|
الدروب الوعرة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7494 - 2023 / 1 / 17 - 21:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٤٢ - الفلسفة والدروب الوعرة
يرى البعض أن الفلسفة ما هي إلا علم أو نشاط علمي يدور في حلقة مفرغة حسب بعض الإدعاءات، ولهذا يجب العودة باستمرار إلى الفلسفة اليونانية وطرح نفس الأسئلة من جديد، وبالتالي فالفلسفة مجرد تمرين لغوي لا طائل من وراءه. ونحن لا نتفق مع هذه النظرة المبسطة للفكر عموما وللفلسفة بصفة خاصة. ذلك أن الفلسفة هي المجال المثالي والحيوي الذي يتحقق فيه العقل بكل إمكانياته، يعبر عن نفسه ويرسم أهدافه ويخطط خريطة حدوده القصوى. وأهمية أية عملية فلسفية لا تكمن في نتائجها فقط وإنما في الديالكتيكية الحيوية والنشاط النظري والمغامرة العقلية التي أدت إلى هذه النتائج، ولذلك لا بد من العودة في كل مرة لنعرف الخريطة التي اختارها والطريق التي سلكها والأخطاء والتناقضات التي ارتكبها والفخاخ التي وقع فيها الفكر في رحلته الطويلة نحو المعرفة. ذلك أن الفلسفة ليست علما مغلقا كالعلوم الطبيعية ولا تتطور في خط زمني مستقيم، وكل إشكالية فلسفية تتطلب عدة حلول، حسب الزمن والإمكانيات والأدوات الفكرية المتاحة. في كتابه الكينونة والعدم، سارتر يعالج مشكلة إثبات وجود الغيرية أو الآخر وهو ما يسمى في الفلسفة بالـ Solipsisme وتترجم عادة بكلمة التوحّديّة، فلجأ إلى الكوجيتو الديكارتي أولا، ثم كانط ثم هيجل وهوسرل وهيدجر، وتمعن في الحلول التي وصل إليها كل منهم، ليتمكن من الإحاطة بالإشكالية من جميع النواحي والزوايا، ليتمكن أخيرا من حل المعضلة الفلسفية وتجاوز المثالية التي يمثلها كل هذا الفكر طوال قرون عديدة. ورغم مجهود سارتر الرائع، فإن العديد من الفلاسفة المعاصرين ما يزالون يحاولون الإثبات منطقيا بوجود أو بعدم وجود الآخر، وما يزالون يعتبرونه موضوعا للمعرفة وليس مكونا أنطولوجيا للوجود الإنساني. فالخط الزمني لتطور الفكر الفلسفي ليس سهما مستقيما يشير إلى إتجاه واحد من الماضي إلى المستقبل، إنه تطور في خط لولبي يعود على نفسه في فترات زمنية متباعدة. الفلسفة إذا هي مغامرة عقلية ورحلة طويلة شاقة ومميزة، وطريق مليء بالعقبات والحفر والنتوءات والمطبات، وهي ليست طريقا أفقيا مستقيما، بل عشرات الطرق والمسارب المتعرجة والمتقاطعة، تختلط ببعضها البعض لتكون ما يشبه الشبكة الضخمة، أو المتاهة المكونة من مئات الطرق التي يؤدي أحدها للآخر بلا نهاية. وفي كل مرة نجتاز طريقا لنصل إلى جزيرة دوران حيث تلتقي عدة طرق وتتقاطع فيما بينها، ونجد لافتات تحمل أسماء، بعضها يشير إلى مناطق جغرافية وبعضها لفترات زمنية وبعضها أسماء لمدارس فلسفية أو أشخاص معينة مارسوا الفلسفة. وقد بدأنا هذه المغامرة إنطلاقا من المحطة الرئيسية الواقعة في آسيا الصغرى وهي المدرسة الأيونية L école ionienne، وهي مدرسة فلسفية كان مقرها الأساسي مدينة ملتية وكذلك مدينة ساموس والإسكندرية. تضم المدرسة الأيونية كل من طاليس وأناكسيماندرس وإنكسيمانس وهم فلاسفة مدينة ملتية Milet الأوائل، وكذلك هيراقليطس وإمبيدوقليس وإنكساغوراس وأركليوس وهيبو وديوجانس الأبولوني، رغم أنهم فلسفيا يختلفون عن الفلاسفة الأوائل وإن كانوا ينتمون جغرافيا إلى نفس المنطقة. جاءت التسمية من لفظ إيونية l Ionie، المدينة الإغريقية القديمة والتي تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى على البحر الأبيض المتوسط. وعُرفت هذه المستعمرة بهذا الاسم وقت قيام دولة اليونان القديمة، وهي منطقة تاريخية تقع بالقرب من مدينة إزمير بتركيا، والتي أسسها اليونانيون وأطلقوا عليها إسم سميرنا Σμύρνη. شهدت إيونية ولادة الفلسفة، واستوطن الإيونيون هذا الساحل منذ القرن العاشر ق.م، وانتشروا فيما بعد في جزر بحر إيجة المجاورة. وهناك ذاعت شهرة هوميروس، الشاعر الذي تنسب إليه ملحمتا الإلياذة والأوديسة منذ القرن التاسع قبل الميلاد. أرست المدرسة الإيونية دعائم البحث الميتافيزيقي، فكان لمشكلة أصل الوجود الاهتمام الأكبر والوحيد. فاعتمدت المدرسة على البحث عن مبدأ أولي واحد للوجود يمكن تفسير الكون بالرجوع إليه. فقد اعتبر طاليس الماء بمثابة مبدأ لوجود المادة والكون، يرجع إليه كل شيء وتنطلق منه الحياة بأشكالها كافة. كذلك عد أنكسيمندرس تلميذه، فكرة "اللامحدود" مبدأً كليًا يضفي عبره على العالم معقولية جديدة، في حين ركز أنكسيمانس على مبدأ الهواء، وانتهى الأمر إلى هيراقليطس الذي أعتمد عنصر النار كالعنصر الأساسي الذي أنبثق منه الوجود. نشأت في أحضان هذه المدرسة الإيونية مفاهيم فلسفية جديدة أثرت في الفلسفات اللاحقة ولم تفارقها مثل مفهوم اللوجوس أو العقل، وقد استخدمه هيراقليطس ليشير به إلى القانون الكلي الذي يدبر حوادث العالم. وانتقد هيراقليطس معاصريه لأنهم قصروا في إدراك أهمية اللوغوس ومعناه. كما تعزى إلى المدرسة الإيونية، وخاصة إلى أنكسيمانس، فكرة التناظر بين العالم الأكبر أو الكون من جهة وبين العالم الأصغر أو الإنسان من جهة أخرى. وهي فكرة أساسية أعتنقها فيما بعد بعض فلاسفة الإسلام مثل إخوان الصفا في رسائلهم، ومن بعدهم ابن عربي في مذهبه. كما أن الفكرة نفسها قد نفذت إلى الفلسفة الغربية الوسيطة. كان لهذه المدرسة مكانة رائدة وإبداعية في تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة وذلك بمحاولتها التخلص من الفكر الأسطوري الموروث عن هيزيود وهوميروس وغيرهم، كما أسهمت مبكرًا في تطوير العلوم في المستعمرات اليونانية. إلا أن أهم ما قدمته المدرسة الإيونية للفلسفة، هو طرحها لفكرة المبدأ الواحد للوجود، الذي يكون مرجعية شمولية تقوم عليها نظرة واحدية للكون.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية الرحلة
-
الأعداد الصماء
-
العدد الذهبي
-
الثقوب
-
فيثاغوراس والكابالا
-
الأعداد في نظام فيثاغوراس
-
الطريقة الفيتاغورية
-
التصوف، بين الدين والفلسفة
-
الطريق المسدود
-
دكتاتورية القانون
-
خصائص الآلهة
-
الديانة اليونانية
-
الموت والعدم
-
الفن وضرورة العدم
-
العقل العرضي
-
العقل العدمي
-
الثورة المستحيلة
-
عقل الزواحف
-
العقل بين الأرض والسماء
-
الإله البارد
المزيد.....
-
إليك ما نعرفه عن اصطدام طائرة الركاب ومروحية بلاك هوك وسقوطه
...
-
معلومات سريعة عن نهر بوتوماك لفهم مدى تعقيد البحث عن حطام ال
...
-
أول تعليق من ترامب على حادثة اصطدام طائرة ركاب ومروحية عسكري
...
-
حوافه حادة..مغامر إماراتي يوثق تجربة مساره بوادي خطير في قير
...
-
كيف نجا قائد الطائرة إف-35 -الأكثر فتكا في العالم- بعد تحطمه
...
-
إيطاليا تعيد كنوزا عراقية منهوبة.. قطع خلدت ذكرى من شيدوا ال
...
-
FBI يستبعد العمل الإرهابي في حادث اصطدام طائرة الركاب بمروحي
...
-
بعد كارثة مطار ريغان.. الإعلام الأمريكي يستحضر آخر حادث كبي
...
-
جورجيا تنسحب من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بعد مطالباته
...
-
الائتلاف الوطني السوري يهنئ الشرع بتنصيبه رئيسا للجمهورية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|