|
ندوب الشّجن في نص (خارج السّرب تمامًا) للشاعرة ليلى عبد الأمير
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 7507 - 2023 / 1 / 30 - 10:42
المحور:
الادب والفن
مدخل لأجواء النص: متى يشعر الإنسان بغربة الروح، و بالإحساس بالضياع؟. يشعر الإنسان بذلك حينما تدلهم بوجه الحياة وتغلق الطرق، وتوصد الأبواب، فيعيش المتاهات بكل انماطها، والحيرة بكل تقلباتها، وبالتالي يسيطر عليه السئم ويكسوه الملل، فلا يجد متسع من التنفس الذاتي، وأعني التعبير عن ذاته بحرية عروج روحي يقطع به المسافات الشاسعة، ليستقر في مكان آمن، ليس في ضجيج سمعي أو ضجيج الفكري، بحيث تختلط عليه كثير من القضايا الفكرية الجوفاء، والنفسية التي تقرب اليه البعيد وتبعد عنه القريب، فلم يستطع أن يميز الخطأ من الصواب، ولا السليم من السقيم، فالأمور تكون عنده سواء. وهذه اسبابها كثيرة وجمة، فهي غربة داخل غربة، غربة الروح، غربة الوطن، غربة الباس، وغربة الذات نفسها، وثمة اسباب تتجلى للشاعر، لكون الشاعر يمتلك حساسًا مفرط، اكثر من سواه، فيعبّر عنها بقصيدة هي المتنفس الوحيد الذي يتنفس من خلاله، ويظهر ارهاصاته. يقول نيتشة: "لقد أودعتني الحياة سرها قائلة: لقد تحتم عليَّ أن أتفوق أبدًا على ذاتي. وإنكم لتحسبون هذا الاندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إلى الهدف الأسمى والأبعد منالًا بعديد جهاته، في حين أن ليس هنالك إلا وجهة واحدة وسر واحد، وإنني لأفضِّل العدم على التحول عن هذه الوحدة". (هكذا تكلم زرادشت، ص132، منشورات المكتبة الاهلية، الأردن، بترجمة فليكس فارس، الطبعة الأولى 2009). لهذا نقرأ للشاعرة قولها، وهو ذات المعنى الذي نوها عنه آنفًا، هو قول ليلى عبد الأمير، وهو نص يعج بالتشاؤم، وهو احتجاج على واقع ملموس، والنص معنوّن بـ "خارج السرب تمامًا": (هجرتني شفاهي مواويلي هدوئي أنا الآن وحدي لست برفقتي سأخلع نظاراتي واتلاشى خلف غابات التوجس خلف أثري) أكثر ما يقع على الإنسان من ظلم وحيف وغبن وتجافي، هو من جنس الإنسان، نفسه، بعكس طبيعة الحيوانات الأخرى (على اعتبار إن الإنسان حيوان ناطق – بحسب ارسطو) فالحيوان تحركه غريزته الحيوانية، إلّا أن الإنسان تحركه غريزته الانتقامية، (إذ يغدر، يتشفى، ينتقم، يظلم، يعتدي). وهذا عين ما عبّر عنه دوستويفسكي في رواية "الأخوة كرامازوف" والتي هي خاتمة أعماله: "يتحدث الناس أحيانًا عن قسوة وحشية، لكن هذا ظلم كبير وإهانة للوحوش؛ لا يمكن للوحش أن يكون قاسيًا مثل الإنسان. النمر فقط يبكي وينخر، هذا كل ما يمكنه فعله. لن يفكر أبدًا في تسمير الناس من الأذنين، حتى لو كان قادرًا على فعل ذلك". تركيبة البناء النصيّ: بنت، الشاعرة ليلى عبد الأمير، نصها، بناءً شعريًا ببنية تهكمية فنية، فيها اختزال لمعاني سامية اختصرتها بكلمات قليلة (وهو ديدن جُل الشعراء) تريد بها معاني فضفاضة، تترجم المعنى التحتاني، لقابليات النص، والعاج بالضنك النفسي داخل النص نفسه، ذلك لما اختمر في مزاجها من تراكمات، تروم أن تبوح بها تدريجيًا، من خلال كلمات بسيطة لكنها عميقة المعنى، للدلالة على بُعد ميتافيزيقي- ماورائي، وهو اختيار نستطيع أن نصفه بـ "موفق" حينما اختارت ذلك، لأنها أولاً، تخاطب الإنسان المدرك للمعاناة التي يتعرض لها جميع البشر، وثانيًا وجهت خطابها العام للشعراء، وهو الأهم، كون الشعراء يدركون الماورائيات النصيّة، من التي يكتبون بها عادة، فهم يعون بعضهم بعضًا. (خلف صوتيّ الابكم خلف تلاشي العناق الجميع منشغلون.. هنا فلا يمكن إلقائي في البحر وقدماي مكبلة بذعري بأنفاسي) مجسة بوح النص: تمرُّ على الشاعر لحظات يختلي فيها مع نفسه، ويعيش انعزال تام، لا يجد ملجئ يلتجأ إليه، ولا متنفس يفضي به عن همومه وأشجانه، وعن ارهاصاته التي تترى. وهذه اللحظات قد يسرقها من أوقاته، ويتنازل من أجلها عن قضايا كثيرة، ربما تكون مصيرية ولها مساس مباشر بالحياة التي يعيشها، فلا يجد ازائه سوى القصيدة، فيبث لها شكواه، أو بالأحرى يصبها- يقولبها بشكل نصٍ هو خلاصة شجوه. وهذا البوح. (أبحث عن بقايا ظل تائهٍ حين فقدت زمام نفسي توزعتُ نتفاً على الطرقات بحثاً عن وطن عن أمان يلوذ في يسكنني) وتوهان النفس، ربما هو خلاصة المحن التي يتعرض لها الإنسان، نتيجة اضمحلال أمل فقده، بعد أن كان يسكن دواخله، ويعيش على ضوئه ليصد ظلمة واقعه الذي يسكن في كنفه، وبفقده فقد كل شيء. يأتي بعد ذلك ضياع الوطن - الوطن يعني المكان الذي انبثقت منه روحه، هذه الروح التي بان شعاعها الأول في هذه البقعة، المسماة وطن، والروح لو انفصلت عن هذه البقعة ستشعر بالضياع، وأيُ ضياع إنه الضياع التام، لذلك تجد المغترب عن البقعة التي عاش سني حياته فيها، تلاشت، لا زمان ولا مكان -. والنتيجة... إن النص هذا يحاكي الواقع، من حيث هو واقع لا بديل عن الهروب منه، فهو نابع من صميم الواقع النفسي والسيكولوجي للشاعرة، وبالتالي هو واقع الناس جميعًا، ضمن هذه البقعة من الأرض التي تعيش عليها بضعة ملايين مرتبطة بمصير واحد، مصير غامض كحلم في ليلة شتاء باردة.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وحدها بوصلة الضّوء
-
تجليات لصورة الواقع في نص (يوميات عبد الأمير الحصيري) للشاعر
...
-
قراءة في (فلسفة التاريخ عند فيكو) للمؤلفة أبو السعود ٣/
...
-
قراءة في (فلسفة التاريخ عند فيكو) للمؤلفة عطيات أبو السعود 2
...
-
قراءة في (فلسفة التاريخ عند فيكو) للمؤلفة عطيات أبو السعود 1
...
-
مدينة الثورة: ذكريات بطعم الألم
-
في يوسفياته...يرسم الشاعر واثق الجلبي وجودية بطعم الهمس
-
هيباتيا: لذة الفلسفة أفضل من لذة الجنس 1/2
-
هيباتيا: لذة الفلسفة أفضل من لذة الجنس 2/ 2
-
خرير
-
هل وجد بروست زمنه المفقود؟
-
البغاء ظاهرة عالمية مستفحلة
-
مَن هو الإنسان المقهور؟
-
حسين علي محفوظ: أمُة في رجل
-
الخيام ورحلته مع الإيمان
-
بروست مدمن المرض والخدرات
-
اجترار
-
الإنسان التافه
-
في طوابير الموتى
-
نصوص ( 2)
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|