أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)















المزيد.....



ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7527 - 2023 / 2 / 19 - 12:29
المحور: الادب والفن
    


(4)
كلُّ الزّيجات السّعيدة متشابهة!

في تشرين الأول من سنة 1893، وبقرية بوشكينو، تمّ الاحتفال بعقد قران إينيسّا وأليكساندر أرماند داخل كنيسة سان نيكولا المشهورة بقبابها الكبيرة والزبرجدية اللون. مئات من الشموع تزين المكان وتزيد من بريق اللوحات والأيقونات الذهبية المعلقة على الجدران، أمّا إينيسّا وعريسها فكانا منهمكين في طقوس الزفاف الأرثوذكسي الفخمة والغرائبية: يدوران ثلاث مرّات حول المذبح، يشربان النبيذ، يضعان التيجان الذهبيّة فوق رأسيهما، ثم يستمعان باهتمام إلى صلوات وأدعية القسّ.
حضر الحفل كلّ أفراد عائلة أرماند الكبيرة، وقد كان عددهم يفوق سبعين شخصا، ومعهم حضر أيضا سكان القرية والعمال والمظفون القاطنين في بيوت خشبية، بعضها يوجد قرب الكنيسة أو قرب مصانع النسيج، وبعضها الآخر بالغابات المجاورة.
كانت إينيسّا تبلغ من العمر تسعة عشر سنة، وبعد أن أكملت دراستها وتزامنا مع وفاة جدّتها انتقلت للعيش مع والدتها التي تركت باريس وعادت وبنتيها الأخريين إلى موسكو بعد وفاة زوجها. أليكساندر هو الابن البكر لعائلة أرماند التي كانت إينيسّا تداوم على زيارتها. يبلغ من العمر ثلاثا وعشرين سنة، وقد عاد منذ فترة قصيرة من فرنسا حيث كان يدرس الفيزياء والكيمياء، وتدرّب أيضا على ميكانيزمات صناعة النسيج.
حينما عاد الشابّ أليكساندر من فرنسا بعد غياب طويل، وجدَ الطفلة رفيقة اللعب والدروس قد أصبحت امرأة ناضجة، وبسرعة البرق وقع في حبّها. هو أيضا أصبح رجلا يافعا، وكان على قدر عال من اللّطف، والحِلْم الجميل، والإصرار والقوة. في صورة الزفاف يبدو رجلا هادئا يبحث عن الخير وحيثما وجده يزرع بذرته، وما من عبث يتحول عشقه لإينيسّا إلى الرغبة في إسعادها والسعي إلى كل ما يحقق لها الرّاحة والهناء من خلال قراره بالزواج بها. في مذكرات إينيسّا، يقول زوجها في كلمة افتتاحية وفقا لما تجري به العادات والأعراف عندهم: «ما عساني أكتبُ، سوى أنني أحبّكِ، وأنّكِ الحياة، والنّور الذي يضيء من حولي كلّ شيء، وأنت تعرفين هذا جيّداً. إنني لا شيء بدونكِ».
في فترة الخطوبة التي دامت قرابة سنة، كانت إينيسّا تشعر بنوع من الارتباك والحيرة. هي لم تجرّب الحبّ قطّ، ومشاعرها لم تزل متناقضةً ولا تعرف إذا كانت تحبّ أليكساندر أمْ لا، فهي لم تزل بعد شابّة في عمر الورود. وهاهي تكتب له في لحظة من لحظات حزنها قائلة: «هناك أشخاص أثق بهم أكثر من نفسي، لأني أعرف أنه حتى لو أصبحت في يوم ما من أكثر النساء قسوة وغلاظة فإنهم لن يخذلوني وسيحافظون على صداقتهم ومودتهم تجاهي، لكني أعتقد أنني إذا أصبحت شريرة فإنك لن تبقى صديقي. أعلم أنني بصدد قول شيء مُحْبِط، لكني أفضّل أن أكون صريحة على أن يظل زاحفا بيننا أيّ نوع من المشاعر السلبية». إذا كان أليكساندر يعرف جيدا طبيعة العلاقة التي يريد أن تربطه بإينيسّا، ويعلم يقينا نوع مشاعر الحبّ والعشق التي يحمل تجاهها، فإينيسّا ما زالت لا تعرف جيدا أيّة حياة تريد أن تبني مع الرجل الذي أصبح زوجها، فالزواج بالنسبة لها ما هو سوى بداية أو خطوة أولى نحو مستقبل لم تتوضّح بعد معالمه أو ملامحه.
بعد الزواج حقق أليكساندر لعروسته رغبتها في عدم السّكن ببيت العائلة الكبير ببوشكينو، وانتقل بها إلى قرية إيلديجينو، لتعيش في منزل جديد خاصّ بها هو هدية زواجها. في هذا البيت وُلد ابنها البكر أليكساندر، وبعدهُ بسنتين وُلد فِيدُور، وبعدهما وُلِدتَا إينّا وفارفارا.
في السنوات التسع الأولى من زواجها، كانت إينيسّا تبدو مبتهجة كامرأة تعيش بداخلها ثلاث نساء: الزوجة السعيدة، الأم المُحبة التي تعتني بأطفالها الأربعة في القرية البعيدة المنعزلة، ثمّ إينيسّا الحقيقية التي لا يظهر منها للغير شيء.
«كلّ الزيجات السّعيدة متشابهة!»، يقول تولستوي في البداية المذهلة لروايته (آنّا كارينينا)، وسعيداً كانَ زواج أليكساندر وإينيسّا. في تلك السنوات لم تكن زوجة أليكساندر كما أشيع عنها امرأة ثورية تعيش حالة من الكبت أو القهر، ولكنها لم تكن تفكّر إطلاقا لا في الثورة ولا حتّى في الماركسية، كما يبدو جليا في إحدى رسائلها: «تحوّلي من اليمين إلى اليسار لم يكن نتيجة نوع من الحماس الشبابي، ولكنه كان تطورا عميقا وتدريجيا». كانت إينيسا تقضي ساعات طوال في اللعب مع أطفالها وسط الحديقة المحيطة بمنزلها. أمّا أمسياتها الطّوال فكانت تقضيها في القراءة أو كتابة رسائلها العديدة فوق ورق بدون هوامش كانت تحرص على اختياره بكل دقة وعناية. غير هذا يمكنُ تخيّلها وهي تستقبل الأقارب والأصدقاء، أو وهي تنتظر عودة زوجها من أسفاره الطويلة، أو تعزف لضيوفها مقطوعاتها المفضلة على آلة البيانو التي شدّد زوجها على أن تكون مرتّبة لأجلها في أجمل ركن من الصالون الكبير.
هذا وجه آخر من شخصية إينيسّا، ترينا إيّاه كامرأة تعاني من السّأم والرتابة، إلا أنها لا تريد أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه الأجواء المملة والمُضجرة، لذلك قررت أن تذهب للعيش وزوجها أليكساندر في موسكو ولو لفترة وجيزة في بيت من البيوت العديدة التي تملكها العائلة هناك. وذاك ما كان بالفعل، فلقد استقرّ الزوجان بمنزل أنيق يوجد بحيّ أربات الرّاقي. وكان هذا التغيير الجديد كفيلا بأن تصبح معه إينيسّا امرأة ثانية، تتجول سعيدة ومبتهجة بين شوارع أربات، وتذهب إلى مسرح بولتشوي، وكذا إلى الحدائق التي توجد قرب الكرملين.
كانت إينيسّا تبدو في غاية الأناقة على الرغم من حالات الحمل والوضع المتوالية. وأصبحت تزور الصالونات الراقية وتذهب إلى الحفلات الموسيقية وكذا إلى المسرح حيث تعرفّت هناك على العديد من الممثلين والكتّاب والفنانين وغيرهم من المثقفين ممّا ساعدها على استعادة شخصيتها المرحة والنشيطة التي لم يعد عندها أيّ استعداد للتنازل عنها حتى في اللحظات الأكثر حزنا وألما، وهي الشخصية التي أصبحت تعبّر عنها بشكل أكبر في سنوات موسكو من خلال ملابسها ذات الألوان الصاخبة، وتسريحات شعرها وفقا لآخر صيحات الموضة آنذاك، إضافة إلى ذاك القلم الأحمر الذي كانت تضعه دائما وسط خصلات شعرها الخلفية.
لم تكن تظهر من إينيسّا شخصيتها كأمّ عطوفة حنونة فقط ولا حتّى كسيّدة من سيّدات المجتمع الروسي الراقي، ولكن كانت هناك شخصية ثالثة تكمّل صفاتها الأولى وتزداد كل سنة نموا ونضجا ورغبة في إفساح المجال لها أكثر وأكثر، إنها شخصية إينيسّا التي لا تطيق ما تراه حولها من مظاهر معاناة الناس ومكابدتهم اليومية للفقر والظلم الاجتماعيين الأمر الذي دفعها هي وزوجها وبقية عائلة أرماند الكبيرة إلى بناء مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين كما فعل سابقا كاتبها المفضّل تولستوي.
وهكذا بدأت إينيسّا تهبُ حياتها لفقراء ضواحي موسكو بكلّ ما فيها من نشاط وحيوية مهملة شيئا فشيئا التزاماتها وواجباتها تجاه المجتمعات الراقية، ولم يكن تصرّفها هذا بدافع حبّ الظهور أو الرياء، لا سيما أنه في تلك الحقبة كانت العديد من نساء الطبقة البورجوازية الروسية يقمن بالشيء نفسه من الأعمال الخيرية، إلّا أنّ إينيسّا كانت تتميّزُ عنهنّ بحماسها وحيويتها الفياضة التي كانت تزيد من عطائها وعملها وتضفي عليه نكهة خاصة من العمق والإخلاص والمحبّة تجاه الناس البسطاء والضعفاء. ولقد كان زوجها أليكساندر يدعمها في كلّ شيء ويجول معها الحقول بقرية بوشكينو ليعاينا معا وعن قرب حياة الفلاحين والعمّال محاوليْن إيجاد حلّ للمشاكل والصعوبات التي يواجهونها يوميا سواء في الحقول أو في معامل النسيج. ولربّما كان هذا الاهتمام والعمل المشترك السبب المباشر في تقوية رابط الزواج بين أليكساندر وإينيسّا.
خلال رحلاتها إلى موسكو كانت إينيسّا كثيرا ما تزور صالون مينّا كارلوفنا غوربونوفا كابلوكوف، وهي سيّدة بورجوازية ثرية وناشطة نسوية مشبّعة حتّى النّخاع بالفكر النسوي الراديكالي، وقد عرفت في التاريخ كذلك بالمراسلات العديدة المتبادلة بينها وبين إنجلز.
في صالونها الثقافي كانت معظم النقاشات تدور حول قضايا ومشاكل النساء، ولا سيما منهن الأقل حظا بين نساء المجتمع الروسي. وقد كانت قضية الدّعارة في كثير من الأحيان محطّ اهتمام مينّا كارلوفنا وكذا إينيسّا أرماند. ففي موسكو لوحدها يوجد 105 بيتا من بيوت الدعارة، وبداخلها تعيش كما السجينات 1178 امرأة، وهو أمر كان يقضّ مضجع إينيسّا بشكل ملحّ، فلقد كانت كثيرا ما تتحدث بشأنه مع زوجها وهما في طريق عودتهما إلى إيلديجينو، وتحاول معه إيجاد حلّ لهذه الكارثة الاجتماعية الشائكة. فثمة برأيها الكثير من الأفكار التي يمكن تطبيقها على أرض الواقع، كإنشاء مكتبة أو تأسيس جريدة أو منظمة نسائية أو بناء مدرسة خاصة بهذه الشريحة المعذّبة من المجتمع الروسي. وفي إطار الحديث دائما عن قضايا النساء علمت إينيسّا بما يحدث في أوروبا من صحوة نسائية تمثلت في انتفاضة النساء المصوّتات (السوفرجيت) وخروجهن إلى السّاحات للمطالبة بحقّهن في التصويت، ممّا دفع بإينيسّا إلى الاتصال بأمينة سرّ الاتحاد العالمي للنساء التقدميات بلندن من أجل إنشاء جمعية في روسيا مشابهة لجمعية النساء المصوتات، إلا أنّها لم تفلح في هذا الأمر، ولم تتمكن كذلك من تأسيس مدرسة «الأحد» التي كانت ترجو أن تصبح مشروعا حقيقيا يدعم النساء سجينات بيوت الدّعارة. ولم يكن فشل إينيسّا بسبب معارضة الحكومة لمشاريعها، أو رفض البوليس القيصري لها، بل على العكس من ذلك، فلقد حصلت على التصريحات والدّعم اللازمين لتحقيق تطلعاتها. وتبقى النساء أنفسهن هنّ السبب الرئيس لما منيت به مشاريع إينيسّا من عرقلة وإحباط، ذلك أنهن كنّ مُقلّات في المشاركة، فضلا عن تراجع الكثيرات منهنّ وعدم تفاعلهن مع ما كانت تحمله وتبشّر به إينيسّا من أفكار. وبعيدا عن حياة النقاشات الخيالية الوردية المتداولة داخل الصالونات البورجوازية، كان المجتمع الروسي مازال غاطّا في التخلف ويعاني في صمت من شتّى مظاهر الحيف والتهميش لدرجة أنّ إينيسّا باتت تعتقد أن تولستوي كان محقّا حينما قال: «منذ أيّام موسى والدعارة موجودة، وبقيت كذلك حتى بعده، وستبقى إلى الأبد».
أمام هذه الإحباطات قررت إينيسّا أن تبتعد عن حياة الصّالونات، وتعود من حيث أتت، لتكمل حياتها كأمّ وزوجة مع الحفاظ على عادة السّفر إلى موسكو كلّما سمحت ظروفها بذلك. إلا أنّها سرعان ما بدأت تشعر بثقل الوحدة والفراغ يزحف شيئا فشيئا إلى حياتها، وقد دوّنت هذا الإحساس في مذكراتها قائلة: «إنّي تعيسة جدّاً». وحتّى سفرها إلى سويسرا للالتحاق بابنها الذي كان في حاجة لعنايتها وعطفها لم يكن كفيلا بطرد شبح الحزن والعزلة عنها بل على العكس من ذلك فقد كان قلقها يزداد كل يوم أكثر فأكثر، وأصبحت تتمنى العودة إلى روسيا علّها تستعيد هناك هدوءها وطمأنينتها كما يبدو في هذه الكلمات التي كتبت في إحدى رسائلها لزوجها أليكساندر: «عزيزي، كلّ شيء رائع هنا، لكنّي أعتقد أنني سأكون أكثر سعادة إذا ما عدتُ إلى إيلديجينو».
ثمّة شيء بصدد التطوّر والتحوّل في حياتها التي عاشتها إلى اليوم، لم يعُد يعجبها أيّ شيء على الإطلاق، إنّها تفكّر في دراسة الكيمياء والعمل ضمن جمعية العمّال الخاصّة بمعامل عائلة أرماند، وتفكّر أيضاً في امتهان الكتابة وفي أشياء كثيرة غيرها، وكأنّ زوجها العاشق وأبناءها الأربعة الذين تحبّهم للغاية، ومظاهر الجاه والثراء وغيرها من مجدٍ وعزٍّ، كلّ هذا لم يعُد يسدّ ما تشعر به من فراغ، ولا أدلّ على ذلك ممّا كتبته في مذكراتها من كلمات قائلة: «لا أحد سعيد بما لديه، وإنّي لأعتقد أنّ حتّى سندريلا وإنْ تزوّجت بأميرها المحبوب، أصبحت تفكّر بعد حياة البذخ في أشياء أخرى غيرها». وإينيسّا كسندريلّا، لم يجلب لها الثراء السّعادة، وأصبحت تبحث عنها في أشياء أخرى.




(5)
«لا حُبّ بدون حريّة»

في خريف 1902 تغيّر كلّ شيء. التقت إينيسّا بفولودْيا، أخ زوجها الأصغر، وهو طالب يبلغ من العمر سبعة عشر سنة، يدرس البيولوجيا، ويحلمُ بالثورة. أمّا هيَ فأمٌّ لأربعة أطفال، وتبلغ ثمانية وعشرين عاما. وتعرف جيّداً من هو فولوديا، لقد كان طفلا لا يتجاوز الثماني سنوات حينما تزوجت بأخيه الأكبر. ورأتْه بعد تلك الفترة لمرّات عديدة خلال أسفارها، وسكَنِهَا بأحد المنازل العديدة التي تملكها عائلة أرماند بموسكو، والتي كان يقيم بها أيضاً الطّالب الشابّ. آخر شيء كان من الممكن أن تفكّر فيه، هو أن تقع في حبّ فولودْيا، لكنّ هذا الأمر الذي كان يبدو مستحيلا، وقعَ حقّاً!
فولوديا شابّ وسيم، طويل القامة بعينين رماديتي اللون، وشعر ولحية شقراوين. وله نظرات عميقة تشعّ شجاعة وحزما لا يليقان إلا بشابّ روسي مثله. وهو صورة طبق الأصل لأليشا، أحد إخوة كارامازوف، كما يقول جورج باردويل مؤرخُ حياة إينيسّا، وكذا بعض من أقارب الشابّ وأصدقائه. وأليشا هذا كما كتب عنه دوستيوفسكي «لم يكن إنسانا متعصّبا، ولا حتّى صوفيا، ولكنه كان صديقا للنّاس جميعا، أتى في زمن مبكر وسابق لأوانه». وفولودْيا كان كأليشا، «يملك هبة جذب محبّة النّاس نحوه، ويتمتع بطبيعة ميّالة إلى البحث عن الحقيقة من وجهة نظره، وإذا صادف أن وجدها دعا النّاس إليها بكل ما فيه من قوّة وحماس». وتبقى الثورة الحقيقة الكبرى التي آمن بها فولوديا، وكان يدعو إليها بنفس حماسة الصوفيين وهم يدعون الناس إلى الله وإلى طريق الأخلاق والفضيلة. ولعلّه بالذات هذا الجانب من شخصيته الميّال إلى كلّ ما هو مثالي ومطلق ومستحيل هو ما دفع به إلى احتضان ما منحه القدر بكل رضا وسعادة: عشق إينيسّا، زوجة أخيه الأكبر أليكساندر.
حكاية الانجذاب بينهما بدأت من خلال مشاعر الصداقة المتبادلة بينهما، وكذلك عبر سكنهما معا في البيت نفسه بموسكو، وكذا بسبب ما كان يجمع بينهما من ذكريات قديمة عن طفولته، وحياتها المبكرة بين أحضان عائلة أرماند الكبيرة. إلا أنّه ثمّة حدث أهمّ من كلّ هذا يمكن اعتباره الشرارة الحقيقية التي أشعلت نيران العشق بينهما معا: ففي ليلة من إحدى ليالي موسكو الهادئة عادت إينيسّا من المسرح ووجدت بالبيت فولودْيا منهمكا في الحديث مع مجموعة من أصدقائه الجامعيين، وما إن رآها حتّى ذهب لاستقبالها وأعدّ لها بكل لطف كأسا من الشاي. وبعد أن غادر أصدقاؤه البيت في ساعة متأخرة من الليل، التحق فولودْيا بإينيسّا، وأكمل معها السّهرة في الحديث عن أشياء كثيرة، وكانت هي تستمع إليه باهتمام شديد مسحورة بكل كلمة كان ينطق بها.
كثيرة هي الأفكار المشتركة التي تجمع بينهما، وكلاهما يحلمان بالقيام بشيء مهمّ وعظيم من أجل بلدهما، وقد بدأ فولودْيا حقّا مسيرة تجاربه السياسية الأولى بحماس شبابي منقطع النظير إلّا أنّهُ لا يعرف أيّها أفضل؛ الانضمام إلى الحزب الاشتراكي الدّيموقراطي أمْ إلى الحزب الاشتراكي الثّوري؟ هذا عن فولودْيا، أمّا إينيسّا فقد كانت تعرف جيّداً بأنّ تلك الأشياء التي حققتها أو حاولت إنجازها لم تكن تختلف في شيء عن تلك الأعمال الخيرية التي كانت تقوم بها العديد من نساء الطبقة البورجوازية، وعليه أصبح لزاما تغيير هذا المنهج الذي سلكته في حياتها ولسنوات طوال. لقد أصبحت إينيسّا على قناعة تامّة بأنّ ما يحتاجه الشعب هو شيء آخر يختلف تماما عن مبادرات العطف والإحسان، إنه في حاجة إلى طرق أكثر عمقا وجدّية.
طالت فترات إقامة إينيسّا بموسكو، وأصبحت الأيام التي كانت تقضيها بإيلديجينو قصيرة وخاطفة. لقد اكتشفت أنّ بيتها الكبير في الغابة الروسية يضجُّ بالمرضعات والخدم، وهي فيه زوجة وأمّ لأربعة أبناء، وكلّ هذا لم يعُد يكفيها أو يجلب لها السّعادة، بل أصبحتْ لا تطيقه وتحوّلت إلى امرأة عصبية المزاج وكثيرة التأفف. لأجلِ هذا قرّرت فجأة أن تقطع الصّلة بكلّ شيء لا يعجبها، أو كانت تتحمّله سابقاً مُرغمةً أو على مضض، فقد كانت تقوم بالشيء نفسه حينما كانت طفلة ولا ترى مانعا في أن تفعله أيضا الآن وهي سيّدة ناضجة.
من هذا المنطلق بدأت تتحدث أمام الملأ عن مللها الشديد، وعن عدم رغبتها في استقبال أصدقائها الذين كانوا بالنسبة لها وإلى وقت قريب ضيوفا أحباء كراما أعزاء، وليس هذا فحسب بل بدأت أيضا تخرج ليلا للتنزه لوحدها ولساعات طوال بين أحراش غابة القرية، ولم يعُد ينفع معها شيء على الإطلاق، ولا حتّى توسّل زوجها واستعطافه لها وهو الذي لم يدخر جهدا في محاولة فهم ما الذي بصدد الحدوث لها، إلا أنّه كان يصطدم دائما بجدار صمتها وحزنها الدفينيْن.
في بيتها بإيلديجينو بات الكلّ في ترقّب وخوف عليها: الأصدقاء والأقارب والخدم أيضا، إلى أن قررت أخيراً أن تخرق حجاب الصمت وتبوح لزوجها بقصّتها مع فولودْيا؛ مرّة أولى لوحدهما، ومرّة ثانية بحضور فولودْيا نفسه.
اعتراف بهذا الشكل كان من المفترض أن تليه مشاحنات وخصامات دامية بين الأخوين، لكن لا شيء من هذا وقع، والقصّة على غير المعتاد أخذت منحى آخر مختلفا تماما، فلقد بدأت بين الثلاثة جلسات حوار مطوّلة، تتخللها الدموع أحيانا والاعترافات الصريحة أحيانا أخرى، لأنّ كلّ واحد منهم كان يحاول أن يشرح وجهة نظره، الأمر الذي شجّع الأخوين على التمسك برباط الأخوة وعدم تحويله إلى عداوة مقيتة. أمام هذا الموقف النبيل شعرت إينيسّا بالذنب، واعتذرت من الأخوين معا، خاصة وأنها لا تريد أن تفقد ما بقي في قلب زوجها من احترام ومودة تجاهها. أمّا فولودْيا فبقي مشتّت الذّهن بين حبّه لأخيه وعشقه لإينيسّا. وأمام هذه المستجدّات في حياة الابن الأكبر أليكساندر، لم تبق عائلة أرماند الكبيرة بعيدة عن القضية، وإنّما حاولت هي الأخرى مساندة كلّ الأطراف الثلاثة مع مطالبتهم بالإيضاحات والشروحات الكافية، وفي الختام قرروا جميعا أن تبقى إينيسّا بينهم، فهي قبل كلّ شيء واحدة منهم وليس من اللائق أبدا التخلي عنها هكذا وبكل بساطة.
يبدو الأمر وكأنه قصّة خرجت من بين صفحات رواية (مالعمل؟) لصاحبها نيكولاي غافريلوفيش شيرنيشيفسكي والتي ألّفَهَا سنة 1863 في مدينة سان بطرسبورغ ومن داخل أسوار قلعة بطرس وبولس حيث كان سجينا هناك، لأن البوليس القيصري كان يعتبره من المعارضين الأكثر خطورة ضدّ النظام.
ما إن صدر كتاب (مالعمل؟)، حتّى أصبح معروفا ومنتشرا بين الأوساط الثقافية الروسية لا سيما لدى المثقفين أصحاب التوجهات التقدّمية المتأثّرين برياح التغيير والإصلاح القادمة من الغرب. ويبدو أن كلّا من أليكساندر وإينيسّا وفولودْيا، كانوا هُم الآخرين متأثرين في طريقة معالجتهم لمشكلتهم الشائكة تلك بالنماذج الإنسانية الجديدة التي طرحها غافريلوفيش في روايته عن الحبّ والصّداقة، فهم أيضا يعتقدون «ألّا حبّ بدون حرّية»، بالضبط كأبطال الرواية الثلاثة؛ فيرا بافلوفنا، وديميتري لوبوخوف، وأليكساندر كيرسانوف!
وإينيسّا أمام كلّ هذا لم تشعر أبدا بأنّها مجبرة على فعل شيء ما لإنقاذ ما تبقى من زواجها المتحطّم، ولا حتّى فولودْيا كان ينوي الدّخول في منافسة مع أخيه. أمّا أليكساندر وعلى الرغم من معاناته المريرة فقد حاول تفهم الأمر ومسامحة الاثنين؛ أخا وزوجة. لكن حدث ما غيّر مجرى كلّ الأحداث، لقد حبلت إينيسّا من فولودْيا، واضطرّ أليكساندر إلى الاعتراف بالمولود الجديد كابن له ضمن عائلة أرماند الكبيرة، وإلى جانب هذا قرر أنه ما إن يبلغ أطفاله سنّا معيّنة تسمح لهم بتمييز الأمور فإنه سيخبرهم بقصة حبّ أمّهم لخالهم فولودْيا.
اقترب موعد الوضع، وسافرت إينيسّا في شهر تمّوز إلى سويسرا لتُجنّب زوجَها فضائح أخرى هو في غنى عنها، وتتجنّب كلام الناس والمجتمعات الروسية البورجوازية. فضلا عن أنّها كانت في حاجة ماسّة إلى إعادة ترتيب حياتها، فهي مازالت لم تتخلّص من مشاعر المودّة تجاه زوجها أليكساندر، ولا هي قادرة في الوقت ذاته على التخلي عن عشقها لفولودْيا، ولا حتّى عن التزاماتها كأُمّ تجاه أبنائها، وكمواطنة تجاه مستقبل روسيا. إنها بحاجة أكثر إلى الهدوء والسلام لتصبح أكثر قدرة على التفكير السليم وعلى اتخاذ القرارات الصّائبة.
في سويسرا بدأت إينيسّا تخرج للتنزه من حين لآخر بين أحضان الطبيعة الخلابة، وكانت حريصة أيضا على قراءة الكتب التي كانت تذهب لاقتنائها من مكتبة كوكلين الروسية حيث كان يلتقي العديد من المهاجرين الرّوسيين الباحثين ليس فقط عن الكتب وإنما أيضا عن جوازات السّفر. في هذا المكان، كانت إينيسّا تتابع بعضا من محاضرات لوناشارسكيي، وهو شابّ روسي كانت تعتبره من القلائل الذين كان همّهم الأكبر، الخروج بروسيا من ربقة الاستبداد القيصري.
في أيّار 1904، قررت إينيسّا العودة. ركبت القطار المتجه إلى موسكو هي وأبناءها الأربعة وكذا وليدها الجديد والخدم والمرضعة. وكما يليق بسيّدة بورجوازية مثلها، استقرت في مقصورة من الدرجة الأولى بعيدة عن أعين الشرطة والمراقبين وما إليهم، لكن مظاهر ثرائها هذه لم تشفع لها بشيء، فقد حدث خطأ ما جعل الشرطة تقف طويلا في مقصورتها وتفتش حقائب الأطفال والمرضعة، لكنّها ولحسن الحظ لم تعثر على شيء، ففي أسفل الحقائب كانت توجد طبقات سرّية عريضة ومبطّنة بشكل جيّد خبّأت فيها إينيسا العديد من الكتب الممنوعة ونسخ عديدة من «الشرارة» (الإيسكرا) وهي جريدة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي التي أسّسها كلّ من لينين وبوتريسوف. لقد كان تهريب هذه الكتب أوّل حركة من إينيسّا نحو حياة جديدة قررتْ أن تهبَها وتُخصّصها للثورة.


(6)
في سجن القيصر
«مرّت سنة على واقعة التفتيش الذي حدث في القطار، واليوم وفي الصّباح الباكر من شهر شباط لسنة 1905 استيقظتُ في بيتنا بموسكو على ضجيج رهيب: لقد كانت الشرطة في غرفتنا، وكلّ شيء بداخلها مقلوبا رأسا على عقب بما في ذلك أسرّة إخوتي، أمّا والدتي فقد كانت واقفة بالقرب منّا وتحاول الحفاظ على هدوئها وابتسامتها مشيرةً لي بإصبعها بعدم البكاء، إلّا أنّ ذلك لم ينفع في شيء، فقد انخرط الطفلان الأصغر سنّاً في البكاء بصوت عال، في حين كنت أنا في حالة ذهول كامل، ولم أستوعب حقيقة ما الذي كان بصدد الحدوث»، هكذا تتذكّرُ إينّا، ابنةُ إينيسّا ذاك اليومَ الذي اقتحمت فيه الشرطة البيت الذي كانت تقيم فيه والدتها وخالها فولوديا وكذا الشابّ فانْيا، وهو أحد أبناء الخدم، وقد تكفلت عائلة أرماند بتربيته وتعليمه منذ نعومة أظافره، وحينما أصبح شابّاً يافعاً انتقل إلى موسكو لإكمال تعليمه الجامعي، ولقد استضافته إينيسّا ليساعدها في عملها السّياسي السرّي.
كانت الشرطة تبحث عن السّلاح وأشياء أخرى غير قانونية، ولقد وجدت ضالّتها في غرفة فانْيا التي كانت تضجّ بالمنشورات والكتب الممنوعة، أمّا في غرفة إينيسّا وفولودْيا فقد تمّ العثور على مسدّس وبضع رصاصات قيل إنّهما لفانْيا، وهو بحكم عضويته في الحزب الاشتراكي الثّوري يمكنه حوزة السّلاح وكذا المتفجّرات، أمّا إينيسّا وفولودْيا، فحزبهما الاشتراكي الدّيمقراطي لا يسمح بذلك أبدا. لكن هذه التبريرات الواهية لم تنفعهم في شيء، ذلك أنّ الشرطة اعتقلت الثلاثة معاً، وقبل الخروج همستْ إينيسّا لابنتها إينّا: «لا تخبري أيّ أحدٍ بتاتاً بأمر اعتقالي»، والطفلة كانت في مستوى الوصيّة، وكتمت السرّ عن الجميع.
قبل إلقاء القبض عليها، كانت إينيسّا تركّز كلّ جهودها على تنظيم الاجتماعات والحلقات التعبوية من أجل التعريف بأفكار زعماء الثورة في المنفى عبر توزيعها للكتب والمنشورات التي هرّبتها من سويسرا. في تلك الفترة كان كلّ شيء بموسكو في تصاعد مستمرّ، والرغبة في قلب النظام القيصري باتت معلنة للجميع، ممّا دفع بالشرطة إلى الرّفع من حدّة العنف وتشديد المراقبة على الجميع، لدرجة أنه حتّى فانْيا لم يفلت من موجات العنف القيصري، فقد عاد ذات ليلة إلى البيت غارقا في دمائه إثر الاشتباكات التي وقعت بين الشرطة والمتظاهرين في الشوارع: «ليست ثمّة كلمات أصف لك بها خوفي، ولن يستطيع أبناؤنا نسيان كلّ هذا أبدا»، كتبت إينيسّا في إحدى رسائلها لأليكساندر.
لم يكن تخوّف النظام وقلقه نابعا من فراغ، بل مبنيا على حقائق واقعية وبادية للجميع، فنيران التمرّد والعصيان أصبحت منتشرة في كل أنحاء روسيا. وفي سنة 1904 ارتفع عدد المظاهرات المنظمة وسط السّاحات الكبرى، وأُغلقت المصانع لفترات متقطّعة، وخرج الطلبة إلى الشوارع في مواكب ضخمة، وشارك عمّال السكك الحديدية في حركة الفلاحين الثورية، واستمرّت الأوضاع في الغليان حتى سنة 1905.
وتبقى الحرب وتداعياتها السبب الرئيس في غضب الجماهير، فروسيا وإن كانت تملك أسطولا حربيا ضخما تحاول أن تستميل به الشعب وتكسب تأييده لمواقفها العسكرية في حربها ضدّ اليابان، فإنّها لم تستطع الصمود طويلا وأصبحت هزائمها المتوالية أمام الجيش الياباني مدعاة لنقمة المواطنين الذين أصبحوا لا يرون أبناءهم سوى وهم عائدين من حرب فاشلة محمّلين فوق التوابيت، أو على متن قطارات ممتلئة بالجرحى والمنكوبين في ظلّ نظام عاجز عن تجديد هياكله وقيصر عنيد ومتصلّب الشخصية والطّباع.
وليت الأمور توقفت عند هذا الحدّ، ففي كانون الثاني من سنة 1905 قتلت الشرطة القيصرية في مدينة سان بطرسبورغ المئات من الأبرياء الذين كان يقودهم الأب جابون وهو مؤسس الجمعية النقابية للعمّال الرّوسيين، وكانوا قد اتجهوا نحو قصر الشتاء من أجل مطالبة الحكومة بتحسين أوضاعهم المعيشية، فأطلق رجال الدّرك الرصاص عليهم، وتحوّلت المظاهرة إلى مجزرة، وسُجّلت الواقعة في تاريخ روسيا باسم «أحد الدّم»، وذلك لما حدث فيها من فظاعات كما قالت المؤرخة الفرنسية هيلين كارير دانكوس «على الرغم من أنّ هذه المظاهرات كانت سلمية، وكان أصحابها يؤمنون جدّاً بشرعيتها، وبأنّ الحكومة ستسقبلهم بأذرع مفتوحة وتحتضن مطالبهم بكلّ يسر وأريحية»، تُكمل هيلين في كتابها عن سيرة وحياة لينين، «ذلك أنّ المتظاهرين لمْ يأخذوا على محمل الجدّ تحذيرات النظام، أمّا رجال الشرطة فكانوا يأمرونهم بالابتعاد وتفريق الحشود، لأنهم لم يستوعبوا جيّداً كلمات المتظاهرين، ومن هذا الاضطراب لدى الطرفين وقعتِ الكارثة، وتحوّلتِ المسيرةُ السلمية لشعب كان يتقدّم نحو مَلِكِه في غضون ساعات إلى ما عُرف بـ «أحد الدّم» أو «أحد القطيعة بين الشعب والقيصر». والأب جابون لخّص هذه الأحداث في مقولته التراجيدية الشهيرة: "لقد اختفى الله، والقيصر أيضا"».
لقد شكّلَ «أحدُ الدّمِ» نقطة تحوّل كبيرة في حياة الروسيين، إذِ استمرّت سواء في سان بطرسبورغ أو في موسكو الإضرابات والمظاهرات التي كانت تندّد بالأحداث الدّامية التي أدّت إلى إزهاق أرواح المئات من الأبرياء. أمّا إينيسّا فواصلت بحذر شديد عملها السرّي، «ذلك أن العديد من النشطاء أوقفوا عملهم بما فيهم أولئك المقيمين على ضفاف نهر موسكفا» طبقا لما جاء في إحدى رسائلها إلى زوجها أليكساندر الذي حرصت على أن تظل المراسلات بينهما مكثفة، حتّى تتمكنّ من إحاطته علما بكلّ التفاصيل التي تخصّ أبناءهما وكذا مستجدّات الساحة السياسية والاجتماعية في موسكو. «لم تتوقف المصانع الكبيرة فقط عن عملها، بل كذا المختبرات والمعامل الصغيرة كالمصبنات ومغاسل الملابس، والمطبعات أيضاً، ممّا يعني ألّا جريدة أُرْسِلتْ إلى سان بطرسبورغ في هذه الفترة» تكمل إينيسّا كلماتها المرسلة إلى زوجها.
طالت الفوضى والاضطرابات موسكو أيضاً، واكتشف رجال الشرطة أن أجساد الموتى كانت لأعضاء من كلا الحزبين؛ الاشتراكي الديمقراطي وكذا الاشتراكي الثوري، وكانوا كلهم يمشون جنبا إلى جنب أثناء المظاهرات. وقبل أن تقع حادثة اعتقال إينيسّا تمكّن الاشتراكي الثوري إيفان كالْيَيِف من إلقاء قنبلة على موكب الدّوق الكبير الجنرال سيرجي ألكساندوفش رومانوف فأرداه قتيلا، وكانت النتيجة أن صعّد وزير الدّفاع من عمليات القمع العسكري، ووسّع حملات الاعتقالات.
وأمام كلّ هذا لم يعُدْ بإمكان إينيسّا أن تتقنَ بشكل جيّد كما كانت تفعل في السّابق حجب أنشطتها السياسة رغم كلّ الحذر والحيطة، ورغم مظهرها كأُمّ وسيّدة تنتمي إلى الطبقة البورجوازية الرّفيعة الرّوسية الذي كانت تستخدمه في تغطية كل ما كانت تقوم به تجاه الثورة، وإلّا ما كانت لتصل إليها الشرطة وتداهمها ببيتها وفي تلك الساعة المبكرة من إحدى صباحات شهر شباط، وبشكل غير متوقع تماما لدرجة أنّها اضطرّت إلى توصية أبنائها الكبار بالاعتناء بإخوتهم الأصغر منهم سنّاً أثناء غيابها.
بعد الاعتقال تمَّ ترحيل فولودْيا وفانيا إلى سجن مْياسْنيكايا، أمّا هي فأُخِذت إلى معتقل باسْمَنّايا الذي كانت تعتقد في البداية أنه سجن نسائي إلّا أنها اكتشفت بعد وصولها أنه لم يبق كما كان سابقا، بل أصبح مختلطا بعد ما حدث في البلاد من ثورات، وفيه يصرخ المساجين نساء ورجالا، ليلا ونهارا، وهذا ما تؤكده إحدى الرسائل التي كتبتها إينيسّا لزوجها قائلة: «إنّه أفظع مما كنت أتخيّله، إنني أعيش وسط المدمنين، والسّكّيرين المعربدين الذين يأتون بهم هنا ليلا، وبعد أن يشبعونهم ضربا وإهانات بدون أدنى رحمة ولا شفقة، يرمونهم في الزنزانات. إنّه الجحيم بعينه».
أصبحت إينيسّا تعيش حالة ذعر، فهي لا تثق بأحد وتخشى الحرّاس قبل المساجين، ولا تستطيع النوم أبدا، ولا التوقف عن التفكير في فولودْيا، فهو مصاب بداء السلّ، ومن المؤكّد أنّ صحّته سوف تتدهور بسبب رطوبة السجن والميكروبات المعششة في كل ركن منه. فضلا عن أنّ الشرطة لم ترحم أحدا منهما على الرغم من أنهما معا، على خلاف فانْيا، ينتميان إلى حزب عرف عنه عدم الميل إلى العنف وشجبه لأعمال الشغب، لكن ما باليد حيلة فانفجار الأوضاع في كل مكان من روسيا وتفاقم الفوضى دفع النظام إلى عدم التساهل في معاملة السجناء مهما كانت انتماءاتهم الحزبية أو الطبقية.
وعلى الرّغم من أن الأمور كانت تدعو إلى القلق، فإنّ إينيسّا لم تكن تشبه أحدا من السجناء، فهي امرأة مثقفة ومن أسرة ثرية، وتعرف جيّدا ما عليها أن تقوم به، فهي لها حقوق يمكن أن تطالب بها داخل السجن إن تمسكت بها، كمثلا حقها في مراسلة زوجها الذي كان يعمل كل ما في وسعه من أجل أن تستعيد حرّيتها من جديد.
في رسائلها العديدة كانت إينيسّا تحاول دائما أن تخفّف من روع واضطراب زوجها فمثلا في هذا المقطع تقول له: «لا تُجهد نفسك أكثر ممّا يجب وأنت تسعى إلى التدخل لدى الجهات المعنية من أجل إطلاق سراحي. أمّا فيما يتعلق بعرض قضيتي على الحاكم العامّ ومناقشتها معه، فلا أعرف إلى أيّ حدّ يعدُّ هذا الأمر إجراء طبيعيا يقام به عادة في حالة طلب الإفراج بكفالة مالية. لذا، فإذا كنتَ ترى أنه شيء متداول بين الناس وليس فيه أيّ تحيّز لي أو محاباة أو محسوبية فقُم به، أمّا إذا كان غير كذلك فاتركه ولا تطلب شيئا من الحاكم».
وإلى جانب حق المراسلة، كانت تعرفُ أيضا أنّهم لا يملكون أيّ شيئ ضدّها. صحيح أنهم وجدوا المسدس في غرفتها، وهذا في حد ذاته أمر ليس بالهيّن بتاتا، إلّا أنّه لا يُثبت بأيّ شكل من الأشكال أنها شاركت في أية مظاهرة أو محاولة انقلابية.
في إحدى رسائلها إلى الحاكم العام كتبت له من زنزانتها تطلب تحويلها إلى سجن آخر أو عزلها في زنزانة خاصة. وبالفعل كان لها ما أرادت، لأنه في غضون أيام قليلة تمّ تحويلها إلى زنزانة انفرادية عانت فيها مالم يكن في الحسبان. لقد جرّبت الشعور بالوحدة والعزلة عن العالم تماما، وكان ذلك أمر يضعُ على المحكّ يوميا صحتها وتوازنها النفسي ومدى قدرتها على تحمّل هذه الوضعية الجديدة.
كان الصمتُ يقتل كلّ رغبة في الحياة لديها، وكانت المسكينة تقضي ساعات طوال تتمنى فيها أن تسمع ولو للحظة واحدة صوتا ما، أو وقع خطوة ما، لكن عبثا، فلا أحد كان يتحدّث هناك، حتّى الحرّاس كانوا يقضون وقتهم صامتين تنفيذا منهم لأوامر النظام الداخلي الساري العمل به هناك.
ما من أمل، بات الليل هنا كالنهار، يمران ببطء شديد دون أن تستطيع التمييز بينهما، إلى أن خارت قواها ومرضت مما اضطرها للكتابة مجددا للحاكم العام تطلب منه التصريح لها بالخروج ولو لبضعة دقائق من زنزانتها والحديث مع غيرها من السجناء.
يصعب حقّا استيعاب كيف كانت إينيسّا تستطيع كتابة رسائلها وإيصالها أيضا إلى أصحابها، كلّ باِسمه وإلى مكان إقامته! ويبقى المرسل إليه صاحب الحظ الأوفر من المراسلات هو زوجها أليكساندر. لقد عاد اليوم من سفره إلى المشرق، وهو الآن يوجد مع أبنائه في بوشكينو، ومنها يردّ على رسائلها بشغف عميق، لدرجة أنه يبدو عليه وكأنه نسي تماما خيانتها له مع أخيه.
قال لها إنه سيفعل المستحيل من أجل إخراجها من هناك، وهي وإن بدأت تخور قواها، إلا أنها لم تفقد الأمل بعد، وظلت تتمسّك حتى بتلك الأشياء البسيطة التي كانت إدارة السجن تسمح لها بالقيام بها، كما أنها لم تتوقف ولو للحظة واحدة عن التفكير في أبنائها والكتابة عنهم في رسائلها إلى زوجها توصيه فيها بالاعتناء بهم كما هو جليّ في كلماتها هذه: «أثناء فترة إقامتي بينكم حرّة طليقة، كنت قد خطّطت والأولاد للذهاب معا في رحلة إلى نهر الفولغا، وكذا إلى بحيرات فنلندا. فإذا كانت ظروفك المالية حاليا ملائمة، واستحسنت الفكرة، يمكنك أن تحقق أنت للأطفال هذا الحلم [...] لا تنس أيضا أن تطلب منهم أن يذهبوا للحقول ويقطفوا لي بعض الأزهار وترسلها لي بنفس الطريقة التي تبعث بها الرسائل... كم أنا مشتاقة جدّا لرؤية الأزهار البريّة!».
في ردوده الكثيرة كان أليكساندر يخبرها أيضا عن الحرب والثورة، وعن الدماء والعنف وآلام الناس ومستجدّات الشارع الروسي، وكان كلّ هذا يزيد من حزنها ويحفّزها للعطاء والعمل من أجل روسيا دائما أكثر فأكثر، كما هو واضح في رسالتها هذه التي تقول فيها مخاطبة زوجها: «يقولون إنّ الحرب ستفشل قريبا، وهذا أمر جيّد بالنسبة للثورة. لكنني حينما أفكر في الناس الجوعى الذين عليهم أن يؤدّوا ثمن كلّ هذا، تنتابني حالة من الخوف والقلق وأشعر أننا على وشك أن نقود الجميع إلى الهاوية والخراب، لذا، فإنه من الواجب الآن أن نتخلّص من هذا النير المقيت والمؤلم. وأعتقد أن طريق الخلاص الوحيد هو...».
وأخيرا تمكنت عائلة أرماند من تخليص إينيسا من محنتها، فبعد ثلاثة أشهر قضتها في المعتقل تمّ الإفراج عنها في الثالث من شهر حزيران. وها هي من جديد حرّة مع فولوديا وكذلك فانيا، وإن كانت الحالة الصحية لفولوديا قد تدهورت كثيرا وتفاقم المرض بين جدران السجن، وهو الأمر الذي سيضطره إلى مغادرة روسيا والذهاب للعيش في جنوب أوروبا أو للاستقرار في جبال سويسرا. وإينيسّا الآن بين نارين، فهي من جهة مشتاقة جدّا لأطفالها وترغب في البقاء معهم لأطول فترة ممكنة في روسيا حتى تتمكن أيضا من مواصلة عملها السياسي، ومن جهة أخرى حالة فولوديا الصحية لا تعطيها مجالا للاختيار، وهو الأولى بوجودها إلى جانبه في هذه الفترة الحرجة من مرضه مما سيجبرها على التنازل عن الكثير من أمنياتها والسفر بالتالي معه في رحلة استشفائية طويلة.
أصبحت إينيسا بعيدة مرّة أخرى عن أجواء روسيا وأحداثها التاريخية التي بدأت مسارا جديدا منذ تموز 1905، أيْ منذ الإعلان عن ولادة السوفييتات، كما أنها لم تعلم شيئا عن احتجاجات عمال السفينة المدمرة بوتمكين إلا بعد فوات الأوان. وفاتها أيضا الاطلاع على أخبار إضراب عمال السكة الحديدية العام الذي شلّ البلاد بأكملها. ولم تعلم عن هزيمة القيصر واضطراره إلى منح حق الاقتراع العامّ إلا من بعض الصحف التي اطلعت عليها وهي في مدينة نيس.





(7)
جليد الإقامة الجبرية
وأخيرا وصل العشيقان إلى نيس، وهناك وجدا الطقس متوسطيا معتدلا وإن كان الفصل خريفا، ممّا شجع فولودْيا وإينيسّا على الانغماس في حياة الخمول والدفء والنزهات وقراءة الكتب وتبادل الأفكار، حتى لكأن الأمر بدا وكأنه فترة عشق وحبّ خالصين لو لم تكن إينيسّا دائمة التفكير في روسي، إذ لم يكن يمرّ يوم دون أن تسأل فيه عمّا يحدث هناك في الوطن. كما كانت تقرأ تفاصيل كل الجرائد الأوروبية بحثا عن المستجدات، فضلاً عن رسائلها الطويلة لكل من كانت تعتقد أنه بوسعه أن يمدّها بمزيد من الأخبار. وهاهي في إحدى رسائلها إلى أليكساندر تقول: »ليتني كنت هناك، فأشَارِكَ ولو بشكل متواضع في قضية الشعب الكبرى«. وكانت فعلا هذه أمنيتها التي لم يحُلْ دون تحقيقها سوى حبّها لفولودْيا وقلقها عليك.
وتغلّب الاثنان على كل العوائق، وعادا أخيرا إلى بوشكينو ليستقرّا في بيت العائلة الكبير، وبدأت إينيسّا عملها السياسي من جديد منطلقة من مصانع النّسيج، مع التّركيز بشكل مكثّف على تأسيس التنظيم السرّيّ الخاصّ بالحزب الاشتراكي الديمقراطي، في الوقت الذي لم تتوقّف الشّرطة عن مراقبة كلّ خطواتها.
غريبة حقّا هذه السنوات التي باتت تعيشها عائلة أرماند بعد ثورة 1905، ولعلّ من أبرز مظاهر غرابتها أنّ مطالب العمّال كانت تتمّ مناقشتها في البيت الكبير، أيْ مع وأمامَ أرباب العمل شخصيّا! وليس هذا فحسب، فالشرطة حينما اعتقلت أربعا وعشرين من العمّال المتظاهرين، اعتقلت معهم أيضا أليكساندر بوريس أرماند، بتهمة التعاون والتساهل المفرط مع المُضربين عن العمل.
لقد كانت عائلة أرماند تلعب لعبة القطّ والفأر مع الجهات القيصرية، لدرجة أنّ الشرطة كانت لا تتوانى عن تفتيشها المستمر للبيت الكبير غرفة غرفة وقبوا وقبوا، وكلّما عثرت فيه على بعض الإعلانات الدعائية للحزب الاشتراكي الديمقراطي أتلفتْها كاملة.
بدأت إينيسّا تشعر بأنّ مراقبة الشرطة أصبحت تشتدّ أكثر من ذي قبل في بوشكينو، لذا قرّرت الرّحيل من جديد، ولكن هذه المرّة إلى موسكو، هناك حيث أصبحت مسؤولة الحزب الأولى في مقاطعة ليفرتوفو، وبادرت إلى اختيار الطّلبة المؤهّلين أكثر إلى القيام بأعمال الدّعاية التي يحتاجها الحزب، مع الحرص على تأمين الأماكن التي كانت تعقد فيها الاجتماع وتوزيع الكتب الممنوعة. كما كانت تسعى إلى لقاء العمّال شخصيا، لا سيما منهم أولئك الذين كان عندهم استعداد للاستماع إليها، وكانت بدورها تجيد الإنصات إليهم، محاولة في الوقت ذاته أن تنقل ما كانت تسمعه وتشاهده في تجربتها هذه إلى أكبر عدد من العمّال في لقاءات أخرى متعددة. وهذا يعني أنها كانت تقوم بعملها كوسيطة وفاعلة سياسية على أحسن وجه وبنجاح منقطع النظير، خاصّة وأنها كانت عندها القدرة على التعامل مع القضايا الأكثر تعقيدا وجعلها في متناول بسطاء الناس بأسلوب أكثر يسرا ومرونة، ممّا أثار إعجاب ودهشة العديد من أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكنّ الشرطة السرية الروسية كانت تراقبها باستمرار.
أصبحت الأوضاع في موسكو خانقة للغاية، وخلال سنة 1905 كثرت الإضرابات والفوضى وارتفع عدد المظاهرات وحالات إعلان العصيان والتمرّد، وتعطّلت خطوط المواصلات والتواصل. كان الأمر حينذاك يتعلق بما أسماه المؤرخون بالمرحلة الإعدادية ، أو «البروفة العامّة» لثورة 1917، التي تدخلت السلطات بكل قوة من أجل قمعها، وهذا مقطع من المؤرخة هيلين كَارير دانكوس تشير فيه إلى بعض مظاهر ماارتكبته سلطات القمع في حقّ الثوّار والمنتفضين: »إذا كان عدد العمّال الثّوار قد وصل سنة 1905 إلى 2.750.000 ففي سنة 1906 نقص العدد مليونا من المتظاهرين، أمّا في سنة 1907 فقد انخفضَ إلى ما هو أقل بكثير من عدد العمّال المشاركين في الثورة خلال السنتين الماضيتين«.
باتت إينيسّا توقن بأنّ الأمر أصبح أكثر خطورة في موسكو، وأنه من الممكن أن تتعرض من جديد للاعتقال بين اليوم والآخر، لا سيما وأنّ الثورة أصبحت الشاغل الرئيس والأهم في حياتها، وما عدا ذلك فهو ثانوي، بما في ذلك أبناؤها وحبيبها فولوديا. وبناء على قناعتها هذه أصبحت لا تعتمد من أجل إبعاد عيون وشكوك الشرطة السرية عنها على مظهرها كسيدة من أهمّ سيدات المجتمع الروسي الراقي، ولا حتى على اسم عائلتها الثرية، وحرصا منها على سلامة أبنائها قررت الانفصال عنهم وإرسالهم إلى بوشكينو، هناك حيث يمكنها أن تزورهم دون أن تعرّضهم لأخطار عملها السياسي.
ولم تكتف بهذا فقط، فقد انفصلت عن حبيبها فولوديا أيضا، لأنّ داء السلّ لم يعد يسمح له أبدا بأن يطيل البقاء لفترة أخرى في روسيا، والشتاء القارسُ أصبحَ على الأبواب، وهو بحاجة أكثر إلى طقس يكون ملائما له ولجسده العليل.
بعد أن سافر فولوديا غيّرت إينيسّا مكان إقامتها، وغادرت شارع أربات الأنيق، وذهبت للعيش في شقة متواضعة بالإيجار هي ورفيقتها في الحزب إيلينا فالسوفا.
في هذا الحيّ الجديد أصبح بإمكانها أن تقوم بعملها الدّعائي بشكل أكثر يسرا ومرونة من ذي قبل، خاصّة وأن عمّال السكك الحديدية هنا على مستوى عال من الوعي السياسي، وهو الأمر الذي سيضمن لها انضمام العديد منهم إلى الحزب.
لم تعد تنفعها في شيء كل الاحتياطات وأشكال الحذر التي كانت تتخذها من أجل إبعاد أعين المراقبة المشددة عنها، لا سيما بعد التغييرات التي حدثت في الوزارة، والتي بموجبها أصبح بيتر أركاديفيتش ستولبين الوزيرَ الأول، ووزيرَ الداخلية لدى الإمبراطورية القيصرية، وقد عُرف عنه أنه لا يترك أمرا لنيكولا الثاني إلا ونفّذه. وقد جاء في الوقت ذاته بإصلاحات جديدة طبقها على وجه الخصوص في مجال الزراعة بهدف خلق طبقة جديدة من الفلاحين الأثرياء حتّى يكون هذا الأمر السبيلَ الأمثل لامتصاص غضب الشعب والثورة. مما يعني التصعيد من عملية قمع كلّ الثوار بمن فيهم الاشتراكيين الثوريين، والاشتراكيين الديمقراطيين، والنقابات القانونية، وكل معارض أو منتقد للحكومة القيصرية.
كان ستولبين قاسيا وحازما في تنفيذ خطّته الجديدة، وكان ينادي باللجوء إلى القوانين والمحاكم الخاصّة، وكذا إلى المحاكمات والإعدامات المستعجلة.
وفي هذه الفترة اعتُقِلت إينيسّا لمرّات ثلاث، وقد تمّ الإفراج عنها في المرّتين السّابقتيْنِ لعدم وجود أدلّة كافية ضدّها، أمّا في المرّة الثالثة فقد اتخذت الأمور منحى مختلفا تماما بسبب وشاية وصلت إلى الأوكرانا مفادها أن اجتماعا سيتمّ في مقرّ إحدى وكالات التوظيف من أجل تنسيق الإعدادات الأولية لإضراب عمال السكك الحديدية الجديد، لكن الظروف لم تمهلهم إكمال ما كانوا ينوون القيام به، لأن رجال الأوكرانا داهموهم فجأة وهم حول طاولة الاجتماع، واعتقلوا منهم أحد عشرة عضوا، إلّا إينيسّا، التي كانت قد تأخّرت عن موعد الاجتماع بوقت قليل.
لم يصدّق البوليس ما صرّحت به إينيسّا بشأن تواجدها هناك في وكالة التشغيل، أيْ أنها حسب ما قالت كانت تبحث عن طبّاخ للبيت. لكن وعلى الرغم من عدم تواجد أدلة كافية مرّة أخرى ضدّها، فإنّ البوليس السرّي مضطر هذه المرة إلى إيقافها والتحقيق معها، إذ كثيرا ما تصادف أن وجدوها في حالات مشتبه فيها من هذا القبيل، ولا يمكنهم بالتالي الاستمرار في غضّ الطرف عنها كلّ مرّة.
أصبحت إينيسّا خبيرة في السّجون والسجّانين، لدرجة أنها كانت تدوّخ من يُحقّق معها من رجال الشرطة، فمرّة تغلق عينيها أثناء تصويرها، ومرّات أخرى تختلق العديد من الأكاذيب لتردّ بها على أسئلتهم الكثيرة. كأن تقول لهم مثلا إنّ عمرها ثمان وعشرين سنة، في حين أن عمرها الحقيقي هو ثلاث وثلاثين سنة. أمّا حينما كانوا يسألونها عن أسماء أبنائها فكانت تعطيهم أسماء أبناء أختَيْها. لم تكن تظهر أيّ نوع من التفهّم أو التعاون مع الشرطة أبدا، بل على العكس من ذلك تماما فكل ما كانت تظهره هو الاحتقار والاشمئزاز من كلّ من كان يحقق معها أثناء فترات الاعتقال الأولي. كانت قوية الشخصية، مفعمة بالرغبة في تحدّي سجّانيها لدرجة أنها في إحدى المرّات قررت أن تجعل من زنزانتها مصدرا للطاقة والمزاج الطيّب المرح، وأصرّت على ألا تدع للظروف البئيسة المحيطة بها أن تنال منها أبدا، فنظّمت حياتها داخل السجن، وشكّلت جمعية مع غيرها من السجينات، واتفقت وإياهن على التناوب اليومي سواء فيما يتعلق بأمور الطبخ أو غسل الملابس. إضافة إلى هذا كانت تعطي دروسا في اللغة الفرنسية، وتخرج يوميا في نزهة مطولة بباحة السّجن دون أن تهمل قراءاتها المكثفة للعديد من الكتب إلى أن جاء قرار المحكمة في تشرين الأول بإخراجها من السجن مع إحالتها على الإقامة الجبرية في روسيا الشمالية، بجنوب البحر الأبيض في المحيط المتجمد الشمالي. وعبثا حاول زوجها أليكساندر أن يقنع السلطات بتحويل الإقامة الجبرية إلى حكم بالنّفي، إلا أن الشرطة – وهي محقّة في ذلك- ترى بأن إينيسّا، وإن كانت خارج السجن فهي لن تتوقف عن ممارسة عملها السياسي، لذا فمن الأفضل عزلها في مدينة أركانجلو بالبحر الأبيض ومحاصرتها في جليد المنطقة الذي يدوم لستة أشهر في السنة.
ميزين هي المدينة التي ستقضي فيها إينيسّا حكم المحكمة عليها بالإقامة الجبرية، وهي بلدة صغيرة جدا ومعزولة عن كل شيء، وللوصول إليها يجب السفر قرابة شهر على الأقل وسط جليد القرى الروسية القاسي والذي لم تكن لتنجو من براثنه لولا احتفاظها في قلبها ببعض الذكريات التي منحتها بعض الدفء خلال هذه الفترة العصيبة من حياتها في ميزين، ولعلّ أهمّها كانت ذكرى زوجها أليكساندر حينما أتى بصحبة أبنائها لوداعها بمحطة موسكو وبين يديه باقة كبيرة من الورد، لم تتمكن من استنشاق عبيرها لأنها كانت بعيدة عنهم جميعا وبيْنَ شرطيين، فلم تستطع سوى أن تبعث لهم من شفتيها ابتسامة حنونة دون أن تتمكن من احتضانهم. ويظل قرار فولوديا بالسفر معها هو عزاؤها الوحيد وسط كل هذه الأحداث الحزينة، فلقد اختار أن يرافقها على الرغم من ظروفه الصحية المتدهورة كرجل مصاب بداء السلّ ومن الصعب جدا عليه أن يتحمل قسوة برد الشمال، وشدة انخفاض درجات الحرارة هناك في ميزين.
السفر طويل وشاق، والرياح قوية وباردة جدّا، وخيول العربة لا تقطع سوى 350 كيلومتر كلّ خمسة أيّام، لكن بالرغم من كلّ ذلك فإينيسّا تحاول البحث دائما عن مواطن الجمال حتى في أحلك الظروف، لذا، فليس بالغريب عليها أبدا أن تبدي إعجابها الشديد بسحر مناظر الطبيعة البيضاء الخلابة من حولها والمتلألئة تحت نور الشتاء الخافت والمغطّاة بستار شفاف من الألوان الزقاء. كلّ شيء كان في الطريق يثير فضولها بشغف لذيذ، حتّى ألبسة الناس المحلية المصنوعة من صوف أو فرو الحيوانات، وكذا المدفئات الكبيرة ذات الزخارف البديعة التي تزيّنُ الخشب المصبوغ باللونين الأصفر والأحمر، والتي كانت تتوقف عندها كلّما وصلت العربة إلى محطة معينة من محطات السفر القليلة. لم تكن هذه المدفئات تمنح إينيسّا الحرارة الجسدية فقط، بل كانت تشعرها أيضا بما في هذه الطبيعة البيضاء من جمال روسي برّي يحيي الفؤاد ويمدُّه بالسّعادة.
وصلت إينيسّا إلى ميزين، لكن صدمتها في سكّان هذه المدينة كانت شديدة، فطِباعُهُم جامدة وباردة برود درجات الحرارة التي تصل هناك إلى الأربعين درجة تحت الصفر، حيث لا يوجد أيّ مظهر أو شكل من أشكال الحياة، بالضبط كما كتبت تقول لصديقتها آنّا أسكانازي في إحدى الرسائل: »... من أبشع ما رأيت في هذه المدينة كان منظر الأشغال الشاقة، فضلا عن أن الحياة هنا منعدمة تماما، والناس كما نبتة لا ماء ولا رطوبة فيها ينمون مرضى ومعطوبين. لا شيء يوجد هنا يحفّز على العيش، ما من روابط روحية، ولا وجود للعمل، وحتى إن وجد فإنه يكون بحسب الفصول ولا يدوم طويلا، لذا فعضلات الناس هنا تعودت على الكسل والخمول، وعقولهم أيضا«.
عن هذه المدينة كتبت أيضا لأليكساندر تقول له: »الأيام هنا جامدة لا تتحرّك، لكن هذا لا يمنع من القول إنّها بشكل أو بآخر تنزلق مصفرّة وشاحبة، مما يعني أنني وفولوديا نواسي أنفسنا محاولين الاقتناع بأنّ في هذا المكان توجد حياة ما. طبعا لا يمكنني الإنكار بأنني أحسن حالا من أناس آخرين، على الأقل لا أعيش وحيدة، إذ هناك أشخاص يمرون حقا بظروف أليمة ويعانون من الوحدة القاتلة. لكن بالمقابل تبقى معاناتي أشدّ وأمرّ، لأنني تركتُ هناك أبنائي في موسكو، وأشتاق إليهم كثيرا، وقلبي قلق ومنشغل بهم دائما«.
ليس أمام إينيسّا من حلّ سوى الاعتماد على قدراتها الشخصية في تجاوز هذه المحنة بروحها التي تميل أحيانا إلى التخفيف من قسوة الظروف والتأقلم معها بشكل أو بآخر، فعلى الأقل تصلها من الحكومة إعانة مالية بمقدار 12 روبل، يمكن أن تستأجر بها بيتا من الخشب، وتعيش كبقية الناس دون أن تفقد روح المرح والسخرية السوداء من الأشياء التي تحيط بها، ففي مدينة ميزين يوجد ما يقارب المئة من المعتقلين السياسيين الذين يمكنها أن تجمعها وإياهم علاقة صداقة جديدة، هناك أيضا مدرسة، وجريدة وكذلك آلة بيانو في أحد المحلات التجارية بالقرية.
في كل صباح يستيقظ فولوديا باكرا، يجلبُ الماء ويُعِدُّ الإفطار، بالضبط كما كتبت إينيسا لأبنائها تشرح لهم كيف تمرّ صباحاتها: »من المفترض أن أقوم أنا بهذه الأشياء، لكن كما تعلمون جيدا فأنا كسولة للغاية، لذا، فإنني حينما أقوم من النوم متأخرة كالعادة، أجد السماور جاهزا«.
عادة ما تطبخ إينيسّا بعض الوجبات في البيت، لكنها تفضّل أن تعطي دروسا في اللغتين الفرنسية والروسية، وتجد سعادتها أكثر في قراءة بعض الكتب أو في عزف البيانو كلما سمحت ظروفها بذلك. أمّا حينما يكون الطقس نوعا ما أقل برودة، فإنها تخرج للتنزه أو إلى لقاء بعض الأصدقاء المنفيين الذين تعرفت عليهم في هذه المدينة.
في ميزين، تحاول إينيسا أن تخلق حياة يومية تكون نوعا ما غنية بالاهتمامات والتطلعات المعرفية وكذا اللقاءات الإنسانية، أمّا حينما يحلّ الليل، فتذهب إلى سريرها الدافئ وبين يديها كتاب ما، تقرأه كالعادة قبل أن تخلد تماما إلى النوم: »إذا كان الكتاب مُملّا فإني أنام بسرعة«، تقول مداعبة أبناءها في إحدى رسائلها إليهم: »لكن أرجوكم، لا تفعلوا مثلي، فأنا أقوم بهذا فقط لأنني هنا، أما في ظروف أخرى فإنني قارئة نهمة ومثالية كما تعلمون«.
إينيسا على الرغم من محاولاتها في أن تُظهر لأهلها منذ البداية صورة مختلفة عن مدى قدرتها على تحمُّل هذه الظروف القاسية، إلا أنها في الحقيقة كانت تعاني الأمرّين، وبعدها عن أبنائها هو الجرح العميق الذي لم تستطع أن تداويه بأيّ شكل من الأشكال، فحتى وجود فولوديا إلى جانبها ومحبّته واعتناؤه بها لم يكن كافيا للتخفيف من حدة آلامها، وأنّى لها ذلك وفولوديا بصدد مغادرتها إلى أوروبا لأن الطقس الجليدي هنا لم يترك له أيّ مجال لمقاومة المرض، وإن كان قد وعدها بالعودة عند قرب حلول فصل الربيع. لكن على الرغم من كلّ هذا، فإنّ الشيء الوحيد الذي بات يُخفّف من حُزْنها هو عودة أبنائها للعيش مع أبيهم أليكساندر، بعد أن عانوا كثيرا من آلام الوحدة هناك في موسكو بعيدا عن والدتهم إينيسّا، كما ورد في إحدى رسائلها لزوجها.
مضت سنة كاملة وهي على هذه الحال في ميزين، إلا أنه بعد أن غادر فولوديا المدينة، نفذ صبرها، وقرّرت فجأة المغادرة. ارتدت "لاماليكا" وهي لباس محلي مصنوع من فرو الأيل، حتى لا يتعرّف عليها أحد، وفي العشرين من تشرين الأول سافرت مع جماعة من الأصدقاء البولنديين الذين كانوا قد أكملوا فترة الحكم عليهم بالإقامة الجبرية، وفي 03 تشرين الثاني 1908 وصلت إلى موسكو.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني
- من الإنسانِ الآليّ إلى الإنسان العاليّ في عرفانيّات #عبدالجب ...
- (26) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (25) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...


المزيد.....




- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
- فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م ...
- ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي ...
- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)