|
مرايا الغياب/ سليمان النجاب9
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7502 - 2023 / 1 / 25 - 14:50
المحور:
الادب والفن
14
كتبت في دفتر اليوميات: ذات مرة ونحن نعقد اجتماعاً في مخيم الدهيشة، سألت سليمان: ما هي الضمانة بألا تنحرف قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي عن الخط الماركسي- اللينيني الصحيح؟ قال: الضمانة موجودة في قوة الطبقة العاملة السوفياتية ونفوذها في المجتمع. قال: ولا تنس تقاليد ثورة أكتوبر الاشتراكية وما كدسته من تجارب نظرية وعملية. مع ذلك، كشفت التطورات اللاحقة أن قيادة الطبقة العاملة السوفياتية كانت غارقة في البيروقراطية، ولم تتمكن الطبقة العاملة من التصدي للانحرافات وللأخطاء. وكان علينا أن نفتح عيوننا جيداً على حقيقة ما كان يجري هناك. 15
وأتابع وصف سليمان وهو يضطلع بمهامه الحزبية، رغم أنه مطارد من سلطات الاحتلال. كان يختار الوقت المناسب لخروجه من البيت السري إلى بيوت أخرى لقيادة الاجتماعات. أحد هذه البيوت هو بيت ابراهيم يوسف (أبو مايك) الكائن في مخيم الدهيشة. المخيم متمدد على صفحة الجبل، ومن جهته الأمامية يمتد شارع القدس- الخليل، والبيت ليس بعيداً من الشارع، وأمام البيت بستان في وسطه غرفة صغيرة، والغرفة أصبحت مقراً لاجتماعاتنا. كنا معنيين بألا يلاحظ أحد في الجوار أن ثمة أشخاصاً غرباء في البيت. نأتي بهدوء ونغادر في هدوء (أتذكر رواية "الأم" لمكسيم غوركي وشخوصها الذين يأتون بحذر إلى اجتماعاتهم)، وكانت أسوأ اللحظات حينما ينتهي الاجتماع ولا نتمكن من المغادرة بسبب وجود ضيوف في البيت، أو بسبب وجود جارات جئن لزيارة جارتهن ربة البيت. كنا في مثل هذه الحالة ننتظر، إلى أن يغادر الزوار أو إلى أن تغادر الجارات البيت. في هذه الغرفة اجتمعنا، سليمان وأنا، مرات عديدة. آتي إلى الاجتماع ومعي مجموعة من التقارير عن نشاط منطقة القدس. نتدارس معاً هذه التقارير، ثم يأخذها لإطلاع قيادة الحزب عليها، وحينما تجتمع قيادة المنطقة تكون هي وغيرها من التقارير والأنشطة مثبتة على جدول أعمال الاجتماع. من بين اجتماعاتنا العديدة في هذا البيت، ذلك الذي أخبرني فيه سليمان قراراً من قيادة فرع الحزب، بتنسيبي إلى عضوية هذه القيادة التي كانت تسمى "قيادة الضفة الغربية". ارتجفت من شدة الانفعال، ثم أبديت موافقتي على القرار. ومن بين هذه الاجتماعات، ذلك الذي جاء بعد وفاة والدة سليمان. ذهبتُ مع رفاق آخرين لتشييع جثمانها في قرية جيبيا، ولم يتمكن سليمان من الحضور بسبب اختفائه القسري. كان المشهد مؤثراً حيث تموت امرأة ولا يتمكن ابنها من توديعها الوداع الأخير. دفنت الأم في فسحة أمام بيت العائلة. وبعد أيام قليلة التقيت سليمان في بيت أبي مايك في المخيم. كان حزيناً لفراق أمه ولعدم تمكنه من مشاهدتها قبل وفاتها، أو حضور جنازتها. كان حزيناً ومتألماً. من البيوت التي عقدنا فيها عدداً من الاجتماعات، بيت الدكتور أحمد حمزة النتشة الواقع بالقرب من قبة راحيل على مشارف بيت لحم. كان الدكتور أحد أعضاء لجنة منطقة القدس قبل أن يصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب. يأتي سليمان في الصباح المبكر إلى بيت الدكتور، ثم نأتي نحن بقية أعضاء لجنة منطقة القدس، لحضور اجتماع دوري ينعقد مرة كل ثلاثة أشهر، وتُطرح فيه قضايا تنظيمية وسياسية متنوعة. تشكلت هذه اللجنة بعد هزيمة حزيران مباشرة، في اجتماع موسع في القدس، قاده فائق وراد ونعيم الأشهب. كان الحزب خارجاً من حملات اعتقال متلاحقة شنتها ضده أجهزة الأمن الأردنية في السنوات التي سبقت الهزيمة، ما أدى إلى تقليص عدد أعضائه. في نهاية الاجتماع انتخبتْ لجنة منطقة للقدس وبيت لحم والخليل، ضمت في عضويتها كلاً من الدكتور أحمد حمزة النتشة، المهندس حسني حداد، ابراهيم يوسف، سعيد مضية، سليمان الحنا، والمهندس شفيق صوفان (هل نسيت أحداً؟). انتخب سعيد مضية عضواً في اللجنة وهو في السجن الإسرائيلي، وبعد الإفراج عنه لم تلبث سلطات الاحتلال أن أبعدته من أرض الوطن. بعد سنة أو أكثر قليلاً، أصبحت عضواً في لجنة المنطقة، ثم عضواً في مكتبها مع حسني حداد وابراهيم يوسف. وبعد ثلاث سنوات، جرت تعديلات على اللجنة، ثم تشكل مكتبها من: عبد المجيد حمدان، عطا الله الرشماوي، محمد أبو غربية، ومحمود شقير. وكان سليمان يشرف بين الحين والآخر على اجتماعات المكتب ويطلع على نشاطاته أولاً بأول. من الاجتماعات التي ما زلت أذكرها في بيت الدكتور أحمد حمزة النتشة، ذلك الذي أخبرنا فيه سليمان عن انشقاق في الحزب (كنا آنذاك أعضاء في الحزب الشيوعي الأردني). حدث الانشقاق في عمان بعد معارك أيلول بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية. لم أتوقع أن يحدث انشقاق في الحزب، مع أن مثل هذا الانشقاق حدث في أحزاب شيوعية عديدة في أوقات سابقة، فلماذا لا أتوقعه؟ كان سليمان معنياً بألا يمتد الانشقاق إلى فرع الحزب في الأرض المحتلة، وكنا معنيين مثله بذلك. ثم وقعت انشقاقات أخرى وعمليات توحيدية للشيوعيين، عايشها سليمان كلها تقريباً وعايشتها أنا وغيري من أعضاء الحزب كذلك، وقد تعلمنا منها دروساً حول أهمية الديمقراطية في الحياة الداخلية للحزب، وفي المجتمع. ولطالما تردد سليمان، أثناء العمل السري وقبله، على بيت أبي وديدة الكائن في الطرف الجنوبي من مدينة بيت لحم. بيت هادىء من حوله جيران منشغلون بأحوالهم، فلا يراقبون من جاء ومن ذهب. تربَّت عطاف العاروري (أم وديدة) في بيت، أكثر بناته وأبنائه من المنتمين للحزب، ترحب بنا في بيتها بكل أريحية. زوجها أبو وديدة انتسب إلى الحزب بعد النكسة مباشرة، وظل يتولى مسؤوليات تنظيمية حتى أصبح في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، المسؤول الأول في الحزب. نلتقي في بيته ونعقد اجتماعات قد تقصر وقد تطول، بحسب الحاجة إلى ذلك. يقع البيت في الطابق الأول من بناية غير مكتظة بالشقق، ومن نافذة صالة الضيوف يمكن للمرء أن يرى بعض البيوت في الجهة المقابلة ومن خلفها يمتد خلاء موصول بجبال موغلة في البعد. وعلى اليسار تظهر بعض أحياء بيت لحم وكنائسها. الحي بشكل عام هادئ، والاجتماعات تتم فيه دون أن تلفت انتباه أحد. ولم تكن اجتماعاتنا الحزبية تجري على الشاكلة نفسها. ذات مرة، تفاقمت الخلافات داخل المنظمة القيادية في بيت ساحور، بسبب حساسيات شخصية بين أعضائها، وبسبب اجتهادات متباينة حول أساليب العمل التي ينبغي أن يتبعها أعضاء الحزب في المدينة. قرر سليمان أن يذهب لزيارة المنظمة واللقاء مع أعضائها، لعله ينجح في حل خلاف لم يفلح عدد من أعضاء الحزب القياديين في حله. ذهب مساء إلى بيت ساحور. تعرف إلى أعضاء المنظمة القيادية، وظلت هويته مجهولة بالنسبة لهم (سألني الكاتب جمال بنورة غير مرة عن هذا الرفيق الذي جاء إلى بيت ساحور مرتدياً كوفية وعقالاً، ولم يسبق له أن قابله أو رآه، فلم أكشف له عن اسمه، ولم يعرفه جمال إلا حين ألقي القبض عليه بعد سنتين وراحت الصحف تنشر صوره وتتحدث عنه). كانت المنظمة القيادية تضم في صفوفها عمالاً وتجاراً ومثقفين، وفي هذا التباين في الانتماءات الطبقية أحد مؤشرات الخلاف بين أعضائها. أمضى سليمان ثلاث ساعات وهو يحاول محاصرة الخلاف وتذليله دون جدوى، بل إنه اصطدم مع بعض أعضاء المنظمة واحتد الحوار بينه وبينهم. تلك كانت واحدة من المرات القليلة التي أخفق فيها سليمان. كان منزعجاً بعض الشيء وهو يتحدث عن نتائج هذا الاجتماع. وكان يأتي إلى نابلس. بعد أن أصبحتُ عضواً في قيادة الضفة الغربية، ترددتُ على ثلاثة بيوت في نابلس لحضور اجتماعات، كان سليمان حاضراً فيها مع بقية أعضاء القيادة الذين بلغ عددهم أحد عشر عضواً حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين، وهم على ما أذكر: عربي عواد، سليمان النجاب، خلدون عبد الحق، غسان حرب، ضمين حسين عودة، جريس قواس، ابراهيم يوسف، خليل حجازي، عادل البرغوثي، محمد أبو غربية ومحمود شقير. كان عربي عواد هو قائد التنظيم، يمارس دوره القيادي بسلاسة وتفهم، وكان سليمان يضطلع بدور بارز في قيادة التنظيم. كان عربي وسليمان وخلدون أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني، الذي كان تنظيم الضفة الغربية امتداداً له. البيت الأول الذي كانت تعقد فيه اجتماعات القيادة هو: بيت خلدون عبد الحق. لم أعرف اسم الحي الذي يقع فيه البيت، إنه في منتصف المسافة إلى قمة جبل عيبال. البيت الثاني هو بيت عربي عواد. لم أعد أذكر موقع البيت لكنه أقرب إلى وسط البلد، وهو في سفح جبل عيبال كذلك. حضرت فيه اجتماعاً واحداً لقيادة الضفة الغربية، بعد ذلك لم نعقد أي اجتماع فيه، بسبب قيام سلطات الاحتلال بإبعاد عربي عواد مع سبعة شخصيات فلسطينية أخرى إلى الأردن. البيت الثالث هو بيت خليل حجازي. وهو أقرب إلى وسط البلد أيضاً، ويقع في جبل جيرزيم. حضرت فيه اجتماعاً واحداً أو اثنين. كانت اجتماعات قيادة الضفة الغربية تعقد مرة كل ثلاثة أو أربعة أشهر. وكنا نأتي إليها مبكرين، ثم نغادرها في حذر، فلا نخرج في جمهرة واحدة، بل نخرج واحداً واحداً أو اثنين اثنين. وسليمان يأتي مبكراً جداً، ويغادر مع عودة العمال إلى بيوتهم قبل المساء بقليل. ولم تنقطع الصلة بين سليمان ورفاقه طوال فترة اختفائه. التقينا في بيوت كثيرة، وفي بعض الأحيان كان يأتي إلى بيتي في جبل المكبر. ولم أشاهده في بيت محمد أبو غربية في حي الثوري إلا مرة واحدة. جاء مع المساء وكانت الدنيا في عز الصيف، حضر اجتماعاً لنا وخرج بعد العاشرة. ولم أكن أعلم أنه يقيم على مسافة ما من هذا البيت الذي نجتمع فيه. لم أعلم بذلك إلا حينما نصبت له أجهزة الأمن الإسرائيلية كميناً على مقربة من البيت، وألقت القبض عليه وهو خارج إلى إحدى مهماته الحزبية ذات صباح مبكر من شهر نيسان العام 1974. كان يجيد التخفي، وله في ذلك خبرة كافية، إلا أنه وقع في قبضة أجهزة الأمن نتيجة اعتراف. يتبع...
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب8
-
مرايا الغياب/سليمان النجاب7
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب6
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب5
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب4
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب3
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب2
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب1
-
مرايا الغياب/ أمينة7
-
مرايا الغياب/ أمينة6
-
مرايا الغياب/ أمينة5
-
مرايا الغياب/ أمينة4
-
مرايا الغياب/ أمينة3
-
مرايا الغياب/ أمينة2
-
مرايا الغياب1
-
ظل آخر للمدينة61
-
ظل آخر للمدينة60
-
ظل آخر للمدينة59
-
ظل آخر للمدينة58
-
ظل آخر للمدينة57
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|