|
مفهوم اللانهاية في الرياضيات وفكرة الألوهة
ثائر أبوصالح
الحوار المتمدن-العدد: 7503 - 2023 / 1 / 26 - 16:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ان من يمعن النظر في مكنونات هذه الحياة ويحاول أن يفهم مرتكزاتها ومضامينها لا بد أن يعجب بتلك الدقة المتناهية في الصنعة، والتي يترجمها العلم الى معادلات رياضية دقيقة تؤكد وجود قوانين دقيقة تضبط هذا الكون. لقد كان يحلم ألبرت اينشتاين أن يوحّد كل القوى الطبيعية الأربعة المتمثلة بقوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الكبرى والقوة النووية الصغرى، بمعادلة واحدة تجعلنا نفهم كل ظواهر الكون من خلالها، ولكنه مات ولم يتحقق حلمه، وما زالت جهود علماء الفيزياء تصب بنفس الاتجاه، ويتحدثون عن قوة خامسة غير مكتشفة حتى الأن. لقد لعب علم الرياضيات وما زال دوراً اساسياً في فهم الظواهر الطبيعية، من خلال ترجمتها الى معادلات رياضية، وشكلت الأرقام محوراً في فهم ظواهر الكون، فيقول فيثاغورس: "أن الأرقام هي جوهر الأشياء كلها؛ فالرياضيات هي نسيج الكون الخفي عن كل عين والواضح لكل عقل. والظواهر الكونية كلها عبارة عن علاقات ونسب رياضية تظهر كأعداد صحيحة أو كسرية، توضح خصائص الأشياء في هذ الكون الفسيح". ومن المواضيع الشائكة في هذا العلم هو ما يعرف ب "اللانهاية" infinity" " (∞) خصوصاً أن لهذا المفهوم اسقاطات فلسفية تساعدنا على فهم ظاهرة الألوهية. فعالم الرياضيات جورج كانتور يرى:" أن الإله أعطانا مفهوم "اللانهاية" حتى يتسنى لنا التأمل في كمال الله وإدراك وجوده". وهو موقف مماثل لديكارت في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، حيث يستنتج:" أن امتلاك عقولنا لفكرة اللانهاية، رغم إنها عقول متناهية، يعني أن تلك الفكرة لها مصدر خارجي لامتناهٍ وهو من أعطاها لنا لكي ندركه". ان عقل الإنسان المحدود لا يستطيع أن يفهم ماهية اللانهاية، ولكنه يقر بوجودها مع أنه غير قادر على اثباتها، فيستطيع مثلاً العد الرقمي الى ما لانهاية صعوداً أو هبوطاً، وكذلك نرى أن الجذر التربيعي للعدد (2) هو (... 1.414213 (، وثابت الدائرة(...3.141592) بأعداد لا نهائية بعد الفاصلة. زينون الإْيلي في القرن الخامس قبل الميلاد وضع أمام عقولنا معضلة تجعلنا نخرج عن طورنا: افترض أنه إذا كان هناك شخص ما، يريد أن يقطع مسافة محددة، فقبل الوصول إلى النهاية، عليه أولاً أن يصل إلى منتصف المسافة. وقبل أن يستطيع الوصول لمنتصف المسافة، عليه أن يصل إلى ربع المسافة. وقبل الوصول إلى ربع المسافة، عليه أن يصل إلى ثمن المسافة، وهكذا الى ما لانهاية. وبالتالي فمستحيل أن يصل هذا الشخص الى نهاية المسافة المحددة؛ لأن عليه أن يخطو عددًا لانهائيًا من الخطوات، ولهذا استنتج إن الحركة هي وهم وليست حقيقة موضوعية.. لقد حُلت هذا المعضلة لاحقاً عندما تم وضع قانون يجمع حدود المتوالية الهندسية التنازلية. انقسم العاملون في حقل الرياضيات بين مؤيد ومعارض لاستعمال مفهوم اللانهاية، فأخذ أرسطو موقفًا وسطًا، وهو ما يعتبر أول خطوة فلسفية في إيضاح مفهوم اللانهاية، فقد ميّز بين ما سماه اللانهاية الفعلية واللانهاية المحتملة. فاللانهاية الفعلية هي اللانهاية كشيء محدد، مكتمل ويتألف من عدد لا نهائي من العناصر، فهو اللانهاية التي توجد كليًا ككيان في وقت واحد، فعدد النقاط داخل دائرة محددة مثلاً هو عدد لا نهائي، أما اللانهاية المحتملة فهي اللانهاية كعملية لا تنتهي أبدًا، ولكنها محدودة في أي وقت معين. وهي تظهر في صور كثيرة، على سبيل المثال عند تقسيم خط بالنصف إلى ما لانهاية. وتظهر أيضًا عند عدِّ الأرقام؛ فليس هناك حد محدود عند العد لأنك تستطيع دائمًا إضافة "واحد" آخر. في عام 1874، تقدم العالم الرياضي المعروف جورج كانتور في ورقة علمية، تُعتبر الآن أساس نظرية المجموعات والرياضيات الحديثة، ومع نجاح حساب التفاضل والتكامل في التعامل مع الظواهر الفيزيائية، ظهر جليًا أن اللانهاية الفعلية ليست مفهومًا متناقضًا أو مفهومًا مرتبطًا بالإله وحده، بل حقيقة رياضية ضرورية، فمجموعة الأعداد الزوجية مثلاً هي مجموعة محددة ولكنها بنفس الوقت لا نهائية. انطلاقاً من هذا الفهم تعامل علماء الرياضيات مع مفهوم اللانهاية على أنه مسلمة للنسق الرياضي ككل. وهو ما حدث بالفعل في نظرية المجموعات الحديثة، فالعلم يحتاج إلى حساب التفاضل والتكامل، وحساب التفاضل والتكامل يحتاج إلى سلسة متصلة من الأعداد، وتعريف السلسلة المتصلة من الأعداد هي عدد لانهائي من الأرقام. بغض النظر عن التعقيدات الرياضية التي نتركها لعلماء الرياضيات، يبقى السؤال؛ لماذا نقبل علمياً أن نتعامل مع مفهوم اللانهاية كمسلمة ضرورية في الرياضيات مع أن عقولنا المحدودة لا تستطيع فهمها، ونرفض بنفس الوقت أن نتعامل مع فكرة الإله كقوة لانهائية ونعتبرها فكرة ميتافيزيقية؟ هذا التناقض ناتج بأساسه من التفكير الرغبوي عند الذين يرفضون فكرة الاله الذي خلق هذا العالم بوجوده وعلمه وارادته من جهة، ومن التفكير الرغبوي عند المؤمنين الذين ربطوا هذه القوة بالثواب والعقاب وبالجنة والنار من جهة أخرى. هذا النوع من التفكير الرغبوي عند الملحدين والمؤمنين على حدٍ سواء، حوّل فكرة الإله الى فكرة كيدية يحاول كل طرف أن يثبت للطرف الآخر أنه ضال ولا يدرك الحقيقة، بدلاً من التعاطي مع فكرة الإله كمسلمة ضرورية لفهم الكون وقوانينه، كما يفعل علماء الرياضيات مع مفهوم اللانهاية لفهم قوانين الكون. فاللانهاية إذا اضفنا لها قيمة تبقى لانهاية، وإذا انقصنا منها قيمة تبقى ايضاً لا نهاية، وإذا ضربناها بأي قيمة تبقى ايضاً لا نهاية، وإذا قسّمنا أي رقم مهما كان كبيراً على اللانهاية يكون الناتج دائماً صفراً، أي أن؛ لا قيمة لأي رقم امامها؛ بل يذوب ويختفي بداخلها. أليست هذه صفة السرمدية التي نطلقها على الإله، فالسرمدي هو من ليس له بداية ولا نهاية، وفوق الزمان والمكان، ولا يتأثر بهما، كما لا تتأثر اللانهاية بالعمليات الحسابية. واللانهاية بمفهومها المطلق ليس لها بداية، أليست هذه هي صفة الأزلية التي نطلقها على الإله، أي ليس له بداية. واللانهاية المطلقة ليس لها نهاية أليست هذه صفة الأبدية التي نطلقها على الإله أي ليس له نهاية، فالله سرمدي، أزلي، أبدي، وكذلك مفهوم اللانهاية. لذلك فإن فكرة الله تتشابك مع هذا الوجود داخلة في كل موجوداته خارجة منها بمسميات مختلفة، فكيف لنا أن نرفضها وقد وضعها العلماء كمسلمة في أدق العلوم؛ أي في علم الرياضيات باسم اللانهاية؟
#ثائر_أبوصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في المستجدات على الساحة السورية
-
قراءة سريعة في نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة
-
بين إدراك الألم وفلسفة المعاناة
-
المجتمعات العربية المراهقة وأزمة التطور
-
قوانين هرمس السبعة
-
علاقة الوعي بالزمكان
-
ويسألونك عن الروح
-
العرب والدين
-
ليس دفاعاً عن ابليس ولكن ...
-
إسرائيل ومستقبل الصراع في المنطقة
-
مفهوم الشهادة
-
تطور الحركة الوطنية في الجولان
-
إسرائيل ومشروع -الدويلة الدرزية-
-
سكان الجولان السوريين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الج
...
-
دروس مستخلصة من الثورة السورية
-
الحرب الروسية على اوكرانيا
-
موجز قصة الثورة السورية الكبرى في الجولان- اقليم البلان
-
مهزلة صفقة التبادل بين سوريا واسرائيل: الدوافع والأهداف
-
تغريبة حاتم علي
-
اللاجئون السوريون وصحوة الضمير الروسي
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|