|
الفيلسوف الغامض
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7516 - 2023 / 2 / 8 - 12:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان 50 - هيراقليطس
اللغة ليست مجرد جهاز بدائي لتوصيل الرسائل والإتصال بين مخلوق وآخر. اللغة برنامج متكامل شامل ومعقد وشديد الفعالية لبناء الأساطير والملاحم والأديان وكل ما يتعلق بالحضارات القديمة منها والحديثة. وقد أدركت المجتمعات الغابرة أهمية اللغة في بناء الخيال الجماعي، وأدرك الإغريق أهمية التواصل والربط بين اللغة والفكرة والكينونة، فكل ما يمكن أن يقال.. يمكن أن يكون. لوغوس- باليونانية: Λούος Logos، هي من أكثر الكلمات أهمية وأكثرها غموضا في الفكر الغربي الديني منه والفلسفي، إذ تدل في سياقات شتى على مدلولات متعددة، كالخطاب، اللغة، العقل، القانون الكلي، كلمة الإله، من بين معان أخرى. اللوغوس Logos عند أفلاطون وأرسطو قانون الوجود وأحد المبادئ المنطقية، وعند الرواقيين قانون العالمين الطبيعي والروحي في إطار وحدة الوجود. كان أول من استخدم مفهوم اللوغوس في الفلسفة اليونانية هو هيراقليطس Heraclitus في فلسفته عن التغير والصيرورة، فقد جعل اللوغوس المنظمَ لكل الأشياء والأساس والمبدأ الذي تتم به عملية التغير والسيلان؛ اللوغوس عنده هو القانون العام الذي يسير عليه الوجود في تغيره من حالة إلى ضدها، وهو الشيء الوحيد الثابت في هذا الوجود الدائم السيلان والتغير وهو عنصر النار. يقول برتراند راسل بخصوص هيراقليطس " أنه لم يتصف بالنظرة العلمية التي تميز بها أهل ملتية، بل كان صوفيا من نوع فريد، وذهب إلى أن النار هي العنصر الرئيسي، فكل شيء مثل لهب النار- يولد بموت غيره، وكل واحد يعيش بموت غيره ويموت بحياة غيره".
لا شيء مؤكد أو معروف بدقة عن حياة هيراقليطس، لا تاريخ الميلاد ولا تاريخ الوفاة ولا أي حدث مهم مثبت في حياته. تضع حسابات بعض المؤرخين بداية حياته في حدود سنة 540 قبل الميلاد ـ أي في العقود الأولى من القرن الخامس في مدينة إيفسوس Ἔφεσος - Éphèse في أسيا الصغرى، في غرب تركيا الحالية وعلى شواطيء بحر إيجة، في عصر يستحيل تحديده بدقة، كان من الممكن أن يعيش هيراقليطس خلال انهيار اليونان إلأيونية، بما في ذلك سقوط موطنه إيفسوس، وكذلك إحتلال وسقوط ملتيه مهد ظهور الفكر الفلسفي، سنة 498 قبل الميلاد، والتوغل الفارسي في أوروبا، وسقوط العديد من المستعمرات اليونانية في آسيا وربما استعادة إيونيا بكاملها من قبل آسيا. لكن أسطورته لا تظهره وهو يغادر إيفسوس، ولا تكرسه لمصير عظماء أيونيين آخرين، مثل كزينوفان وفيثاغوراس : مصير الهجرة والمنفى، أو التيه في أرجاء المعمورة، أو المساهمة في الإستيطان الاستعماري. لا شيء معروف على وجه اليقين عن عائلته أيضًا. لكن التقاليد التي ليست أسطورة بالضرورة تقول بأنه من عائلة أرستقراطية تعود جذورها إلى مؤسسي مدينة إيفسوس، بالإضافة إلى أنه تقلد وظائف سياسية وكهنوتية كبيرة في معبد المدينة، وأدت به أفكاره المتطرفة إلى عزله من وظائفه الدينية الوراثية. لم يكن بإمكان هيراقليطس أن يتجاهل أسلافه من مدرسة إيونيا مثل طاليس وأناكسيماندر من ملتية. لكنه لا يذكرهم إلا قليلا في النصوص والشذرات المتبقية لنا، ولا يعترف بهم كأساتذة له. إذا ذكر هسيود، وكزينوفان أوفيثاغوراس، فذلك لكي ينتقدهم بطريقة لاذعة، حيث يعتبر إن هؤلاء الكبار على "قدر كبير من المعرفة بدون ذكاء" وأعتبر حكمتهم ما هي إلا نوع من الدجل، فهوميروس يجب أن يحذف من القائمة لتلهب ظهره السياط، أما هزيود فهو من الغباء بحيث لا يفرق بين الليل والنهار، أما عامة الشعب فهم مجرد كلاب تنبح الغرباء وكل من لا تعرفه، ويكن إحتقارا وتعاليا نحو عامة الشعب، فهم مجرد حيوانات أو أنعام " حمير تؤثر القش على الذهب". ونتيجة حتمية لكل هذه الآراء المتعالية في الأرستقراطية، فإنه كان يحتقر النزعة الديموقراطية السائدة وهاجمها بشراسة، وكان يزدري حتى أهل وطنه " إن أهل إفسوس يحسنون صنعا لو شنقوا أنفسهم حتى آخر رجل من رجالهم ". ويبدو أن رسالته التي كتبها والتي لخص فيها أراءه الفلسفية كانت من الغموض والإبهام وصعوبة الفهم لإستعماله للغة الرمزية في أطروحاته وعدم إهتمامه بالشرح أو تقديم الأدلة مما أدى إلى إطلاق إسم الغامض على هيراقليطس، ونُعت أيضا بالـ"المعتم" وايضا بالنائح، لأنه كان لا يمل من الشكوى من عدم قدرة الناس على الفهم، ولم يكن راضيا على أي شيء كما يبدو. وكتابه الغامض هذا كان شائعا في وقت سقراط الذي قال عنه "ما فهمته منه شيء رائع .. ولكنني أيضا أعتقد بصحة ما لم أفهمه .. إنه يحتاج إلى غواص من ديلوس". وربما يمكن تفسير غرابة أطوار هذا المفكر الكبير وتشاؤمه ونظرته السوداوية تجاه العالم والبشر والفلاسفة نتيجة للظروف السياسية والإجتماعية السائدة في تلك الحقبة الزمنية المضطربة. حيث عاصر حروب فارس واليونان، أي ما يسمى بالحروب الميدية وعاصر هجوم داريوس الأول ملك الفرس وغاراته المتكررة على المدن اليونانية ومحاولته الإستيلاء على أثينا وضمها لبقية المستعمرات الفارسية، والتي انتهت بمعركة الماراثون الشهيرة والتي انتصرت فيها أثينا وحدها على الفرس. وكان يعتقد، نتيجة إزدراؤه وإحتقاره لكل البشر، بأن القوة وحدها هي التي تستطيع إرغامهم على العمل لصالح أنفسهم "كل حيوان يساق إلى مرعاه بالضرب"، فكان يؤمن بالحرب وضرورتها الإجتماعية، فالحرب هي التي تكون البشر والآلهة، وتقسم البشر بين أسياد وعبيد، وغياب الحرب يعني في نظره خراب العالم وموته.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقلنة الميثولوجيا
-
الفجوة
-
بين التوحيد والحلول
-
كزينوفان
-
المدرسة الإيلية
-
العقل اليوناني
-
لا يعرف مصلحة الأغنياء سوى الأغنياء
-
نهاية النبي المحزنة
-
ترنيمة لأبوللون
-
العودة للماضي
-
الدروب الوعرة
-
نهاية الرحلة
-
الأعداد الصماء
-
العدد الذهبي
-
الثقوب
-
فيثاغوراس والكابالا
-
الأعداد في نظام فيثاغوراس
-
الطريقة الفيتاغورية
-
التصوف، بين الدين والفلسفة
-
الطريق المسدود
المزيد.....
-
ردًا على ترامب.. المكسيك في طريقها لفرض رسوم جمركية انتقامية
...
-
رئيسة المكسيك تحذر من عواقب وخيمة للرسوم الجمركية التي فرضته
...
-
شولتس يستبعد أي تعاون مع اليمينيين المتطرفين
-
تديره شركة إماراتية.. حقل غاز شمالي العراق يتعرض لهجوم دون إ
...
-
كندا والمكسيك.. ردة فعل انتقامية
-
عودة 300 -مرتزق روماني- من الكونغو بعد مشاركتهم في دعم الجيش
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تفجير مبان ومقتل عشرات المسلحين في الض
...
-
الخارجية الأمريكية: روبيو أبلغ الرئيس البنمي بأن ترامب لا ين
...
-
سيدة تلتقي بأطفالها لأول مرة منذ 6 أشهر بعد تحرير قريتها في
...
-
مينسك لا ترى أي مؤشرات لنشوب عدوان عليها
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|