|
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7548 - 2023 / 3 / 12 - 23:36
المحور:
الادب والفن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ حمد 2 ـ خزنة 3 ـ دحام 4 ـ سالم 5 ـ أم عيشة 6 ـ عيشة 7 ـ الراعي العجوز 8 ـ ملا صالح
" 1 " ـــــــــــــــــ على غير عادته ، لم ينهض حمد من فراشه ، رغم أن الشمس توشك أن تشرق ، ونظرت إليه زوجته خزنة ، وقد أعدت طعام الفطور ، وصاحت : حمد .. وفتح حمد عينيه بصعوبة ، وردّ بصوت ناعس متحشرج ، دون أن ينهض من فراشه : ها .. وهزت خزنة رأسها ، الملفوف بفوطة ملونة ، وقالت : تبدو مريضاً .. وردّ حمد : نعم ، إنني دائخ .. ونظرت خزنة إليه ، وقالت بنبرة لائمة : حذرتك البارحة ، وقلتُ لك أن لا تخرج إلى المرعى . واعتدل حمد في فراشه ، وقال متأوهاً ، ورأسه بين يديه : عندما خرجت بالنعاج إلى المرعى ، لم يكن المطر يهطل ، آه رأسي . وبشيء من اللوم والحدة ، قالت خزنة : لكن السماء كانت مليئة بغيوم سوداء ، تنذر بالمطر . ونظر حمد إليها ، وقال مستسلماً : لقد أمطرت ، وأي مطر ، وها أني قد مرضت . وصمت لحظة ، ثم قال بصوت واهن : خزنة .. ونظرت خزنة إليه ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، فقال بصوت واهن : لا أستطيع اليوم ، الخروج بالأغنام إلى المرعى ، رغم أن السماء ليست غائمة . وهزت خزنة رأسها ، وقالت بصوت هادئ : لا عليك ، يا حمد ، سأخرج أنا بها اليوم ، ابقّ أنت متمدداً في فراشك ، وارتح ، هذا ما تحتاجه ، وستشفى . واعتدل حمد في فراشه ، وقال : لا تخرجي بالنعاج ، قبل أن تتناولي طعام الفطور . واستدارت خزنة مبتعدة عن حمد ، وهي تقول : أريد أن أخرج بالنعاج ، قبل شروق الشمس ، سآخذ معي بعض الطعام ، وأتناوله في المرعى . ووضعت رغيف خبز في الصرة ، ومعه حفنة من التمر ، واتجهت إلى الخارج ، فهتف حمد بها : خزنة ، دعي الحملان في مكانهم ، إنهم ما زالوا صغاراً . وخرجت خزنة من الخيمة ، دون أن تلتفت إلى حمد ، وأخذت النعاج الثلاث عشرة ، والخراف الخمسة مضت بهم بعيداً عن الخيمة ، التي تقع بمعزل عن الخيام الأخرى ، والتي يعيش فيها رعاة من أقاربهم . وسارت خزنة بالأغنام ، متجهة بها نحو المرعى ، والكلب الضخم الذي لا يفارق الأغنام ، يهرول إلى جانبها ، وهو يلهث ، واجتازت أماكن معشبة عديدة ، يرعى في جنباتها عدد من الرعاة ، وواصلت طريقها باتجاه سفح الجبل ، فهناك مرعى جيد ، كما أن فيه كهف صغير ، يمكن أن تلجأ إليه ، إذا هطل المطر . وقبل أن تصل إلى السفح ، مرت عن بُعد براع شيخ ، فهتف بها : أيتها البنية ، لا تبتعدي كثيراً ، قبل أيام شاهد أحد الرعاة ، ذئباً أحمر في الجوار . ولوحت له خزنة بهراوتها ، وقالت : لا تخف عليّ ، يا عم ، معي هراوتي وكلبي هذا . وعندما وصلت خزنة ، سفح الجبل المعشب ، جلست تحت شجرة هناك ، تاركة الأغنام ترعى على امتداد السفح ، وأقعى الكلب الضخم على مقربة منها ، وعيناه تدوران حوله ، ولا تغفلان عن الأغنام . وفتحت خزنة صرة الطعام ، وأخرجت منها رغيف الخبو والتمر ، وراحت تأكل ، لكن تفكيرها كان منصرفاً إلى زوجها حمد ، آه حمد ، آه ابن عمي ، قتلت نفسك على خزنة ، لكن خزنة ، ابنة عمك ، التي حصلت عليها بشق الأنفس ، صحراء لم تعطك نبتة واحدة حتى الآن ، رغم مرور سنوات على الزواج . آه ما العمل ؟ قالت له مرة : تزوج ، يا حمد . ونظر حمد إليها ، وقال : وإذا تزوجت ، ماذا تفعلين ؟ وردت ، وعيناها تدمعان : سأبكي .. وابتسم ، وقال : ها أنتِ تبكين ، قبل أن أتزوج .. ثم هزّ رأسه ، وقال : كلا . وقبيل العصر ، وقد اختفت الشمس وراء الغيوم ، نهضت خزنة ، وراحت تجمع الأغنام ، استعداداً للعودة إلى المخيم ، والكلب الضخم يهرول إلى جانبها ، وتناهى إليها من مكان قريب ، في أعلى السفح ، صوت شاكٍ كأنه صوت جرو صغير . وتوقفت متعجبة ، جرو في هذا المكان ؟ وأسرعت إلى مصدر الصوت ، وإذا جرو غريب ، يميل لونه إلى الأحمر ، يتخبط داخل كهف صغير يشبه الحفرة ، فمدت يديها إليه ، ورفعته من الحفرة ، وراحت تحدق فيه ، أهو جرو كلب أم جرو ثعلب أم .. ليكن ما يكون ، إنه جرو وحيد في هذا العراء ، ومن يدري ، قد يهطل المطر هذه الليلة ، فيموت .. المسكين .. وضمت خزنة الجرو إلى صدرها ، وكأنها تضم طفلاً صغيراً ، ثم جمعت الأغنام ، ومضت عائدة إلى الخيمة ، والكلب الضخم يهرول لاهثاً إلى جانبها .
" 2 " ـــــــــــــــــ قبيل غروب الشمس ، والمطر يوشك أن يهطل ، تناهى إلى حمد ، وهو جالس في فراشه ، أصوات تدافع الأغنام وثغاؤها ، وهي تدخل الحظيرة ، وتنفس الصعداء ، لقد جاءت خزنة من المرعى . وأقبلت خزنة ، عبر مدخل الخيمة ، وهي تحمل بين يديها ، ما يشبه الجرو الصغير ، ونظر حمد إليها مندهشاً ، وخاطبها قائلاً : خزنة .. ولعل خزنة خمنت ما يريد أن يقوله ، فنظرت إليه ، وقاطعته قائلة : هذا جرو . وقال حمد : إنني أراه .. وأبعدت خزنة عينيها عنه ، وهي ما زالت تحمل الجرو بين يديها ، ثمّ قالت : رأيته في حفرة عند سفح الجبل ، وخشيت أن يهلك ، إذا هطل المطر في الليل ، وهو وحيد في تلك الحفرة . ونهض حمد من فراشه ، وهو يقول : هذا أمر لا تقوم به غير زوجتي ، ابنة عمي الرحيمة ، خزنة . ورمقت خزنة الجرو بنظرة سريعة ، وقالت : طبعاً ، فأنا .. أنا انسانة . وحدق حمد في الجرو ، الذي ما زال بين يدي خزنة ، ثم نظر إل خزنة ، وقال : لا أظنّ أنك تعرفين ، حقيقة هذا الجرو ، الذي جئت به إلى خيمتنا . وحدقت خزنة في الجرو ، وكأنها تريد أن تتأكد من حقيقته ، ثم قالت : أعرف طبعاً ، إنه جرو .. جرو صغير كغيره من الجراء . واقترب حمد منها ، وأشار إلى الجرو ، الذي بين يديها ، وقال لها : انظري إليه ، وحدقي في لون فرائه ، إنه ضارب إلى الحمرة .. وقاطعته خزنة قائلة ، بشيء من نفاد الصبر : للجراء ألوان مختلفة ، وفراء هذا الجرو أحمر ، فما الغريب في هذا الأمر ، يا حمد ؟ وهزّ حمد رأسه ، ثم قال : الفرق أن هذا الجرو ، ليس جرو كلب ، ولا جرو ثعلب .. ونظرت خزنة إليه صامتة ، مترقبة ، فتابع قائلاً : إنه جرو ذئب .. ولاذت خزنة بالصمت ، فقال حمد : جرو من جراء .. الذئب الأحمر . وحدقت خزنة بجرو الذئب الأحمر ملياً ، يبدو أنها لم تكن تتوقع ، أن يكون هذا الجرو الصغير الجميل المسكين ، جرو الذئب الأحمر ، لكنها رفعت عينيها إلى حمد ، وقالت بصوت متردد : مهما يكن ، فهو جرو ، جرو صغير ، لا خطر منه . ونظر حمد إلى الجرو الصغير ، ثم قال : الخطر ليس منه ، وإنما من أمه .. ولاذت خزنة بالصمت حائرة ، فتابع حمد قائلاً : أنت لا تعرفين الذئب الأحمر . وتحيرت خزنة ، ماذا تقول ، لعل حمد محق بعض الشيء ، فيما ذهب إليه ، لكن الجرو جروها ، ولا يمكن أن تقتنع ، بأنها كان عليها أن تدعه يهلك في الليل ، داخل تلك الحفرة . ومضت خزنة إلى الخارج ، والجرو بين يديها ، وهي تقول : سأذهب واطعم الحملان ، لابد أنها جائعة جداً الآن ، ثم أحلب النعاج . وأخذت خزنة الحملان إلى النعاج ، وتركتها ترضع من أمهاتها ، ثم حلبت النعاج ، وحملت الحليب إلى داخل الخيمة ، وهي تحمل أيضاً جرو الذئب الأحمر . وتابع حمد زوجته خزنة ، وهي تعد طعام العشاء ، دون أن تتخلى عن الجرو ، أو تضعه في مكان بعيداً عنها ، وغالب ابتسامته ، خزنة تبقى خزنة ، طفلة في جسم امرأة ، وخاطبها مازحاً : يبدو أن هذا الجرو ، لا يجوع ولا يعطش مثلنا . وردت خزنة ، دون أن تلتفت إليه : سأطعمه قبل أن نأكل أنا وأنت . وصمتت لحظة ، ثم قالت : ملا صالح قال مرة ، أن امرأة دخل النار في قطة لم تطعمها .. والتفتت إلى حمد ، وتابعت قائلة : وأنا لا أريد أن أدخل النار في هذا الجرو . لم يتمالك حمد نفسه من الضحك ، فأخذت خزنة ملعقة طعام ، وأخذت تملأها بالحليب ، ثم تدفعها في فم الجرو ، الذي راح يشربه متلهفاً ، ونظرت خزنة إلى حمد ، وقالت له : حمد ، ابن عمي .. ونظر حمد إليها ، والضحكة مازالت تبدو في عينيه ، فتابعت خزنة قائلة : أريد منك أن تحب هذا لجرو .. لكن حمد لم يجبها ، فقالت له : هذا الجرو طفلي . وكتم حمد ضحكته ، وأجابها هذه المرة ، فقال : لكني لستُ أباه .
" 3 " ــــــــــــــــــ قفلت الذئبة الحمراء ، والشمس تميل للغروب ، عائدة إلى الوكر ، الذي وضعت فيه جروها الصغير ، بعد أن قامت بجولة ، في أعلى سفح الجبل ، لعلها تجد ما تأكله ، وتسد به جوعها المزمن . صحيح إنها كانت تأمل ، أن تصطاد أرنباً أو غزالة ، لكنها لم تحضَ اليوم إلا بعدد قليل من القوارض ، لم تسد جوعها ، فراحت تتصيد الحشرات ، وتأكل بعض النباتات ، التي قد تشعرها بالشبع . وحثت خطاها ، تسابق الشمس ، التي وصلت إلى الأفق ، منذرة بقدوم الليل ، إن جروها الصغير ، الذي وضعته قبل أربعة أشهر تقريباً ، ينتظرها الآن بفارغ الصبر في الوكر ، ولابدّ أنه جائع جداً الآن ، ويريد أن يرضع ، ويسكت جوعه ، فهو .. ذئب .. ذئب أحمر . وحين اقتربت من محيط الوكر ، توقعت أن يخرج جروها كالعادة ، ويركض فرحاً نحوها ، بعد أن يكون قد شمّ رائحتها ، رائحة الأم ، ورائحة الحليب ، وهو يغمغم كأنه يهتف : ماما .. ماما .. لكن الجرو الصغير ، على غير العادة ، وبعكس ما كانت تتمنى ، لم يخرج من الوكر ، ويركض إليها فرحاً .. ماذا جرى ؟ أهو نائم أم .. ؟ من يدري ، ربما طال انتظاره لها ، فغلبه الغضب ، فهو ذئب ، وقرر أن يبقى في الوكر ، ويُظهر زعله منها ، مهما يكن ، سترضعه حتى يرضى ويشبع . وفوجئت الذئبة الحمراء ، حين أطلت على الوكر ، الذي وضعت فيه جروها الصغير ، بأنه خالٍ ، ولا أثر فيه للجرو الصغير ، وخفق قلبها بشدة ، وتعكرت عيناها ، وتلفتت حولها يميناً ويساراً ، دون جدوى ، لكن لا أثر لصغير على مدى البصر . ولم تقوَ الذئبة الحمراء ، على البقاء في مكانها ، خاصة وأن قرص الشمس كان يوشك أن يتوارى وراء الأفق الغربيّ ، ورأت أن تبحث عنه في الجوار ، فهو صغير ، ولا يمكن أن يكون قد ذهب بعيداً . وبدل أن تصعد إلى السفح ، حيث الصخور والأشجار ونبع الماء ، هبطت نحو الأسفل ، وكانت تعرف أن الرعاة ، وكلابهم الشرسة ، كانوا قد غادروا المراعي حوالي العصر ، وعادوا إلى خيامهم . لكن ، وكما لم تجد أثراً لجروها الصغير في الوكر ، ولا في محيط الوكر ، لم تقع له على أي أثر في أسفل السفح ، وتوقفت حزينة ، حائرة ، ترى أين ذهب ؟ وفكرت ، والغضب يشتعل في أعماقها ، أن جروها ، ربما لم يغادر الوكر ، ويضل طريق العودة إليه ، وإنما ـ وهذا متوقع ـ هاجمه ذئب رمادي ، وفتك به و .. لكن لا أثر للذئب الرمادي لا هنا ولا حول الوكر ، ولا أثر لأي جريمة من هذا النوع في أي مكان حولها . وتناهى إليها من بعيد ، نباح كلاب شرسة ، إنها كلاب الرعاة ، وقد شموا رائحتها على ما يبدو ، ولعلهم يحذرونها من الاقتراب من الخيام ، أو محاولة اختطاف حمل من الحملان . وظلت الذئبة الحمراء ، واقفة في مكانها ، لا تخيفها نباح الكلاب الشرسة ، وخطر لها أن أحد الرعاة ، ربما عثر على جروها الصغير ، وأخذه معه إلى الخيام ، لكنها هزت رأسها ، لا يوجد راع مجنون ، يمكن أن يأخذ ذئباً ، مهما كان صغيراً ، ويبقيه في خيمته ، قريباً من نعاجه وحملانه الصغيرة . وهزت رأسها ثانية ، نعم ، لا يمكن أن يأخذه أحدهم ، فمثل هؤلاء الرعاء ، الذين ذاقوا مرارة فقدان حملانهم وحتى نعاجهم ، على مخالب الذئاب وأنيابهم ، قد يقتلون الجراء ، انتقاماً من الذئاب البالغة ، لا اقتنائها ، ويقتنون بدل ذلك جراء الكلاب ، التي تكبر ، وتصير كلاباً تحرسهم وتحميهم من الذئاب . غابت الشمس تماماً ، وبدأ الظلام يزحف على الجبل ، ويسدل ستاره عليه ، واستدارت الذئبة الحمراء ، وقفلت عائدة إلى الوكر ، وعيناها تنزان دمعاً . أه لو كان أبوه موجوداً ، لما جرؤ أحد على الاقتراب من الوكر ، وأخذ الجرو الصغير ، أو محاولة الحاق الأذى به ، لقد كان ينتظر ولادته بفارغ الصبر ، وذات ليلة انسل إلى مخيم الرعاة ، ليأتي ذئبته الحمراء بشاة ، فالتم عليه الرعاة وكلابهم الشرسة ، وفتكوا به .
" 4 " ـــــــــــــــــ أفاق حمد من النوم هذا اليوم ، قبل أن تفيق خزنة ، وفتح عينيه ، اللتين زايلتهما الحمى ، والقى نظرة سريعة نحو زوجته ، التي تغط في النوم إلى جانبه ، وهزّ رأسه مغالباً ابتسامته ، المجنونة ، إنها تنام وجرو الذئب الأحمر ، يغط نائماً في حضنها . ومد يده ، وهزها برفق ، قائلاً : خزنة .. وأفاقت خزنة ، وقبل أن تفتح عينيها ، الغارقتين في النعاس ، مدت يدها بسرعة ، وهي تتمتم بصوت خافت : حمران .. حمران .. وخاطبها حمد قائلاً : لا تخافي على حمران ، يا خزنة ، إنه يغط في النوم إلى جانبك . ونظرت خزنة إلى الجرو ، وقالت : لينم ، ويرتاح ، الصغار يحبون النوم . فقال لها حمد : لابد أن طفلك جائع الآن ، أيقظيه ، وأطعميه ، حتى ينمو بسرعة . واعتدلت خزنة في فراشها متثائبة ، ثم قالت : نبينا صلى الله عليه وسلم ، أوصانا بالرفق بالحيوان ، هذا ما يقوله دائماً ملا صالح . وتمتم حمد بصوت خافت : آه من ملا صالح . ونهضت خزنة بهدوء ، وغطت حمران ، ثم قالت : ملا صالح يعرف ما أوصى به نبينا . ونهض حمد بدوره ، وقال : نبينا أوصى بالقطط والكلاب وحتى بالحمير ، ولم يوصِ بجراء الذئاب ، وخاصة الذئاب الحمراء . وحدقت خزنة فيه صامتة ، فقال حمد مغالباً ابتسامته : ألم يوصك ملا صالح بي ؟ واستدارت خزنة معبسة ، وبدل أن تردّ عليه ، قالت ، وهي تهم بإعداد طعام الفطور : لدينا لبن خاثر ، وقشطة ، سأعد الشاي . وتنهد حمد ، دون أن يتفوه بكلمة ، وأشعلت خزنة المدفأة ، ووضعت ابريق الشاي فوقها ، ثم أخرجت رغيفين ، من الخبز الذي خبزته البارحة ، وقالت : سأخبز اليوم مع جارتنا أم عيشة . ورمق حمد جرو الذئب ، الذي ما زال نائماً تحت الفراش ، وخاطب زوجته قائلاً : خزنة .. وربما خمنت خزنة ما يريد حمد أن يتحدث عنه ، فقالت : الشمس تكاد تشرق . لكن حمد لم يلتفت إليها ، وتابع قائلاً : هذا الجرو .. ونظرت خزنة إليه صامتة ، لقد عرفت أنه سيتحدث عن الجرو ، فقال حمد : لا تحدثي أحداً عنه . وردت خزنة محتجة : إنه جرو . فقال حمد : جرو ذئب . وأمالت خزنة رأسها ، وقالت : اطمئن ، سأخفيه . ثم نظرت إلى ابريق الشاي ، وكان على ما يبدو يغلي على المدفأة ، فقالت : الشاي جاهز ، والشمس تكاد تشرق ، تعال نفطر . وجلسا متقابلين ، يتناولان طعام الافطار ، دون أن ينبس أحدهما بكلمة ، ثم نهض حمد ، وهو يقول : سآخذ الأغنام ، وأذهب بها إلى المرعى . واتجه حمد إلى الخارج ، فقالت خزنة : سأبقى في الخيمة ، مع حمرون ، ولن أزور أحداً . وتوقف حمد عند مدخل الخيمة ، وخاطبها قائلاً : بعد أشهر ، لن يبقى حمرون جرواً ، سيكبر .. وقاطعته خزنة قائلة ، : حمد ، اذهب الآن إلى الأغنام ، الشمس بدأت تظهر في الأفق . وخرج حمد من الخيمة ، دون أن ينظر إليها ، ومضى نحو الأغنام ، وأخرجها من مكانها ، ثم مضى بها نحو المرعى ، والكلب الضخم يهرول إلى جانبه . وبقيت خزنة في مكانها داخل الخيمة ، وجرو الذئب الأحمر ما زال راقداً تحت الفراش ، ووقع نظرها على صرة الطعام ، فانتفضت قائلة : يا ويلي ، نسي الصرة ، آه منك حمد . ومدت يدها إلى صرة الطعام ، وأخذتها بسرعة ، وخرجت من الخيمة ، وراحت تركض في اثر زوجها حمد ، وهي تصيح : حمد ، مهلاً يا حمد . وتوقف حمد ، والتفت إليها ، ووقف كلبه الضخم معه ، فصاحت وهي تركض نحوه ، وصرة الطعام في يدها : لقد نسيت صرة الطعام . فقال حمد مازحاً : الفضل يعود لطفلك المدلل حمران ، يا ابنة عمي خزنة . فردت خزنة قائلة ، بصوت هادئ : ستحبه مثلما أحبه ، إنني أعرفك ، يا حمد . وأخذ حمد صرة الطعام ، من يد خزنة ، ومضى في اثر أغنامه ، وهو يقول : آه منكِ ، يا خزنة .
" 5 " ــــــــــــــــــ مرت أيام وأيام ، وحمد يأخذ أغنامه ، في كلّ يوم ، ويذهب بها إلى المرعى ، وكلبه الضخم يهرول إلى جانبه ، لا يفارقه وكأنه ظله . ويبقى في المرعى ، مع أغنامه ، لا تغفل عيناه عنها أبداً ، فالأغنام معرضة للسرقة ، وهي أيضاً معرضة للذئاب ، التي ينحدر بعضها من أعالي الجبل ، ويغيرون على الحملان والنعاج والخرفان . وقبيل المساء ، يعود حمد بالأغنام إلى خيمته ، وقد شبعت مما أكلته من الحشائش ، التي تكثر في المرعى ، وامتلأت ضروعها بالحليب الدسم ، الذي تعد خزنة منه اللبن والقشطة والدهن . وما أن يُدخل الأغنام إلى الحظيرة ، ويطلق الحملان لترضع من امهاتها ، حتى يدخل الخيمة ، وتكون خزنة قد حضرت له الطعام ، فيجلس إلى السفرة ، ويتناول الطعام صامتاً ، ومعه زوجته خزنة ، التي تضع " طفلها الأحمر " في حضنها ، وهي تأكل . وكما أن خزنة ، كانت متعلقة بجرو الذئب حمران ، ولا تتركه لحظة واحدة ، لا ليلاً ولا نهاراً ، وإن كانت تحرص في الوقت نفسه ، أن لا يراه أحد ، أو يعرف بوجوده في خيمتها ، كذلك الذئبة الأم الحمراء ، فإن صغيرها لم يغب عن بالها أبداً ، وظلت تبحث عنه في كلّ مكان ، لعلها تقع له على أثر . وذات يوم ، عند العصر ، وقبل أن يعود حمد بالنعاج من المرعى ، تناهى لخزنة من بعيد ، وهي داخل الخيمة ، عواء ممطوط : عووووو .. هذا ليس عواء كلب ، نعم ، فالكلاب لا تعوي هكذا ، وانتبهت إلى الجرو حمران ، يرفع رأسه ، ويصغي إلى ذلك العواء ، وعيناه تلمعان . وجاء العواء ثانية : عووووو .. وهذه المرة ، لم يكتفِ الجرو حمران برفع رأسه ، وإنما فتح فمه ، وخزنة تنظر إليه مذهولة ، وراح يعوي متردداً : عوو .. عوووو .. وأسرعت خزنة إليه ، وأطبقت بيديها على فكيه المفتوحين ، وهي تقول له : لا يا حمران ، لا تعوي هكذا ، أنتَ .. أنت طفلي . وفزت خزنة مضطربة ، على صوت طفلة ، يأتيها من مدخل الخيمة ، يخاطبها : خالة خزنة .. والتفتت خزنة إليها ، والجرو الأحمر بين يديها ، هذه الطفلة عيشة ، ابنة جارتهم فرحة ، تقف مندهشة في المدخل ، وهي تحدق في الجرو حمران ، ونهضت خزنة ، وقالت : عيشة ! أهلاً ، ماذا تريدين ؟ . وبدل أن ترد عيشة ، اقتربت من خزنة ، وهي تحدق في الجرو الأحمر ، وقد اتسعت عيناها دهشة ، فقالت خزنة محرجة : هذا .. هذا جرو .. ولاذت خزنة بالصمت ، ثمّ مدت يدها ، وتناولت قطعة حلوى ، قدمتها لعيشة ، وقالت لها : عيشة ، أنت تحبين الحلوى ، خذي هذه القطعة .. وأخذت عيشة قطعة الحلوى بلهفة ، وابتسمت خزنة لها ، وربتت على خدها ، وقالت لها : أريد منكِ ، يا عيشة ، أن لا تذكري لأحد ، أنك رأيتِ عندي هذا الجرو .. وهزت عيشة رأسها ، فقالت خزنة : تعالي إليّ كلّ يوم ، وسأعطيك قطعة حلوى .. فقالت عيشة : إنني أحب الحلوى . وقالت خزنة متسائلة : لم تقولي لي ، ماذا تردين .. فردت عيشة قائلة : أمي تريد قليلاً من السكر . وأعطتها خزنة ما أرادته أمها ، ثم ربتت على رأسها ، وهي تبتسم ، وقالت لها : لا تنسي ، يا عيشة ، تعالي كلّ يوم ، وسأعطيك قطعة حلوى . ولأن الطفلة الصغيرة عيشة ، كانت تحب الحلوى ، فإنها كانت تأتيها إلى الخيمة كلّ يوم ، وتعطيها قطعة حلوى ، وبذلك اطمأنت خزنة ، إلى أن أحداً لم يعرف بوجود الجرو الأحمر في خيمتها . وهكذا مرت الأيام ، يوماً بعد يوم ، واسبوعاً بعد اسبوع ، وحمد يرعى أغنامه في المرعى ، ويعتني بحملانه الصغيرة ، وكلبه الضخم ، كما لو كان ظله ، يحرسه ليل نهار ، ولا يفارقه لحظة واحدة ، لا في المرعى ، ولا في محيط خيمته . أما خزنة ، فقد كانت مشغولة بشؤون الخيمة ، والعناية بالجرو الصغير الأحمر ، الذي كان ينمو بسرعة ، وتحرص أن تخفيه عن أنظار عيشة نفسها ، التي مازالت تأتيها كلّ يوم ، وتأخذ منها قطعة الحلوى ، وتؤكد لها بنظراتها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، بأنها لم تتحدث عن الجرو إلى أحد . وبقدر ما كانت خزنة ترعى الجرو ، ولا تجعله يغيب عن عينيها لحظة واحدة ، فإن الذئبة الحمراء ، كانت تبحث عن صغيرها الأحمر ، دون أن يغيب عن بالها لحظة واحدة ، لا ليلاً ولا نهاراً ، وراحت تتسلل إلى أطراف المدينة ، ومحيط الخيام ، لعلها تقع له على أثر ، لكن دون جدوى .
" 6 " ــــــــــــــــ قبل شروق الشمس ، أفاق حمد وخزنة من النوم ، على أصوات صياح ، وما يشبه العراك ، آتية من مكان قريب ، بين الخيام . واعتدلا جالسين في الفراش ، وراح أحدهما ينظر إلى الآخر ، وقد طار النعاس من عيونهما ، وقال حمد متضايقاً : ماذا يجري ! هذا صوت دحام . وقالت خزنة : إنه مجنون . ونهض حمد ، وهو يقول محتجاً : خزنة ، لا تغلطي ، دحام ابن عمي . ونهضت خزنة بدورها ، وردت قائلة : هذا ليس كلامي وحدي ، إنه ما تقوله أمه نفسها . واتجه حمد إلى الخارج ، وهو يقول وما زال متضايقاً : سأذهب إليهم ، وأرى ما يجري . وقبل أن تتفوه خزنة بكلمة واحدة ، قال حمد وهو يخرج من الخيمة : خبئي جروك الأحمر . فردت خزنة منزعجة : لا علاقة للجرو ، بما يفعله ابن عمك العاقل .. دحام . وجاءها صوت حمد من الخارج يصيح : خبئيه . ومضى حمد نحو مصدر الأصوات ، الآتية من بين الخيام ، ونهض الكلب الضخم ، الذي كان يقعي أمام مدخل الخيمة ، أهمّ أن يلحق به ، لكنه زجره قائلاً : ابق أنت هنا ، ولا تدع أحداً يقترب من الخيمة . وتوقف الكلب الضخم محتجاً ، ثم عاد إلى مكانه ، وأقعى أمام مدخل الخيمة ، وواصل حمد طريقه بخطوات سريعة ، إلى وسط الخيام ، حيث تجمع عدد من الرجال والنساء والأطفال ، وكان بينهم ابن عمه دحام ، وقد جنّ من الغضب ، وفي مواجهته يقف صديقه ، الانسان الهادئ الطيب ، سالم . وشق حمد طريقه بصعوبة ، بين الرجال والنساء والأطفال ، حتى وصل حيث يقف دحام وسالم ، فباعد بينما ، وقال : أنتما أخوان ، عيب ، ما الأمر ؟ وردّ دحام صائحاً ، وشرر الغضب يتطاير من عينيه : هذا اللص ، سرق حمل من حملاني ليلة البارحة ، وذبحه ، وعلق جلده أمام خيمته كأنه يتحداني . ونظر حمد إلى سالم ، الذي ردّ قائلاً بصوت هادئ ، وهو يبتسم ابتسامة مسكينة منكسرة : يا أخي ، قلت له ألف مرة ، أن الحمل الذي ذبحته لضيفي ليلة البارحة ، ليس حمله ، وإنما حمل من حملاني .. وقاطعه دحام صائحاً : تكذب ، أيها اللص ، إنه حملي .. وخاطب حمد ابن عمه دحام قائلاً : مهلاً ، يا دحام ، دع الرجل يتكلم ، ويدافع عن نفسه ، ولو كان الحمل حملك ، فنحن معك ، وستأخذ حقك كاملاً . وقال سالم بنبرة صبورةً : حُملان أخي دحام .. وقاطعه دحام غاضاً : لستُ أخاك . وهزّ سالم رأسه ، ثمّ تابع قائلاً ، وهو يشير إلى الجلد المعلق أمام مدخل خيمته : حملانه بيضاء كلها ، وهذا الجلد لحمل أسود الصوف ، انظر .. والتفت حمد إلى دحام ، وخاطبه قائلاً : انظر ، يا دحام ، لقد تسرعت ، هذا الجلد لحمل أسود الصوف ، وحملانك أنت كلها بيضاء . وقبل أن يردّ دحام بشيء ، وكان ما زال منفعلاً ، أقبلت زوجته ، وكانت على ما يبدو قد عرفت بما جرى ، وخاطبت سالم قائلة : عفوا أخي ، أنا قلت لدحام ، سالم رجل أمين وطيب ، ولا يمكن أن يمدّ يده إلى حملاننا ، مهما يكن نحن عشيرة واحدة ، ودحام أخوك . وتقدم سالم وعانق دحام ، وهو يقول : دحام أخي ، وهو رجل ، وأمامه حملاني وأغنامي حلالاً له . وأطرق دحام ، وتمتم قائلاً : لو أعرف من سرق حملي ، لمزقته بأسناني . وأمسكت المرأة بيد دحام ، وهي تقول : ليعوضنا الله عما فقدناه ، هيّا يا دحام ، نعد إلى الخيمة . ومضى دحام وزوجته إلى خيمتهما ، وانصرف الأخرون رجالاً ونساء وأطفالاً إلى خيامهم ، ونظر سالم إلى حمد ، وقال له : إنني لا ألوم دحام ، له الحق أن يغضب ، ولكن ليس مني . وتساءل حمد حائراً : ترى من سرق حمل دحام ؟ وردّ سالم قائلاً : هذا ما يجب أن نعرفه ، وإلا فغداً يُسرق حملاً مني أو منك أو من غيرنا . واستدار حمد ، وهو يقول : لنكن حذرين ، يا أخي سالم ، وإلا تعرضنا إلى ما هو أخطر من السرقة . ودخل سالم خيمته ، وقد اغتمّ بعض الشيء ، ومضى حمد عائداً إلى خيمته ، وهو يفكر في زوجته خزنة ، وطفلها .. الجرو حمران .
" 7 " ـــــــــــــــــ في اليوم التالي ، عندما أفاق سالم ، وأحصى حملانه في الحظيرة ، لاحظ أنها نقصت حملاً ، فتملكه الغضب ، بل استشاط غضباً ، لكنه تمالك نفسه ، ولم ينفجر مثل دحام ، فدحام متهور ومجنون ، ولم يتهم أحداً من أهالي الخيام ، بسرقة حمله المفقود . وعلى العكس منه ، لم تتمالك زوجته نفسها ، وراحت تبكي وتصيح بأعلى صوتها ، فنهرها سالم ، وقال لها : كفى ، ما تفعلينه عيب ، يا امرأة . وسرعان ما تجمع حول خيمتهم ، عدد من الرجال والنساء والأطفال ، من بينهم جاء دحام وحمد ، وأمطروا سالم ، الذي وقف بمدخل خيمته بالأسئلة : خيراً .. خيراً .. ـ ماذا جرى ؟ ـ المهم أنتم سالمون ؟ ورفع سالم يديه ، وقال : اطمئنوا ، نحن سالمون ، الشكر لكم .. وتساءل دحام : ما الأمر إذن ؟ وحدق سالم فيه ، وقال : صرتُ مثلك .. ونظر دحام إليه مندهشاً ، متسائلاً ، فقال سالم : أفقت صباح اليوم ، وإذا حملاني قد نقصوا واحداً . وتلفت دحام حوله ، وقال : لا أظن أن أحداُ منّا قد ذبح حملاً ليلة البارحة . ونظر سالم إلى حمد ، وقال : إنني لا أتهم أحداً . وصمت لحظة ، ثم قال : لكن أريد أن أعرف ، وهذا ما نريده جميعاً ، من سرق حمل دحام أول أمس ، ومن سرق حملي ليلة أمس ؟ هذا إذا كانا قد سرقا .. ولاذ الجميع بالصمت ، نعم من سرق هذين الحملين ؟ وإذا كانا لم يسرقا ، فأين هما ؟ إن الحملان لا تطير ، وانفض الرجال والنساء والأطفال ، وعاد كلّ إلى خيمته ، ولم يبقَ إلى جانب سالم غير دحام وحمد . ورمق دحام سالم بنظرة سريعة ، ثمّ قال : لا أدري ماذا أقول ، يا أخي سالم . ومدّ سالم يده ، وربت على يد دحام ، وهو يقول : ما أخشاه ، يا أخي ، أن يأتي الدور غداً ، على واحد آخر منّا ، وهذا متوقع . ونظر حمد إلى سالم ، لكنه لم يقل شيئاً ، فقال دحام بصوت منفعل : نحن معك ، يا أخي ، وسنقطع اليد التي امتدت وتمتد إلى أغنامنا . ومدّ حمد يده ، وشدّ على يد سالم ، وقال له : الحمل فداء لك ولعائلتك ، وعلينا أن نتعلم درساً مما جرى ، علينا أن لا نغفل ، ونكون يقظين وفي منتهى الحذر . وقال دحام : أخي سالم ، خذ زوجتك ، وادخل الخيمة ، والويل لمن يحاول أن يمسنا بسوء . والتفت سالم إلى زوجته ، التي كانت ما تزال تقف إلى جانبه ، ودفعها برفق ، وهو يقول لها : ادخلي .. ودخلت زوجة سالم الخيمة ، والدموع تترقرق في عينيها ، ومضى دحام وحمد ، عائدين من حيث أتيا ، دون أن ينبس أحدهما بكلمة واحدة . ودخل حمد خيمته مقطباً ، وحدقت فيه خزنة ، وحمران يقف لصقها تماماً ، وقالت : الفطور جاهز . وحدق حمد في الجرو حمران ، وقال : سالم فقد حملاً من حملانه ليلة البارحة . وردت خزنة بصوت متردد : لابد أن اللص ، الذي سرق حمله ، وسرق حمل دحام ، خبير بديارنا ، وقد يكون من ديارنا نفسها . وحدق حمد فيها ، دون أن يتكلم ، فقالت له : أحضرت لك الصرة ، وأعددت طعام الفطور ، تعال تناول طعامك ، الشمس توشك أن تشرق . واستدار حمد منزعجاً ، وخرج من الخيمة ، دون أن يردّ عليها ، فلحقت خزنة به مسرعة ، وهي تحمل صرة الطعام ، وقالت : ما دمت لا تريد أن تأكل هنا ، خذ صرة الطعام معك ، وكلْ في المرعى . ومدّ حمد يده ، وأخذ صرة الطعام من خزنة ، وحدق فيها ، ثم قال : جروك الأحمر بدأ يكبر ، ولا أدري لماذا أشعر بالخوف من وجوده بيننا . وردت خزنة قائلة ، وعيناها لا تفارقان عينيه : لا داعي لأن تشعر بالخوف ، إنه جرو صغير ، وأنا لا أغفل عنه ، ولم أدعه يخطو خطوة واحدة خارج الخيمة . وهزّ حمد رأسه ، وقال : مهما يكن ، يا خزنة ، فأنا لست مرتاحاً ، وخائف أيضاً ، أنا خائف . وهمت خزنة أن تردّ عليه ، لكنه استدار عنها ، ومضى إلى أغنامه ، وكلبه الضخم لا يفارقه ، وإنما يهرول إلى جانبه مثل ظله .
" 8 " ــــــــــــــــــ عاش رعاة الأغنام ، في خيامهم المتباعدة بعض الشيء ، ساعات من القلق والترقب ، متمنين أن لا يُصاب أحد منهم ، ما أصاب دحام وسالم ، فالأغنام هي حياة الراعي وكرامته ، وإنها لإهانة كبيرة جداً ، أن يُنتزع من راع واحد من خرافه عنوة ، ومن مجهول لا يعرف عنه أي شيء . لكن ما تمناه الرعاة ، لم يتحقق ، فقد أفاق أهالي الخيام ، عند فجر اليوم التالي ، على حدث أكثر فظاعة ، وقد خرج العديد من الرجال ، بعد أن سمعوا الكلاب تنبح وتصخب بجنون ، وفوجئوا بما حدث . لم يُختطف حمل هذه المرة ، وإنما قُتلت نعجتان ، لراع واحد ، تبعد خيمته عن خيمتي دحام وسالم مسافة ليست قصيرة ، وقد نُهشت كلّ واحدة منهما ، الأولى من رقبتها ، والثانية من صدرها ، وواضح أن النهش كان هدفه القتل ، وليس أي شيء آخر . والتم سكان الخيام كالعادة ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، حول صاحب النعجتين ، واسمه خميس ، وكانوا منفعلين غاضبين ، وقال سالم : لقد تفاقم الوضع ، لم تعد القضية قضية حمل أو حملين .. وتلفت دحام ، محدقاً فيمن حوله ، ثمّ قال : لا يُعقل أن تكون هذه الجريمة من فعل رجل منّا . وخرج نجم عن صمته ، وقال : أيقظتني زوجتي ، قبيل الفجر ، وكانت الكلاب تنبح ، وقالت لي ، اسمع يا نجم ، هناك ضجة بين النعاج .. وصمت لحظة ، ثمّ تابع قائلاً : أنصتّ ، وقد أثقل النعاس عينيّ ، فقد نمت متأخراً ، خوفاً على أغنامي ، وتناهت إليّ دمدمة حيوان ، تشبه دمدمة الكلب ، مختلطاً بنباح كلاب الجيران ، فقلت لزوجتي ، نامي ، لقد شاخ كلبنا ، يا للخطأ ، لقد دفعتُ الثمن غالياً . وحدق حمد في النعجتين ، المرتميتين على الأرض ، وقد تخضب صوف جلديهما بالدم ، لكنه لم يرفع عينيه إلى أحد ، ولم ينبس بكلمة واحدة . وانفض الرجال والنساء والأطفال عن نجم ، ومضى كلّ واحد منهم إلى خيمته ، وهم يتبادلون الأحاديث همساً ، ويتساءل بعضهم ، ترى من ارتكب هذه الجريمة ؟ واستقبلت خزنة حمد ، عند مدخل الخيمة ، وجروها الأحمر يقف لصقها ، وقالت : علمتُ أن نجم ، فقد نعجتين من نعاجه هذه الليلة . فردّ حمد بصوت جاف : نعم ، قتلت له نعجتان . وعادت خزنة إلى فراشها ، وجروها الأحمر يهرول لصقها ، وقالت : نجم رجل سريع الغضب مثل دحام ، وله كما تعلم أعداء كثيرون . ورد حمد بشيء من الغضب : نعجتاه لم يقتلهما رجل ، لقد عاينتهما جيداً ، ورأيت على عنقيهما وجلدهما آثار مخالب حادة ، وأنياب قاطعة . وتراجعت خزنة مترددة ، أمام نظرات حمد المتهمة ، ثمّ مدت يديها ، واحتضنت جروها الأحمر ، واندست في الفراش ، دون أن تنبس بكلمة واحدة . وطوال نهار ذلك اليوم ، لم يكن لدى أهالي الخيام ، سوى حديث واحد ، يدور عما يجري حولهم ، وما قد يجري لأغنامهم ، وتواصوا أن لا يغفلوا هذه الليلة ، فما حدث حتى الآن سيتكرر وبشكل متصاعد . وعند منتصف الليل ، والسماء صافية تنبض بالنجوم ، والقمر يطل من أعلاها ، ويلقي ضوأه الشاحب على الخيام ، أفاق الكثيرون من الأهالي ، على الكلاب تنبح بجنون ، فخرج الرجال مدججين بالسلاح ، وأسرعوا نحو مصدر الصوت . وارتفع من بعيد صوت امرأة تولول : يا ويلي ، خرافي .. خرافي .. وأسرعوا إليها ملوحين بأسلحتهم ، ورأوا أحد أغنامها ملقى على الأرض ، وقد فارق الحياة ، والدماء مازالت تسيل من عنقه، وسألتها امرأة : ماذا جرى ؟ وردت المرأة ، وهي تبكي بحرقة : لم أنم هذه الليلة ، فزوجي ليس في البيت ، وسمعت كلبنا ينبح ، فخرجت من الخيمة مسرعة ، وقد حملتُ هراوة زوجي ، ورأيته ينقض على الخروف ، وكلبنا يهاجمه ، وحالما رآني ، ترك الخروف ، ولاذ بالفرار . وقال أحد الحاضرين : يبدو أنه لم يكن رجلاً . فردت المرأة الباكية : كلا ، كان ذئباً أحمر . وتبادل الرجال النظر ، وقال سالم : الأمر واضح الآن . وقال دحام : قلت لزوجتي البارحة ، إنني أتوقع أن يكون القاتل ذئباً ، وها هو .. إنه ذئب . وانفض الناس عن المرأة الباكية ، التي فقدت خروفاً من خرافها ، وذهب كلّ واحد منهم إلى خيمته ، وحين دخل حمد خيمته ، استقبلته خزنة صامتة ، وجروها الأحمر بين يديها ، فقال لها : لابدّ أنك علمت بما جرى .. لم ترد خزنة عليه ، فقال بنبرة اتهام : القاتل لم يكن رجلاً ، وإنما ذئب .. ذئب أحمر .
" 9 " ـــــــــــــــــــ أعدت خزنة طعام الافطار ، صباح اليوم التالي ، وجلست هي وحمد ، أحدهما قبالة الآخر ، يتناولان الطعام صامتين . ورمق حمد زوجته خزنة بنظرة سريعة ، وقال لها : خزنة .. ونظرت خزنة إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع قائلاً بصوت حاول أن يكون هادئاً : إنني لم أنم البارحة ، حتى ساعة متأخرة من الليل . وأبعدت خزنة عينيها عنه ، وقالت : أنا أيضاً لم أنم إلا ساعات قليلة . ودس حمد في فمه ، لقمة خبز مغمسة باللبن ، وقال : يبدو أن الذئب ، حاول ليلة البارحة أيضاً ، أن يقترب من أغنام أحد الرعاة ، لكن الرجال والكلاب كانوا له بالمرصاد ، فابتعد عنهم ، ولاذ بالفرار . وتوقفت خزنة عن تناول الطعام ، وقد لاذت بالصمت ، ونهض حمد ، وراح يحدق في الجرو الأحمر ، الذي كان يقعي لصق خزنة ، وقال : يا للجنون .. وهمت خزنة أن تقول شيئاً ، دون أن ترفع رأسها ، لكنها توقفت ، وآثرت الصمت ، فقال حمد: سيحملنا الجميع مسؤولية ما جرى ، إذا علموا ، أن جرواً أحمر في خيمتنا منذ مدة طويلة . وصمت لحظات ، ثم حدق في خزنة ، وقال : هذا الوضع ، يجب أن لا يستمر ، يا خزنة ، وعلينا اليوم ، أنا وأنتِ ، أن نبتّ في هذا الأمر . وأطرقت خزنة رأسها ، دون أن تردّ بكلمة واحدة ، فاستدار حمد ، ومضى إلى خارج الخيمة ، متجهاً إلى أغنامه ، التي تأخر عنها بعض الوقت . وكأنما أحسّ الجرو الأحمر ، ما يدور بين خزنة وحمد ، فرفع عينيه الطفلتين إليها ، وكأنما يسألها ، ماذا يجري بينهما ؟ وهل للأمر علاقة بي ؟ ومدت خزنة يديها إلى الجرو الأحمر ، وأخذته دامعة العينين ، وضمته بحنان إلى صدرها ، وكأنها تضم طفلاً لها ، توشك أن تفقده ، آه حمران ، لا ينبغي أن أتخلى عنك .. لا .. لا .. وتناهى إليها من الخرج ، وقع أقدام يتجه نحو خيمتهم ، فسارعت إلى اخفاء الجرو الأحمر ، وتغطيته جيداّ ببطانية سميكة ، وقبل أن تعتدل ، جاها صوت من مدخل الخيمة يهتف : خزنة .. إنها أم عيشة ، هذا صوتها ، وهي تزورها بين حين وآخر ، فاعتدلت ، وابتعدت قليلاً عن المكان ، الذي أخفت فيه الجرو الأحمر ، وهتفت : أم عيشة ؟ تعالي أختي ، هذه خيمتك ، ادخلي . ودخلت أم عيشة مبتسمة ، وكأنها تعتذر ، وقالت بصوت هادئ : عمت صباحاً أختي .. خزنة . وردت خزنة ، وعيناها تبحثان عما وراء هذه الزيارة ، في هذا الوقت المبكر من الصباح ، وردت قائلة : أهلاً .. أهلاً ومرحباً أم عيشة . واقتربت أم عيشة من خزنة ، ومدت يدها مبتسمة ، ورفعت رأس خزنة ، وراحت تتأملها بمحبة ، ثم قالت لها : خزنة ، أختي ، أنت تعرفين كم أحبك .. ونظرت خزنة إليها صامتة ، ورغم كلماتها الحلوة ، الصادقة ، لم ترتح إليها ، بل وتوجست منها ، فتابعت أم عيشة قائلة : سامحيني ، يا أختي العزيزة ، علمت أن عندك .. جرو ذئب أحمر .. والتمعت عينا خزنة وقالت : عيشة .. وهزت أم عيشة رأسها ، وقالت وكأنها تعتذر : لم تقل لي ذلك إلا صباح اليوم .. ولاذت خزنة بالصمت ، فقالت أم عيشة : أنت ترين ما جرى ويجري ، وما قد يجري في القادم من الأيام ، أشدّ وأكثر فظاعة .. فردت خزنة بصوت متردد : ليس الجرو ، يا أم عيشة ، من يقوم بهذه الجرائم . فقالت أم عيشة : نعم ، ليس الجرو ، إنها أمه ، وهذا حقها ، وهي تريد صغيرها ، ولن تتوقف هجماتها ، إذا لم تسترد جروها الصغير . ومرة أخرى لاذت خزنة بالصمت ، فتابعت أم عيشة قائلة بصوتها الهادئ : ثم إن هذا الجرو ، يا أختي خزنة ، صغير في الوقت الحاضر ، لكنه سيكبر ، ولن يبقى على ما هو عليه الآن ، سيكون ذئباً ، ذئباً أحمر ، والذئب الأحمر ، كما تعرفين ، من أشرس أنواع الذئاب في هذه المنطقة ، التي نعيش فيها نحن وأغنامنا . وأطرقت خزمة رأسها صامتة ، والدموع تغرق عينيها ، فقالت أم عيشة ، وهي تتأهب لمغادرة الخيمة : ما جرى بيني وبينك سرّ ، لن يعلم به أحد ، خزنة ، اختي العزيزة ، زوجك حمد جوهرة ، حافظي عليه ، ولا تدعيه يتعرض لأي خطر ، ليحفظك الله .
" 10 " ــــــــــــــــــــ عند العصر ، والشمس محجبة بغيوم سوداء ، تنذر بهطول المطر ، أخذت خزنة الجرو الأحمر ، وخرجت به من الخيمة ، وقد غطته بخمارها الأسود ، وتوقفت عند المدخل ، وتلفتت حولها ، وحالما تأكدت أن أحداً لا يراها ، مضت متجهة نحو سفح الجبل . واجتازت العديد من المراعي ، متجنبة الرعاة الذين كانوا منشغلين بحراسة أغنامهم ، خشية أن يغير عليها ذئب من الذئاب ، وخاصة الذئب الأحمر ، الذي فتك بعدد من حملانهم ونعاجهم المسكينة . وأخيراً وصلت سفح الجبل ، الذي رعت فيه نعاجها ، في ذلك اليوم ، ورأت في تلك الحفرة التي تشبه الكهف الصغير ، الجرو الأحمر ، والذي تمنت فيما بعد لو أنها لم تره ، وتتعلق به هكذا . ولم يخطر لها ، أن أمه الذئبة الحمراء ، سيجن جنونها ، وتغير على الحملان والنعاج والخرفان ، غير مبالية بالرعاة وكلابهم الشرسة ، فخطفت حملين ، وقتلت ثلاثة نعاج ، ومن يدري ماذا يمكن أن تفعل في الآتي من الأيام ، كلّ هذا من أجل صغيرها الجرو الأحمر ، لكن ما يحيرها ، كيف عرفت هذه الذئبة الحمراء بوجود صغيرها الجرو الأحمر في خيمة من خيم الرعاة ؟ ورفعت خزنة الخمار الأسود ، عن الجرو الأحمر ، ورأته ملتصقاً فوق صدرها ، وكأنه طفل ذو شعر أحمر ، يلوذ بصدر أمه ، فمدت يديها إليه ، ورفعته قليلاً أمام عينيها ، وراحت تتأمله . ولعل الجرو الأحمر ، شعر بأن أمراً غير سار سيحدث له ، بعد فترة قصيرة ، فأخذ يصدر أصواتٍ شاكية كالأنين ، فخاطبته خزنة بصوت حزين : حمران ، عزيزي ، أنت ذئب ، ذئب صغير أحمر . وانبثقت الدموع من عينيها ، وكأنها أدركت الآن فقط ما هي مقدمة عليه ، فقالت من بين دموعها : لابد أن نفترق ، يا حمران ، لكنك ستبقى صغيري ، وآمل أن أبقى عندك أمك ، مهما امتدّ الزمن . ووضعته برفق في الحفرة ، التي أخذته منها قبل أشهر قليلة ، وهي تقول له بصوت دامع : ابقَ هنا ، يا حمران ، هذا بيتك ، وستأتي أمك ، ربما في آخر النهار ، وترضعك من حليبها ، وهو بالتأكيد ألذّ من حليب النعاج ، الذي كنت أرضعك منه . وتراجعت خزنة ، وعيناها الغارقتان بالدموع ، لا تفارقان الجرو الأحمر ، ثم استدارت ومضت مبتعدة ، لكنها سرعان ما انتبهت إلى أنه يهرول وراءها ، كما كان يفعل في الخيمة ، فالتفتت إليه ، وخاطبته قائلة بصوت باكٍ : عد يا حمران ، عد إلى بيتك ، لستُ أمك ، فأمك ستأتي عاجلاً أو آجلاً ، وترضعك .. وتوقف حمران حائراً ، وراح يحدق فيها ، دون أن يصدر عنه أي صوت ، فانحنت عليه ، وأخذته ثانية بين يديها ، ثم عادت به إلى الحفرة ، ووضعته فيها ، ثم نزعت خمارها ، وغطته به ، كما كانت تفعل في الخيمة ، عندما كانت تريد منه أن ينام . وهدأ الجرو الأحمر تحت الخمار ، فنهضت خزنة ، وتسللت مبتعدة على رؤوس أصابعها ، وأدركت هذه المرة ، وهي تمضي مبتعدة ، بأنه ظلّ في الحفرة ، ولم يلحق بها ، وتوقفت في أسفل السفح ، تنظر إلى الحفرة ، التي وضعت الجرو الأحمر فيها ، ولم تتحرك من مكانها ، حتى بدأ المطر يتساقط رذاذاً ، والمساء يلقي أستاره السوداء عليها . أما حمد ، فقد عاد بأغنامه من المرعى ، قبيل غروب الشمس ، فوضع الأغنام في مكانها ، وأطلق الحملان الثاغية ، فركض كلّ واحد إلى أمه ، وراح يرضع منها ، ثمّ أسرع إلى الخيمة ، وهو يصيح : خزنة .. لكن خزنة لم تردّ عليه ، وكيف تردّ وهي ليست موجودة داخل الخيمة ؟ وتلفت حوله وسط الخيمة ، فلم يجد لها أثراً ، ولم يجد أثراً كذلك للجرو الأحمر . ترى أين ذهبت هذه المجنونة ، في مثل هذا المساء الممطر ؟ وتناهى إليه ، مع أصوات هطول المطر ، وقع أقدام ثقيلة ، بطيئة ، وكأنها لا تبالي بما يهطل عليها من مطر ، وهزّ رأسه ، إنها المجنونة .. خزنة . ودخلت خزنة ، بدون غطاء رأس ، والماء يقطر منها ، فأخذ حمد منشفة ، وأسرع إليها ، وراح ينشف رأسها من ماء المطر ، فاستسلمت له ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، ثم قال لها : ملابسك غارقة بالماء ، انزعيها ، والبسي ملابس جافة ، وإلا ستمرضين . لم تتحرك خزنة من مكانها ، وإنما رفعت إليه عينيها الغارقتين بالدموع ، وقالت : حمد .. ونظر إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : أعدت الجرو إلى الحفرة ، التي أخذته منها ، ولابدّ أنه الأن مع أمه ، التي ترضعه من حليبها .
" 11 " ـــــــــــــــــــ عادت المياه إلى مجاريها ، بين أهالي الخيام ، بعد أيام من إعادة الجرو الأحمر ، إلى إمه في الكهف الصغير ، الذي يشبه حفرة صغيرة بين الصخور ، والذي لم يعرف بأمره غير حمد وأم عيشة . وهدأ الأهالي بعض الشيء ، واطمأنوا على أغنامهم ، حين مرت عدة أيام ، توقف الذئب الأحمر خلالها عن الاغارة على نعاجهم وحملانهم ، ودهشوا لذلك ، دون أن يعرفوا سبب هذا التوقف ، كما لم يعرفوا السبب ، الذي يقف وراء تلك الاغارات القاتلة . لكن خزنة لم تعد إلى ما كانت عليه ، قبل احتفاظها داخل الخيمة بالجرو الأحمر الصغير ، وطالما ضبطها حمد ، حتى وهما يجلسن ليلاً ، يتبادلان الحديث ، وهي تصمت شاردة ، فيوقظها باسماً : ها خزنة .. وتنتبه خزنة ، وتتمتم : ها .. فيسألها : أين أنتِ ؟ فتجيبه ، دون أن تبتسم : لا عليك ، ماذا كنت تقول ؟ فيردّ عليها مازحاً : كنتُ أقول ، إنك جميلة ، يا ابنة عمي خزنة ، وأن عينيكِ .. فتضربه على كتفه مبتسمة ، وتقول له : اسكت .. اسكت .. لقد كبرنا ، يا حمد ، لقد كبرنا . وأم عيشة ، جارة خزنة ، وصديقتها المحبة ، كانت تزورها بين حين وآخر ، وعندما زارتها للمرة الأولى ، بعد أن أعادت الجرو الأحمر إلى أمه ، قالت لها خزنة : أم عيشة .. ونظرت أم عيشة إليها ، نظرة محبة ، متفهمة ، فتابعت خزنة قائلة : ما قلته لي .. وقاطعتها أم عيشة قائلة : خزنة اختي ، تلك صفحة طويناها ، ومرّ كلّ ما فيها على خير ، ومن الأفضل أن لا نعود إليها أبداً . وكانت أم عيشة عند وعدها ، إذ لم تذكر مرة واحدة ، لا الجرو الصغير الأحمر ، ولا ما جرى من جراء وجوده عند خزنة ، ولا ما انتهى إليه ، وكذلك لم تتحدث بذلك إلى أحد من الأهالي ، ولا حتى لأقرب الناس إليها ، كما لو أن الجرو الأحمر لم يكن له وجود . وأثناء بعض الليالي ، كانت خزنة تفيق من النوم ، وحمد يغط إلى جانبها في نوم عميق ، على عواء بعيد ممطوط : عووووو .. فتلمع عيناها في الظلام ، ويقول لها قلبها : خزنة .. اسمعي .. هذا حمران .. فتسكت قلبها ، وتقول له : دعني أنم ، هذا وهم ، عمران نائم الآن في حضن أمه . ويقول قلبها : كلا ، أنت تعرفين ، إنه عمران . فتغمض عينيها ، وتقول : عمران لأمه ، وليس لي . وأفاقت مرة عند منتصف الليل ، وأفاق معها حمد هذه المرة ، على كلاب الرعاة ، ربما كلها ، تنبح بغضب ، ورمقت خزنة حمد بنظرة سريعة ، فقال لها بصوت ناعس : لعل هذا لص .. ولاذت خزنة بالصمت ، رغم أن قلبها ، قال لها : إنه حمران ، لقد كبر بعض الشيء ، وجاء لزيارتك . وكثيراً ما لاحظ حمد ، الكآبة والحزن على خزنة ، فكان يقول لها : خزنة ، لا تبقي في الخيمة طول الوقت ، زوري أهلنا في الخيام الأخرى ، إنهم يحبونكِ . وكانت أم عيشة تزورها باستمرار ، وهي تعرف أن زوجها حمد ، كان يطلب منها ذلك ، والحقيقة أن زيارات أم عيشة لها ، كانت تريحها ، وإن كانت في أعماقها لم تنسَ حمران ، وتحن إليه ، وتتمنى أن تراه ، ولو مرة واحدة ، وطالما تمنت حين تفيق ليلاً ، أن تسمعه يعوي "عووووو | وكأنه يناديها يا أمي . وذات ليلة ، قبل أن يأويا إلى فراشهما ، قالت خزنة لزوجها : حمد .. ونظر حمد إليها متوجساً ، وقال : نعم . فتابعت خزنة قائلة : أريد أن أخرج يوماً بالأغنام وحدي ، وآخذها إلى المرعى . وأراد حمد ، أن يقول لها ، اخرجي ، ولكن لا تقتربي من سفح الجبل ، لكنه توقف ، وقال لها : كما تريدين ، يا خزنة ، اخرجي إلى المرعى . قالت خزنة فرحة : وحدي .. فرد حمد : وحدكِ تساءلت مبتسمة : وعد ؟ فردّ مبتسماً : وعد .
" 12 " ـــــــــــــــــــ جاء يوم الوعد ، وخرجت خزنة بالأغنام إلى المرعى ، ووقف حمد في مدخل الخيمة ، يتابعها بعينيه المحبتين ، وهي تسوق الأغنام أمامها ، والكلب الضخم يهرول إلى جانبها ، وهتفت بزوجها : سأكون أنا حمد اليوم في المرعى ، يا حمد . وابتسم حمد ، وردّ عليها قائلاً : أنتِ خزنة حيثما تكونين ، عودي سالمة ، هذا هو المهم . وسارت خزنة بالأغنام ، عبر المراعي المعشبة ، دون أن تتوقف عند أحدها ، حتى أن أحد الرعاة الشباب ، هتف بها مازحاً : لا تبتعدي ، أنت امرأة . وتابعت خزنة طريقها ، وهي تردّ قائلة : أنتم ستدي . وهتف بها : نحن نخاف عليكِ . ولوحت خزنة بالهراوة ، دون أن تردّ بكلمة واحدة ، وواصلت سيرها ، والأغنام تسير أمامها ، وإلى جانبها يهرول لاهثاً الكلب الضخم . وأنصتت خزنة إلى قلبها ، حين سألها قائلاً : حذار ، يا خزنة ، إلى أين تمضين ؟ لكن خزنة لم تجبه ، ولماذا تجيبه ، وهو يعرف كلّ شيء ، وسمعت قلبها يحذرها ، خزنة ، كوني عاقلة ، لا تفكري في حمران ، إنه ليس جرو الآن .. وأسكتت خزنة قلبها ، وواصلت السير بالأغنام ، حتى وصلت سفح الجبل ، وعندئذ تباطأت حتى توقفت ، وراحت تتلفت حولها ، تلك هي الشجرة ، التي جلست في ظلها ، للمرة الأولى ، وذاك هو الكهف الصغير ، الذي يشبه الحفرة بين الصخور ، حيث وجدت جرو الذئب الأحمر .. آه . واقتربت خزنة من الشجرة ، وجلست في ظلها ، وقد تركت الأغنام تنتشر قريباً منها على السفح ، حيث العشب الريان ، بينما أقعى الكلب الضخم على مقربة منها ، وعيناه اليقظتان تراقبان الأغنام . وتراءى لها الجرو الأحمر ، وهي تراه في الحفرة ، وتأخذه إلى الخيمة ، وتسقيه حليب الأغنام ، وينام إلى جانبها ، ويرد على العواء بعواء متردد ، و .. وانتبهت خزنة إلى الأغنام ، تتوقف في أماكنها من السفح ، وقد رفعت رؤوسها ، ونهض الكلب الضخم ، وانتصبت أذناه ، ولمعت عيناه ، ماذا يجري ؟ لابدّ أنهم أحسوا بخطر ما . وانحدر فجأة من أعلى السفح ، ذئب رمادي ضخم ، واتجه مسرعاً نحو الأغنام ، التي انتفضت مضطربة مرعوبة ، ولاذت بالفرار ، وعلى الفور ، انطلق الكلب الضخم ، نحو الذئب الرمادي ، ليقطع عليه الطريق ، لكن الذئب راوغه بسهولة ، وانطلق كالسهم نحو إحدى النعاج ، لينقض عليها ، ويفترسها . ووقفت خزنة جامدة ، تنظر مرعوبة إلى ما يجري حولها ، لقد حذرها حمد ، وحذرها الراعي الشاب ، الذي مرت به ، لكنها ركبت رأسها ، وقادها حنينها للجرو الأحمر ، إلى فخ لا تحمد عقباه . وتوقف الكلب الضخم غاضباً ، واستدار بسرعة ، وانطق في أثر الذئب الرمادي ، وقبل أن يصل إليه ، وقد كاد أن ينشب مخالبه بالنعجة ، برز ذئب فتيّ ، يغلب على فرائه اللون الأحمر ، وانقض على الذئب الرمادي ، وألقاه على الأرض . ودارت بينهما معركة ضارية ، وتوقف الكلب الضخم مذهولاً لحظة ، ثمّ انقض بدوره على الذئب الرمادي ، وتعاونا على قتاله ، ويبدو أن الذئب الرمادي ، لم يعد يقوى على الصمود في وجه مهاجميه ، فتراجع بسرعة ، ثمّ لاذ بالفرار . وتوقف الذئب الأحمر الفتيّ والكلب الضخم ، جنباً إلى جنب ، ونظر أحدهما إلى الآخر باعجاب ، وهما يلهثان فرحين ، وقد تلوث فراؤهما بالدماء ، وبدا أن أحدهما عرف الآخر ، وارتاح إليه ، والتفتا معاً نحو خزنة ، وراحا يتبادلان النظر معها . ودهشت خزنة ، وخفق قلبها ، واتسعت عيناها ، وهي ترى الذئب الفتيّ الأحمر ، يقترب منها بخطوات هادئة ، والدماء تلوث فراءه الأحمر .. الأسود .. البني .. البرتقالي .. والأصفر ، وتوقف أمامها ، ورفع عينيه اللامعتين إليها ، فهتفت فرحة : حمران ! وبدا لها وكأن الذئب الفتيّ يهز رأسه فرحاً ، فراحت تحدق فيه ، وعيناها تغرقان بالدموع ، إنه حمران ، حمران نفسه ، وقد أنقذها من أشرس ذئب عُرف في محيط الجبل ، أنقذها من الذئب الرماديّ . وهنا تناهى إليها عواء ممطوط ، يصدر من أعلى الجبل : عووووو .. ونظرت خزنة إلى مصدر الصوت ، ورأت أنثى ذئب أحمر فتية ، فتراجع الذئب الفتيّ ، واستدار ببطء ، ثمّ مضى مهرولاً ، حتى وصل إلى أعلى السفح ، حيث تقف انثى الذئب الأحمر الفتية ، ووقف إلى جانبها ، وراحا ينظران معاً إلى خزنة .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
-
رواية للفتيان الصحن الطائر
-
رواية للفتيان اشوميا الز
...
-
رواية للفتيان نداء الانوناكي
-
رواية للفتيان نانوك
-
شبح غابة اتوري رواية للفتيان
-
رواية للفتيان فتى من كوكب نيبيرو
-
زهرة الأنوناكي
-
رواية للفتيان الحداد
-
رواية للفتيان من قتل شمر ؟
-
رواية للفتيان طفل من خرق
-
رواية للفتيان البجعة
-
رواية للفتيان جبل الوعول
المزيد.....
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|