواصل سامو طريقه إلى القرية ، عاد يتقافز فوق الصخور ، كوعل فتيّ ، وسرعان ما توقف ، وقلبه يدق فرحاً ، فقد رأى اهاتاني تركض مقبلة نحوه ، وشعرها الذهبي يتطاير في الهواء ، وارتمت بين ذراعيه ، وهي تقول : عرفت أنك ستعود إليّ . وضمها سامو إلى صدره ، وقال في فرح وحيرة : اهاتاني .. فرفعت اهاتاني عينيها الزرقاوين إليه وقد خلتا من الغيوم والأمطار ، وقالت : أريد أن أرى القرية ، التي ولدت فيها ، والتي سنعيش فيها معاً .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
-
رواية للفتيان الصحن الطائر
-
رواية للفتيان اشوميا الز
...
-
رواية للفتيان نداء الانوناكي
-
رواية للفتيان نانوك
-
شبح غابة اتوري رواية للفتيان
-
رواية للفتيان فتى من كوكب نيبيرو
-
زهرة الأنوناكي
-
رواية للفتيان الحداد
-
رواية للفتيان من قتل شمر ؟
المزيد.....
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|