سمعت للمرة الأولى باسم الفقيد المناضل توما توماس، من الصديق الذي لاينسى الشهيد " د. حبيب المالح"، وكنا حينها طالبين في كليتي الطب، حبيب في جامعة الموصل وانا في جامعة بغداد، بعد ان تعرّفت عليه حين كان عضواً بارزاً في مكتب سكرتارية " اتحاد الطلبة العام في كوردستان العراق"، سكرتير الأتحاد في الموصل، اثر زيارتي لهم من العاصمة بغداد كممثل لمكتب سكرتارية الأتحاد وسكرتيره. وتوثققت صداقتنا اكثر الى ان صارت لقاءاتنا تتكرر، كلما زار حبيب بغداد حيث كان ينزل في بيت اخيه في محلة الدورة في بغداد.
كنا مطلع السبعينات نتناقش حول ظروف واوضاع الطلبة الصعبة حيث كان نشاط البعثيين الصداميين يتزايد في المؤسسات التعليمية، وكان يهدف الى تحطيم الحركة الطلابية الديمقراطية رأس رمحها آنذاك " اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية " . . وكيفية مواجهته وترتيب طرق لأخفاء وحماية الطلبة المهدّدين. كان حبيب وباعتباره المسؤول الطلابي في الموصل ينقل تجربة محافظتهم وخططهم في مواجهة الأرهاب المسعور ضد الطلبة الديمقراطيين في الموصل، الموصل التي كان مسؤولها آنذاك المناضل " توما توماس " ، وكان قد لعب دوراً هاماً في رص صفوف طلبتنا من خلال اتباع السبل التي من شأنها تصليب عودهم في الدفاع عن النفس والمواجهة . .
كان طلبة الموصل آنذاك بمعنويات عالية لثقتهم بانهم برعاية قائد مجرَّب، فكانوا يثقون بما يتم توجيههم به من خلال التنسيق الطلابي والسياسي، ومن خلال الطلبة الأتحاديين الناشطين حزبياً، وكانوا يدعوه بـ " اسد القوش " . . كنت اتابع بشغف احاديث العزيز حبيب عنه وكنت استفيد من متابعة احاديث حبيب ونشاطات طلبة الموصل في تلك الظروف الصعبة، وكنت اسعى كي تلعب تجربتهم دوراً في نشاطات منظمات الأتحاد في بغداد .
بعد ان كونت في ذهني صورة عن طلعة ذلك القائد، التقيت مصادفة في باب المقر العام في بغداد واثار انتباهي رجلا وسيما في مطلع عقده السادس، كان قد فسح لي المجال بوقار وادب كي ادخل ـ وكنت احسب نفسي بعمر ابنائه ـ . كان انيقا ببدلة زرقاء وقميص ابيض منشى بربطة عنق حمراء، ابيض ـ احمر البشرة، بجبهة عريضة عاليه متصلة بصلع في وسط الرأس مكللة بشعر ابيض ممشط بعناية ، بشارب ابيض محدد بوضوح . . تبادلنا التحايا وانا ارقب ابتسامة كانت تشرق وجهه . . اشار لي العزيز " منجد " الجالس في الأستعلامات وبفخر . . " هذا هو توما توماس ! " . وتذكّرت اني سألت كثيراً عمن يكون " توما توماس " .
. . .
. . .
وكان ان انفلت الهجوم البعثي الصدامي علناً في 1978 / 1979 ضد الحركة اليسارية والديمقراطية، ضد الحزب الشيوعي العراقي . . وانقلب العراق وقلبه بغداد الى حالة مسلخ بشري محاط بسور مكهرب، اطلقت في ساحته حيوانات وكلاب متوحشه يصعب وصفها بكلمات . . وساد ليل بغداد اطلاق رصاص متفرق كان مدروساً بعناية، سيارات مطفأة الأنوار تجوب شوارعها بعد ان حوّلت الى مظلمة او شبه مظلمة . . مجموعات سوداء تجوب المناطق وفق قوائم، صراخ وعويل ليلي يصم الأذان في الحواري المحيطة بدوائر الأمن ومقرات (الأتحاد الوطني لطلبة العراق) . .
شباب يواجهون الأمن ولابستسلمون وهتافات متفرقة، مختارون يسألون عن اهالي بيوت خلت من اصحابها وخطط يعاد بحثها واخرى مواجهة تفشل وتنجح وتفشل، خطط اختفاء وتنقل ونشاط واختفاء وبحث عن ملاذ للبقاء في الوطن . . وسط اجواء كانت وسائل الأعلام فيها تغطي زيارة الجزاّر صدام لكوبا ومنحه وسام خوزيه مارتيه . . الأعلان عن ميثاق عمل قومي عراقي ـ سوري والسفر الى سوريا بالبطاقة الشخصية . .
التقيت بالمناضل توماتوماس للمرة الأولى في موقع " توزلة " عند وصولي اليها ملتحقا من بغداد في حزيران 1979، وكان لقاءاً حميماً وكاني التقي صديقاً اعرفه من زمان بضحكته المشرقة :
ـ اهلا وسهلاً بك بين اهلك من جديد ! تحتاج شوية راحة في البداية . . . سيكون مضيفك
" ابوشاكر" .
التقيت بالمناضل " عادل سفر" بعناق حار وكاننا نواصل احاديثنا في بغداد . . وكانت ضيافة دافئة حميمة في خيمة كانت تقابل خيمة ابوجوزيف (1) . خيمة كانت قد خصصت للأدارة والمكتبة مع صناديق رتبت كرفوف وضعت فيها ادوية متنوعة كطبابة . . حيث كان ذلك التجاور ضرورياً لأن من كان يأتي الى ذلك الموقع من مجاميع الأنصار التي انتشرت كفصائل في اخاديد الجبال المحيطة، كان يستطيع تسليم رسائل او انجاز عدة مهام في وقت واحد .
ساعد وجودي بالقرب من ابو جوزيف على ان التقي كثيراً به، وفق وقته ووقتي في الطبابة الصغيرة الأولية تلك، وكنا نتحدث ونتناقش في امور لاحدود لها وخاصة ما كان يدور من احداث آنذاك في موقع " توجلة " وكنت كثير الأصغاء لآرائه وحكمته وتصوراته المتفائلة لآفاق حركتنا، في تلك الظروف القاسية الدموية التي حطّمت منظماتنا وناسنا وعوائلنا ومشاعرنا، وحيث كانت النظريات تتهاوى امام قساوة ودموية ماكان يجري .
كانت صور انصار الجبال والغابات في مخيلتي وككل طلبة اواخر الستينات، حين كنا متأثرين وبشكل رومانسي بنضال حركات الأنصار التحررية في العالم التي كانت تشكّل في تلك الفترة المثال الملهم لنا نحن شباب تلك المرحلة، في ظروف كان قد تصاعد فيها في بلادنا نضال الحركة التحررية في كوردستان العراق واستطاعت بنظر السياسيين ان تحقق جزءاً هاماً من برنامجها ـ رغم الأنتكاسة التي المؤسفة التي تلت بعدئذ ـ اضافة الى تصاعد نضال حركة المقاومة الفلسطينية في المنطقة . . كنا متأثرين بشكل خاص بمآثر القائد الأنصاري الطبيب جيفارا،الذي حصلت للمرة الأولى على مذكراته الأصلية من الشهيد حبيب المالح .
وتدور الآن في البال صورلقاءاتي مع ابوجوزيف التي ابتدأت هناك ـ رغم مرور اكثر من ربع قرن عليها ـ بين احاديثه واقواله . . " وقوفنا مع الحق المتعارف عليه بين الناس هو منبع ثقة الناس بنا وهو الدليل على امكانية نجاحنا " ، " الطغيان احمق حيث يهاجم الجميع، وعلينا ان نكون مع جميع ضحايا الطغيان . . الأمر الذي فوتناه في البداية " ، " الهجوم علينا لايحقق لهم اهدافهم، الاّ بالهجوم على الجميع . . ارجو ان فهمت قصدي ؟ " . .
وفي ظروف لم تكن لدينا فيها الاّ قطع سلاح لايتجاوز عددها اصابع اليدين لأعداد من الملتحقين ناهزت المئات كان يقول " لاتقلقوا من ان لاسلاح عندنا الآن . . نحن في بدايات حركة انصار ككل بدايات حركات الأنصار، التي عندما تكون مع الحق سياتيها السلاح " ، " املي ان ترون قطعان النظام وهي تفرّ فرار الجبناء، بل وبسرعة بحيث لانستطيع اللحاق بها . . وسنتسلّح من الغنائم التي نحصل عليها منهم او سيتركوها عند فرارهم " . كان يتحدث بهدوء واحترام وجدّ لايترك لديك الاّ الثقة بانك امام رجل عركته الحياة وعرك حياة الأنصار . . نعم هكذا كان القائد ابو جوزيف . . كان صادقاً مع رفاقه منطلقاً من الواقع الحقيقي للأمكانيات وكان يدلّ على طريق تطويرها بصبر في الحديث معهم، بعيداً عن المبالغة وعن الكذب (الأبيض) .
لايمكن ان انسى قلقه على النصير الشاب جواد، لتأخّره عن الرجوع الى المقر، بعد ان وصل كل انصار المجموعة التي شكّها ابو جوزيف وسار في قيادتها واقرها مكتب القوة، لدعم الحركة الكوردية التحررية في ايران . . حيث لم ينم ليلتين من ذلك القلق على رفيقه. كان يجلس مستمعاً الى موسيقى يبثها الترانزستور، الموسيقى التي كانت عندما تضطرب توقظه من اغفائة سيطرت عليه وهو جالس وكان يردد " انا المسؤول الأول والأخير عن حياة هذا النصير البطل، انا كلّفته . . عدنا ولم يعد ؟! لايوجد اكثر ايلاماً من ذلك عزيزي !! " .
وكان ان انطلقت اساريره وكانما عادت الحياة الى وجهه التعب الذابل عندما وصل من صاح :
ـ ابو جوزيف !! جواد في الطريق الينا !
ـ جريح ؟ . . جرح خطير ؟
ـ ابو جوزيف انه يجري ويسابق الحيوانات كما تعرفه !!
(يتبع)
13 / 10 / 2006 ، مهند البراك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* توما توماس، ابو جوزيف، ابو جميل
(1) المقصود خيمة مكتب القوة الذي كان اول تشكيل لقوات انصار الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان مؤلفا من السادة : ابوجوزيف آمراً، فاتح رسول مسؤولا سياسياً، الفقيد عبد الرحمن القصاب مسؤولاً ادارياً .
(2) جواد، نصير من فصيل بتوين الذي صار سرية بعد ذلك، عرف بشجاعته وروحه الأقتحامية . . كان بعمر التاسعة عشرة عندما استشهد عام 1981 في كمين اعدته مفرزة الآمر علي حاجي لوكيل مسؤول قوات امن المنطقة الشمالية المعين حديثاً اياد التكريتي الذي لقي مصرعه فيه، بعد ان خدع الشهيد برغبته في التسليم واطلق ناراً قاتلة عليه، الأمر الذي ادى بالقوة الى قتل ذلك المجرم .